ما طبيعة نظام الخلافة السياسي؟
هل هو نظام دستوري أم نظام دكتاتوري؟
هل من يحكمه ويتحكم فيه سلطة الفرد أم مؤسسات الدولة والمجتمع؟
ما حدود صلاحيات السلطة في نظام الخلافة هل هي مطلقة أم مقيدة؟
هل عرف نظام الخلافة الفصل بين السلطات؟
وما حدود كل سلطة؟
إنه لا يمكن فهم الإجابة عن هذه الأسئلة قبل معرفة التاريخ السياسي لنظام الخلافة الذي توارى -بسبب طبيعة كتابة التاريخ الإسلامي آنذاك- خلف الأحداث (الفتوحات الخارجية والصراع السياسي الداخلي)، وخلف الأشخاص (الخلفاء والأمراء)، حتى كادت تطمس معالم النظام السياسي الذي كانت كل تلك الأحداث تقع في إطاره، وضمن دائرة تأثيره المباشر فيها، فما كان لتلك الفتوحات لتحدث لولا الرسالة والوعد (بالاستخلاف)، وما كان لتلك الصراعات على السلطة لتكون لولا (نظام الخلافة) نفسه، الذي كان منظومة فكرية وعقائدية سياسية من جهة، ونظما دستورية وتشريعية، من جهة أخرى، ومؤسسات وقوى مجتمعية تمارس دورها بين هذه وتلك من جهة أخرى!
فإذا كانت النظم الدستورية اليوم في الدول المعاصرة هي أرقى ما أنتجه الفكر الإنساني السياسي لمعالجة إشكالية السلطة وإدارة لمجتمع، حيث أصبحت السلطة فيها تخضع لإرادة أقوى، وقانون أعلى، يحدان من طغيانها، ويمنعان من استبدادها، ويحددان صلاحياتها، وهو ما لم يعرفه العالم إلا بعد الثورة الفرنسية، ثم الثورة الأمريكية، قبل قرنين، حين برزت فكرة (إرادة الشعب) كإرادة أعلى، لتواجه استبداد (إرادة الفرد)، وصار (الدستور) هو القانون الأعلى -وليس رغبات الملك- الذي ينظم علاقة السلطة بالمجتمع، بعد أن كانت النظم الدكتاتورية والاستبداد المطلق هو السائد قبل ذلك، فكانت إرادة الملك أو الإمبراطور هي القانون الأعلى، وهو الدولة بكل مؤسساتها التشريعية والتنفيذية والقضائية، وحين كان ذلك هو واقع الأنظمة التي كانت تسود العالم كله على اختلاف أشكالها، فإن نظام الخلافة الذي ظل يحكم العالم الإسلامي كان خارجا عن سياق تلك الأنظمة، وخارج نسقها، إذ تمثل الخلافة نظاما سياسيا فريدا من نوعه -في منظومته العقائدية والدستورية والتشريعية- استطاع أن يحكم تقريبا نصف العالم المأهول آنذاك، في فترات طويلة من التاريخ الإنساني، وفي دولة قارية امتدت في ثلاث قارات (آسيا - أفريقيا - أوربا)، وهو ما لم يتهيأ لغيره من الأنظمة السياسية، دون أن يعيش تلك الإشكالية التي واجهتها تلك الأنظمة وانتهت بسقوطها.
ولا يمكن قياس (نظام الخلافة) على أي نظام إمبراطوري آخر عرفه العالم، لا في طبيعة ظهوره ونشأته حيث كانت رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم حجر الأساس الذي بني عليها نظام الخلافة والوعد بالاستخلاف في الأرض، حتى في ظل الخطاب السياسي المؤول، ولا في طبيعة ممارسته السياسية، حيث ظلت الشريعة والسلطة التشريعية والقضائية خارج دائرة اختصاص السلطة السياسية التنفيذية، حتى يكاد دور السلطة ينحصر في التنفيذ لأحكام الله {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لله}، {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ الله}، والاجتهاد فيما لا حكم لله فيه بالرد إلى {أُوْلِي الأَمْر}؛ لاستنباط الحكم فيه سواء كان الحكم شرعيا يرد الأمر فيه إلى (الفقهاء)، أو كان الحكم سياسيا شوريا يرد الأمر فيه إلى الساسة (أهل الحل والعقد) {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُم}، وهو ما لم تعرفه النظم السياسية إلا حديثا!
