بقلم أ.د. حــاكم المـطـيري
21 رجب 1435هـ
20 إبريل 2014 م
الثورات العربية والمؤامرات الدولية:
لا يمكن فهم طبيعة الثورة العربية، ولا استيعاب حقيقة ما يجري اليوم في العالم العربي خاصة، والعالم الإسلامي عامة، من خلال النظرة الجزئية للأحداث، أو بالاجتزاء لها، أو تحليل الوقائع خارج سياقها التاريخي، أو دون معرفة جذور الصراع وأبعاده العقائدية الدينية من جهة، والسياسية والاقتصادية من جهة أخرى، إذ ليست الثورة العربية اليوم بدعا من ثورات العرب، بل هي امتداد لثوراتهم على الاستعمار الغربي الأوربي، منذ أكثر من قرن وإلى اليوم، والتي تنتظم كلها في سلك واحد، وتتطلع إلى غاية واحدة، وهي انتزاع العرب حريتهم وسيادتهم من عدوهم، هذه الحقيقة التي أدى تجاهلها إلى الخلل في أداء قيادات الثورة العربية في بلدان الربيع العربي، وخلل في أداء جماعات إسلامية كبرى، حين ركنت إلى العدو التاريخي للأمة، وركنت للأنظمة الوظيفية التي أقامها، ونسيت تاريخها، وفقدت ذاكرتها، وتجاهلت عدوها، وظنت أن السياسة وحدها، أو المصالح الاقتصادية وحدها المحرك الرئيس لمواقف الغرب الصليبي تجاهها، وغاب عنها البعد العقائدي للصراع، الذي يشكل حجر الأساس في العلاقة بين دوله، كما بين الروس الأرثوذوكس والصرب، وما بين أمريكا وبريطانيا البروتستانتيين، وما بين إسرائيل وأمريكا - بإدارة المحافظين الجدد الذين يمهدون لعودة المسيح إلى القدس، ويرون أن عودته لا تتحقق إلا بوجودها على أرض فلسطين، وكما قال الرئيس الأمريكي نيكسون في كتابه ( الفرصة السانحة أو ما بعد السلام) حيث يقول: (إن حجر الأساس في العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل ليس الدولار وإنما الكتاب المقدس بعهديه القديم (التوراة)، والجديد (الإنجيل)..)، وحين قال بأن: (الولايات المتحدة تستظل تحت خيمة الرب)، وكان أجرأهم على الإعلان عن أسباب الحرب على العالم الإسلامي الرئيس الأمريكي جورج بوش الثاني الذي صرح لوفد فلسطيني بأن الرب جاءه وأمره بالحرب لتمهيد عودة المسيح، وكان بعده الإعلان التاريخي له بأنه سيشن حربا صليبية على الإرهاب، فإذا هو يفتتح الألفية الثالثة بحملة صليبية جديدة على العالم الإسلامي، ويحتل أفغانستان سنة 2001م، والعراق سنة 2003م، بعد حصار لأفغانستان خمس سنين، وحصار للعراق عشر سنين، تمهيدا لغزوهما، قبل حدوث 11 سبتمبر سنة 2001م!
وقد جاءت تصريحات توني بلير الأسبوع الماضي حول الحملة الصليبية على الإسلام السياسي تعبيرا عن هذه الروح التي تسود عالم السياسة في الغرب الصليبي، الذي كان وما يزال العدو التاريخي للإسلام، كما قال تعالى في شأنهم: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ}!
وقال تعالى في تحريم موالاتهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ . فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ}!
وقال: {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ}!
ومع ظهور هذا الأصل الإيماني العقائدي في القرآن ظهورا قطعيا، كحقائق مطلقة عن قيدي الزمان والمكان، ويؤكده واقع الأمة التاريخي منذ النبأ العظيم ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم وظهور الإسلام وإلى اليوم، إلا إن أثر هذا الأصل الإيماني يكاد يغيب في واقع الأمة ودولها اليوم، بسبب طغيان العقل المادي والخواء الروحي، خاصة في التعامل مع من أظهر العداء منهم للمسلمين بحربهم، والاعتداء والتآمر عليهم، والمكر بهم، كما يجري اليوم، دون من سالموا وقال الله فيهم: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ . إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.
قال ابن جرير الطبري: (وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: عُنِي بذلك: لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين، من جميع أصناف الملل والأديان أن تبرُّوهم وتصلوهم، وتقسطوا إليهم، لأن الله عزّ وجلّ عمّ بقوله: {الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} جميع من كان ذلك صفته، فلم يخصصْ به بعضًا دون بعض، ولا معنى لقول من قال: ذلك منسوخ، لأن برّ المؤمن من أهل الحرب ممن بينه وبينه قرابة نسب، أو ممن لا قرابة بينه وبينه ولا نسب غير محرّم ولا منهيّ عنه، إذا لم يكن في ذلك دلالة له، أو لأهل الحرب على عورة لأهل الإسلام، أو تقوية لهم بكُراع أو سلاح، قد بين صحة ما قلنا في ذلك، الخبر الذي ذكرناه عن ابن الزبير في قصة أسماء وأمها، وقوله: {ِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} يقول: إن الله يحبّ المنصفين الذين ينصفون الناس، ويعطونهم الحقّ والعدل من أنفسهم، فيبرّون من برّهم، ويُحْسنون إلى من أحسن إليهم).[1]
ومع وضوح هذا الخطاب القرآني فقد بلغ الحال في توليهم وموالاتهم - من الأنظمة العربية الوظيفية، وركون جماعات كبرى لهذه الأنظمة - حدا غير مسبوق في تاريخ الأمة كله، حتى جاء جورج بوش الثاني ليحتفل بنصره في عواصم جزيرة العرب! بعد حملته الصليبية واحتلاله العراق وقتله وتهجيره الملايين من شعبه، وليتم تكريمه والابتهاج بقدومه كبطل من أبطال الأمة الفاتحين!
ولم تعد جزيرة العرب منذ قرن هدفا للحملات العسكرية الصليبية، بل صارت قاعدة لها، تنطلق منها جيوشها، لتهدد العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه، ولتحتل كل بلد يخرج عن سيطرتها، دون أن يشكل ذلك كله هاجسا لدى جماعات دينية وتيارات سياسية ونخب فكرية لا ترى في ذلك ما يوجب عليها إعادة النظر في مواقفها وتحالفها مع تلك الأنظمة الوظيفية في جزيرة العرب حررها الله، بدعوى طاعة ولي الأمر الغائب الذي لا وجود له أصلا إلا في أذهانهم وعالمهم الافتراضي، حيث يتحكم على أرض الواقع العدو التاريخي في المنطقة كلها بقواعده وجيوشه ونفوذه!
الحملات الصليبية والملاحم العربية:
لقد جاءت ثورة الأمة اليوم في العالم العربي كأهم تحول سياسي في تاريخها المعاصر، بعد عقود من سيطرة الحملات الصليبية الغربية على المنطقة العربية، بقيادة بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وأسبانيا منذ ما قبل الحرب العالمية الأولى سنة 1914 – 1918م، حيث تقاسمت تلك الدول الأقاليم العربية في الخلافة العثمانية بعد هزيمتها، فكانت جزيرة العرب والعراق وفلسطين والأردن ومصر والسودان من نصيب بريطانيا، والشام ولبنان وشمال أفريقيا من نصيب فرنسا، وليبيا وبعض الصومال وأرتيريا من نصيب إيطاليا، وصحراء المغرب الأقصى من نصيب أسبانيا…إلخ
وقد ثارت شعوب الأمة آنذاك على الاستعمار البريطاني والفرنسي والإيطالي والأسباني، كما في ثورة الشعب المصري ضد بريطانيا سنة 1919م، وثورة العراق سنة 1920م ضد بريطانيا، والثورة السورية سنة 1920م ضد فرنسا، وثورة السنوسي وعمر المختار في ليبيا ضد إيطاليا، وثورة الأمير عبد الكريم الخطابي ضد أسبانيا في المغرب الأقصى سنة 1920م، وقد نجح الاستعمار في احتواء الثورات العربية آنذاك، وأقام حكومات صورية وظيفية، في ظل انتداب واتفاقيات حماية يتحكم فيها الاستعمار نفسه، وحكم على من تصدوا له من زعماء الأمة وعلمائها آنذاك إما بالسجن أو النفي أو الإعدام!
عمر المختار وجهاده ضد إيطاليا:
وقد خاض زعماء الأمة وعلماؤها حروب التحرير ضد هذه الحملات الصليبية، وكان من أبرزهم وأشهرهم بطل ليبيا الشهيد عمر المختار الهلالي الذي انتهى به جهاده للإيطاليين بعد عشرين سنة من 1911م – 1931م إلى حبل المشنقة كإرهابي في نظر الاحتلال الإيطالي، وإلى مجاهد كبير، وبطل إسلامي، وزعيم تاريخي، في نظر الأمة التي ما تزال تحفظ له مكانته في ذاكرتها وقلوب شعوبها، وهي تتذكر كلمته الخالدة حين خادعه الإيطاليون بالمفاوضات لضرب وحدة الثوار وتفريق صفوفهم - تماما كما يجري اليوم في مؤتمر جنيف من تآمر على الثورة السورية - وخاطب شعبه بقوله: (فليعلم إذًا كلّ مجاهد أنَّ غرض الحكومة الإيطاليَّة إنما هو بث الفتن والدسائس بيننا لتمزيق شملنا، وتفكيك أواصر اتحادنا، ليتم لهم الغلبة علينا، واغتصاب كل حق مشروع لنا، كما حدث كثير من هذا خلال الهدنة، ولكن بحمد الله لم توفق إلى شيء من ذلك، وليشهد العالم أجمع أن نوايانا المطالبة بالحرية، وإن مقاصد إيطاليا وأغراضها ترمي إلى القضاء على كل حركة قوميَّة تدعو إلى نهوض الشعب الطرابلسي وتقدمه... فهيهات أن يصل الطليان إلى غرضهم مادامت لنا قلوبٌ تعرف أن في سبيل الحرية يجب بذل كل مرتخصٍ وغالٍ...)، وقال كلمته الخالدة التي ظلت نبراسا للمجاهدين من بعده: (نحن لا نستسلم نموت أو ننتصر)!
الملا محمد بن عبد الله وجهاده ضد بريطانيا:
كما كان الملا محمد بن عبد الله العقيلي القرشي الصومالي، الذي جاهد الإنجليز والإيطاليين والحبشة منذ سنة 1900م إلى 1921م، من أبطال الأمة الذين تصدوا لتلك الحملات الصليبية المعاصرة، والذي واجه من أمراء عصره وعلمائه ما يواجهه المجاهدون اليوم، ويكاد يكون مشهد الثورة العربية اليوم هو المشهد نفسه بالأمس، كما تؤكده رسائل الملا محمد الصومالي إلى أمراء الصومال يدعوهم فيها إلى وحدة الصف والجهاد في سبيل الله، وفيها يقص حال الزعماء العرب ومقاومتهم لتلك الحملات وجاء في بعضها:
(بسم الله الرحمن الرحيم ..
الحمد لله وحده وصلى الله على محمد وعلى آله ..
جناب المجاهد السلطان عثمان بن محمود سلطان المجرتين - في الصومال - أيده الله ووفقه ونصره آمين..
أعرض على مسامعكم الكريمة بعد رفع ما أوجبه الله من التحية الخالصة والدعاء المقبول إن شاء الله، أني أبعث لكم كتابين تباعاً تنفيذاً لقول الصادق الصدوق صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة لله ولرسوله ولخاصة المسلمين وعامتهم) وبينت فيهما ما يفترضه الواجب الديني لمعالجة المطامع المسلطة على بلادهم من دولة إيطاليا الكافرة، الظالمة القاسية، ووضحت لعظمتكم أن الله تعهد بنصر المؤمنين، وتكفل بألا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً، إذا قاموا بتأييد دينهم، والسير على سنن قرآنهم، فإنه قال: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيِءٍ}.
وقال في سورة الأنفال: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ}.
وعلى هذه السنن نهج إدريس السنوسي – ومعه عمر المختار - مع إيطاليا في طرابلس الغرب، فإنه هزمها وقهرها، وغنم ما لا يحصى من الذخائر والعتاد الحربي، ولم يتركه هملاً، بل صار يقاتلهم به بعد أن استعد لكل ما يلزم، وعلى هذه القاعدة أيضًا سلك سلطان الريف في المغرب الأقصى - الأمير عبد الكريم الخطابي - فإنه غضب لله وخرج منفردًا يقاتل في سبيل الله، وما زال يسير في وادي الإخلاص بحزم وحكمة وثبات، حتى صار يقود اليوم مائتي ألف مقاتل مزودين بالبنادق والمدافع الضخمة والرشاشات السريعة التي غنمها منهم، وسار يستعملها ضدهم حتى أرهب دولتي فرنسا وأسبانيا، ودك قواتهما العظيمة وكاد يسحقها سحقًا، وكذلك مثل سلطان باشا الأطرش في الديار الشامية مع دولة فرنسا، وعلى هذه الخطة يسير كل حاكم مسلم حكيم، وكل من ولاه الله حاكمًا على طائفة من المسلمين واجب عليه أن يتزود ويستعد بما يرفع عن أمته الويل، وإذا لم يفعلوا فإنه يكون عاصيًا ومسئولًا يوم الفزع الأكبر أمام رب العزة، ولقد تعهدت لمقامكم المهيب أنكم إذا أردتم السبيل الواضح الموصل إلى الانتصار السريع فلابد من الاستعداد، وإعداد القوة والرجال لمقاومة خصومكم المثل بالمثل، وذلك ليس من الصعب ولا من المستحيل، بل يتوقف على توجيه إرادتكم القوية نحو ذلك بعد مشيئة الله، وأؤكد لكم صدقًا في كتابي هذا المرسل مع أحد خاصتكم عمر جامع مع ما سبق في كتبي السابقة، وقد وضحت له تفصيلات ذلك شفهيًا بحضور خاصتكم محمود عواله، فإذا عزمتم على العمل الموصل إلى سرعة حصول المرغوب فيه يجب أن تختاروا لكم وكيلًا أمينًا رسميًا. والسلام)!
وهذه رسالة أخرى بعث بها الملا محمد بن عبد الله إلى العلماء والشيوخ يحثهم على الجهاد في سبيل الله، والدفاع عن ذويهم وحرماتهم ووحدتهم، تكشف حقيقة الصراع وأبعاده منذ ذلك التاريخ وإلى اليوم، حيث يقول:
(بعد حمد الله والصلاة على رسوله...
أطلب إليكم مؤكدًا حيث أنكم من العلماء الأعلام الذين هم الهداة أن تقوموا لإعلاء كلمة الدين الإسلامي، ولتوحيد صفوف أمتنا الصومالية لمقاومة الأعداء الذين يحتلون بلادنا، ويستعبدون أمتنا، ويهينون شرفنا وعزتنا، ويحاولون إذلال ديننا الذي هو أشرف الأديان، وحذروا الأمة من الأشياء التي تجلب لهم الهلاك في الدارين، وتسبب لهم الكفر والارتداد، أعاذنا الله من الجميع، ولإنقاذ بلادنا من براثن الأعداء الكافرين، ومخالب أعوانهم المنافقين الكذابين).
وقد دعا إلى جهاد الحملات الصليبية التبشيرية والعسكرية حيث جاء في رسالته في إعلان الجهاد:
(بسم الله الرحمن الرحيم ..
وبه نستعين على أمور الدنيا والدين ..
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم..
أما بعد:
فاعلموا يا أخواني وفقني الله وإياكم لطاعته ..
