بقلم أ.د. حــاكم المطيري
المنسق العام لمؤتمر الأمة
24 ذو القعدة 1435هـ
19 سـبـتـمبر 2014م
بعثت الثورة العربية المعاصرة اليوم - فيما بعثت من قضايا طالما كانت خارج دائرة البحث العام سياسيا وإعلاميا وثقافيا - قضية (الخلافة)، وأعادتها أشد ما تكون جذعة من جديد، إذ أيقظت الثورة العربية في ذاكرة الأمة ووعيها الجمعي - كما الخلافة - حلم القوة والوحدة والاتحاد الذي تتطلع له الأمة وشعوبها، للخروج من حال الضعف والتشرذم والتبعية للقوى الغربية الصليبية والدولية، في عالم لم يعد فيه مكان للضعفاء!
وأثار بركان الثورة العربية في زلزاله - الذي ما يزال يهز جنبات العالم العربي ليبعثه إلى الحياة من جديد بعد عقود من الموت في ظل الدويلات الوظيفية التي انتهت صلاحيتها - الجدل السياسي والفكري حول الخلافة، أقوى ما تكون الإثارة شدة، والخصام حدة، كيوم سقوط الخلافة أو أشد، ليدور حولها النقاش والبحث والأخذ والرد، ليس على مستوى الداخل الإسلامي فحسب، بل والخارج الدولي، حتى غدت قضية (عودة الخلافة) الحدث الأبرز اليوم، بعد أن كاد يطويها النسيان كمشروع سياسي عقودا طويلة، مع حضورها الدائم في الوسط الفكري والفقهي الإسلامي!
فما المراد بالخلافة؟
وما حقيقتها؟
ومتى تكون خلافة ومتى لا تكون؟
وهل الخلافة هي الخليفة توجد بوجوده وتزول بفقده؟
وهل تقوم الخلافة ببيعة أي رجل كان باسم الخليفة؟ أم هي نظام سياسي له أصوله وقواعده وأحكامه وشروطه؟
وما الفرق بين الخلافة الراشدة والخلافة العامة؟
وكيف ظلت الخلافة كنظام سياسي يحكم العالم الإسلامي مع تعاقب الدول واختلافها مدة 1300 عام؟
وما معنى الدولة في ظل الخلافة؟
ما المراد بالدولة السلجوقية[1] في ظل الخلافة العباسية؟
وكيف كانت دولة في ظل دولة؟
وكيف كانت بغداد عاصمة واحدة للدولة والخلافة معا؟
كيف تداخلت المفاهيم الحديثة لمصطلح (الدولة)، بالمفاهيم القديمة لها والتي تعني (الفترة والنوبة)، حتى اختلط أمر (الخلافة) و(الدولة) على المؤرخين فضلا عن المثقفين، حتى توهموا كثرة الدول في تاريخ الخلافة الواحدة؟
كيف واكبت الخلافة كنظام سياسي تطور المجتمع الإسلامي مع تغير ظروفه السياسية والاقتصادية والاجتماعية؟
ما الفرق بين الخلافة المركزية والخلافة غير المركزية؟
ما هي مؤسسات الخلافة التي كانت تدير شئون الدولة وتحافظ على سلطانها في ظل نظامها غير المركزي؟
كيف عبرت الخلافة عن وحدة الأمة مع تنوعها القومي، ووحدة الأرض والوطن مع اتساعه الجغرافي، ووحدة السلطة مع تفاوت قوتها وضعفها، في ظل تعدد الدول ووحدة الخلافة؟
ما الفرق بين الخليفة والوزير والسلطان والأمير؟
وما صلاحية كل منهم؟
ما الذي حمل السلطان يوسف بن تاشفين الذي حرر المغرب ووحده، ثم السلطان يوسف صلاح الدين الذي حرر المشرق ووحده، ليبعثا ببيعتهما للخلافة ببغداد مع قوة سلطانهما وضعف مركزها؟
ما الذي كانت تمثله الخلافة سياسيا مع تراجع مركزها أمام نفوذ الأمراء في الأقاليم؟