لقد قامت الدولة في الإسلام بعد عقد البيعة الثانية ثم بعد صحيفة المدينة على أساس:
1- الأمة الواحدة: وهي أسبق وجودا من الدولة والسلطة، حيث قام المجتمع الإيماني، ووجدت الأمة الواحدة بالمفهوم العقائدي، في مكة، ثم الأمة بالمفهوم السياسي بعد الهجرة في المدينة، حيث تزامن وارتبط قيام الدولة النبوية بمفهوم الأمة السياسي الذي تشكل من كل مكونات المجتمع، كما جاء في صحيفة المدينة التي تُعد أول دستور عرفه العالم، حيث حدد فيها النبي صلى الله عليه وسلم الحقوق والواجبات التي على المسلمين ومن معهم من أهل الكتاب، كما في المغازي والسير: (وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا بين المهاجرين والأنصار، وادع فيه يهود وعاهدهم، وأقرهم على دينهم وأموالهم، وشرط لهم واشترط عليهم: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد النبي بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم: إنهم أمة واحدة من دون الناس... وأن يهود بني عوف أمة من المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم...).[1]
2- المرجعية التشريعية: كما جاء في الصحيفة: (وأنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد صلى الله عليه وسلم...).
3- المرجعية السياسية: كما في الصحيفة: (وأنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم)
4- مسئولية المجتمع: كما ورد في الصحيفة: (وإن المؤمنين على من بغى منهم أو ابتغى دسيعة ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين، وإن أيديهم عليه جميعا، ولو كان ولد أحدهم، وإن ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم).
ولوضوح هذه الأصول منذ تأسيس الدولة في الإسلام تحددت طبيعة النظام السياسي الإسلامي، وصلاحية السلطة فيه.
طبيعة السلطة في نظام الخلافة:
فالسلطة في الإسلام -على خلاف كل الأنظمة السياسية الأخرى التي عرفها العالم- هي في الأصل سلطة تنفيذية، وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم هذا المفهوم السياسي للسلطة التي يمارسها فقال: (ما أعطيكم ولا أمنعكم، إنما أنا قاسم أضع حيث أُمرت)، وفي رواية: (إنما أنا قاسم وخازن، والله المعطي).[2]
وفي حديث آخر: (بُعثت قاسما أقسم بينكم).[3]
وهو ما تتابع الخلفاء الراشدون على تأكيده، فالجميع يخضع لحكم الله وكتابه وشرعه وقانونه، الحاكم والمحكوم على حد سواء، كما قال أبو بكر في أول خطبة له بعد توليه الخلافة، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: (أما بعد، أيها الناس، قد وليت أمركم، ولست بخيركم، ولكن نزل القرآن، وسن النبي صلى الله عليه وسلم السنن، فعلمنا، فعلمنا، اعلموا أن أكيس الكيس التقوى، وأن أحمق الحمق الفجور، وأن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ له بحقه، وأن أضعفكم عندي القوي حتى آخذ منه الحق، أيها الناس، إنما أنا متبع، ولست بمبتدع، فإن أحسنت فأعينوني، وإن زغت فقوموني)[4]، (أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم).[5]
(... ألا وإني قد وليت عليكم ولست بأخيركم، ولوددت أنه كفاني هذا الأمر أحدكم، وإن أنتم أردتموني على ما كان الله يقيم نبيه من الوحي ما ذلك عندي، إنما أنا بشر فراعوني).[6]
فقرر أبو بكر رضي الله عنه في أول خطبة له أصول الحكم والسياسة في نظام الخلافة، وأن سلطته بشرية تنفيذية، فلا عصمة له، ولا خيرية، ولا سلطة له مطلقة، وأنه خاضع لحكم الله ورسوله، ومتبع له، وأن الأمة تعينه إن أحسن، وتقومه إن زاغ أو أساء، وأنه لا سلطة له إلا في حدود المشروعية التي هي طاعة الله ورسوله، وأنه لا طاعة له حين يخرج عنها.
فقد عبر أول خليفة عن طبيعة الخلافة والسلطة في الإسلام بعد النبوة، وأنها سلطة مقيدة بالكتاب والسنة، وتحت رقابة الأمة وقوامتها، كما بايع النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار في البيعة الثانية (وأن نقوم بالحق لا نخاف في الله لومة لائم).
وكذا أكد هذا الأصل الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان في أول خطبة له بعد البيعة حيث يقول: (أما بعد فإني قد حُمِّلت وقد قبلت، ألا وإني متبع، ولست بمبتدع، وإن لكم علي بعد كتاب الله وسنة نبيه ثلاثا:
1- اتباع من كان قبلي فيما اجتمعتم عليه وسننتم.
2- وسنُّ سنة أهل الخير فيما لم تسنوا عن ملأ منكم.
3- والكف عنكم إلا فيما استوجبتم).[7]
فالسلطة كما في هذه الخطبة سلطة تنفيذية، تلتزم بالمشروعية والمرجعية التي اجتمعت عليها الأمة فيما سبق من أحكام سياسية، وما يتفق عليها الملأ منهم وهم الأكثرية فيما يستأنف ويستجد من نوازل.