إن أجل طاعة لله تتمثل في نصرة دينه، والجهاد ضد أعدائه، وقد جاء المبشرون – المسيحيون - إلى بلادنا وليس لهم غرض إلا إفساد عقيدتنا، وانتقاص أبنائنا، ونشر المسيحية في أراضينا، والسكوت على هذا معناه الرضا، والرضا بالكفر كفر وعذاب، وعليكم أن تقوموا بواجبكم الديني، وأن تدفعوا شر هؤلاء قبل أن يستفحل الداء، ويعز الدواء، إن الكفار قد غزوكم في بلادكم يريدون إفسادكم، وإفساد دينكم، وإجباركم على اعتناق مسيحيتهم، معتمدين على حماية حكوماتهم، وعلى ما لديهم من سلاح وعتاد، فحسبكم من سلاحكم إيمانكم بالله، وقوة عزيمتكم فلا ترهبوا جنودهم، ولا كثرة سلاحهم، فالله أقوى منهم وأكثر، هذا وكونوا صابرين على الشدائد، وموطدين العزم على التقوى طول أيام الجهاد في سبيل الله والعقيدة، قال تعالى: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ}، {وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}، وإياكم والضجر إذا توالت عليكم الهزائم فإن الحرب سجال، وقد تكون الهزيمة اختبارًا لكم على صدقكم وقوة عزيمتكم، قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ}.
وإذا رأيتم من المسلمين من يعينون الكفار بأن دلوهم على الطرق وأماكن المياه، أو كانوا لهم عيوناً أو جواسيس، فاقتلوهم حيث وجدتموهم فليسوا بمسلمين، قال صلوات الله عليه: (من حمل السلاح علينا فليس منا).
أعلن جهادي أنا ومن اتبعني على الحكومة الإنجليزية التي تظل بكنفها المبشرين، مستعيناً بالله متوكلاً عليه، ولا يمنعني من جهادها مانع، ولا أعلم ما الله بعد ذلك صانع، ولكن الأمل منه أن يحقق المراد، وأني لأرجو أحد الفوزين أن أموت شهيداً، أو أطهر البلاد من درن الكفار، والله ولينا حسبنا ونعم الوكيل).
وكتب في رسالة أخرى بعنوان (مباحث المنافقين)، يفضح مؤامرات دول الاستعمار الغربي الصليبي، وتخلي أمراء عصره عن دفع العدو، وكأنما تحكي الواقع اليوم بكل تفاصيله، ويكشف خيانة زعمائه، وجهل علمائه، ويذكر محاورته لهم، وشبهتهم في ترك مقاومة الاحتلال، وكأنما تلقف منهم هذه الشبه نفسها المشايخ المعاصرون!
حيث يقول: (نحن قوم قاموا بالعزم والإيمان، وعقدوا نيتهم على أن يدافعوا عن دينهم ووطنهم وشرفهم بآخر قطرة من دمائهم، يجاهدون في سبيل الله تعالى، لإعلاء كلمة الإسلام إلى أن يحققوا أغراضهم أو يستأصلوا من فوق الأرض.
ونحن قوم نكافح لتطهير جميع أنحاء بلاد الصومال من الأعداء الكافرين المستعمرين، لأننا نعلم تماماً أنه لا يمكن أن نعبد الله في أرض آمنين مطمئنين، ولا أن نقيم أحكام كتابه، ولا أن نستثمر خيراتها، ولا أن نستنشق نسيم الحرية بها إلا بعد تحقيق الغرض المذكور.
ونحن قوم حاصرهم الكفار والمنافقون من جميع الجهات، وأحاطوا بهم كإحاطة الهالة بالقمر، والسوار بالمعصم، وقطعت عنهم جميع المواصلات والإمدادات الحربية والغذائية!
ونحن قوم ملئت صدورهم من الغضب والغيظ، لأجل تخاذل المسلمين وتخالفهم مع كثرتهم، وتعاون المستعمرين وتوافقهم مع قلتهم في بلادنا!
ونحن قوم باعهم شعبهم بثمن بخس لعدوهم، وقد أنفقت الحكومة الإنجليزية والحبشية والإيطالية والفرنسية في سبيل ذلك مالا كثيراً، وانضمت إليهم بعض القبائل الصومالية التي خضعت لرعوية تلك الدول باختيارها وطوعها، يقودها سلاطينها وزعماؤها، ويحرضها علماؤها على حربنا!
ونحن قوم لا يخضعون لأعداء دينهم ووطنهم، ولو كثرت جنودهم، وتتابعت هجماتهم، وتنوعت آلاتهم المهلكات، واشتدت وطأتهم علينا، وانضمت إلى صفوفهم أكثرية غير وطنية، وأكثرية من المستخدمين الأجانب، لأننا نريد أن نشتري بأموالنا وأنفسنا الجنة من الله تعالى، وأن نظهر تضحيتنا في الجهاد وصدق إيماننا وإسلامنا.
ونحن قوم لا نسمح للكفار أن يحتلوا بلادنا أو يحكموها، ولا نتكالب على ذلك مع المستعمرين، لا بعوض ولا بتهديد، ولا نترك قوانين الشريعة وأحكامها، ولا نجعلها خاضعة لقوانين الكفر، وأحكامها الطاغوتية، بل نعلن حربنا على الزعماء الذين يسمحون لهم بدخول بلادنا واستعمارها، ونوجه لومنا إلى العلماء والقضاة الذين يهينون شريعتنا الإسلامية، ويجعلونها تحت أقدام الكفرة الفجرة!
تلك أحوالنا التي سألتنا عنها، أما أحوالنا مع أكثرية القبائل الصومالية التي نتحارب معها، فأفيدك أيها الشيخ:
أنه لما أزمعتْ في أوائل القرن الرابع عشر الهجري بعض الدول أن تستعمر بلادنا وهى الدولة الإنجليزية والإيطالية والفرنسية والحبشية، واتجهت أفكارها إلى ذلك، ودخلت الأولى بلادنا من ميناء بربرة بمكاتبة الأهالي، والثانية: إيطاليا من مقدشوه، والثالثة: فرنسا من جيبوتي بتلك الصفة، والرابعة: الحبشة إلى هرر بالقوة حينما فتحها منليك في 1305هـ من يد حاكمها الصومالي الأمير عبد الله، اتفقت عند ذلك تلك الدول الأربع على ألا تتصادم في استعمار البلاد الجديدة، وتبادلت مكاتبات سرية يجهلها جميع المواطنين، وتجعل لكل دولة من الأربع قسطًا في بلادنا بتلك المكاتبات السرية، ولكنها لم تخطط حدودًا في بلادنا، كما لم تفتح فيها طرقاً، لأنه قبل تحقيق ذلك الحلم أعلنا عليهم جهادنا، فكان حاجزاً بينها وبين ذلك، ولن يكون لها إن شاء الله تعالى تحقيق أمانيها وتخطيط حدود أراضيه في بلادنا، ما دمنا على قيد الحياة، ولن تنفعها شيئاً الخطوط المكتوبة في الأوراق، ثم إن الدول المذكورة بدأت تبذل أموالاً تافهة لزعماء القبائل ورؤساء العشائر لتشتري منهم دينهم ووطنهم وشرفهم وعزهم بتلك الدريهمات!
وكأن الزعماء لا يفهمون مرارة الاسترقاق والاستعمار ولا يدركون ما سيحصل لهم ولشعوبهم من الذل والخزي والهوان بعد ما خلا الجو ممن يعارضون تلك الدول!
ولا يلتفتون إلى أن تلك الدول تريد استثمار خيراتها لفائدة دولهم، ولا تريد أن تجلب خيرات بلادها إلى هؤلاء الجهلاء الأغبياء، ولا يفهم هؤلاء الأغبياء أن المرتبات والمشاهرات مثلها كمثل ما يعطي للطير والحيتان لاصطيادها، ومن جهة أخرى فتح المبشرون مدارس في البلاد، ليغيروا من دين الشعب، وقد تقدم الآباء وأولادهم إلى تلك المدارس المضللة لعقول الأطفال والتي تنشئهم نشأة غير دينية أو إسلامية!
ونشأ أيضا في المدن التي تسكنها تلك الدول الأربع عادة شرب المسكرات، وتناول المخدرات، وفتحت العاهرات أبوابها دون خجل!
فلما علمت ورأيت ذلك ثارت في نفسي شدة الغيرة الإسلامية، واشتعلت في قلبي الجذوة الوطنية، والتهبت روحي غضبًا، وكادت تخرج من الهيكل الجسماني، فبدأت أخطب في المساجد والمحافل، وألقي بين الأمة خطبًا حماسية دينية، وأتلو الآيات القرآنية الواردة في الوعد والوعيد، والأمر والنهي، لكي أنبه الشعب قبل أن ينتشر الوباء في جميع البلاد، ويستولي العدو على جميع أنحائها، ولا أزال أحذر الشعب وأناديه، ولكن لا حياة لمن أنادي، ولا حكمة لمن أحذره!
محاورة بين الملا محمد بن عبد الله وعلماء الصومال:
وقد قالوا لي لما نبهتهم عن تقديم أوطانهم للمبشرين وعن تجنيد رجالهم للعدو المحتل: (إنك تريد أن تقطع أرزاقنا وتهلكنا بالفقر والجوع)!
فقلت لهم: إن رزقكم على الله تعالى لا على غيره، ألم تسمعوا قول الله تعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ}.
فقالوا: ومن أين يأتي الله برزقنا إذا أطعنا كلامك؟
فقلت لهم: ألم تسمعوا قوله تعالى: {وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ}.
فلما سمعت منهم هذا الاحتجاج لي بأمر الرزق شرعت أزجرهم وأنهاهم عن تقديم الطاعة للكفار بكل شيء، وعن الخضوع لأوامرهم ونواهيهم، واستدللت لهم بالآيات القرآنية التي تثني المسلمين عن موالاة الكفار.
فقالوا لي: (هذا أشد وأعجب من مسألة الرزق، لأنك تعلم أن القوة في هذا الوقت للكفار، وأن جميع المسلمين ضعفاء لا حول لهم ولا قوة، وإذا لم تطع الكفار وتقبل دعوتهم هلكنا بسبب ذلك).
فقلت لهم: ألم تسمعوا قوله تعالى: {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ}، وقوله: {فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ}.
فلما عجزت عن حملهم على قبول ذلك مني قلت لهم: (إنكم إذا جاهدتم الكفار واشتددتم ستكونون أمة قوية ولا تخافون إذ ذاك من رجال أمثالكم في الأعضاء الجسمية والفكرية والعقلية)، وقرأت عليهم الآيات الواردة في فضل المجاهدين، وما أعد لهم في الأخرة.
فقالوا: (الجهاد وقته متأخر وسنجاهد في أوان الجهاد عند خروج المهدي المنتظر، فعندئذ تكون لنا العصي بنادق ومدافع، وستكون آلات الكفار عصيا، أما إذا جاهدنا الآن وليس معنا آلات حربية فلا يكون لنا إلا الهلاك في الدنيا والعذاب في الأخرة، لأن الله تعالى يقول {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ})!
فقلت لهم: يا أيها الجهلاء! جهّلكم علماؤكم عن الحقائق كلها، فإن معنى الآية الكريمة {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} بترك الجهاد والدفاع عن دينكم ووطنكم وأنفسكم، وليس معناها أسلموا أوطانكم وأنفسكم إلى الكفار فتتحكم فيها ما تشاء وما تريد!
وقلت لهم: إن الله تعالى قال في كتابه العزيز: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ}، وقال: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ}، وقال: {وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لاَ يَرْجُونَ}، وقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ}، فإذا سمعتم هذه الآية وأمثالها فمن أين يأتي علماؤكم بتلك الخرافات المزعومة؟
ولكنهم لم يقتنعوا بشيء من الآيات والأحاديث التي ذكرتها، بل ازدادوا طغيانًا وعنادًا، وكانت النتيجة أن وشي بي بعضهم، وسعى بعض علمائهم الخونة بين الحكومة الإنجليزية وبيني بالإفساد، ونصح لها باعتقالي، وقال لمن لا يبالي بكلامه ستندم الحكومة يوم لا ينفع الندم، وعلمت أن واحدًا منهم يقال له: (أوجاس) حصل على أجرة شهرية جارية بتلك القصة!
لقد بدأت الجهاد من مدينة (بربره) التي هي مركز الحكومة الإنجليزية، واتجهت نحو القبائل البعيدة عن المدن التي بها تلك الدول المذكورة، لكي أجد من بينها رجالا يتأثرون بالمواعظ القرآنية والنصائح الإسلامية، وكنت أؤمن أنه لا يمكن مجابهة المستعمرين ومدافعتهم بدون قوة ترد هجماتهم وتوقف احتلالهم، وأن مجرد الوعظ بدون قوة لا يعيد شيئًا، فشرعت حينئذ في استعداد سريع سري من جهة بالخطب والمواعظ المؤثرة، ومن جهة أخرى كنت أدعو القبائل الصومالية أن تنتقل من الشك والكسل، إلى اليقين والعمل، ومن التخلف والتخاذل، إلى التعاون والتكامل، ومن الخوف والهلع، إلي الجرأة والإقدام، ومن الاستسلام والذلة إلى الاستبسال والعزة، فاجتمع لدي عدد كبير من القبائل الصومالية، والتفوا حولي، وغرست في نفوسهم محبة دينهم ووطنهم، وبغض عدوهم من الكافرين ومن يساعدهم، وانطبعت معاني الآيات القرآنية في نفوسهم، وفهموا المقصود منها، وتعاهدوا على الجهاد والدفاع عن الدين والوطن والشرف، وتحالفوا وأخذوا في الاستعداد بالرماح والسيوف والعصي والبنادق القليلة والخيول!
ولما علم المستعمرون بما قمنا به من الاستعدادات، أرادت الحكومة البريطانية أن تسكنا بغية أن تستأصلنا فجأة، فلما علمنا بذلك ابتعدنا جهتها، لكي نتم استعدادنا المنشود، فأعلنت الحرب على قبيلة تساعدهم بالرجال، وصادرت الجمال التي حملت بضائعها إلى بربره، فعند ذلك أعلنت الجهاد عليها، وعلى كافة المستعمرين وعلى جميع القبائل التي تساعدهم في حربنا، ودعوت جهارًا جميع القبائل الصومالية إلى الدفاع عن الوطن والدين، وأرسلت الوفود والرسائل إلى جميع أنحاء البلاد.
ولما ابتعدنا عن الحكومة الإنجليزية لنتم استعدادنا، ونسلم من مباغتتها ومفاجأتها، هجمت الحبشة علينا من هرر باتفاق بينها وبين الحكومة الإنجليزية على أن تهجم كل منهما علينا من جهة، فنالت الحبشة من بعض القبائل الموالية لنا بعض أموال ودماء، فخرجت في أثرها فدارت بينها وبيننا معركة في جججة، وفي نفس يوم تلك المعركة أغارت قبائل صومالية على أموالنا وأهلنا الذين تركناهم في (دك)، وتلك القبائل أرسلتها الحكومة الإنجليزية علينا وأمدتها بالمال، ولكننا انتصرنا في المعركتين معا، ثم بعد قليل من المعركتين اللتين خضناهما بدون استعداد قامت بعض القبائل بمؤامرات علينا دبرها منليك ملك الحبشة مع بعض زعماء القبائل، وكان غرضهم أن يقتلوا جميع رجالنا في يوم واحد حتى لا يفلت منهم شخص، فاجتمع من تلك القبائل خمسون ألف رجل يقودهم الزعماء الذين دبروا المؤامرة، و كان هدفهم أن نختلط بهم ونحسبهم أنهم قبائل موالية لنا ومعادية للحبشة، ولكن لحسن الحظ أنه قبل أن نقع في الشرك استعجل بعضهم وقتل منا رجلًا يقال له الحاج عباس، وهو قائم يصلي صلاة العصر، فانكشفت المؤامرة، وافتضحت مكيدتهم، ثم قررنا أن نحذر القبائل كلها كما نحذر الدول المستعمرة، وقررنا أيضا أن نبتعد عن تلك القبائل التي قامت بتلك المؤامرة الخبيثة، لأجل ألا نخوض حروبًا مع تلك القبائل الجاهلة، وعندما ابتعدنا عن تلك القبائل المذكورة علمنا في الوقت نفسه أن الحكومة البريطانية ومعها قبائل صومالية غزتنا من جهة الشمال، وأن الحبشة ومعها قبائل صومالية غزتنا من جهتي الجنوب والغرب فاتجهنا نحو الشرق، لأننا لم نستكمل استعدادنا فعلمنا أيضًا أن القبائل الصومالية الموالية للحكومة الإيطالية غزتنا من جهة الشرق بإيعاز وإعانة من الحكومة الإيطالية.