ما سر قوة الخلافة سياسيا مع طروء الضعف عليها عسكريا؟
ما أسباب سقوط الخلافة؟
ومن الذي أسقطها؟
وما دور بريطانيا وأوربا في سقوطها؟
كيف استغلت بريطانيا قضية (الخلافة) لمواجهة الدولة العثمانية وتقسيمها من جهة، وتوظيف الثورة العربية الأولى التي قادها الشريف حسين بن علي من جهة أخرى، وتقسيم المنطقة العربية بعد ذلك لدويلات وظيفية تحت نفوذها؟
وكيف نجحت بريطانيا في حشد العرب خلف ثورة الشريف حسين على الدولة العثمانية، ووعده بعودة (الخلافة) للعرب والمحافظة على وحدتهم في (الجزيرة العربية والعراق والشام)، ثم دعم ابن سعود وتنظيم الإخوان في نجد للقضاء على تلك الوحدة وتقسيم المنطقة وفق مشروع سايكس بيكو تحت شعار (التوحيد) و(الجهاد)؟
ما الأدوات التي استخدمتها بريطانيا في توظيف حركة الإحياء الديني في نجد (أخوان من طاع الله)، ورعايتها ودعمها خلال عشرين سنة (1910- 1930م) لفرض خرائطها للمنطقة بقوة الإرهاب الديني، حتى إذا انتهى دورهم الذي قاموا به بكل إخلاص وصدق، تم إعلان الحرب عليهم في معركة (السبلة) كخوارج على نظام ابن سعود، والقضاء عليهم بتحالف بريطاني سعودي وبعد مؤتمر جدة سنة 1928م؟
وكيف توظف أمريكا اليوم قضية (الخلافة) لمواجهة الثورة العربية المعاصرة؟ لتفرض خريطتها للشرق الأوسط الجديد (خريطة الدم) على أسس طائفية، وتحت شعار (الخلافة) وعلى أنقاض خريطة سايكس بيكو البريطانية الفرنسية الروسية؟
لم بدأ الحديث الأمريكي منذ الثورة العربية عن انتهاء مرحلة سايكس بيكو؟
وما البديل الجديد التي تحضر له أمريكا وخرائطها؟
وكيف تستغل واشنطن حلم (عودة الخلافة) لتنفيذ مشروعها لتقسيم المنطقة العربية أكثر فأكثر تحت شعار إسقاط مشروع سايكس بيكو البريطاني، ليحل محله مشروع الشرق الأوسط الأمريكي الجديد؟!
وهل ستنجح واشنطن لتحقيق مشروعها الجديد من خلال توظيف الحالة الجهادية السلفية في العراق والشام، لمواجهة الثورة العربية المعاصرة، كما نجحت بريطانيا في توظيف الحالة نفسها قبل مائة عام في جزيرة العرب مع عبد العزيز بن سعود وتنظيم (إخوان من طاع الله)، وتحت شعارات (الجهاد) و(التوحيد) نفسها، لمواجهة استحقاقات الثورة العربية الأولى التي قادها الشريف حسين طمعا بإقامة خلافة عربية موحدة! لينتهي المشهد بإقامة دول وظيفية مقسمة ما تزال تحت الاحتلال الغربي إلى اليوم؟!
وهل ستعود الخلافة يوما ما من جديد؟
وما شروط عودتها؟
ومن سيعيدها؟
كل هذه الأسئلة وغيرها حاولت الإجابة عنها في هذا الكتاب الذي لم أقف على من صنف في موضوعه مع شدة الحاجة إليه، حيث لا يكاد يوجد كتاب يعالج موضوع الخلافة كنظام سياسي له مؤسساته وأصوله وقواعده الراسخة التي جعلت منه أطول الأنظمة السياسية عمرا في تاريخ الأمم؟
فقد ظل الحديث عن الخلافة منذ سقوطها حديثا معرفيا يُختزل في أمرين:
الأول: كتب (الأحكام السلطانية) وأحكام الإمامة العامة وشروطها ووظائفها.