وهذا ما قرره الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز حين قال في أول خطبة له بعد تولي الخلافة: (أيها الناس، إني لست بقاض ولكني منفذ، ولست بمبتدع، ولكني متبع، وإن من حولكم من الأمصار والمدن إن أطاعوا كما أطعتم فأنا واليكم، وإن أبوا فلست لكم بوالٍ).[8]
وفيه تأكيد على طبيعة دور السلطة التنفيذي، وحق الأمة في كافة الأمصار، في اختيار الإمام بلا إكراه ولا إجبار، كما فيه تجلٍ لمبدأ الفصل بين السلطتين التنفيذية والقضائية (إني لست بقاض وإنما منفذ)، فمهمة الخليفة إدارة السلطة التنفيذية، وللقضاة استقلالهم لا سلطان لأحد عليهم.
وفي رواية قال: (أيها الناس، إن الله لم يرسل رسولا بعد رسولكم، ولم ينـزل كتابا بعد الكتاب الذي أنزله عليكم، فما أحل الله على لسان رسوله فهذا الحلال إلى يوم القيامة، وما حرم الله على لسان رسول فهو حرام إلى يوم القيامة، ألا وإني لست بمبتدع، ولكني متبع، ولست بقاض، ولكن منفذ، ولست بخير من واحد منكم، ولكني أثقلكم حملا، ألا وإنه ليس لأحد أن يطاع في معصية الله).[9]
وهنا تأكيد من عمر بن عبد العزيز على أن السلطة لا دخل لها في التشريع للأحكام، وإنما مسئوليتها تنفيذها، وكذا لا دخل لها في سلطة القضاء، ولا سلطان لها على القضاة.
وهذا الأصل السياسي العظيم هو ما ميز نظام الخلافة في الإسلام، حيث لا خلاف في كون السلطة ليس لها يد في التشريع، كما لا سلطة لها على القضاء، وإنما تكاد مسئوليتها تنحصر في التنفيذ.
شروط الإمام مالك لمشروعية السلطة:
ولوضوح هذا الأصل السياسي في نظام الخلافة الإسلامي قال الإمام مالك -إمام أهل السنة في عصره (95هـ - 179هـ)- (إن الإمام لا يكون إماما أبدا إلا على شرط أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، فإنه قال: وليتكم ولست بخيركم، ألا وإن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ له بحقه، ألا وإن أضعفكم عندي القوي حتى آخذ منه الحق، إنما أنا متبع ولست بمبتدع، فإن أحسنت فأعينوني، وإن زغت فقوموني).[10]
فالإمامة والرئاسة العامة على الأمة في نظام الخلافة لا تكون كذلك إلا على وفق شروط أول خليفة وسننه، وهو أبو بكر الصديق، كما قررها في هذه الخطبة، وأدركت الأمة مضامينها السياسية التي تحدد طبيعة السلطة وصلاحيتها ومسئوليتها وخضوعها لأحكام الشرع من جهة، ورقابة الأمة عليها من جهة أخرى؛ لضمان التزام السلطة بتنفيذ أحكام الكتاب والسنة.
وقول الإمام مالك هنا يفسر مذهبه المشهور عنه في عدم اعترافه ببيعة أئمة الجور، كأبي جعفر المنصور، وبيعة كل من أخذها بالقوة، وما أفتى به أنه لا بيعة لهم مع الإكراه، وما دعا الناس إليه للخروج مع محمد بن الحسن ذو النفس الزكية وأخيه إبراهيم، سنة 145هـ، على أبي جعفر المنصور العباسي، وكان قد خرج في المدينة، فاستفتى أهلها مالك بن أنس في الخروج معه، مع أنهم سبق لهم أن بايعوا أبا جعفر المنصور، فقال مالك: (إنما بايعتم مكرهين، وليس على مكره يمين، فأسرع الناس إلى محمد، ولزم مالك بيته).[11]
وكان إذا سُئل عن القتال مع الخلفاء ضد من خرج عليهم يقول: (إن كان الخليفة كعمر بن عبد العزيز فقاتل معه، وإن كان كمثل هؤلاء الظلمة، فلا تقاتل معهم).[12]
وما قاله مالك في أئمة الجور وأنه لا يقاتل معهم إذا خرج عليهم خارج، وأنه لا يقاتل إلا مع أئمة العدل كعمر بن عبد العزيز يؤكد أن مذهبه هو عدم الاعتراف لهم بالولاية الشرعية أصلا، ومما يؤكد ذلك أن ابن القاسم سئل عن دفع الزكاة للولاة (أرأيت مصدقا يعدل على الناس فأتى المصدق إلى رجل له ماشية تجب في مثلها الزكاة، فقال له الرجل: قد أديت صدقتها إلى المساكين؟ قال: لا يقبل قوله هذا لأن الإمام عدل، فلا ينبغي لأحد أن يمنعه صدقتها، قلت: وهذا قول مالك؟ قال: نعم إذا كان الوالي مثل عمر بن عبد العزيز).[13]
ففرق الإمام مالك بين الإمام العدل الذي يجب دفع الزكاة له، ولا تبرأ الذمة إلا بالدفع له، وغير العدل الذي لا يجب دفع الزكاة إليه!