وعلمنا أيضًا أن تلك الغزوات في سلسلة واحدة متصلة حلقاتها، قد دبرت لتطويقنا من جميع الجهات تقريبًا، فقررنا أن نتجه نحو القوات الإنجليزية، لأنها المثيرة علينا جميع تلك الأمم، فحاربناها وانتصرنا عليها، ولكن لم يزل الحصار مضروبًا علينا فيما بين كلادو، ورطير (الجهات الأربعة)، فاتجهنا مرة أخرى إلى معسكرات الحكومة الإنجليزية، لأننا نعلم أننا إذا انتصرنا عليها خاف البقية فانتصرنا على الجميع، ولأجل ذلك اتجهنا إلى دفاع العدو وأذنابه، وقررنا أن نواصل الكفاح المرير الأليم، ونرد لهم الضربة بضربتين، واللطمة بلطمات، وقاتلناهم بعزم وشجاعة وسياسة وحكمة، وبعد ما ذاقوا العذاب والسخرية منا سموني مع سيدهم الكافر الإنجليزي (الشيخ المجنون)، ولا أستبعد ذلك من الحكومة الإنجليزية لسببين:
أولاً: أنها تقلد في ذلك الأمم السابقة التي كانت تتهم المصلحين من الأنبياء وغيرهم بهذه التهمة.
وثانيًا: أنها تستبعد محاربة رجل واحد ومناوراته وليس مع شعبه من الآلات ولا المعدات الحربية ولا أموال وغيرها، وهو ينفرد بهذه الفكرة الحماسية في وحدة واستقلال الصومال.
وقالوا للدراويش وهم رجالي: أننا علمنا من رأس معينة أن الحكومة الإنجليزية تتسلح بآلة تحرق الأرض، وتحرق جميع بلاد الصومال، وستغزو الدراويش هذا الدور بتلك الأسلحة.
إني قد حاولت مرارا، وأردت كثيرًا أن أقوم القبائل بالجهاد والدفاع عن دينها ووطنها مستقلة ومنفصلة عن الدراويش من رجالي، وتعهدت لكل قبيلة تقبل ذلك بالسلاح والمال، وكان غرضي من ذلك ألا يدخل في خواطرهم أننا نريد السيطرة عليهم، فلم نر أي قبيلة تجيب وتقبل، اللهم إلا قبيلة (بيمال)، ولكن القبائل الصومالية التي في بلادهم الجيوش الإيطالية فقد تبدد شملها، وكسرت قوتها وشوكتها، وقضي على نهضتها في مدة وجيزة.
والخلاصة أننا لا نرجو الانصاف في اطرائنا والتحدث عن حروبنا مع قوم أراقوا دماءنا، ونهبوا أموالنا، وحاربونا سنين كثيرة، وسبونا بأشعارهم وألسنتهم، وفعلوا بنا كل ذلك لأجل مساعدة عدونا الكافر المستعمر، ولأجل استجلاب رضائه وأمواله واستبعاد غضبه وسخطه.
و أنصح كل منصف يريد أن يعرف حق المعرفة أحوالنا وأهدافنا وأسباب حروبنا والمعارك التي انتصرنا فيها وانتصرت علينا، وعن الأمور التي عرضناها على الشعب، من أراد ذلك فأنصحه أن يأخذها بين أشعاري الصومالية التي نظمتها لكي تكون تاريخاً غنياً للشعب الصومالي من بعدي، تخبرهم عن غرضي الوحيد، وأن يأخذوها من خواص اخواني (الدراويش) الذين ناضلوا معي، ولكني أحذر كل منصف أن يأخذها من الرجال الذين كنا نحاربهم في الميدان، أو باللسان سواء من المستعمرين أو من القبائل التي كانت معهم، ولا من الذين أخذوها منهم، وأختم جوابي بالسلام على من اتبع الهدى، وجاهد الكفار والمنافقين، وكل من يساندهم أو يعاونهم، واللعنة والغضب على الكافرين وعلى الذين يبيعون دينهم ووطنهم وشرفهم)!
انتهت رسالة الشيخ محمد بن عبد الله الصومالي وهي عبرة وعظة لكل من آتاه الله بصيرة وبصرا في معرفة الواقع السياسي المعاصر، وفي ارتباط أحداث الأمس وملاحمه، بأحداث اليوم، ومشابهة القوم للقوم!
ثورة علماء الجزائر ضد فرنسا:
وكذلك كان لعلماء الجزائر دورهم في مواجهة الحملات الصليبية، والتصدي للاحتلال الفرنسي، منذ دخوله أرضها سنة 1830م، وثورة المجاهد الكبير السيد الشريف الحسني الأمير عبد القادر الجزائري، ثم العلامة عبد الحميد بن باديس، وكالعلامة محمد البشير الإبراهيمي - رئيس جمعية علماء الجزائر بعد مؤسسها ابن باديس - الذي كان يخاطب الاستعمار الفرنسي بقوله: (وما ظن الاستعمار بجمعية العلماء؟ أيظن أنها تمل وتكل فتضعف فتستكين؟ لا والله، ولقد خاب ظنه، وطاش سهمه، إنما يكل من كان في ريب من أمره، وفـي عماية من عمله ...
فأما إذا أبت إلا أن تجعل ديننا جزءًا من سياستها، فسننتقل معها إلى الميدان الذي أرادته واختارته لنفسها ولنا، وسنقود كتائب السياسة في أضيق موالجها، جالبة علينا ما جلبت، وسوف تجدنا إن شاء الله عند سوء ظنها، وسوف تجدنا كما عرفتنا حيث تكره لا حيث تحب، وسوف نعلمها فقهًا جديدًا، وهو أن أرض الجزائر حتى سجونها مساجد لإقامة الصلوات، وإن كل عود فيها حتى المشانق منابر خطبة ومطية خطيب، وإن كل صخرة فيها مئذنة ينبعث منها الله أكبر، وسوف يريه بنا إن عاقبة المعتدي على الإسلام وخيمة.
ونحن سياسيون منذ خُلقنا، لأننا مسلمون منذ نشأنا، وما الإسلام الصحيح بجميع مظاهره إلا السياسة في أشرف مظاهرها، وما المسلم الصحيح إلا المرشح الإلهي لتسيير دفتها أو لترجيح كفتها، فإذا نام النائمون منا، حتى سلبت منهم القيادة، ثم نزعت منهم السيادة، فنحن إن شاء الله كفارة الذنب وحبل الطنب!
نحن سياسيون طبعًا وجبلَّة، ونحن الذين أيقظنا الشعور بهذا الحق الإلهي المسلوب، فما سار سائر في السياسة إلا على هدانا، وما ارتفعت فيها صيحة إلا كانت صدى مرددًا لصيحاتنا، ولكننا كنا لا نريد أن نخلط شيئًا كل وسائله حق، بشيء بعض وسائله باطل، وأن نميز بين ما لا جدال فيه، مما فيه جدال، وكنا نريد أن نبدأ بأصل السياسات كلها وهو الدين؛ لنبني عليه كل ما يأتي بعده، فنسالم ونحن مسلمون، ونخاصم ونحن مسلمون، ونصادق أو نعادي ونحن مسلمون، فيكون في إسلامنا ضمان للمعدلة حتى مع حقوقنا، فمن كان من أبنائنا في ريب من الحكمة في سلوكنا ، فلينظر تشدد الاستعمار معنا، وشدة تمسكه، إنه لا يعاديكم فيسرف في العداوة، ويظلمنا فيمعن في الظلم إلا لأنكم مسلمون؛ ولأن هذا الإسلام منبع قوة تقتل الضعف وتبعث روحانية تقهر المادة، فهل لكم أن تقابلوا (تمسكه) بالمعنى الذي يريده ليتمسك في جهتكم بالمعنى الذي يريده الله؟
نحن سياسيون لأن ديننا يعد السياسة جزءًا من العقيدة، ولأن زمننا يعتبر السياسة هي الحياة، ولأنها آية البطولة، ولأن وضعها يصير السياسة ألزم للحياة من الماء والهواء؛ ولأن السياسة نوع من الجهاد، ونحن مجاهدون بالطبيعة، فنحن سياسيون بالطبيعة، ولأن الاستعمار الفرنسي بظلمه وعسفه لم يغرس في الجزائر إلا ثمرتين: بغض كل جزائري لفرنسا حتى الأطفال، وصيرورة كل جزائري سياسيًا حتى الأئمة.
ليت الاستعمار يأخذ من هذه الصراحة ما يغريه بزيادة التشدد، ظنًا منه أنه يشغلنا بجانب عن جانب، ويلهينا بديننا عن دنيانا، حتى يعلم أننا أصبحنا والفضل له لا يلهينا شيء عن شيء، وأننا إذا لم نستطع شيئًا استطعنا أشياء، وأننا إذا لم نستطع أن نكون عطشًا لخصمنا كنا كدرًا في الماء، وأننا إذا حُرمنا قمح الأرض زرعنا أشواكها، وأنه لم يبقَ قلب في الجزائر يتسع لذرة من حب فرنسا، أو يتسع لخيط أمل فيها، وليعلم أخيرًا أن الله للظالمين بالمرصاد.
ولا نقول ربحنا أو خسرنا، فالربح والخسارة من مفردات قاموس التجار، أما الجهاد الذي غايته تثبيت الحقائق الإلهية في الأرض، وغرس البذور الروحية في الوجود، فغلته سماوية، لا تحمل معاني التراب، متساوية لا تسف إلى ما تحت السحاب، وأما المجاهدون في سبيل ذلك فلا يعدون الربح والخسارة في آرابهم، ولا يدخلون الوقت طال أم قصر في حسابهم). [2]
فهذه الكلمات التاريخية للعلامة البشير الإبراهيمي، ومن قبله العلامة عبد الحميد بن باديس، وهذه الروح التي تتفجر منها، وتشعل جذوة الحياة فيها، كانت هي وقود الثورة في الجزائر ضد الاحتلال الفرنسي، وحري بها أن يحفظها عن ظهر قلب اليوم كل الشباب الأحرار في كل بلد عربي، خاصة جزيرة العرب فك الله أسرها، وحررها بالزعماء الأخيار، وطهرها بالعلماء الأبرار!
وقد تكررت اليوم أزمة الأمة التي عاشها بالأمس زعماؤها المخلصون، وعلماؤها المجاهدون حين تصدوا للاحتلال الأجنبي، فإذا أول من يقف في وجههم خطاب ديني ممسوخ، وحكومات وظيفية كانت وراء تسليمهم للاحتلال الصليبي ليحاكمهم ويسجنهم ويقتلهم!
فهذا طرف من تاريخ الحملات الصليبية المعاصرة الأولى التي بدأت أواخر أيام الخلافة العثمانية، وما زالت تحتل أقاليمها حتى أسقطتها كلية، في الحرب العالمية الأولى، وطرف من أخبار بعض علماء الأمة وزعمائها في مواجهة تلك الحملات، التي لا يمكن فهم ما يجري اليوم إلا باستذكارها واستحضار أحداثها، فما تزال الحملات الصليبية هي التي تشكل الواقع في العالم العربي وتتحكم فيه إلى اليوم، حيث ما تزال عواصمه التاريخية كبغداد ودمشق والقاهرة وصنعاء وغيرها تحت نفوذه وسيطرته!
الحملة الصليبية المعاصرة الثانية:
ثم جاءت الحملات الصليبية الثانية بقيادة أمريكا وروسيا، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية 1945م، حيث ورثتا مناطق نفوذ بريطانيا وفرنسا وإيطاليا ومستعمراتهما ومحمياتهما، وكانت الحرب الباردة بينهما من أقوى أسباب تعزيز نفوذ كل منهما في العالم العربي، حتى في الدول التي بدا أنها استقلت صوريا، حيث طور الاستعمار الغربي الصليبي وسائله بتطور وسائل الشعوب في مقاومته، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، فصار الاستقلال والضم للأمم المتحدة أحد أبرز وسائل الاستعمار نفسه في فرض سيطرته على محمياته باعتراف دولي، ليقطع الطريق على الثورات الشعبية ضده من جهة بدعوى منحهم الاستقلال، ويمنع من الاعتداء على هذه الدويلات الصورية الوظيفية والتدخل في شئونها، من قبل أي طرف آخر، من جهة أخرى، إلا من الدول الاستعمارية التي تهيمن عليها، وتدير شئونها، من خلال اتفاقيات عسكرية وأمنية واقتصادية تجعل منها دولا تابعة وخاضعة للاحتلال، وهذا ما نجح الاستعمار فيه حين أقام الدول العربية منذ سايكس بيكو لتظل تحت سيطرة الحملة الصليبية، وكان آخرها اتفاقية كامب ديفيد التي أعادت مصر وجيشها إلى النفوذ الأمريكي، حيث يستلم الجيش المصري رواتبه من الخزانة الأمريكية!
وقد عبر عن هذه الظاهرة السياسية الشاعر العراقي معروف الرصافي منذ ثمانين عاما حين قال:
أنا بالحكومة والسياسة أعـرفُ *** أألام في تفـــنـيـــدها وأعـنّــفُ
هذي حـكــومتنا وكل شموخها *** كــذبٌ وكل صنــيــعها متكــلفُ
وجــهـان فيها بـاطــن متـسترٌ *** للأجــنـبي وظــاهـر متكــشــفُ
والبــاطن المستـور فيه تحكّـمٌ *** والظـاهر المكشوف فيه تصـلّفُ
عــلـمٌ ودستــورٌ ومجلس أمةٍ *** كلٌ عن المعنى الصحيح محرفُ
أسماء ليس لنا سوى ألفاظها *** أما معــانيــهــا فلــيست تعــرفُ
من يقــرأ الدستـــور يعلم أنه *** وفــقــا لصــك الانتداب مصنــفُ
وما زال حال الدول العربية الوظيفية هو هو منذ تلك القصيدة إلى اليوم!
وما زالت الأمم الصليبية الغربية (بقيادة أوربا وأمريكا)، والصليبية الشرقية (بقيادة روسيا)، تتدافع وتتداعى على الأمة من كل حدب وصوب، ومن كل فج وأفق، حتى غزت أمريكا العراق بتحالف يضم ثلاثين دولة، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق، كما تداعى الآكلة على قصعتها، قال: قلنا يا رسول الله: أمن قلة بنا يومئذ؟ قال: أنتم يومئذ كثير، ولكن غثاء كغثاء السيل، ينتزع الله المهابة من قلوب عدوكم، ويجعل في قلوبكم الوهن، قال: قلنا: وما الوهن؟ قال: حب الحياة وكراهية الموت).[3]
وقد انتهى هذا التداعي للأمم على العالم العربي بسقوط بغداد الرشيد، باحتلال عسكري أمريكي صليبي مباشر للعراق - بتعاون مع إيران - بعد حصار دولي عشر سنين، وباحتلال روسي إيراني لسوريا ودمشق الوليد، وحصار أمريكي غربي على شعبها وثورته، فإذا التاريخ هو هو، والأعداء هم هم!
وتحقق ما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم، كما في صحيح مسلم: (يوشك أهل العراق ألا يجبى إليهم قفيز ولا درهم، قلنا: من أين ذاك؟ قال من قبل العجم يمنعون ذاك! ثم قال: يوشك أهل الشام أن لا يجبى إليهم دينار ولا مدي قلنا: من أين ذاك؟ قال: من قبل الروم! ثم أسكت هنية ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يكون في آخر أمتي خليفة يحثي المال حثيا لا يعده عددا).[4]
وإذا أزمة الأمة تتجلى أوضح ما يكون بعد الثورة العربية اليوم حيث صار شأن مصر والعراق وسوريا واليمن وشعوبها وثوراتها من أجل حريتها وتحررها بيد أمريكا وروسيا!
وإذا التاريخ يعيد نفسه، كما قال أبو الطيب في سيف الدولة الحمداني حين تصدى للروم والروس وقد جاءوا من كل حدب وصوب سنة 343 هـ:
على قــدر أهل العــزم تأتي العــزائمُ *** وتأتي على قدر الكرامِ المكـــارمُ
وتعظُـمُ في عينِ الصــغير صِغـــارُها *** وتصغر في عين العظيم العظـائمُ
وكيف ترجَّى الرومُ والروسُ هـدمَها *** وذا الطعنُ آســــاس لها ودعـائمُ
أتَــوْك يَـجُــرُّون الــحــديــدَ كــأنــمــا *** سَــــرَوْا بجيــاد ما لهــن قــوائمُ
تجــمّــَع فــيــه كــــلُّ لِــسْــــن وأمَّـة *** ما يُفْــهمُ الحُــدَّاثَ إلاّ التَّــراجـمُ
وما زال الروم والروس منذ عصر أبي الطيب المتنبي إلى يومنا هذا هم العدو التاريخي للأمة!