والثاني: تاريخ (الخلفاء)، والدول التي تعاقبت على إدارة شئون الخلافة.
ولم يتصد أحد لدراسة الخلافة كنظام سياسي ومجتمعي له مؤسساته التي واكبت تطور المجتمع الإسلامي، وحافظت على وحدته وتنوعه في آن واحد، حتى اشتركت كل القوميات في العالم الإسلامي من جهة، وكل المدارس الفقهية، والقوى السياسية من جهة أخرى، في صناعة حضارة مشتركة، من خلال إدارة مشتركة للخلافة ودولها في ظل تعددية سياسية لم يعرف العالم لها نظيرا، حتى طال على الأمة الأمد، فصار ما كان من تاريخها ونظامها السياسي بدهيا بالأمس، مشكلا معقدا اليوم، وما كان واضحا جليا، بات غامضا خفيا، حتى قيل بأن الإسلام لم يأت أصلا بنظام سياسي للحكم! بل جاء بمبادئ عامة فقط!
وحتى شاع بين العلماء فضلا عن العامة بأن الأمة لم تجتمع في دولة واحدة منذ القرن الأول؟
وكأنه لم تقم للإسلام دولة قارية مدة ثلاثة عشر قرنا تحت ظل نظام سياسي إسلامي هو نظام الخلافة!
وكأنما هذه الأمة طارئة على الأمم لم تسدها يوما ما حتى كادت حضارتها تتفرد بقيادة العالم ألف سنة!
وبلغ الأمر اليوم بسبب الاختلاف في شأن الخلافة ومكانتها في الإسلام أن استخف بها فريقان:
- فريق يرى بأن الحديث عنها ضرب من الأوهام، وأضغاث الأحلام، فالماضي لا يعود، والخلافة جزء من التاريخ، ولكل عصر دوله ونظمه، فكان قولهم اليوم صدى لما قاله علي عبد الرازق بالأمس في كتابه (نظام الحكم في الإسلام)!
- وفريق آخر يرى الخلافة بيعة رجل على أي حال كان، فإذا ادعاها وتم الإعلان عنها عادت الخلافة من جديد، حتى وإن كانت صورية، كخلافة الشريف حسين بن علي، تحت الاحتلال البريطاني!
وبلغ الاستخفاف بالخلافة وشأنها - وهي قطب رحى الإسلام، وحجر الأساس لنظامه السياسي، والذي شن العدو من أجل إسقاطها حربا كونية كبرى مهد لها طيلة نصف قرن - أن اجترأت عليها جماعات تصورت أنها بادعائها للخلافة أو الإعلان عنها تقيم الخلافة في الأرض بمعزل عن الأمة، التي لا وجود أصلا للخلافة قبل وحدتها وقوتها!
ولم تدرك هذه المجموعات بأن للخلافة حقيقة سياسية شرعية أدرك أعداؤها من مضامينها ما لم يدركه أدعياؤها؟
وظنوا - والظنون كواذب - أنه قد تقوم خلافة بلا أمة، أو تقوم خلافة والأمة في حال استضعاف لا حال استخلاف، في الوقت الذي يحتل العدو أرضها، ويسوس أمرها!
وفاتهم أن حقيقة الخلافة لا تكون إلا باستخلاف الله الأمة في الأرض، وبعد تحقق سيادتها، كما قال تعالى: {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ ءامَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ}، فالأمة هي التي تختار الخليفة وكيلا عنها، كنتيجة لتحقق الاستخلاف لها هي كأمة، قبل وجوده هو كخليفة!