وقال سحنون: (قلت: أرأيت زكاة الفطر هل يبعث فيها الوالي من يقبضها؟ فقال ابن القاسم: قال مالك وسألناه عنها سرا، فقال لنا: أرى أن يفرق كل قوم زكاة الفطر في مواضعهم، أهل القرى حيث هم في قراهم، وأهل العمود حيث هم، وأهل المدائن في مدائنهم، قال: ويفرقونها هم، ولا يدفعونها إلى السلطان إذا كان لا يعدل فيها، قال: وقد أخبرتك في قول مالك: إذا كان الإمام يعدل لم يسع أحد أن يفرق شيئا من الزكاة، ولكن يدفع ذلك إلى الإمام).[14]
وكل هذا التفريع الفقهي عن مالك موافق للأصل السياسي الذي قرره في شرعية السلطة وأنه لا شرعية لها إلا على الشرط الذي شرطه أبو بكر، وعلى وفق سنن الرشد في اختيار الأمة له بالشورى والرضا بلا إكراه ولا تغلب، ولا جور ولا ظلم: (إن الإمام لا يكون إماما أبدا إلا على شرط أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه).
وقد عبر عن هذه الحقيقة لطبيعة النظام السياسي في الإسلام الشيخ محمد رشيد رضا بقوله في كتابه (الخلافة): (وأما السياسة الاجتماعية المدنية فقد وضع الإسلام أساسها وقواعدها، وشرع للأمة الرأي والاجتهاد فيها، لأنها تختلف باختلاف الزمان والمكان وترتقي بارتقاء العمران وفنون العرفان، ومن قواعده فيها أن سلطة الأمة لها، وأمرها شورى بينها، وأن حكومتها ضرب من الجمهورية، وخليفة الرسول فيها لا يمتاز في أحكامها على أضعف أفراد الرعية، وإنما هو منفذ لحكم الشرع ورأي الأمة).[15]
وقال أيضا: (رئيس الحكومة المقيدة، لا سيطرة ولا رقابة له على أرواح الناس وقلوبهم، وإنما هو منفذ للشرع وطاعته محصورة في ذلك، فهي طاعة للشرع لا له نفسه).[16]
الفصل بين السلطات القضائية والتنفيذية والتشريعية:
لقد أدرك أول خليفة في الإسلام طبيعة نظام الخلافة السياسي، ومسئوليته كأول خليفة، وأنه ليس كالنبي صلى الله عليه وسلم معصوم بالوحي، وإنما هو بشر يعتريه ما يعتري غيره، ولهذا بادر إلى بيان أسس نظام الخلافة البشري، على ما تقتضيه الفروق بينه وبين الحكم النبوي، كما قال: (وإن أنتم أردتموني على ما كان الله يقيم نبيه من الوحي ما ذلك عندي، إنما أنا بشر فراعوني).[17]
وقد سب رجل أبا بكر الصديق وأغلظه له القول، فغضب منه أبو بكر غضبا شديدا، فقال له أبو برزة الأسلمي: أأقتله يا خليفة رسول الله؟
فكأنما -لعظم الكلمة التي سمعها من أبي برزة- صب عليه ماء بارد أذهب غضبه!
فانتهر أبو بكر الصديق أبا برزة وقال له: (ثكلتك أمك، والله ما كانت لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم).[18]
أي ليس لأحد طاعة مطلقة إلا رسول الله الذي يوحى إليه، وليس كذلك حال من بعده من الخلفاء فطاعتهم مقيدة بطاعة الله ورسوله، أو لا يحل قتل أحد سب خليفة، إذ هذا الحكم خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم.
قال أبو جعفر الطحاوي في بيان معنى هذا الحديث: (فاحتمل أن يكون أراد أبو بكر رضي الله عنه بقوله: (إنها لم تكن لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم) أن يقتل أحدا لغضبه عليه، واحتمل أن يكون لا يقتل أحد بأمر من يأمر بقتله، حتى يعلم المأمور استحقاقه لذلك، ويكون من بعد النبي صلى الله عليه وسلم غير مطاع في ذلك، كما كان يطاع هو صلى الله عليه وسلم فيه؛ لأنه المأمون على أفعاله وعلى أقواله، ولأن أقواله وأفعاله إنما هي مردودة إلى الله عز وجل، واجب التصديق بها، وإجراء الأمور عليها، وغيره في ذلك بخلافه).[19]
وقال أيضا: (في هذا الحديث سب ذلك الرجل أبا بكر، وقول أبي بكر لأبي برزة حين استأذنه في قتله إياه لذلك: (ليست هذه لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وكان معقولا: أن من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان كافرا حلال الدم، وليس من سب غيره كذلك، فاضطرب علينا معنى ما أريد به في حديث أبي برزة هذا من خصوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خص به دون الناس الذين يتولون الأمور بعده، ثم وجدنا أهل العلم قد اختلفوا في هذا وأمثاله مما يأمر به الولاة غيرهم من الناس، هل يسع المأمورين امتثال ذلك، أو لا يسعهم، فكان بعضهم يقول: ذلك واسع للمأمورين أن يفعلوه بأمور حكامهم -أي: قضاتهم-، وبأمور من سواهم ممن ولاية ذلك لهم، ومن القائلين بذلك: أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد، غير أن محمد بن الحسن، قد كان قال بعد ذلك: لا يسع المأمور أن يفعل ذلك حتى يكون الذي يأمره به عنده عدلا، وحتى يشهد عنده بذلك عدل سواه على المأمور فيه بذلك... ولا نعلم لأهل العلم في هذا الباب قولا غير هذين القولين، وكان الذي ذكرناه عن أهل القول الأول منها، إنما أرادوا به العدل من الآمرين، لا من سواهم؛ لأن من خرج عن العدل الذي به استحق الولاية على ما يتولى إلى ضده، (خرج) بذاك عن الولاية على ذلك، وانعزل عنها، فلم يكن واليا عليها...).[20]