لقد أثبتت الثورة العربية سنة 2010م للأمة من جديد قدرتها على التغيير، وقدرتها على التحرر والتحرير، وعلى تحدي عدوها التاريخي الذي يتحكم في شئونها، من خلال حكومات صورية وظيفية استبدادية فرضها منذ احتلال المنطقة لتحمي مصالحه، حتى إذا ثارت الشعوب على هذه الأنظمة لتغييرها، ظنا منها أن لها الحق ككل شعوب الأرض في اختيار حكوماتها، فإذا أمريكا وروسيا في وجهها، تقف أمامها وأمام حريتها وتحررها، بالطائرات والدبابات في بغداد ودمشق والقاهرة وصنعاء، لتنتقل الثورة العربية كما يجب أن تكون، من ثورة على الطغاة إلى ثورة على الاحتلال الذي جاء بهم!
الثورة المضادة وحتمية المواجهة:
وكما وظف العدو الصليبي الأنظمة العربية الصورية لحماية وجوده ومشروعه، وظفت هذه الأنظمة بدورها التيارات السياسية والنخب الفكرية والثقافية والجماعات الدينية في الثورة المضادة على ثورة الأمة وتطلعها للحرية والاستقلال، على تفاوت مستويات هذه التوظيف وأشكاله وآلياته ومبرراته، وبوعي منها لأبعاد الصراع أو بغير وعي، لتصطف التيارات الليبرالية والقومية والجماعات السلفية والطرق الصوفية بشيوخها ودعاتها – إلا من رحم الله - في خندق واحد خلف الطاغوت السيسي، وخلف نظامه الوظيفي، الذي يحميه الاحتلال الصليبي، في مشهد مسرحي هزلي، يذكرنا بقول أبي الطيب المتنبي :
وكم في مصر من المضحكات *** ولكنه ضحك كالبكاء!
لقد أدرك الشعب السوري اليوم، ومن قبله العراقي، وعلى أثره المصري واليمني، أنه لا حرية من الطغيان والاستبداد بلا حرية واستقلال عن الاحتلال، وأن هذه الشعوب لا تواجه فقط نظام بشار ونوري والسيسي وهادي وبو تفليقة وغيرهم من الأنظمة الوظيفية الصورية، وإنما تواجه أمريكا وروسيا وفرنسا وبريطانيا وجيوشها الصليبية!
وما لم ينتقل الصراع من ثورات شعبية ضد الأنظمة الوظيفية، إلى ثورة تحرر وتحرير ضد الاحتلال الأجنبي نفسه، وتنتقل الثورة جغرافيا من حدودها القطرية الوطنية - التي تريد القوى الدولية الصليبية حصار الأمة فيها لتتحكم في شعوبها كما جرى في حصار ثورة مصر 1919م، والعراق وسوريا 1920م - إلى حدودها الأممية، لتمتد الثورة جغرافيا في كل أقطار شعوب الأمة الثائرة، وما لم تدرك قيادات الثورة في مصر وسوريا والعراق واليمن وليبيا طبيعة الصراع وسقوفه وحدوده، وضرورة وجود التنسيق بينها لخوض حرب تحرير طويلة الأمد، فلن تحقق الثورة في كل قطر ما تصبو إليه الأمة وشعوبها من حرية وتحرر!
لقد تفجر طوفان الثورة العربية سنة 2010م، وسيظل يموج موج البحر إلى عقد أو عقدين، حتى تتوج الثورة بإذن الله بالنصر، وإنما تواجه الأمة اليوم الثورة المضادة التي تقودها أمريكا من خلال الأنظمة الوظيفية الخليجية والعربية، كما سبق أن حذرتُ في محاضرة عن هواجس الغرب تجاه الثورة العربية في إبريل سنة 2012م قبل وصول مرسي للسلطة، حيث توقعت حدوث الثورة المضادة في مصر بقيادة أمريكا والأنظمة الخليجية، وهو ما حدث بالفعل بعد سنة ونصف تقريبا!
إن معرفة طبيعة الصراع وأطرافه وأدواته - مع كونه واجبا شرعيا - هو المدخل الضروري لاستشراف مستقبل الثورة ومعرفة مآلاتها، والذي يشكل الوعي بها وبالذات وبالواقع وبالمشروع أحد أهم أسس نجاحها، وهو ما فصلت القول فيه في كتابي (نحو وعي سياسي راشد)!
ضرورة الوعي بالثورة وخطورة صراع الأفكار:
إن للثورة كحدث سياسي واجتماعي سننا كونية لا تكاد تختلف باختلاف الشعوب وثوراتها، ولا تحدث الثورة في الواقع السياسي للمجتمعات إلا بعد حدوثها في عالم الأفكار، وعلى قادة الثورة العربية معرفة تلك السنن والتفاعل معها، وتطوير أدائهم بتطور أحداثها، وكما أن الثورة لا تحدث عادة إلا بعد بلوغ الشعوب حدا لا تستطيع معه العيش في ظل السلطة التي تحكمها، فكذلك الثورة المضادة لا تحدث عادة إلا في ظل ضعف قيادات الثورة عن المحافظة على روحها وزخمها الثوري حتى تقيم مشروعها ونظامها الجديد على أنقاض النظام الساقط، وحتى تقضي عليه قضاء لا يمكن له بعدها استعادة قواه من جديد، وهو ما يظهر جليا في أحداث الثورات التاريخية، كالثورة الفرنسية والأمريكية والروسية والصينية...إلخ
وهي ثورات فكرية كان لها مشاريعها ورؤاها التي بشرت بها في الساحات الثقافية والفكرية قبل أن تكون ثورات سياسية واجتماعية!
فواقع الأمم والمجتمعات ما هو إلا انعكاس للأفكار التي تسود فيها، والقيم التي تتحكم بها، ولا يحدث التغيير عادة إلا بتغير هذه الأفكار والقيم، وحين يتصدى لقيادة الثورة من لا يؤمن بها، ولا يحمل روحها، تكون النتيجة الثورة المضادة، والفشل في مواجهتها، حتى تستعيد الثورة روحها من جديد بقيادات ثورية تدرك طبيعة الثورة وتحمل روحها، وتعبر عن مشروعها، كثورة في عالم الفكر، قبل أن تكون ثورة في الواقع السياسي!
ولهذا جاء القرآن في أول آية، وفي أول أمر إلهي سماوي بقوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}، وأمر الله بالتفكر، وعاب على المجتمع الجاهلي تعطيله ملكة العقل والفكر، كما قال تعالى: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ}، فكان نتيجة غياب الفكر والوعي حالة من العمى التي تخبط فيها المجتمعات الجاهلية خبط عشواء، في غيابة الطغيان، وغواية الشيطان!
لقد ثارت شعوب الأمة اليوم - وحق لها أن تثور - بعد أن بلغ الطغيان والاستبداد والفساد غايته، وبعد أن عجزت الجماعات الدينية والتيارات السياسية عن إحداث التغيير، بل وأصبحت جزءا من النظام بشكل أو بآخر، بعد أن تقاسمت معه إدارة المجتمع، فللطغيان الدولة والسلطة ومؤسساتها وثروتها، وللجماعات والتيارات مساجدها وجمعياتها ونقاباتها وصحافتها، ليتناغم الطرفان في تكريس حالة من الفساد غير المسبوق، ودون تحقق الإصلاح المنشود، حتى أصبحت الثورة بالنسبة للأمة وشعوبها كصرخة الطفل الوليد، بعد مخاض عسير، فهي بداية مرحلة جديدة للأمة وشعوبها، وإعلان عن ولادتها من جديد.
المؤامرة على الأمة وثورتها:
لقد بدأت الأنظمة الخليجية والعربية الوظيفية مواجهة شعوبها - في ظل الثورة المضادة لقطع الطريق على الأمة وثورتها وحريتها وتحررها – بالحرب إعلاميا وسياسيا وأمنيا وعسكريا، وشنها على كل قوى الأمة التي آمنت بالثورة ووقفت معها، وبدأت بتوظيف الخطاب الديني (الصوفي - السلفي)، والخطاب السياسي والثقافي (الوطني - المصلحي)، لتبرير حربها على شعوبها حفاظا بزعمها على الأمن والاستقرار، كما يفعل السيسي في مصر، ونوري في العراق، وبشار في سوريا!
وقد أدركت أمريكا اليوم أن مصالحها في المنطقة العربية تتعرض لزلزال الثورة في سوريا ومصر بما قد يهدد أمن إسرائيل، والثورة في العراق واليمن بما يفقدها تحكمها في منابع النفط في الخليج العربي، ورأت واشنطن أنه لا يمكن مواجهة الثورة العربية في سوريا والعراق إلا بتفاهمها مع روسيا، والتعاون مع إيران التي أثبتت قدرتها على حماية مصالح أمريكا في العراق من خلال أحزابها وميليشياتها الطائفية، وكذا في سوريا لكبح جماح الثورة المسلحة للشعب السوري ضد نظام بشار الأسد، وهو ما يرشحها ويؤهلها لتقوم بالمهمة نفسها لصالح أمريكا حال حدوث التغيير في الخليج والجزيرة العربية، لتستعيد إيران دورها من جديد كشرطي لأمريكا في المنطقة، قادر على حماية مصالح الغرب، مقابل تعزيز نفوذها وتحقيق مصالحها القومية على حساب مصالح الأمة، ومصالح الشعوب العربية!
وقد بدأت أمريكا تحضر للمشهد في الخليج بتفاهمها مع إيران، وجاءت زيارة وزير الدفاع الأمريكي الأخيرة إلى المنطقة في سياق الترتيب لهذا التفاهم، وتم فرضه على الأنظمة الخليجية الوظيفية التي لا يهمها إلا حماية أمريكا لعروشها، تلك التفاهمات والترتيبات التي لن تكون في صالح شعوب الجزيرة والخليج العربي، بل لصالح أمريكا وإسرائيل وإيران، ولا يتصور من أمريكا غير ذلك وهي التي شنت الحرب على العراق وقتلت وهجرت الملايين من شعبه بدعم إيراني، وحاصرت سوريا وثورة شعبها - بدعوى مكافحة الإرهاب - ليقتل بشار وإيران وروسيا مئات الآلاف من الأبرياء ويهجروا الملايين من الشعب السوري، كما لا تزال طائراتها تقصف يوميا قرى اليمن لتقتل المئات من الأبرياء بذريعة محاربة القاعدة، في الوقت الذي تتقدم فيه عصابات الحوثي الطائفية نحو صنعاء لمحاصرة الثورة، وتتقدم عصابات حزب الله الطائفية في سوريا لمحاصرة حمص وحلب، دون أن تتعرض لقصف من طائرات أمريكا ولو بالخطأ، ودون أن تتهم تلك العصابات بالإرهاب! مما يفضح المؤامرة الأوربية الصليبية والإيرانية الصفوية، كما حدث قبل أربعة قرون حين تحالف الصفويون الإيرانيون والبرتغاليون المسيحيون للسيطرة على الخليج وجزيرة العرب، وتحالفوا مع الروس لمحاصرة الخلافة العثمانية والتآمر على الأمة!
توظيف الجماعات لمواجهة الثورة:
وفي ظل هذا المشهد للأمة وشعوبها في ظل ثورتها العربية، وهي تجاهد عدوها الخارجي والداخلي وتتصدى لمؤامراته - في ملحمة كبرى من الملاحم التاريخية - يخرج عليها من الجماعات الصوفية والسلفية ومن الدعاة وشيوخ الدين من يكون أقصى أمانيه تحقيق الأمن الوطني لنظامه الطاغوتي، تحت الاحتلال الصليبي، ليغيب مفهوم الأمة الواحدة، ولتغيب حقيقة الصراع بين أمة الإسلام وأمم الكفر! وليصبح الولاء والبراء عند هؤلاء مفصلا على وفق الحدود الوطنية القطرية بحكم سايكس بيكو، لا على وفق حدود دار الإسلام الواحدة بحكم الله ورسوله! تلك الدار التي قال عنها شيخ الإسلام ابن تيمية: (وإذا دخل العدو بلاد الإسلام فلا ريب أنه يجب دفعه على الأقرب فالأقرب، إذ بلاد الإسلام كلها بمنزلة البلدة الواحدة، وأنه يجب النفير إليه بلا إذن والد ولا غريم... وقتال الدفع مثل أن يكون العدو كثيرا لا طاقة للمسلمين به، لكن يخاف إن انصرفوا عن عدوهم عطف العدو على من يخلفون من المسلمين، فهنا قد صرح أصحابنا بأنه يجب أن يبذلوا مهجهم ومهج من يخاف عليهم في الدفع حتى يسلموا، ونظيرها أن يهجم العدو على بلاد المسلمين، وتكون المقاتلة أقل من النصف، فإن انصرفوا استولوا على الحريم فهذا وأمثاله قتال دفع لا قتال طلب، لا يجوز الانصراف فيه بحال، ووقعة أحد من هذا الباب.
والواجب أن يعتبر في أمور الجهاد وترامي أهل الدين الصحيح الذين لهم خبرة بما عليه أهل الدنيا، دون أهل الدينا الذين يغلب عليهم النظر في ظاهر الدين، فلا يؤخذ برأيهم ولا يراءا أهل الدين الذين لا خبرة لهم في الدنيا).[5]
إن على قوى الإصلاح والثورة في العالم العربي أن تدرك بأن تحرر العرب من الاحتلال والنفوذ الأجنبي، من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي، مهمة تاريخية كبرى، حيث تبلغ مساحة منطقة الصراع نحو 14 مليون كم، وهي أكبر من مساحة أمريكا، ومن مساحة أوربا، ويبلغ تعداد العرب فيها نحو 400 مليون نسمة، وتحت أقدامهم نحو 70 % من ثروات العالم النفطية، التي يحرم منها المصري والسوري واليمني والموريتاني حيث تعيش الأكثرية العربية تحت خط الفقر، ويموت الملايين منهم جوعا، بينما يتمتع بها الأمريكي والفرنسي والبريطاني! ولن يخرج الاحتلال إلا وفق سنن التدافع، كما قال تعالى: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ}!
وإذا كانت أوربا قد قدمت 60 مليون قتيل في الحرب العالمية الثانية من أجل التحرر من الاحتلال الألماني النازي، وهو ما يعادل تقريبا ربع سكان أوربا آنذاك، فلن يتحرر العرب من الاحتلال الأجنبي الصليبي إلا بتقديم تضحيات كبرى، كما قدمت شعوب الأرض لتتحقق لها السيادة، وإلا سيظل العرب تحت سيطرة عدوهم، الذي قتل منهم وما يزال مئات الآلاف، حتى بلغ قتلى العراق وحده نحو مليون عراقي وثلاثة ملايين مهجر، بسبب تخلي الأمة وشعوبها عن واجبها تجاههم ليصبحوا فريسة لجيوش الحملات الصليبية الهمجية!
إن على علماء الأمة ودعاتها وجماعاتها تدبر هدايات القرآن للخروج بالأمة وثورتها من التيه الذي أدخلها أعداؤها فيه!
ومن ذلك:
1- الوعي بحقيقة الصراع وأبعاده وأطرافه وأدواته وغاياته، كما قال تعالى {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ}، فمن لم يعرف المجرمين، ويعرف سبيلهم، ويعرف حقيقة إجرامهم، ويعرف سنن الله وأحكامه القدرية التي لا تتخلف بهم، ويعرف أحكامه الشرعية تجاههم، لا يمكنه جهادهم، فضلا عن الانتصاف منهم!