التاريخ السياسي الإسلامي والخلافة:
إنه لا يمكن فهم التاريخ السياسي الإسلامي على نحو علمي صحيح، وتفسير حوادثه تفسيرا موضوعيا دون معرفة النظام السياسي والدستوري الذي كان المؤثر الرئيس في كثير من تلك الأحداث، وقد كان تجاهل تلك الحقيقة السبب في شيوع الأوهام عن التاريخ الإسلامي الذي جرت أحداثه، واتسعت فتوحاته، وازدهرت حضارته، في ظل نظام سياسي فريد من نوعه، ألا وهو نظام الخلافة، الذي استطاع مواجهة كل التحديات والأخطار التي تعرضت لها الأمة منذ الحملات الصليبية الغربية واحتلال الشام في القرن الخامس الهجري، ثم الحملات المغولية الشرقية التي احتلت بغداد في القرن السابع الهجري، ثم الحملات البرتغالية والإسبانية... إلخ!
فالتاريخ الإسلامي - بعد عهد النبوة - بفتوحاته وحضارته ومعارفه وعلومه ومدارسه ومذاهبه وطوائفه ترعرع تحت ظل الخلافة، وبلغ أوجه في مهدها وأحضانها، ولا يمكن فهم ذلك التاريخ معرفة عميقة، إلا بمعرفة ذلك النظام السياسي معرفة دقيقة، إذ هو من كان يحكم ذلك الواقع ويتحكم فيه ويشكله على نحو يعبر عن الإسلام ورسالته سواء كدين منزل أو كفقه مؤول!
فإذا كان عصر النبوة هو المؤثر الأول في التاريخ الإسلامي كله، ولا يمكن فهمه دون فهمها والإحاطة بالنبوة وحقيقتها، فكذلك الخلافة هي المؤثر الرئيس في التاريخ الإسلامي بعد النبوة، ولا يمكن فهم عصورها إلا بالإحاطة بالخلافة كنظام سياسي ومعرفة حقيقتها، كما عبر عن ذلك الحديث الصحيح المتفق عليه: (إن بني إسرائيل كانت تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء فيكثرون فأوفوا بيعة الأول فالأول)[2]!
التاريخ الإسلامي المعاصر وأثر سقوط الخلافة:
لقد كان سقوط الخلافة بعد الحرب العالمية الأولى الحدث الأبرز على الإطلاق في تاريخ الأمة المعاصر، إذ سقط بسقوطها الإسلام الدين والهوية الواحدة، والإسلام المرجعية السياسية والتشريعية الواحدة، والإسلام الأمة الواحدة بكل قومياتها وشعوبها، والإسلام الوطن الواحد بكل أقاليمه وولاياته، والإسلام الحضارة واللغة والثقافة الواحدة! ليتشكل على أنقاضه واقع مسخ فرضه العدو الخارجي كما يريده هو، لا كما تريده الأمة وشعوبها، وكما يعبر عن هويتها وروحها!
وقد تحدث الشيخ محمد رشيد رضا عن قصة سقوط الخلافة - وهو شاهد عدل على أحداثها وأخبارها - حيث عاصرها وشارك في التصدي لسقوطها، ثم شارك في محاولة إحيائها، وذلك في رسالته (الخلافة) التي نشرها في (مجلة المنار)، مفصلا خبر تلك الحادثة الجلل من تاريخ الإسلام، وكيف كان سقوطها زلزالا عظيما عاشته الأمة سياسيا وفكريا وروحيا، نسوقها هنا لتقف الأجيال الجديدة التي ولدت وترعرعت في أحضان ثقافة الاستعمار على حقائقها، حيث قال متحدثا عن المؤامرة البريطانية والحملة الصليبية التي أسقطت الخلافة العثمانية، بذريعة إقامة الخلافة العربية للشريف حسين بعد فصل الولايات العربية (الجزيرة العربية والعراق والشام)[3]:
(الخلافة ودول الاستعمار: من البديهي أن إقامة الخلافة الإسلامية يسوء رجال دول الاستعمار، وأنهم قد يقاومونها بكل ما أوتوا من حول وقوة، وأحرصهم على ذلك الدولة البريطانية، ولا أجهل ممن يظنون أنها كانت تسعى قبل الحرب - العالمية الأولى - لجعل الخلافة في الأمة العربية، إلا الذين يظنون اليوم أنها تود اليوم تأسيس دولة عربية...