قال أبو جعفر: (فكان معقولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ولى عبد الله بن حذافة على ما ولاه عليه كان ذلك ليطيعوه فيما يأمرهم به مما إليه أن يأمرهم به، ولذلك أراد من أراد منهم أن يلقي نفسه في النار لما أمرهم بذلك، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فلا تطيعوهم في معصية الله" فأخرج بذلك أمرهم إياهم بمعصية الله مما كان جعله عليهم من طاعتهم من ولاه عليهم، وفي ذلك ما قد دل على القول الأول من القولين الذين ذكرناهما في هذا الباب، وبان بذلك: أن معنى قول أبي بكر رضي الله عنه: "أنها لم تكن لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم"، أنه أراد بذلك: أنه لم يكن لأحد أن يأمر بقتل أحد لسب سبه من سواه مما ينطلق به له مثل ذلك فيمن سب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن سواه في ذلك؛ لأن من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان كافرا واجبا على أمته قتله أمروا بذلك أو لم يؤمروا بذلك، ومن سب من سواه من ولاة الأمور بعده، فالذي يستحقه على ذلك الأدب عليه أدب مثله، فأما ما سوى ذلك مما يوجبه عليه خروجه عن الإسلام إلى الكفر فلا).[21]
وعلى هذا الأصل استقر الأمر في نظام الخلافة، وأن من بعد النبي صلى الله عليه وسلم من الخلفاء والأمراء والقضاة والولاة، ليس لهم من الطاعة ما للنبي صلى الله عليه وسلم، وأن لا طاعة لهم في معصية الله، كما جاء في الصحيح: (لا طاعة لمخلوق في معصية الله)، وحصر الطاعة بالمعروف فقط (إنما الطاعة بالمعروف)، ولا طاعة فيما عداه من الأمر والنهي -مما لم يثبت كونه معروفا، مما هو في دائرة الاجتهاد والرأي- إلا للعدول من الخلفاء والأمراء والقضاة، لا للأئمة والولاة والقضاة من أهل الجور والفجور.
ولهذا السبب ذاته وهو إدراك أبي بكر للفرق بين ولايته المقيدة، وولاية النبي صلى الله عليه وسلم المطلقة، بادر إلى الفصل بين السلطات بشكل جلي، فولى عمر الفاروق ولاية القضاء في المدينة نفسها، فكان أول من فصل السلطة القضائية، عن التنفيذية، وولى أبا عبيدة بن الجراح أمين الأمة على بيت المال.[22]
قال خليفة بن خياط عن خلافة أبي بكر وفصله للسلطات: (وعلى أمره كله والقضاء: عمر بن الخطاب، وقد ولى أبا عبيدة بن الجراح بيت المال).[23]
ومن هنا بدأت الدولة في الإسلام -ومنذ نشأتها في المدينة النبوية ثم امتدادها في عهد الخلفاء الراشدين حتى صارت دولة قارية تمتد بين قارتي آسيا وأفريقيا- على أساس أن السلطة السياسية سلطة تنفيذية في الأصل، ليس من حقها التشريع المطلق أصلا، الذي هو حق لله وحده، وإنما يقتصر دور الأمة والسلطة في الاجتهاد بتحقيق مناط أحكام الكتاب، وسياسة الأمة وفق هداياته، وهو التشريع المقيد وفق الأصول الفقهية المعروفة.
وهذا هو السبب العقائدي والفقهي الأول الذي منع من ظهور الطغيان المطلق في تاريخ الخلافة، كما عرفته النظم السياسية الأخرى، حيث تكون السلطة هي المشرع للأحكام والمنفذ لها، وقد نص الفقهاء على هذا الأصل السياسي، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في بيان الفصل بين السلطتين التنفيذية والقضائية: (فولاية الحرب في عرف هذا الزمان في هذه البلاد الشامية والمصرية تختص بإقامة الحدود التي فيها إتلاف، مثل قطع يد السارق وعقوبة المحارب ونحو ذلك، وقد يدخل فيها من العقوبات ما ليس فيه إتلاف، كجلد السارق، ويدخل فيها الحكم في المخاصمات والمضاربات، ودواعي التهم التي ليس فيها كتاب وشهود، كما تختص ولاية القضاء بما فيه كتاب وشهود، وكما تختص بإثبات الحقوق والحكم في مثل ذلك، والنظر في حال نظار الوقوف وأوصياء اليتامى، وغير ذلك مما هو معروف .