وهذه المعرفة لا تتحقق إلا بنورين، نور القرآن وهداياته، ونور الإيمان وتجلياته، التي يعرف المؤمنون بهما سبيل الله وصراطه المستقيم، وسبيل أعدائه المجرمين، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، والهاء في الفعل جعلنا، وفي حرف الجر الباء في قوله: {جعلناه نورا نهدي به من نشاء} تعودان على الكتاب والإيمان، فقد جعلهما الله نورا، يهدي بهما المؤمنين إلى صراطه المستقيم، وبقدر الاستضاءة بالنورين، يبصر المؤمنون سبيل المجرمين، ويعرفون أهله، وما يجب عليهم تجاههم، وبقدر ما يدخل على الإيمان من ضعف في اليقين، وإعراض عن القرآن وهداياته، يضل المؤمنون عن سواء السبيل، بقدر نقص العلم بالكتاب من جهة، ونقص اليقين وضعف الإيمان من جهة أخرى، حتى يصبح حال من فقد النورين كحال من هو في ظلمات في بحر لجي، كما قال تعالى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ}!
ومن نظر في حال الأمة اليوم علم يقينا أنه لم يسلط الله عليها عدوها بل وأضعف أعدائها وأضلهم عن سواء السبيل حتى احتلوا المسجد الأقصى - وهم الذين قال الله فيهم: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} - لولا وقوع الإعراض عن هدايات الله وكتابه، وغياب حقائق الإيمان التي يعرف بها سبيل الله، وسبيل المجرمين، ولما حدث للأمة ما حدث اليوم!
وبسبب هذا الإعراض صار الطغاة والمجرمون الذين يحاربون الله ورسوله والمؤمنين، ويصدون عن سبيل الله يبغونها عوجا، ويوالون أعداء الله ورسوله - ممن قال الله فيهم: {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا}، وقال فيهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} - ولاة أمر تجب طاعتهم ونصرتهم، ويحرم الخروج عليهم وجهادهم!
قال القرطبي: (قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ} أي يعضدهم على المسلمين {فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} بين تعالى أن حكمه كحكمهم، وكان الذي تولاهم ابن أُبيّ ثم هذا الحكم باق إلى يوم القيامة في قطع المولاة؛ وقد قال تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ}، وقال تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}، وقال تعالى: {لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ}، وقيل: إن معنى {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} أي في النصر {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} شرط وجوابه؛ أي أنه قد خالف الله تعالى ورسوله كما خالفوا، ووجبت معاداته كما وجبت معاداتهم، ووجبت له النار كما وجبت لهم؛ فصار منهم أي من أصحابهم).[6]
فأخبر الله بأن من تولاهم وظاهرهم على المؤمنين فهو منهم، بينما اشترط في ولاة أمر المؤمنين أن يكونوا من المؤمنين، لا من عدوهم، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ}، فمن تولى عدو الأمة وظاهره عليها، فهو عدو للمؤمنين لا من المؤمنين، فضلا عن أن يكون من أولي الأمر منهم!
وصار الركون للطغاة - الذين أمر الله بجهادهم بالكلمة والقوة واليد، وحرم الميل إليهم أو الرضا بهم - واجبا شرعيا، بل صار الركون إليهم عند هؤلاء من أصول الدين، ومن الإسلام والسنة!
وما كان ليحدث كل هذا الانحراف في الأمة اليوم من كثير من علمائها ودعاتها وجماعاتها - إلا من رحم الله منهم - لولا غياب نور القرآن، ونور الإيمان، حتى اختلط على هؤلاء سبيل الله وصراطه المستقيم، بسبيل الطغاة والمجرمين، واختلط عليهم حال أولياء الله بأعدائه، واختلط عليهم حكم الله في كلا الطائفتين، فلم يجعل الله لهم فرقانا يعرفون به كل سبيل وأهله، وما يجب تجاهه {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ}!
وقد اشترط الله الإيمان والتقوى لحصول الفرقان، الذي يفرق به بين الحق والباطل، وتتحقق به النجاة والفرج والنصر والظفر {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً}!
وقد حذر الله من اتخاذ أعدائه أولياء، وحذر من الإسرار إليهم بالمودة وهم يحاربون الله ورسوله والمؤمنين ويصدون عن سبيله، كما يفعل الصليبيون بقيادة أمريكا وروسيا، في حربهم على الإسلام وعلى المؤمنين المستضعفين في العراق وسوريا ومصر واليمن {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ}، فحكم الله على من فعل ذلك بأنه ضل سواء السبيل!
2- العلم بأحكام الله الشرعية ومن ذلك حكم مولاة عدو الأمة الخارجي والداخلي، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ}.[7]
قال ابن جرير الطبري: (وذكر أن هذه الآية نزلت في قوم من المسلمين كانوا يخالطونهم حلفاؤهم من اليهود وأهل النفاق منهم، ويصافونهم المودَّة بالأسباب التي كانت بينهم في جاهليتهم قبل الإسلام، فنهاهم الله عن ذلك وأن يستنصحوهم في شيء من أمورهم).[8]
وقال أيضا: (وقد قال بعضهم: معنى قوله: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ}، قد بدت بغضاؤهم لأهل الإيمان، إلى أوليائهم من المنافقين وأهل الكفر، بإطلاع بعضهم بعضًا على ذلك).[9]
فمن ظن أن عدو الأمة الخارجي وحليفه الداخلي يمكن أن يكون مع الأمة، ومع ما فيه صلاح أمرها في الدين والدنيا فلم يعقل عن الله خطابه، ولا عن القرآن هداياته!
3- العلم بأحكام الله الكونية القدرية، والاهتداء بهداياتها، كسنن الله في إبطال عمل المفسدين، ولو كره المجرمون {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ . وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}.
قال ابن جرير الطبري: (إن الله لا يصلح عمل من سعى في أرض الله بما يكرهه وعمل فيها بمعاصيه).[10]
وكلمات الله هنا هي كلماته القدرية التي قضى وقدر أنه لا يصلح عمل من أفسد في الأرض، ولا عمل من أجرم وظلم، وجاء بالوصف هنا ليفيد تعميم الحكم القدري حين وجود أسبابه، وبيان علله، ليعتبر الخلق، ويعرفوا الحق، وأن الله هو الحق، ووعده الحق، وحكمه الحق، وكلماته الحق، وما وراء ذلك إلا الباطل الذي لا يدوم، والظلم الذي لا يقوم، كما قال تعالى: {وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا}، وفي الحديث: (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته)!
قال الطاهر بن عاشور: (وجملة {إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} تذييل للجملة التي قبله لما فيه من عموم يشمل كل باطل في كل زمان، وإذا كان هذا شأن الباطل، كان الثبات والانتصار شأن الحق، لأنه ضد الباطل فإذا انتفى الباطل ثبت الحق، وبهذا كانت الجملة تذييلا لجميع ما تضمنته الجملة التي قبلها، والمعنى: ظهر الحق في هذه الأمة وانقضى الباطل فيها، وذلك شأن الباطل فيما مضى من الشرائع أنه لا ثبات له، ودل فعل {كان} على أن الزهوق شنشنة الباطل، وشأنه في كل زمان أنه يظهر ثم يضمحل).[11]
وكذلك من سنن الله أنه لا يضيع أجر المصلحين، ولا عمل المحسنين في الدنيا ولا في الآخرة، كما لا يصلح عمل المجرمين، قال تعالى {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ . فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ}.
قال ابن جرير الطبري: (يقول تعالى ذكره: واصبر، يا محمد، على ما تلقى من مشركي قومك من الأذى في الله والمكروه، رجاءَ جزيل ثواب الله على ذلك، فإن الله لا يضيع ثوابَ عمل من أحسن فأطاع الله واتبع أمره، فيذهب به، بل يوَفّره أحوجَ ما يكون إليه، فهلا كان من القرون الذين قصصت عليك نبأهم في هذه السورة، الذين أهلكتهم بمعصيتهم إياي، وكفرهم برسلي من قبلكم {أُولُو بَقِيَّةٍ}، يقول: ذو بقية من الفهم والعقل، يعتبرون مواعظَ الله ويتدبرون حججه، فيعرفون ما لهم في الإيمان بالله، وعليهم في الكفر به {يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ}، يقول: ينهون أهل المعاصي عن معاصيهم، وأهل الكفر بالله عن كفرهم به، في أرضه {ِإلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ}، يقول: لم يكن من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض، إلا يسيرًا، فإنهم كانوا ينهون عن الفساد في الأرض، فنجاهم الله من عذابه - حين أخذ من كان مقيمًا على الكفر بالله عذابُه - وهم اتباع الأنبياء والرسل).[12]
ومثل ذلك سنن الله في الظالمين ومن ركن إليهم، ومن تولاهم، كما قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ . وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ وَاسْتَفْتَحُوا . وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ}، فقد رتب الله الهلاك على وصف الظلم، والخيبة والخسارة على الاستكبار في الأرض!
ومثله قوله تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ . وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ . وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ}!
فأخبر الله بأن إرادته الكونية قضت أن عاقبة الجبابرة والطغاة والمفسدين إلى بوار، وأنه ينصر المستضعفين ويمن عليهم بالاستخلاف في الأرض!
فلم يقل الله: (ونريد أن نمن على بني إسرائيل)، وإنما جاء بالوصف الصالح لترتيب الحكم القدري عليه في كل زمان ومكان، وفي كل الأمم، فقال: {عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} ليشعر بالعلة التي ترتب عليه الحكم وهو الاستضعاف، لتتجلى بذلك آيات الله في الخلق، وليظهر الله لعباده آثار أسمائه الحسنى وصفاته المثلى، كالملك والجبار والعزيز والقاهر فوق عباده والمنتقم، كما قال الطاهر بن عاشور: (ونكتة إظهار الذين استضعفوا دون إيراد ضمير الطائفة – بني إسرائيل - للتنبيه على ما في الصلة من التعليل، فإن الله رحيم لعباده، وينصر المستضعفين المظلومين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا).[13]
وقال أيضا: (وموضع العبرة من هذه القصة أنها تتضمن أمورا ذات شأن ذكرى للمؤمنين وموعظة للمشركين.
فأول ذلك وأعظمه: إظهار أن ما علمه الله وقدره هو كائن لا محالة، كما دل عليه قوله: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ} إلى قوله: {يَحْذَرُونَ} وإن الحذر لا ينجي من القدر.
وثانيه: إظهار أن العلو الحق لله تعالى وللمؤمنين، وأن علو فرعون لم يغن عنه شيئا في دفع عواقب الجبروت والفساد ليكون ذلك عبرة لجبابرة المشركين من أهل مكة.
وثالثه: أن تمهيد القصة بعلو فرعون وفساد أعماله مشير إلى أن ذلك هو سبب الانتقام منه، والأخذ بنصر المستضعفين، ليحذر الجبابرة سوء عاقبة ظلمهم، وليرجو الصابرون على الظلم أن تكون العاقبة لهم...).[14]
ومثل ذلك في أحكام الله القدرية حكمه في مترفي أهل القرى حين يتأمرون عليها ويفسدون فيها، كما قال تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا}، وجاء في قراءة {أمّرْنَا مُتْرَفِيهَا} جعلناهم أمراء بقضائنا وقدرنا لتجري عليها أحكام الله الكونية بتدميرها حين تأمروا وأفسدوا فيها.
ويؤكد هذا المعنى حديث: (إذا رأت أمتي الظالم ولم تأخذ على يديه عمهم الله بعقابه)!
فلا تدفع أحكام الله القدرية بالركون إلى الظالمين خوف وقوع العذاب، ولا يمنعها من الوقوع التحذير من الفتن، كما يتوقع سدنتهم، فإن أحكامه القدرية منوطة بأسبابها ونواميسها التي لا تتخلف!
ومثله قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ . لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}!
فقد جعل الله قصه لهذه القصص هداية للمؤمنين، ليعتبروا ويقيسوا الوقائع على الوقائع، والأحداث الجارية على الأحداث الماضية، وليعرفوا سنن الله وأحكامه القدرية وعللها، كما عرفهم الله أحكامه الشرعية بعللها!
إن على قادة الثورة اليوم في مصر وسوريا واليمن والعراق وكل بلد عربي يتهيأ للثورة أن يدركوا أنهم وهم يجاهدون الطغاة، لا يجاهدونه وحده بل يجاهدون من وراءه من أنظمة وظيفية، وقوى دولية صليبية، تقف خلفه بصورة أو أخرى، لعلمهم أن تحرير العالم العربي والشام ومصر والعراق له ما بعده، وأن المنطقة كلها ستتغير بشكل جذري، فهم يمكرون جهدهم ليل نهار لقطع الطريق على الثورة العربية، وعلى مشروعها من أجل الحرية والكرامة واستعادة سيادتها وهويتها وشريعتها التي يتطلع لها العرب والأمة من ورائهم...
كما يجب على قادة الأمة وثورتها أن يدركوا بأن للنصر أسبابه، وللظفر أبوابه، وقد فتح الله للأمة بالثورة العربية بابا عظيما نحو تحقيق النصر للعرب وللأمة من ورائهم!
وقد جاء القرآن ببيان أسباب الظفر وحذر من الإعراض عن هداياته، والصدود عن آياته، فقال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا}، في الدنيا والآخرة، وإن من الضنك والضيق ما يجده المؤمنون المخلصون والمجاهدون من مرارة الهزيمة ونكاية العدو بهم حين يعرضون ولو جزئيا عن هدايات الكتاب والسنة، فيؤتون من قبل أنفسهم لا من قبل عدوهم {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ}!
وإن من أعظم أسباب النصر:
أولا: وحدة الكلمة ورص الصف، وهو أوجب ما يكون في ساحات القتال والجهاد، كما قال تعالى: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ}، وقد حذر الله من الافتراق وأخبر أنه سبب الهزيمة وذهاب الريح فقال: {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}، وقد رأت الأمة في مشاهد كبرى وساحات عظمى من ساحات الجهاد وحروب التحرير والاستقلال كيف ضحت بالغالي والنفيس وكم قدمت من الرجال والأموال، فلم يتحقق لها ما كانت ترجوه من النصر، لما وقعت فيما نهى القرآن عنه، ومن ذلك الافتراق والتنازع كما حصل في أفغانستان والعراق وفلسطين والصومال!
ولو لم يرد في نصوص القرآن والسنة القطعية ما يوجب الوحدة ويحرم الافتراق لكان فيما تقضي به العقول الصحيحة والفطر السليمة والتجارب المشاهدة ما يوجب رص الصفوف، كيف! والطغاة يقف خلفهم دول وأمم كبرى قد وحدت مواقفها ونظمت دعمها بينما قادة الثورة في كل بلد، والمجاهدون وفصائلهم أوزاع وفرق ومجموعات أعجز من أن تغير الواقع العسكري والسياسي وحدها، فضلا أن تكون البديل القادم؟
ثانيا: ضرورة معرفة العدو والحذر منه وجهاده، وقد فصل القرآن في هذا الأمر أحسن تفصيل، فيمن تجب الحيطة والحذر منهم، حيث لم يقتصر التحذير من العدو المباشر للعدوان ممن قال الله فيه: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ} بل حذر من أعداء غيره أشد وأنكى وهم:
1- العدو الداخلي للأمة وهم المنافقون، ممن ثبتت ولايتهم للعدو الخارجي ومظاهرتهم له، وهم أشد أعداء الأمة خطرا كما في قوله تعالى: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللهُ}!
فركون قادة الثورة والمجاهدين في مصر وسوريا واليمن والعراق للأنظمة الوظيفية التي صنعها العدو على عينه منذ سيطرته على الأمة هو أول الوهن، والوثوق بهم هو أول الخلل، فهم وإن تظاهروا بوقوفهم مع الشعب السوري أو اليمني أو العراقي، فإنما ينفذون بذلك خطة أوليائهم من دول الاحتلال، فيجب الحذر منهم كما أمر الله، وعدم الركون إليهم، أو الوثوق بوعودهم، أو إطلاعهم على حال المجاهدين وأوضاعهم، فإنهم عين العدو الخارجي وسمعه!
ولم تتأخر الثورة عن تحقيق النصر إلا حين ركن كثير من المجاهدين والصالحين إليهم ظنا منهم أنهم ينصرونهم أو يعزونهم {أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ للهِ جَمِيعًا}!
2- ومثل المنافقين في شدة خطرهم المرجفون ممن يخوفون قادة الثورة والمجاهدين من عدوهم ويثبطون عزائمهم ويحذرونهم إن الناس قد جمعوا لكم، كما قال تعالى في التحذير منهم: {لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ...}..