وقد اشتهر لدى الخاص والعام أن الدولة البريطانية كانت ظهيرة للخلافة العثمانية التركية، وما ذلك إلا لعلمها أنها صورية، وأنها هي التي تنتفع بإظهار صداقتها لها، وكان رجال هذه الدولة - البريطانية - الداهية أعلم الناس بأن هذه الدولة - العثمانية - قد دب في جسمها الانحلال، وأنها سائرة في طريق الفناء والزوال، وإنما كانوا يحاولون أن تبقى حصنا بين القيصرية الروسية المخيفة بسرعة تكونها ونموها وبين البحر الأبيض المتوسط، على شرط أن تكون قوة هذا الحصن بما وراءه من المساعدة البريطانية لا بنفسه، وأن الغازي أحمد مختار باشا وافقنا على أن قاعدة الدولة البريطانية في السياسة العثمانية (ألا تموت الدولة العثمانية ولا تحيا)، وبينا أيضا أن هذه القاعدة قد تغيرت بما كان بين الدولتين البريطانية والروسية من اتفاق على مسائل الشرق، واقتسامهما بلاد إيران قبل الحرب، وأنها لم تجنح إلى إقامة خلافة عربية صورية تكون آلة بيدها إلا بعد الحرب العامة، والتمكن من خداع شريف مكة وتسخيره لمساعدتها، ونحمد الله أن جعلنا من أسباب خيبة هذا السعي حتى لم يتم لها. [4]
وقد عنيت الدولة البريطانية منذ أول زمن هذه الحرب بالبحث في مسألة الخلافة، وطفق رجالها يستطلعون علماء المسلمين وزعماءهم في مصر والسودان والهند وغيرها آراءهم فيها، ليكونوا على بصيرة فيما يريدونه من إبطال تأثير إعلان الخليفة العثماني الجهاد الديني، بدعوى بطلان صحة خلافته من جهة، وبدعوى أن هذه الحرب لا شأن للدين فيها من جهة أخرى.
وقد وجد من منافقي الهند - زعيم الطائفة الإسماعيلية - من كتب لهم رسالة باللغة الإنكليزية في ذلك وأرسلها إلينا ناشرها لنترجمها بالعربية وننشرها في (المنار)، فعجبنا من جهله ونفاقه، ولولا المراقبة الشديدة على الصحف عامة، والمنار خاصة في تلك الأيام، لرددنا عليها، وقد اطلعنا على ما كتبه بعض علماء مصر لهم في الخلافة، وهو نقل عبارة شرح المقاصد، وعبارات أخرى في معناها، وعلمنا أن بعض العلماء كتب لهم بعض الحقائق في شأنها، وقد دارت بيننا وبين بعض رجالهم مناقشات في المسألة العربية اقتضت أن نكتب لهم مذكرات في تخطئة سياستهم فيها، بينا في المذكرة الأولى منها التي قدمناها لهم في أوائل سنة 1915م أن أكثر مسلمي الأرض متمسكون بالدولة العثمانية وخليفتها، لأنها أقوى الحكومات الإسلامية، وأنهم يخافون أن يزول بزوالها حكم الإسلام من الأرض، وأن هذا أعظم شأنا عندهم من بقاء المعاهد المقدسة سليمة مصونة، بل بينا لهم أيضا أن إعلانها الجهاد شرعي، وأن سبب ضعف تأثيره في مثل مصر هو الاعتقاد بأنها منتصرة مع حلفائها فلا تحتاج إلى مساعدة...