وفي بلاد أخرى كبلاد المغرب: ليس لوالي الحرب حكم في شيء، وإنما هو منفذ لما يأمر به متولي القضاء، وهذا أتبع للسنة القديمة، ولهذا أسباب من المذاهب والعادات مذكورة في غير هذا الموضع).[24]
وكما جاء في نظم الفقيه المالكي القاضي الوزير أبي بكر محمد ابن عاصم الغرناطي -ت 829هـ- في (تحفة الحكام) حيث قال عن طبيعة عمل القاضي في الإسلام وأنه:
(منفذ بالشرع للأحكام *** له نيابة عن الإمام)
قال شارحه: (يعني أن القاضي هو المنفذ للأحكام بمقتضى الشرع وموافقته، وأن له نيابة عن الإمام في ذلك).[25]
فالإمام وكيل عن الأمة ونائب عنها، والقاضي نائب عن الإمام، وكلاهما منفذ للأحكام، لا مشرع لها.
وهو ما يؤكد مبدأ الفصل بين السلطات في أصل الإسلام العقائدي والتشريعي، فالسلطة التشريعية المطلقة هي للكتاب والسنة، والفقهاء يشرعون بالاجتهاد المقيد وفق النصوص والأصول، فلهم سلطة تشريعية مقيدة لا مطلقة، كما للسلطة السياسية التنفيذية سلطة مقيدة في التصرفات السياسية من خلال الشورى المقيدة.
قال القاضي ابن فرحون -ت 799 هـ- في بيان استقلال القضاء عن السلطة التنفيذية والتشريعية المتمثلة في الفقهاء المشاورين:
(فصل: في جمع الفقهاء للنظر في حكم القاضي: قال مطرف: وإذا اشتُكيَ على القاضي في قضية حكم بها، ورفع ذلك إلى الأمير، فإن كان القاضي مأمونا في أحكامه، عدلا في أحواله، بصيرا بقضائه، أرى أن لا يعرض له الأمير في ذلك، ولا يقبل شكوى من شكاه، ولا يجلس الفقهاء للنظر في قضائه فإن ذلك من الخطأ إن فعله، ومن الفقهاء إن تابعوه على ذلك، وإن كان عنده متهما في أحكامه، أو غير عدل في حاله، أو جاهلا بقضائه فليعزله ويول غيره.
قال مطرف: ولو جهل الأمير فأجلس فقهاء بلده وأمرهم بالنظر في تلك الحكومة، وجهلوا هم أيضا أو أكرهوا على النظر، فنظروا فرأوا فسخ ذلك الحكم، ففسخه الأمير، أو رد قضيته إلى ما رأى الفقهاء فأرى لمن نظر في هذا بعد ذلك أن ينظر في الحكم الأول، فإن كان صوابا بالاختلاف فيه، أو كان مما اختلف فيه أهل العلم، أو مما اختلف فيه الأئمة الماضون فأخذ ببعض ذلك فحكمه ماض، والفسخ الذي تكلفه الأمير والفقهاء باطل، وإن كان الحكم الأول خطأ بينا أمضى فسخه، وأجاز ما فعله الأمير والفقهاء، ولو كان الحكم الأول خطأ بينا أو لعله قد عرف من القاضي بعض ما لا ينبغي من القضاة، ولكن الأمير لم يعزله وأراد النظر في تصحيح ذلك الحكم بعينه، فحينئذ يجوز للفقهاء فيه، فإذا تبين لهم أن حكمه خطأ بين فليرده .
قال: وإن اختلفوا على الأمير فرأى بعضهم رأيا، ورأى بعضهم رأيا غيره، لم يمل مع أكثرهم، ولكن ينظر فيما اختلفوا فيه، فما رآه صوابا قضى به وأنفذه، وكذلك ينبغي للقاضي أن يفعل إذا اختلف عليه المشيرون من الفقهاء).[26]
فهنا فرق ابن فرحون بين ثلاث جهات اختصاص:
الأولى: الأمير الذي يمثل السلطة التنفيذية، التي تنفذ أحكام القضاء.
الثانية: القاضي الذي يمثل السلطة القضائية، التي تصدر الأحكام في المنازعات.
الثالثة: الفقهاء المشاورون الذين يمثلون السلطة التشريعية المقيدة، ودورهم هو بيان حكم الشرع.
وقد نص ابن فرحون نقلا عن أئمة مذهب مالك أنه ليس للأمير ولا للفقهاء أن ينقضوا حكم القاضي، إذا كان عدلا عالما بصيرا بالقضاء، ولا يلتفت إلى من اشتكى عليه، فإن فسخ الأمير حكمه فالفسخ باطل، حتى وإن وافقه عليه الفقهاء المشيرون.