وما زال المرجفون يحذرون من تسليح الثورة ليتحكم بها العدو الخارجي، حتى إذا أدرك الشعب السوري أن النظام الحاكم ليس سوى عصابة إجرامية لا يردعها إلا القوة وتم تسليح الثورة، فإذا المرجفون يحذرون من تخلي العالم عن الثورة إذا أعلنت الجهاد!
3 - العدو الخارجي وهم الذين قال الله فيهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء... إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ}!
وقد بلغ الأمر بكثير من قيادات الثورة في مصر وسوريا واليمن والعراق الركون للمنافقين، بل تجاوزوه إلى الركون للعدو الخارجي طمعا بالنصر والمدد، فكان الجزاء الحصار للثورة وإجهاضها، والتآمر عليها في كل بلد عربي، ليوجد خلالها العدو البديل للنظام بعد سقوطه، وليوصل الأمة وشعوبها إلى حد طلب التدخل الخارجي، لتغيير النظام، وليأتي الاحتلال باسم الأمم المتحدة، كما جرى في اليمن وإخضاعه للبند السابع!
ثالثا: الثبات والصبر على جهاد العدو، فقد جعل الله من السنن المطردة في المؤمنين أن يبتليهم بعدوهم، كما قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}.
قال ابن جرير الطبري: (وهذا إخبار من الله تعالى أتباعَ رَسوله صلى الله عليه وسلم، أنه مبتليهم وممتحنهم بشدائد من الأمور، ليعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه، ووَعدهم ذلك في آية أخرى فقال لهم {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}، وبنحو الذي قلنا في ذلك كان ابن عباس وغيرُه يقول..
عن ابن عباس قوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ}، ونحو هذا، قال: أخبر الله المؤمنين أن الدنيا دارُ بلاء، وأنه مبتليهم فيها، وأمرَهم بالصبر وبَشّرهم فقال: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}، ثم أخبرهم أنه فعل هكذا بأنبيائه وصَفوته، لتطيب أنفسهم فقال {مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا}..
وقوله: {بِشَيءٍ مِّنَ الْخَوفْ}، يعني من الخوف من العدو، وبالجوع - وهو القحط - يقول: لنختبرنكم بشيء من خوف ينالكم من عدوكم، وبسَنةٍ تُصيبكم ينالكم فيها مجاعة وشدة، وتتعذر المطالب عليكم، فتنقص لذلك أموالكم، وحروبٌ تكون بينكم وبين أعدائكم من الكفار، فينقص لها عددكم، وموتُ ذراريكم وأولادكم، وجُدوب تحدُث، فتنقص لها ثماركم، كل ذلك امتحان مني لكم، واختبار مني لكم، فيتبين صادقوكم في إيمانهم من كاذبيكم فيه، ويُعرف أهل البصائر في دينهم منكم، من أهل النفاق فيه والشك والارتياب).[15]
وقد أخبر الله أنه يبتلي المؤمنين بأعدائهم، ليختبرهم ويبلو أخبارهم، ويصطفي منهم شهداءهم، كما قال تعالى: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ}، وقال: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ}، وقال: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ . إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} ... الخ
وما زال المسلمون منذ ظهور الإسلام وهم في حال جهاد دفع أو جهاد طلب، كما في الأثر: (الجهاد ماض إلى يوم القيامة)، ليصطفي الله منهم الشهداء في كل عصر وجيل، كما جاء في الحديث الصحيح: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق يقاتلون)!
وظل الروم منذ ظهور الإسلام في حال صراع دائم مع الإسلام، فتارة تكون الدولة لهم، وتارة للأمة عليهم، منذ مؤتة في السنة 8 من الهجرة، وحتى يومنا هذا، وتحقق ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم من استمرار حالة الصراع مع الروم كما في الحديث: (تصالحون الروم صلحا آمنا وتغزون أنتم وهم عدوا من ورائهم فتسلمون وتغنمون، ثم تنزلون بمرج ذي تلول فيقوم إليه رجل من الروم فيرفع الصليب ويقول ألا غلب الصليب! فيقوم إليه رجل من المسلمين فيقتله، فعند ذلك تغدر الروم، وتكون الملاحم، فيجتمعون إليكم فيأتونكم في ثمانين غاية مع كل غاية عشرة آلاف).[16]
وفي رواية ابن حبان في صحيحه: (ويثور المسلمون إلى أسلحتهم فيقتتلون، فيكرم الله تلك العصابة من المسلمين بالشهادة، فتقول الروم لصاحب الروم: كفيناك العرب، فيجتمعون للملحمة).[17]
وكما في حديث: (إنما فارس نطحة أو نطحتان ثم لا فارس بعدها أبدا، والروم ذات القرون، كلما ذهب قرن خلفهم قرن مكانه، أصحاب صخر وبحر، هيهات هيهات إلى آخر الدهر، هم أصحابكم ما كان في العيش خير).[18]
وقد ظهر في هذه الملاحم التاريخية المعاصرة من آيات النبوة كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم ما يزيد المؤمنين إيمانا، ولا يزيد الظالمين إلا خسارا، وانقسمت الأمة فيها إلى ثلاث فرق كما هي أحوالها في الفتن:
1- فرقة اصطفت مع العدو في خندقه وقاتلت معه وتأولت لنفسها، ككثير من الحكومات والجماعات.
2- وفرقة اعتزلت الصراع خشية الفتنة ،ككثير من العلماء والدعاة!
3- وفرقة تصدت له وجاهدته بالنفس والمال، وهم عامة شعوب الأمة!
وهذا ما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم عند حدوث الملاحم، كما في الأثر عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وقد ذكر عنده الدجال، فقال عبد الله بن مسعود: (تفترقون أيها الناس لخروجه على ثلاث فرق: فرقة تتبعه، وفرقة تلحق بأرض آبائها بمنابت الشيح، وفرقة تأخذ شط الفرات يقاتلهم ويقاتلونه، حتى يجتمع المؤمنون بقرى الشام فيبعثون إليهم طليعة فيهم فارس: فيقتتلون فلا يرجع منهم بشر).[19]
وكما في فتنة يأجوج ومأجوج في حديث أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإذا كان في آخر الزمان جاء بنو قنطوراء أقوام عراض الوجوه حتى ينزلوا على شاطئ النهر فيفترق أهلها على ثلاث فرق، فأما فرقة فتأخذ أذناب الإبل والبرية فيهلكون، وأما فرقة فيأخذون لأنفسهم - أي الأمان - ويكفرون، وأما فرقة فيجعلون ذراريهم خلف ظهورهم ويقاتلونهم وهم الشهداء).[20]
وما يجري اليوم للأمة من تداعي الأمم وحربها عليها، وعجزها عن الدفع عن نفسها مع كثرة عددها، إنما هو من الملاحم الكبرى التي لم يحدث مثلها في تاريخها قط، فلم تزل الخلافة عن الأرض كلية منذ ظهور الإسلام، إلا في هذا العصر، حيث جعل النبي صلى الله عليه وسلم وجودها عصمة من الفتن العامة، كما في الحديث الصحيح: (إن كان لله في الأرض خليفة فالزمه)!
ولم تقم لليهود دولة في فلسطين منذ ظهور الإسلام بل ومنذ ما قبل المسيح إلا في هذا العصر!
ولم يجتمع اليهود والعرب بجيوشهم وأموالهم على حرب الأمة وحرب الإسلام منذ غزوة الأحزاب وحصار اليهود والعرب للإسلام في الخندق في سنة 5 للهجرة إلا في هذا العصر، حتى صرحت ليفني وزيرة خارجية إسرائيل - وهي تشن حربها على غزة سنة 2008م، والأنظمة العربية الوظيفية تحاصر غزة وشعبها وتقطع المدد عنها - (بأن إسرائيل وحلفاءها العرب في خندق واحد في مكافحة الإرهاب)!
فوقع ما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح وما حذر منه، وهم الطغاة الذين قال عنهم: (دعاة على أبواب جهنم من أطاعهم قذفوه فيها، هم من بني جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا)!
فمنذ ظهور الإسلام في جزيرة العرب، وإجلاء اليهود منها بعد خيانتهم في الخندق، لم تقم لهم قائمة، إلا في هذا العصر، حتى بلغ نفوذهم حدا لم يحدث في تاريخهم كله مثله إلا في عهد النبي سليمان!
ولم يحدث للمسلمين من الضعف منذ الهجرة وفتح مكة واستخلافهم في الأرض ما جرى لهم في هذا العصر، حتى تحقق قوله صلى الله عليه وسلم: (بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء)!
ولم يحدث في تاريخ الأمة أن احتل الصليبيون دار الإسلام كلها إلا في هذا العصر، حتى لا تكاد تخرج دولة في العالم الإسلامي عن سيطرتهم ونفوذهم!
فمن لم يستحضر هذه الحقائق الإيمانية والتاريخية لن يستطيع معرفة حقيقة الصراع وأبعاده وغايته ومآلاته!
رابعا: تحديد الهدف والرؤية السياسية للثورة العربية:
إن الثورة العربية هي أول خطوة على طريق الإصلاح والتغيير، وما بعد الثورة أبعد شقة، وأشد مشقة، وهو ما يحتاج من قيادات الأمة إلى رؤية علمية، وروية عملية، يكون فيها الخطاب السياسي الإسلامي - القرآني والنبوي والراشدي، وفقه المقاربات وفقه النوازل - هو قطب الرحى في تحقيق الإصلاح على هدى الكتاب والسنة!
وإن الأمة كلها تتطلع اليوم فيما تتطلع إليه، بعد عقود من الفوضى والتيه، إلى بعث الإسلام واستئناف الحياة به من جديد، وهي في شوق لنور هداياته، كما قال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}، وإلى عدله وقسطه {قل أمر ربي بالقسط}، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك)، وقال: (تركت فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا أبدا كتاب الله وسنتي)، وقال: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور)..الخ
وربما حال دون مشاركة كثير من أهل العلم والصلاح في الثورة كونها لم ترفع شعار الإسلام، مع أنها لا تحتاج لذلك ما دامت الثورة على الطغاة والاحتلال مشروعة في حد ذاتها، وهي جهاد في سبيل الله كما قال تعالى: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ}، وقتيلها شهيد كما في الحديث: (من قاتل دون ماله فهو شهيد)، ومثله من قاتل (دون حقه)، فالواجب على أهل العلم والفضل المشاركة فيها، والدعوة إلى ما يرونه من الحق والعدل الذي يؤمنون به، لا اعتزالها واعتزال الأمة في جهادها، ثم تمني قيادتها والاشتراط عليها، فإن لله سننا لا تتخلف، فالغنم بالغرم، ومن زرع حصد، ومن اعتزل قعد، وستمضي الأمة في طريقها، وستسلم أمرها لمن قادها نحو الخلاص ونحو الحرية، وقاتل معها وقاتل دونها..
فالواجب على علماء الأمة في مصر والشام واليمن والعراق وفي كل بلد عربي، وعلى دعاته وأهل الصلاح والفضل منهم القيام بالواجب الشرعي والجمع بين الجهاد وقيادة الأمة في مواجهة الطاغوت، والعلم بهدايات الكتاب والسنة في باب سياسة الأمة بالعدل والقسط، فإنه ما لم يكن هناك معرفة علمية عميقة بأصول الخطاب السياسي القرآني والنبوي والراشدي، فلا يمكن قيادة الأمة بهداية الكتاب ونور السنة، ولا يمكن تحقيق المقاربة بين الخطاب الإسلامي والواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي الحالي، الذي أفسده الطغاة فسادا ليس من السهل إصلاحه، إلا لمن أوتي فهما في أصول الخطاب السياسي الراشدي وكلياته ومقاصده، وفهما في الواقع السياسي ومشكلاته وتعقيداته، فمن أخذ الكتاب بقوة العلم، وتصدى للواقع بقوة الإرادة والحزم، كان أحرى بالتوفيق والسداد..
وإن أسعد علماء هذا العصر حظا في ميراث النبوة من أحيا سنن النبوة في الحكم وسياسة الأمة، وهو من التجديد في الدين، كما في الحديث: (من أحيا سنة فله أجرها وأجر من عمل بها)، وأجل السنن وأعظمها سننه في الإمامة، وهي التي عطف عليها سنن الخلفاء الراشدين في قوله: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين، وإياكم ومحدثات الأمور)، وهي المقصودة بحديث: (يكون أمراء لا يهتدون بهديي ولا يستنون بسنتي) أي يخرجون عن هديه وسننه في باب الحكم والإمامة، وهي تلك المحدثات التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل التحذير منها، كما في حديث: (ثم يكون ملكا عضوضا ثم ملكا جبريا) (ثم يكون الطواغيت)، ثم بشر بعدها بعودتها خلافة على نهج النبوة!
وإن الواجب على أهل العلم في هذه النوازل الدعوة إلى بعث الخطاب السياسي القرآني والنبوي والراشدي، وما جاء به من العدل والشورى والحق، والقسط والرحمة بالخلق، كما قال تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ}، وقال: {وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}..
فالواجب معرفة القسط وإحياء سنن النبوة والحكم الراشد حسب الإمكان بالعلم بها وتعليمها، والدعوة إليها بالحكمة والموعظة الحسنة، والتبشير بها وبعودتها من جديد، والرد على أهل الشبه ودعاة المحدثات ممن قال عنهم النبي صلى الله عليه وسلم: (أخوف ما أخاف على أمتي الأئمة المضلون)!
ولا شك بأن العلم بسنن الرشد في باب الحكم وسياسة الأمة لن يكون كافيا وحده، ما لم يصبح ذلك مشروعا سياسيا يؤمن به ويحمله سياسيون محنكون، ومصلحون مخلصون، يعرفون الواقع والممكن لهم فيه، والسنن وأصولها وفروعها، والأحق منها بالتقديم، على نحو يجمع ولا يفرق، ويقيم ما أمكن من العدل، ويبطل ما أمكن من الجور، بحسب المقدور، فقد قطع الطاغوت شوطا في كل بلد في تغريب الأمة وتضليلها وإفساد واقعها، وقد قال عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز لوالده الخليفة الراشد عمر: (يا أبت ما يمنعك أن تمضي لما تريده من العدل؟ فوالله ما كنت أبالي لو غلت بي وبك القدور في ذلك! قال: يا بني إني إنما أروض الناس رياضة الصعب، إني أريد أن أحيي الأمر من العدل فأؤخر ذلك حتى أخرج منه طمعا من طمع الدنيا، فينفروا من هذه ويسكنوا لهذه).[21]
وفي رواية ابن أبي شيبة: (ما يمنعك أن تمضي للذي تريد، فوالذي نفسي بيده، ما أبالي لو غلت بي وبك فيه القدور، قال: وحق هذا منك يا بني؟ قال: نعم والله! قال: الحمد لله الذي جعل لي من ذريتي من يعينني على أمر ربي، يا بني! لو بدهت الناس بالذي تقول لم آمن أن ينكروها، فإذا أنكروها لم أجد بدا من السيف، ولا خير في خير لا يأتي إلا بالسيف، يا بني إني أروض الناس رياضة الصعب، فإن يطل بي عمر فإني أرجو أن ينفذ الله لي شيئا، وإن تعد علي منية فقد علم الله الذي أريد).[22]
وفي رواية المروزي في كتاب السنة: (يا أمير المؤمنين ألا تمضي كتاب الله وسنة نبيه؟ والله ما أبالي أن تغلي بي وبك القدور! فقال له يا بني إني أروض الناس رياضة الصعب أخرج الباب من السنة فأضع الباب من الطمع! فإن نفروا للسنة سكنوا للطمع! ولو عمرت خمسين سنة لظننت أني لا أبلغ فيهم كل الذي أريد، فإن أعش أبلغ حاجتي، وإن مت فالله أعلم بنيتي).[23]
وعند أبي نعيم في الحليةّ: (يا أمير المؤمنين ما أنت قائل لربك غدا إذا سألك فقال: رأيت بدعة فلم تمتها، أو سنة لم تحيها؟ فقال له: يا بني أشيء حملتكه الرعية إلي، أم رأي رأيته من قبل نفسك؟ قال: لا والله ولكن رأي رأيته من قبل نفسي، وعرفت أنك مسئول فما أنت قائل؟ فقال له أبوه: رحمك الله وجزاك من ولد خيرا، فوالله إني لأرجو أن تكون من الأعوان على الخير! يا بني إن قومك قد شدوا هذا الأمر عقدة عقدة، وعروة عروة، ومتى ما أريد مكابرتهم على انتزاع ما في أيديهم لم آمن أن يفتقوا علي فتقا تكثر فيه الدماء، والله لزوال الدنيا أهون من أن يهراق بسببي محجمة من دم، أو ما ترضى أن لا يأتي على أبيك يوم من أيام الدنيا إلا وهو يميت فيه بدعة ويحيى فيه سنة، حتى يحكم الله بيننا وبين قومنا بالحق وهو خير الحاكمين).[24]
وفي رواية أخرى عند أبي نعيم في الحلية قال له: (ما يمنعك أن تنفذ لرأيك في هذا الأمر؟ فوالله ما كنت أبالي أن تغلى بي وبك القدور في إنفاذ الأمر! فقال عمر: إني أروض الناس رياضة الصعب، فان أبقاني الله مضيت لرأيي، وإن عجلت علي منيتي فقد علم الله نيتي، إني أخاف إن بادهت الناس بالتي تقول أن يلجئوني إلى السيف، ولا خير في خير لا يجيء إلا بالسيف).[25]
فهذا ما قاله الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز في القرن الثاني، في شأن إحياء سنن العدل والرشد في الحكم وسياسة الأمة، وإبطال البدعة والجور في هذا الباب، فكيف بأحوال الأمة اليوم!