وعدت إلى بحث الخلافة في آخر مذكرة منها، وهي التي أرسلتها إلى الوزير لويد جورج في منتصف سنة 1919م، فقلت في بيان ما يرضى المسلمين من إنكلترة:
"إن الوزير قد علم أن الاعتراف باستقلال الحجاز وتسمية أمير مكة ملكا لم يكن له ذلك التأثير الذي كان الإنكليز يتوقعونه من قلوب المسلمين، ذلك بأن بلاد الحجاز أفقر البلاد الإسلامية وأضعفها في كل شيء، وهي موطن عبادة، لا ملك وسيادة، ولم يكن المسلمون مضطربين من الخوف على المساجد المقدسة أن تهدم، أو يمنع الناس من الصلاة فيها والحج إليها وزيارتها، بل الاضطراب الأعظم على السلطة الإسلامية التي يعتقدون أن لا بقاء للإسلام بدونها[5]، والحرص على بقائها ممزوج بدم كل مسلم وعصبه، فهو لا يرى دينه باقيا إلا بوجود دولة إسلامية مستقلة قوية قادرة بذاتها على تنفيذ أحكام شرعه بغير معارض ولا سيطرة أجنبية، وهذا هو السبب في تعلق أكثر مسلمي الأرض بمحبة دولة الترك، واعتبارهم إياها هي الدولة الممثلة لخلافة النبوة مع فقد سلطانهم لما عدا القوة والاستقلال من شروطها الخاصة، ولولا ذلك لاعترفوا بخلافة إمام اليمن لشرف نسبه وعلمه بالشرع واستجماعه لغير ذلك من شروط الخلافة، ذلك بأن الشروط تعد ثانوية بالنسبة إلى أصل المطلوب، وكان الغرض لنا من هذا ألا يغتروا بما يعلمون من عدم استجماع الخليفة التركي لشروط الخلافة، ولا بما كانوا يرمون إليه من جعل شريف مكة خليفة بعد اعترافه لهم بأن مكان الأمة العربية من إنكلترة مكان القاصر - بالطفولية أو العته - من الوصي، ورضاه بحمايتهم له ولها!
وقد صرحنا للوزير في هذه المذكرة بأن الذي يرضي العالم الإسلامي من دولته ترك الشعوب الإسلامية العربية والتركية والفارسية أحرارا مستقلين في بلادهم، وبقاء مسألة الخلافة على ما هي عليه، إلى أن يمكن تأليف مؤتمر إسلامي عام لحل مشكلتها، وقد بينا فيها أيضا أن هذه الدولة مستهدفة لعداوة الشرق كله بالتبع لعداوة العالم الإسلامي، فلا يغرنها ضعف المسلمين وتفرقهم فتحتقر عداوتهم مع كونهم مئات الملايين فإنهم لن يكونوا أضعف من "ميكروبات الأوبئة" وسننشر هذه المذكرة في الوقت المناسب"...
لم يبال هذا الوزير بنصح هذه المذكرة، فاستمر على سياسة القضاء على دولة الترك، واستعباد العرب حتى خذله الله، وخذله قومه، وأسقطوا وزارته، ولكن بقي أشد أنصاره في الوزارة التي خلفتها وهو "لورد كرزون" الذي هو أشد تعصبا وعداوة للمسلمين منه، فلذلك لم يتغير من سياسة الدولة البريطانية شيء في المسألة الإسلامية، إلا ما اضطرت إليه من مجاملة الدولة التركية الجديدة، بعد تنكيلها بالجيش اليوناني الذي أغرته وزارة "لويد جورج" بالقضاء على ما بقي للترك من القوة في الأناضول، فأثبتت بذلك أنها لا تلين إلا للقوة، وأما الحق والعدل والوفاء بالعهود والوعود فلها في قاموس سياستها معان أخرى غير ما يعرفه سائر البشر في لغاتهم...).[6]
ويكمل الشيخ محمد رشيد رضا حديثه عن أسباب سقوط الخلافة وتداعياته، وخشية الغرب من عودتها لما تعبر عنه من وحدة الأمة واتحادها في وجه الحملة الصليبية الاستعمارية الجديدة فيقول في رسالته:
(الخلافة وتهمة الجامعة الإسلامية:
إن السبب الأول لكون الدولة البريطانية هي الخصم الأكبر والأشد الأقوى من خصوم الخلافة الإسلامية هو أنها تخشى أن تتجدد بها حياة الإسلام وتتحقق فكرة (الجامعة الإسلامية) فيحول ذلك دون استعبادها للشرق كله...