وهذا كله بلا خلاف بين الفقهاء، حماية لسلطة القضاء، حتى لا تتدخل فيها السلطة التنفيذية، ولا السلطة التشريعية التي يمثلها الفقهاء!
وقد بلغ من استقلال السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية في صدر الخلافة العباسية أن استحدث هارون الرشيد ولاية قاضي القضاة، وكان أول من تولاها أبو يوسف القاضي فاختص باختيار القضاة وعزلهم في كل أنحاء الخلافة شرقا وغربا.
ولا خلاف بين الفقهاء في أن ولاية القضاء يخضع لها الجميع ممن هو تحت ولايتها الخاصة، بما في ذلك رجال السلطة التنفيذية، فالخلفاء والأمراء يخضعون فيما يقاضيهم الناس فيه لولاية القضاء، كما قال السبكي الشافعي: (واحترزنا برتبة القضاء عن الأمراء والملوك، فقضاء قاضي القضاة يشملهم لأنهم مؤتمنون بالشرع، والقضاة نصبوا ليحكموا عليهم).[27]
فالخلفاء وإن كانت لهم ولاية عامة يختصون بموجبها باختيار القضاة، فإنهم يخضعون في الوقت ذاته لولاية القضاء الخاصة في النظر بالخصومات والمنازعات، فيشملهم حكم القضاء كغيرهم من هذه الحيثية.
وهذا تماما كولاية الأمة العامة التي تختار بموجبها الإمام العام، ثم تصبح الأمة بعد توليته تحت ولايته بما يوجب له السمع والطاعة، كما قال ابن نجيم الحنفي: (ولو اجتمع أهل بلدة على تولية واحد القضاء لم يصح، بخلاف ما إذا ولوا سلطانا بعد موت سلطانهم فإنه يجوز).[28]
فالأمة التي تختار السلطان، ليس لها اختيار القاضي إذ هذا من اختصاص السلطان نفسه، ومع ذلك فليس للسلطان بعد اختيار القاضي عزله إذا كان عدلا كفؤا، كما قال الماوردي:
(الفصل الثاني في العزل للقاضي فهو: على ثلاثة أضرب: أحدها: أن يعزله الإمام المولي.
فإن كان عزله عن اجتهاد أدى إليه، إما لظهور ضعفه وإما لوجود من هو أكفأ منه، جاز أن يعزله.
وإن لم يؤده الاجتهاد إلى عزله لاستقلاله بالنظر في عمله على الصحة والاستقامة، لم يكن له أن يعزله؛ لأنه لا مصلحة في عزل مثله).[29]
وقال أيضا عن أسباب عزل القاضي: (أسباب العزل للقاضي وهي على ثلاثة أضرب: موت وعجز وجرح.
فأما الموت من أسباب عزل القاضي: فهو موت المولي فلا يخلو المولي من ثلاثة أحوال: أحدها: أن يكون إماما عام الولاية على القضاء وغيره، فلا تبطل بموته ولايات القضاة، وإن بطل بموت الموكل وكالة الوكيل؛ لأن تولية الإمام للقاضي استنابة في حقوق المسلمين لا في حق نفسه، بخلاف الوكيل المستناب في حق موكله.
قد قلد رسول الله صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسيد قضاء مكة وصدقات أهلها، فلما مات اختبأ عتاب وامتنع من القضاء، فأظهره سهيل بن عمرو وقال: إن يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات فإن المسلمين باقون، فعاد عتاب إلى نظره، ولم ينكر ذلك عليه أحد من الصحابة فصار إجماعا).[30]
فالقاضي لا ينعزل بموت الإمام لأنه نائب عنه في حقوق المسلمين، وهم أحياء.
وقال الجمل الشافعي شارحا متن القاضي زكريا الأنصاري عن عزل للإمام للقاضي: (... (وللإمام عزله بخلل) ظهر منه... إن وجد ثَمّ صالحٌ غيره للقضاء (وبأفضل) منه، (وبمصلحة) كتسكين فتنة سواء أعزله بمثله أم بدونه، (وإلا) بأن لم يكن شيء من ذلك (حرم) عزله (و) لكنه (ينفذ) طاعة للإمام (إن وجد) ثم (صالح) غيره للقضاء وإلا فلا ينفذ).
(قوله وللإمام عزله) أي القاضي بخلل، وخرج بالقاضي الإمام، والمؤذن، والمدرس، والصوفي، والناظر، فلا ينفذ عزلهم إلا بسبب يقتضيه.