فالواجب الإصلاح السياسي بحسب الإمكان، كما في قول النبي شعيب: {ِإنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ}، قال الشيخ السعدي في تفسيره لها، والفوائد التي تستفاد منها: (ومنها: أن وظيفة الرسل وسنتهم وملتهم، إرادة الإصلاح بحسب القدرة والإمكان، فيأتون بتحصيل المصالح وتكميلها، أو بتحصيل ما يقدر عليه منها، وبدفع المفاسد وتقليلها، ويراعون المصالح العامة على المصالح الخاصة، وحقيقة المصلحة، هي التي تصلح بها أحوال العباد، وتستقيم بها أمورهم الدينية والدنيوية، ومنها: أن من قام بما يقدر عليه من الإصلاح، لم يكن ملوما ولا مذموما في عدم فعله ما لا يقدر عليه، فعلى العبد أن يقيم من الإصلاح في نفسه، وفي غيره، ما يقدر عليه) انتهى كلام السعدي.
ولهذا لم يتوقف النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم وهم في مكة عن الدعوة إلى كل عدل وخير وبر، ومن ذلك قصة الإراشي اليماني - كما في السيرة - وكان رجلا غريبا عن مكة، وكان له عند أبي جهل حق، وقد رفض أبو جهل أن يرد عليه حقه، فجاء يشتكي لقريش فأشاروا عليه أن يذهب للنبي صلى الله عليه وسلم، فلما جاءه مشى معه صلى الله عليه وسلم حتى ضرب باب دار أبي جهل وهو (فرعون هذه الأمة) كما في الحديث، وقال له أعط الرجل حقه! فارتعد منه أبو جهل ودفع إليه حقه!
قال ابن إسحاق: (قدم رجل من إراش بإبل له فابتاعها منه أبو جهل فمطله بأثمانها فأقبل الإراشي حتى وقف على ناد من قريش ورسول الله صلى الله عليه وسلم في ناحية المسجد جالس، فقال: يا معشر قريش! من رجل يؤديني على أبي الحكم بن هشام فإني رجل غريب ابن سبيل، وقد غلبني على حقي؟
قال: فقال له أهل ذلك المجلس: أترى ذلك الرجل الجالس لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يهزأون به لما يعلمون ما بينه وبين أبي جهل من العداوة اذهب إليه فإنه يؤديك عليه.
فأقبل الإراشي حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا عبد الله! إن أبا الحكم بن هشام قد غلبني على حق لي قبله وأنا رجل غريب ابن سبيل وقد سألت هؤلاء القوم عن رجل يؤديني عليه يأخذ لي حقي منه، فأشاروا لي إليك فخذ لي حقي منه يرحمك الله!
قال: انطلق إليه وقام معه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأوه قام معه، قالوا لرجل ممن معهم: اتبعه فانظر ماذا يصنع.
قال: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءه فضرب عليه بابه.
فقال: من هذا؟
قال: محمد فاخرج إلي!
فخرج إليه وما في وجهه من رائحة قد انتقع لونه.
فقال: اعط هذا الرجل حقه!
قال: نعم، لا تبرح حتى أعطيه الذي له.
قال: فدخل فخرج إليه.
قال: ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال للإراشي الحق بشأنك، فأقبل الإراشي حتى وقف على ذلك المجلس، فقال: جزاه الله خيرا فقد والله أخذ لي حقي).[26]
فلم يتوقف النبي صلى الله عليه وسلم عن الدفاع عن المظلوم، وإقامة العدل، بدعوى أنه في مكة، ولا شوكة له فيها، أو أنه لا بد من حكومة إسلامية، أو أن الطاغية لا يؤمر بإصلاح، ولا ينهى عن فساد حتى يؤمن!
وقد قال تعالى في سورة الشورى وهي مكية في شأن رسوله صلى الله عليه وسلم: {وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ}!
وكذا قال صلى الله عليه وسلم: (شهدت في بيت عبد الله بن جدعان حلفا - وكان حلفا في الجاهلية على نصرة المظلوم - لو دعيت إليه في الإسلام لأجبت)!
وهذا يؤكد أن النبي صلى الله عليه وسلم ظل على التزامه بهذا الحلف وهو في مكة قبل قيام الدولة الإسلامية، وكذا في المدينة بعد قيامها.
والمقصود أن الأمة لا تتعطل عن الإصلاح في كل مجال، وفي كل بلد، حسب استطاعتها، فتدعو إلى العدل، وتأخذ على يد الظالم، وتسعى لتحقيق المساواة، وإصلاح شئون حياتها...إلخ.
ولا يتعارض ذلك مع حقها في الثورة إذا رأت الأمة ذلك لتحررها من الأنظمة الوظيفية وطغاتها وطغيانها، ولا يتعارض مع جهادها لعدوها الخارجي في حرب تحرير أوطانها، ولا يتخذ من إمكان الإصلاح الجزئي ذريعة لمنع الأمة وشعوبها من تغيير واقعها، ولا يحتج عليها بشرائع الأنبياء قبل نبيها، ولا يكون الاستثناء أصلا، ولا الاضطرار قاعدة مطردة، تظل بسببه الأمة التي جعل الله ذروة سنام دينها الجهاد في سبيل الله أذل الأمم اليوم، لا لقلة عددها، ولا لفقرها وضعف عتادها وعدتها، وإنما بسبب خطاب الأئمة المضلين، وبسبب الوهن وحب الحياة وكراهية الموت!
فأعظم الإصلاح وأفضل المصلحين من عمل من أجل إقامة (الخلافة الراشدة) في الأمة كلها، ثم من عمل من أجل إقامة (الدولة والحكومة الراشدة) في أي بلد من بلدان المسلمين، ثم من تصدى لتحقيق أي إصلاح ولو جزئي في (حكومة عادلة)، في أي بلد إسلامي، بأي وسيلة مشروعة تحقق الإصلاح سلمية كانت أو ثورية، نخبوية كانت أو جماهيرية، بحسب الظرف المحيط به.
ولا يقتصر ذلك الإصلاح على الأمة في دار الإسلام، بل وحتى في غير دار الإسلام، فللمسلمين في كل بلد، أن يدعوا إلى الإصلاح والعدل والخير والبر، والاستعانة بأقوامهم وعصائبهم وتجمعاتهم على تحقيق الإصلاح، كما قال العلامة عبد الرحمن السعدي في تفسير قوله: {وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ} وأنه يجوز للمسلمين في غير دار الإسلام أن يؤيدوا قومهم في إقامة أنظمة الحكم العادلة، لما يتحقق لهم فيها من عدل وصلاح، بخلاف أنظمة الحكم المستبدة الدكتاتورية الظالمة!
قال السعدي في تفسيره: (ومنها: أن الله يدفع عن المؤمنين بأسباب كثيرة، قد يعلمون بعضها, وقد لا يعلمون شيئا منها، وربما دفع عنهم، بسبب قبيلتهم، أو أهل وطنهم الكفار، كما دفع الله عن شعيب رجم قومه بسبب رهطه، وأن هذه الروابط التي يحصل بها الدفع عن الإسلام والمسلمين، لا بأس بالسعي فيها، بل ربما تعين ذلك، لأن الإصلاح مطلوب على حسب القدرة والإمكان، فعلى هذا لو ساعد المسلمون الذين تحت ولاية الكفار، وعملوا على جعل الولاية جمهورية يتمكن فيها الأفراد والشعوب من حقوقهم الدينية والدنيوية، لكان أولى من استسلامهم لدولة تقضي على حقوقهم الدينية والدنيوية، وتحرص على إبادتها، وجعلهم عمَلَةً وخَدَمًا لهم، نعم إن أمكن أن تكون الدولة للمسلمين، وهم الحكام، فهو المتعين، ولكن لعدم إمكان هذه المرتبة، فالمرتبة التي فيها دفع ووقاية للدين والدنيا مقدمة) انتهى كلام السعدي.
وهذا هو السبب في أمر النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه بالهجرة للحبشة - ولم تكن دار إسلام بل كانت دار سلم وأمن - لما فيها من عدل!
والمقصود أنه إن استطاع المسلمون في بلدانهم إقامة العدل والقسط الذي جاء به الإسلام في ظل (خلافة راشدة وأمة واحدة)، فهذا هو الأصل الذي يجب على الأمة كلها السعي من أجل إقامته، ولا يحل لها الرضا بغيره، وهو الذي بشر بعودته النبي صلى الله عليه وسلم، فإن لم يستطيعوا في هذا العصر إلا إقامة دول وحكومات راشدة في أقطارهم، أو في بعض بلدانهم، فهذا هو الواجب على من استطاع ذلك منهم في تلك الأقطار، كما في الحديث الصحيح: (ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم).
فإن لم يقدروا لا على (خلافة راشدة) ورئاسة عامة على الأمة كلها، ولا على (حكومة راشدة) ورئاسة خاصة على بعض شعوبها وأقطارها، بسبب ضعفهم وعجزهم، وقوة عدوهم، واستطاعوا مع غيرهم من أقوامهم إقامة ما يمكن من العدل والقسط في ظل (حكومة عادلة)، فهذا هو الواجب في حقهم، كما قال ابن تيمية: (فإن الناس لم يتنازعوا في أن عاقبة الظلم وخيمة، وعاقبة العدل كريمة، ولهذا يروى: الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة).[27]
وقال أيضا: (وأمور الناس تستقيم في الدنيا مع العدل الذي فيه الاشتراك في أنواع الإثم - أي المعاصي والفجور - أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق وإن لم تشترك في إثم؛ ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة؛ ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة! ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر، ولا تدوم مع الظلم والإسلام، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس ذنب أسرع عقوبة من البغي وقطيعة الرحم) فالباغي يصرع في الدنيا وإن كان مغفورا له مرحوما في الآخرة، وذلك أن العدل نظام كل شيء؛ فإذا أقيم أمر الدنيا بعدل قامت، وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة من خلاق، ومتى لم تقم بعدل لم تقم، وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يجزى به في الآخرة).[28]
ولهذا لم يشكل على علماء الأمة في أوائل القرن الماضي ضرورة الإصلاح بكل وسيلة مشروعة، حتى بعد سقوط الخلافة والحكم الإسلامي، وقيام الدول القطرية بدساتيرها الحديثة مع بطلانها وعدم شرعيتها، وفرق العلماء آنذاك بين الدساتير التي هي عقود سياسية تجري عليها أحكام العقود بجوازها، وبطلان الشروط الفاسدة منها، والقوانين الوضعية التي تخالف أحكام الشريعة لكونها أحكاما يلتزم بها القضاة فيحرم العمل بها، وقد كان العلامة القاضي الشرعي والمحدث المجتهد الشيخ المصري أحمد شاكر من أوائل فقهاء الأمة الذين أدركوا الفرق بين الدستور والقانون، حيث أجاز العمل السياسي البرلماني لتحقيق الإصلاح، حيث يقول عن القوانين الوضعية التي تصادم أحكام الشريعة:(إن الأمر في هذه القوانين الوضعية واضح وضوح الشمس، هي كفر بواح، لا خفاء فيه ولا مدارة، ولا عذر لأحد ممن ينتسب للإسلام كائنا من كان في العمل بها أو الخضوع لها أو إقرارها). [29]
وقال: (القضاء في الأموال والأعراض والدماء بقانون مخالف لشريعة أهل الإسلام، وإصدار قانون ملزم لأهل الإسلام بالاحتكام إلى حكم غير حكم الله، هذا الفعل إعراض عن حكم الله، ورغبة عن دينه، وهذا كفر لا يشك أحد من أهل القبلة على اختلافهم في تكفير القائل به والداعي إليه).[30]
بينما يقول في رسالته (الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدر التشريع في مصر): (سيكون السبيل إلى ما نبغي من نصر الشريعة السبيل الدستوري السلمي، أن نبث في الأمة دعوتنا، ونجاهد فيها ونجاهر بها، ثم نصاولكم عليها في الانتخاب، ونحتكم فيها إلى الأمة، فإذا وثقت الأمة بنا، ورضيت عن دعوتنا، واختارت أن تحكم بشريعتها، طاعة لربها، وأرسلت منا نوابها للبرلمان، فسيكون سبيلنا وإياكم أن ترضوا بما يقضي به الدستور، فتلقوا إلينا مقاليد الحكم كما تفعل كل الأحزاب، ثم نفي لقومنا بما وعدناهم به من جعل القوانين كلها مستمدة من الكتاب والسنة). [31]
فهنا يفرق الشيخ بين التحاكم إلى القوانين الوضعية التي هي كفر بواح وردة جامحة، وقد نص على ذلك في كثير من مؤلفاته، وفي المقابل يدعو إلى الإصلاح السياسي، والرجوع إلى الشعب المصري ليختار من يحكمه، والإصلاح من خلال العمل السلمي، ومن خلال الانتخابات، ودخول البرلمانات؟!
وما ذكره الشيخ أحمد هنا يكاد يوافقه عليه كافة علماء عصره ودعاتهم كالشيخ حسن البنا وقبلهما رشيد رضا وشيخ الإسلام مصطفى صبري وغيرهم من المصلحين!
فلا يصادر حق الأمة وسلطانها في اختيار حكوماتها بالشورى التي جاء بها الإسلام في خطابه القرآني والنبوي والراشدي بشبهة رفض (الديمقراطية) ورفض حكم الشعب، ليتم إعادة انتاج الطغاة والطغيان والجبابرة من جديد باسم الإسلام والجهاد وتحكيم الشريعة!
تماما كما فعل الجاهليون من قبل بتسمية النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في مكة (صابئة) لينفروا الناس من (التوحيد) الذي جاء به الإسلام، وكما فعل المتأولون الذين يسمون توحيد الله في صفاته تشبيها لينفروا الناس من إثبات صفات الله، ويسمون توحيد الله في أفعاله جبرا، ويسمون نفي القدر (عدلا)، لتصبح الأزمة أزمة مصطلحات موهومة، تضيع فيها حقائق القرآن القطعية، لصالح إعادة الطغيان من جديد!
والمقصود أنه يجب على علماء الأمة معرفة مثل هذه النوازل والمشكلات والتصدي لها، والاجتهاد فيها، ولا تمنع تعقيدات الواقع علماء الأمة من الخوض في غمارها على بصيرة وفقه، (ومن يرد الله به خيرا يفقه في الدين)، وإنما يعتزلها رجلان: رجل لم يؤت فهما في هذا الباب فهو يخشى على دينه، فيدع الدنيا يسوسها الطغاة وأهل الباطل بباطلهم، أو رجل آتاه الله فهما فيه ولم يؤت عزيمة وإرادة، كما قال عمر الفاروق: (اللهم إني أشكي عجز التقي الثقة، وجلد الفاجر)!