وقد نشرنا في مجلدات المنار أقوالا كثيرة للساسة الأوربيين في هذه المسألة، من أهمها ما نشرناه في المجلد العاشر سنة 1325هـ من رأى "كرومر" في تقريره السنوي عن مصر والسودان سنة 1906م وأهمه قوله:
"المقصود من (الجامعة الإسلامية) بوجه الإجمال اجتماع المسلمين في العالم كله على تحدي قوات الدول المسيحية ومقاومتها، فإذا نظر إليها من هذا الوجه وجب على كل الأمم الأوروبية التي لها مصالح سياسية في الشرق أن تراقب هذه الحركة مراقبة دقيقة، لأنها يمكن أن تؤدي إلى حوادث متفرقة فتضرم فيها نيران التعصب الديني في جهات مختلفة من العالم"...
ثم ذكر أن للجامعة الإسلامية معاني أخرى أهم من المعنى الأصلي وهي:
"السعي في القرن العشرين لإعادة مبادئ وضعت منذ ألف سنة هدى لهيئة اجتماعية في حالة الفطرة والسذاجة".
وذكر أن عيب هذه المبادئ والسنن والشرائع هو المناقضة لآراء أهل هذا العصر في علاقة الرجال بالنساء!
وأمر آخر قال إنه "أهم من ذلك كله وهو إفراغ القوانين المدنية والجنائية والمالية في قالب واحد لا يقبل تغييرا ولا تحويرا"!
قال: "وهذا ما أوقف تقدم البلدان التي دان أهلها بدين الإسلام"!
وقد رددنا على "لورد كرومر" في كل هذه المسائل ردا، ورد غيرنا عليه أيضا، وفي هذه المباحث ما فيها من تفنيد كلامه، وغرضنا هنا أن نبين شدة اهتمام الإنكليز بمقاومة (الجامعة الإسلامية)[7] بكل معنى من معانيها، وتحريضهم جميع الأوربيين وجميع النصارى عليها وعلى من يتصدى لها، وتخويف المسلمين منها "...
كما تحدث الشيخ محمد رشيد رضا عن ممارسة الدول الغربية الصليبية الإرهاب على شعوب العالم الإسلامي وأمرائهم ورؤسائهم حتى فقدوا سيادتهم واستقلالهم فقال:
"ولقد كان من إرهاب أوربة للشعوب الإسلامية وحكوماتها أن جعلتها تخاف وتحذر كل ما يكرهه الأوربيون منها، وتظهر الرغبة في كل ما يدعونها إليه، وجروا على ذلك حتى صار الكثيرون منهم يعتقدون أن ما يستحسنه لهم هؤلاء الطامعون فيهم هو الحسن، وما يستقبحونه منهم هو القبيح! إذ تربوا على ذلك، ولم يجدوا أحدا يبين لهم الحقائق، وكان هذا عونا لهم على سلب استقلال هؤلاء المخدوعين والمرهبين في بعض البلاد، وغلبة نفوذهم على نفوذ الحكومة في بلاد أخرى كمصر والدولة العثمانية، واستحوذ الجبن والخور على رجال الحكومات في هذه البلاد حتى إن أركان الدولة العثمانية لم يتجرأوا على الإذن لنا بإنشاء مدرسة إسلامية في عاصمتها باسم (دار الدعوة والإرشاد) كما تقدم!
ولم يكونوا كلهم يجهلون ما ذكرت، بل قال لي شيخ الإسلام حسني أفندي رحمه الله تعالى: إن عندنا قاعدة مطردة في الإفرنج هي أن كل ما يرغبوننا فيه فهو ضار بنا، وكل ما ينفروننا منه فهو نافع لنا ...
وإنما هو جبن بعض الرؤساء وفساد عقائد بعضهم...