وإنما يخشى على ثورة الأمة اليوم من طائفتين:
1- طائفة اصطفت مع الطغاة ضد الأمة وثورتها، باستدعاء الخطاب الشرعي المؤول والمبدل، على تفاوت مستويات الاصطفاف، وقياس هذه الأنظمة الوظيفية الصورية على سلطان الخلافة وأمرائها، وتحريم تغييرهم بذريعة الخوف من الفتن، بينما الأمة كلها تحت حكم عدوها وفتنته العامة في كل بلدانها، حتى لم يبق لها دنيا ولا دين، وصارت الفتنة عندهم هو جهاد العدو، وجهاد الطاغوت! وصارت هذه الطائفة فرقا، تعتذر كل فرقة عن وقوفها في كل بلد مع طغاتها بدعوى خصوصية بلدها، بينما يتظاهرون بالوقوف مع ثورات شعوب الأمة الأخرى، كما فعل حزب النور في وقوفه مع الشعب السوري وثورته، وفي الوقت ذاته يقف مع السيسي بدعوى مراعاة مصلحة مصر، ولو بمخالفة أحكام الله ومعارضة شرعه!
2- وطائفة أخرى تقاتل الطغاة، وفي الوقت ذاته تقاتل الأمة لتفرض سلطانها وولايتها عليها بالإكراه، بشبهة إقامة الشريعة، وهي تخالف الشريعة بفعلها هذا وتهدمها، من حيث تظن أنها تقيمها، فإذا هي تمارس الطغيان، وتسفك الدم الحرام، وتستحل قتال أهل الإسلام، بالشبهة والرأي والغلو، حتى باتت الأمة وثورتها تواجه خطرا داخليا بسبب هذه الطائفة، أشد من خطر العدو الخارجي!
وبلغ بهم الحال أن فرقوا بين الإسلام والمسلمين، فيسلون السيف على المسلمين اليوم كما في سوريا ويشنون عليهم الحرب، بشبهة قتال أهل الردة، وإقامة الإسلام، فلا هم أقاموه، ولا المسلمون سلموا من قنابلهم وبنادقهم ومفخخاتهم!
وإنما أوتيت هذه الطائفة من جهلها بحقيقة الإسلام نفسه، ومكانة الأمة نفسها في حكم الإسلام، كما قال تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}.
قال ابن جرير الطبري: (إذْ كان الله جلّ ثناؤه قد فضّل أمّة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على سائر الأمم الخالية، وأخبرهم بذلك في قوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} فمعلومٌ بذلك أن بَني إسرائيل في عصر نبينا لم يكونوا -مع تكذيبهم به صلى الله عليه وسلم- أفضلَ العالمين، بل كانَ أفضلَ العالمين في ذلك العصر وبعدَه إلى قيام الساعة، المؤمنون به المتَّبِعون منهاجهُ، دون من سِواهم من الأمم المكذِّبة الضالة عن منهاجه).[32]
وقد احتج الطبري في تفسيره للآية بحديث حكيم بن معاوية الصحيح: (أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول، في قوله تعالى {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}، قال: أنتم تتمون سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله).[33]
وفي حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعطيت ما لم يعط أحد من الأنبياء، فقلنا يا رسول الله ما هو؟ قال: نصرت بالرعب، وأعطيت مفاتيح الأرض، وسميت أحمد، وجعل التراب لي طهورا، وجعلت أمتي خير الأمم).[34]
وهذه الخيرية ثابتة لأول هذه الأمة وآخرها، كما في الحديث عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره).[35]
وقد جعل الله ولايته وولاية رسوله وولاية المؤمنين واحدة، وحزبهم واحدا، كما قال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ . وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ}!
وقال: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.
كما جعل الله الأمر شورى بينهم جميعا {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}.
فجعل الله الأمر شورى بين المسلمين جميعا، بحكم الولاية العامة التي جعلها الله لهم وفيهم وبينهم، كما قال عمر: (الإمارة شورى بين المسلمين)، وقال كما في صحيح البخاري في آخر خطبة خطبها بمحضر الصحابة جميعا، بعد رجوعه من الحج، وتحذيره ممن يريد بيعة بعض كبار الصحابة كخليفة بعد وفاته: (إني قائم العشية فمحذر الناس هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم حقهم - أو أمرهم -... من بايع رجلا دون شورى المسلمين فلا بيعة له، ولا الذي بايعه، تغرة أن يقتلا)!
وفي رواية ابن حبان في صحيحه: (إني لقائم إن شاء الله العشية في الناس فمحذرهم هؤلاء الذين يغتصبون الأمة أمرهم)!
وكما جعل الله الولاية العامة للأمة كلها، والأمر شورى بينهم جميعا، ليختاروا من يسوس شئونهم في الخلافة أو الإمارة العامة، جعل كذلك الرقابة والمحاسبة لهم، كما قال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}، وكما في حديث سلمة بن الأكوع، قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فمُرّ عليه بجنازة، فأثنِيَ عليها بثناء حَسن، فقال: وجبت! ومُرَّ عليه بجنازة أخرى، فأثنِيَ عليها دون ذلك، فقال: وجبت! قالوا: يا رسول الله، ما وجبت؟ قال: الملائكة شُهداء الله في السماء، وأنتم شهداء الله في الأرض، فما شهدتم عليه وجب. ثم قرأ: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}).
وكذلك جعل الله أرض الإسلام ملكا للأمة ووقفا عليها، كما في الحديث الصحيح عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها، وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض، وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة، وأن لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة، وأن لا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها - أو قال من بين أقطارها - حتى يكون بعضهم يهلك بعضا، ويسبي بعضهم بعضا).[36]
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بيتي هذا: (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم، فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به).[37]
فلما اختل عند هذه الطائفة هذا الأصل العظيم من أصول الدين، وفرطوا في أصل أخوة المؤمنين، كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}، استحلوا من الأمة ما حرم الله عليهم، فوقعوا فيما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها، ولا يتحاش من مؤمنها، ولا يفي لذي عهد عهده، فليس مني ولست منه).[38]
وبلغ بهذه الطائفة الغرور - إن لم يكن التوظيف من العدو لوأد ثورة الأمة - بما هي عليه من باطل حد الاستخفاف بالأمة ودمائها وأموالها، وحتى صرحوا بأنه: مَن المقصود بالأمة؟ وكيف يدخل في ذلك أهل الفسق والفجور؟
مع تواتر النصوص كما في هذا الحديث الصحيح على دخول كل مسلم بر أو فاجر، وكل ذمي وكتابي، وكل ذي عهد، في دار الإسلام، في مفهوم الأمة المحرمة دماؤها وأموالها!
وقد جاء في صحيفة المدينة كما في رواية ابن إسحاق في المغازي والسير: (وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين)، وفي رواية الزهري وهي أصح: (وإن يهود بني عوف أمة من المؤمنين)، وهي الأمة بمفهومها السياسي التي لها حق الإقامة في دار الإسلام، ولهم من الحرمة في أنفسهم ودمائهم وأموالهم ما للمسلمين!
وقد جعل الله العصمة للأمة وجماعتها كلها، كما في حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لا يجمع أمتي، أو قال أمة محمد صلى الله عليه وسلم على ضلالة، ويد الله مع الجماعة ومن شذ شذّ إلى النار).[39]
وفي حديث حذيفة في الصحيحين جعل العصمة من الفتن العامة في لزوم الأمة الواحدة والخلافة الواحدة: (الزم جماعة المسلمين وإمامهم).
وقد تواترت النصوص في بيان عظم شأن هذه الأمة عند الله في أحكام الدنيا الشرعية، وأحكام الآخرة الخبرية القدرية، كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه، وقال: (اللهم أمتي أمتي وبكى، فقال الله عز وجل: يا جبريل اذهب إلى محمد وربك أعلم، فسله ما يبكيك؟ فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام فسأله، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال وهو أعلم، فقال الله: يا جبريل اذهب إلى محمد فقل إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك).[40]
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا).[41]
وهذه الشفاعة تعم الأمة كلها برها وفاجرها، كما في الحديث عن أبي ذر رضي الله عنه - في صحيح البخاري - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتاني آت من ربي فأخبرني - أو قال: بشرني - أنه من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة، قلت: وإن زنى وإن سرق، قال: وإن زنى وإن سرق).[42]
وفي حديث الشفاعة الطويل – كما في صحيح البخاري – (فيأتون عيسى فيقول: لست لها، ولكن عليكم بمحمد صلى الله عليه وسلم، فيأتوني فأقول: أنا لها، فأستأذن على ربي فيؤذن لي ويلهمني محامد أحمده بها لا تحضرني الآن، فأحمده بتلك المحامد وأخر له ساجدا، فيقال: يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تشفع، فأقول: يا رب أمتي أمتي، فيقال: انطلق فأخرج من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان، فأنطلق فأفعل ثم أعود فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجدا، فيقال: يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك وسل تعط واشفع تشفع، فأقول: يا رب أمتي أمتي، فيقال: انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال ذرة، أو خردلة من إيمان فأنطلق فأفعل، ثم أعود فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجدا، فيقال: يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تشفع، فأقول: يا رب أمتي أمتي، فيقول انطلق فأخرج من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة خردل من إيمان فأخرجه من النار).[43]
وعن عوف بن مالك الأشجعي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتاني آت من عند ربي فخيرني بين أن يدخل نصف أمتي الجنة، وبين الشفاعة، فاخترت الشفاعة وهي لمن مات لا يشرك بالله شيئا).[44]
وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي).[45]
فلما غابت مثل هذه الأصول العقائدية الإيمانية، والأحكام الشرعية - التي تخص الأمة تعريفا بها، وتحديدا لحقوقها الخاصة لأفرادها، والعامة لعموم مكوناتها، وبيانا لعصمتها في البلاغ عن الله، وصونا لدمائها وحرماتها، وإخبارا بمكانتها عند الله في الدنيا والآخرة - وقع هذا الانحراف من هذه الطائفة، والتفريط بحقوق الأمة، حتى صارت هذه الطائفة الوجه الآخر للطغاة الذين ثارت عليهم الأمة لتتحرر من ظلمهم وطغيانهم!
هذا وإن الله قد بعث هذه الأمة بالثورة العربية من جديد، وهي تمضي إلى قدر حتمي موعود، ليحق الله الحق بكلماته ولو كره الكافرون، وليظهر دينه على الدين كله ولو كره المشركون، وسيبتلي الله المؤمنين بعدوهم، ليبلوهم أيهم أحسن عملا ويبتلي بهم، حتى يمكن لهم، وحتى تعود خلافة راشدة على منهاج النبوة كما وعدهم، وإنما السعيد من استعمله الله في هذا البعث، ورمى فيه بسهم، في أي رباط أقام أو ثغر، وإلى أي جبهة غدا أو نفر، وسواء جدد لهذه الأمة في العلم أو السياسة أو الفقه أو الجهاد أو الدعوة أو التربية والتعليم، وسواء كان فردا أو جماعة أو حكومة، فلن يحدث الإصلاح والتغيير فجأة، وإنما يحدث شيئا فشيئا، بحسب ما يمكن الله للمؤمنين والمصلحين في الأرض بالأسباب الصحيحة، والأعمال الصالحة، وقد جاءت البشارة النبوية بعودة العدل شيئا فشيئا، مثلما فشا الجور شيئا فشيئا، حتى تستكمل الأمة رشدها، وتقيم خلافتها، كما في الحديث: (لا يلبث الجور بعدي إلا قليلا حتى يطلع، فكلما طلع من الجور شيء ذهب من العدل مثله، حتى يولد في الجور من لا يعرف غيره، ثم يأتي الله تبارك وتعالى بالعدل، فكلما جاء من العدل شيء ذهب من الجور مثله، حتى يولد في العدل من لا يعرف غيره). [46]
هذا وأسأل الله بما سأله به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم:
(اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم).[47]
(اللهم ربنا لك الحمد أنت قيم السماوات والأرض، ولك الحمد أنت رب السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، أنت الحق، وقولك الحق، ووعدك الحق، ولقاؤك الحق، والجنة حق، والنار حق، والساعة حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك خاصمت، وبك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وأسررت وأعلنت، وما أنت أعلم به مني، لا إله إلا أنت).[48]
تمت (صوارم الأقلام) في مدينة أسطنبول حرسها الله بالإسلام...
فجر الثلاثاء 21 رجب سنة 1435هـ
الموافق 20 مايو سنة 2014م
[1] جامع البيان (تفسير الطبري) - (23 / 323)
[2] دور العلماء المسلمين في ثورة الجزائر للنعيمي ص 137-140.
[3] مسند أحمد بن حنبل - (5 / 278) ، وأبو داود في السنن 4299 بإسناد صحيح.
[4] صحيح مسلم ح رقم 2913 (4 / 2234)
[5] الفتاوى الكبرى - (5 / 539)
[6] تفسير القرطبي ـ موافق للمطبوع - (6 / 217)
[7] جامع البيان (تفسير الطبري) - (7 / 145)
[8] جامع البيان (تفسير الطبري) - (7 / 140)
[9] جامع البيان (تفسير الطبري) - (7 / 145)
[10] جامع البيان (تفسير الطبري) - (15 / 162)
[11] التحرير والتنوير - (14 / 149)
[12] جامع البيان (تفسير الطبري) - (15 / 526)
[13] التحرير والتنوير - (20 / 13)
[14] التحرير والتنوير - (20 / 26)
[15] جامع البيان (تفسير الطبري) - (3 / 219)
[16] مسند أحمد بن حنبل - (4 / 91) وصححه ابن حبان والحاكم.
[17] صحيح ابن حبان (15 / 101)
[18] مصنف ابن أبي شيبة - (5 / 298) بإسناد صحيح عن ابن محيريز مرسلا، وله شواهد تقويه، في استمرار الصراع مع الروم إلى آخر الزمان.
[19] المستدرك على الصحيحين للحاكم (4 / 541) وهو موقوف له حكم الرفع.
[20] صحيح ابن حبان (15 / 148)
[21] الزهد لأحمد بن حنبل ص 300-رقم 1716 بإسناد صحيح.
[22] مصنف ابن أبي شيبة - (13 / 467) بإسناد صحيح.
[23] السنة للمروزي ص 31 رقم 93
[24] حلية الأولياء 430 - (5 / 283)
[25] حلية الأولياء 430 - (5 / 281)
[26] السيرة النبوية لابن هشام - (2 / 233)
[27] مجموع الفتاوى 6/322
[28] مجموع الفتاوى 6/340
[29] عمدة التفاسير 2/174.
[30] حاشية تفسير ابن جرير للشيخ أحمد شاكر 2/348.
[31] الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدر القوانين في مصر ص 28 -35.
[32] جامع البيان (تفسير الطبري) - (1 / 151)
[33] رواه الترمذي وحسنه، وصححه الحاكم في المستدرك.
[34] مسند أحمد بن حنبل - (1 / 98)
[35] سنن الترمذي (5 / 152)
[36] صحيح مسلم (4 / 2215)
[37] صحيح مسلم (3 / 1458)
[38] صحيح مسلم (3 / 1476)
[39] سنن الترمذي (4 / 466)
[40] صحيح مسلم (1 / 191)
[41] صحيح مسلم (1 / 189)
[42] صحيح البخاري ـ مع فتح الباري (2 / 89)
[43] صحيح البخاري ـ مع فتح الباري (9 / 179)
[44] سنن الترمذي (4 / 627) بإسناد حسن.
[45] مسند أحمد بن حنبل (3 / 213)
[46] رواه أحمد في المسند 5/26 عن الزبيري عن خالد بن طهمان عن نافع عن معقل، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 5/: 356(فيه خالد بن طهمان وثقه أبو حاتم وابن حبان، وقال: يخطئ ويهم، وباقي رجاله ثقات)، وقال الحافظان الذهبي وابن حجر عن ابن طهمان: (صدوق)، وقد رمي بالاختلاط ولهذا ضعفه ابن معين، إلا أن الترمذي حسن له حديثا من رواية أبي أحمد الزبيري وكذا صححه له الحاكم حديثا من روايته عنه، فالظاهر أن سماعه منه كان قبل اختلاطه.
[47] صحيح مسلم (1 / 534)
[48] صحيح البخاري ـ مع فتح الباري - (9 / 162)