لهذا السبب ينوط الرجاء بحكومة الأناضول ألوف الألوف من المسلمين أن تحيي منصب الخلافة، وتجدد به مجد الإسلام وشريعته الغراء التي يرجي أن يتجدد بإحيائها مجد الإنسانية، ويدخل البشر في عصر جديد ينجون به من مفاسد المدنية المادية، التي تهدد العمران الأوروبي نفسه بالزوال، بله عمران الشرق...[8]
أنا لا أتصور أن يكون الرعب من معارضة دول أوربة الاستعمارية هو الذي يمنع الترك من إقامة الخلافة الإسلامية... فإن هذا شكل حكومتنا، ومقتضى ديننا، وطالما صرحت هذه الدول بعد الحرب بأنها لا تفتئت على المسلمين في أمر الخلافة، وأما (الجامعة الإسلامية) التي يخافونها فهي مسألة أخرى...)!
فهذا بعض ما ذكره الشيخ محمد رشيد رضا في رسالته (الخلافة) التي عبر فيها عما جرى للأمة من أهوال ومحن كبرى، قبيل الحرب العالمية الأولى سنة 1914م، وفي أثنائها وبعد انتهائها، وهي تنزع على يد الحملة الصليبية نزعا من هويتها ودينها وروحها التي ظلت تحيا بها مدة ألف وثلاثمائة سنة من تاريخها المشترك، لا لشيء إلا لأن عدوها أراد لها ذلك فكان له ما أراد، بقوة الحديد والحرب والنار، غير أنه يواجه اليوم تحديات ثورة الشعوب العربية، التي سيكون لها تداعياتها المستقبلية، على موازين القوى الدولية!
وللحديث بقية...
[1] الدولة السلجوقية نسبة إلى سلجوق زعيم عشائر الغُز التركمانية وهي دولة سنية قامت من عام ٤٢٧هـ إلى ٥٩٠هـ في إيران والعراق وسوريا وآسيا الصغرى أثناء الخلافة العباسية.
[2] رواه البخاري في صحيحه ح رقم 3455، ومسلم في صحيحه ح رقم 1842.
[3] رسالة الخلافة ص124.
[4] فقد وقف العالم الإسلامي وعلماؤه ضد ثورة الشريف حسين على الخلافة العثمانية، وضد وقوفه مع بريطانيا، وعدوا ذلك خيانة كبرى للأمة، ورفضوا أن يكون خليفة للمسلمين لفقده للأهلية، وكان على رأس هؤلاء محمد رشيد رضا، ولم تفلح بريطانيا بخيانتها للخلافة العثمانية، فما إن سقطت الخلافة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى، حتى سقطت الإمبراطورية البريطانية التي لا تغيب عنها الشمس بعدها بربع قرن في الحرب العالمية الثانية، وتحررت الهند وباقي مستعمراتها، وها هي الجزيرة البريطانية نفسها اليوم تتشرذم بتوجه أسكتلندا للاستقلال عنها.
[5] تأمل عبارة هذا الإمام الفقيه المجدد كيف أدرك أنه لا بقاء للإسلام بسقوط الخلافة، وأن حرمتها وأهميتها أعظم من أهمية المساجد وتأمين طرق الحجيج، وهي الثقافة الدينية التي نجحت الحملة الصليبية بعد ذلك في إشاعتها وترسيخها في دويلاتها التي أقامتها، لتنتشر مراكز تحفيظ القرآن في كل مكان، دون أن يحكم القرآن!
[6] رسالة الخلافة ص 126 ـ 127.
[7] ولهذا كانت بريطانيا وراء فكرة تأسيس (الجامعة العربية) تحت نفوذها، لقطع العلاقة بين العرب والترك والكرد والفرس والأمم الإسلامية الأخرى!
[8] وهذا ما حدث في الحرب العالمية الثانية حيث كاد الغرب بحروبه الاستعمارية العبثية الهمجية أن يقضي على الحياة الإنسانية، وما يزال الغرب إلى اليوم يهدد بهمجيته الحضارة والإنسان معا!