تنبيه: هذا في الأمور العامة أما التدريس والتصوف والنظر والإمامة والأذان ونحو ذلك فلا يجوز العزل بغير سبب، ولو عهد بالخلافة، وقوله بغير سبب فلو عزله حينئذ هل ينفذ طاعة للإمام بشرط وجود صالح نظير ما يأتي في القاضي إذا عزله بغير سبب، قال شيخنا الطبلاوي رحمه الله من هو مقرر في وظيفة لا يجوز عزله بغير سبب يجوّز عزله، فإن عزله بغير سبب لم ينعزل، ويستحق المعلوم إذا باشر الوظيفة).[31]
وقال الخطيب الشربيني الشافعي: (... نعم إن كان متعينا للقضاء لم يجز عزله، ولو عزله لم ينعزل... (وإلا) بأن لم يكن في عزله مصلحة (فلا) يجوز عزله؛ لأنه عبث وتصرف الإمام يصان عنه، وهذا قيد في المثل لا في الأفضل، وقيده في المحرر أيضا بعدم الفتنة في عزله، فقال: أو مثله، وفي عزله به للمسلمين مصلحة، وليس في عزله فتنة، ولا يستغنى عنه بقوله، وفي عزله به مصلحة فقد يكون الشيء مصلحة من وجه آخر، و(لكن ينفذ العزل في الأصح) مراعاة لطاعة الإمام.
والثاني: لا لأنه لا خلل في الأول ولا مصلحة في عزله.
أما إذا لم يوجد هناك من يصلح للقضاء غيره فإنه لا ينعزل، ومتى كان العزل في محل النظر، واحتمل أن يكون فيه مصلحة، فلا اعتراض على الإمام فيه ويحكم بنفوذه).[32]
فليس للسلطة التنفيذية عزل القضاة بغير سبب مشروع للعزل، فإن فعلت فلا ينفذ العزل، وهذا لا يقتصر على القضاة فقط، بل وكل موظفي الدولة وجهازها الإداري، ليس للسلطة عزل أحد من وظيفته بلا سبب يسوغ عزله، لما تقرر بالنص والإجماع أن كل ذي ولاية شرعية فتصرفه على من تحت ولايته إنما هو مقيد في تحقيق المصلحة لهم، وبالتي هي أحسن، ولهذا تقرر بإجماع الأصوليين والفقهاء أن:
تصرفات السلطة منوطة بمصلحة الأمة:
فلا يحق للسلطة ولا للإمام التصرف في مصالح الأمة العامة إلا بما يحقق المصلحة لهم جميعا، كما قال أبو يوسف قاضي قضاة هارون الرشيد -ت 182 هـ- (لا ينبغي لأحد أن يحدث شيئا في طريق المسلمين مما يضرهم، ولا يجوز للإمام أن يقطع شيئا من طريق المسلمين مما فيه ضرر عليهم، ولا يسعه ذلك، وإن أراد الإمام أن يقطع طريقا من طرق المسلمين الجادة رجلا يبني عليه، وللعامة طريق غير ذلك بعيد أو قريب منه، لم يسعه إقطاع ذلك، ولا يحل له، وهو آثم إن فعل ذلك).[33]
وهذا يؤكد طبيعة النظام العام للدولة في الإسلام، وأنه نظام دستوري تخضع السلطة فيه لمنظومة من الأحكام والتشريعات والقواعد المنصوصة -المعلومة للأمة- التي تنظم مسئوليتها وصلاحياتها، كما قال القاضي أبو بكر الباقلاني المالكي -338 هـ - 403 هـ- (الإمام إنما ينصب لإقامة الأحكام وحدود وأمور قد شرعها الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم علم الأمة بها، وهو في جميع ما يتولاه وكيل للأمة، ونائب عنها، وهي من ورائه في تسديده وتقويمه، وإذكاره وتنبيهه، وأخذ الحق منه إذا وجب عليه، وخلعه والاستبدال به متى اقترف ما يوجب خلعه).[34]
فقوله: (تقدم علم الأمة بها) يؤكد ثبوت الأحكام وأصول النظام التي تحكم تصرفات الإمام، فالسلطة في الإسلام ليست مطلقة، ولا تتولى تشريع الأحكام والقوانين، كما كان عليه حال الإمبراطوريات والدول قبل ظهور الإسلام وبعده، فالأمة تعلم أحكام الشرع التي يجب على السلطة الخضوع لها، كما إن الإمام وكيل عنها فيما يتولاه من مسئولية، وهي الرقيب عليه عن الانحراف، كما للسلطة القضائية استقلالها ودورها الرقابي، في الحد من تجاوز السلطة لصلاحياتها، وإبطال تصرفاتها التي تتعارض مع أحكام الشريعة، أو تتعارض مع المصلحة العامة، إذ تصرف السلطة على الأمة منوط بالمصلحة.
وهي قاعدة فقهية أجمع عليها الأصوليون والفقهاء، كما قال ابن نجيم الحنفي: (القاعدة الخامسة: تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة: وقد صرحوا به في مواضع، منها في كتاب الصلح في مسألة صلح الإمام عن الظلة المبنية في طريق العامة، وصرح به الإمام أبو يوسف رحمه الله في كتاب الخراج في مواضع.
تنبيه: إذا كان فعل الإمام مبنيا على المصلحة فيما يتعلق بالأمور العامة لم ينفذ أمره شرعا إلا إذا وافقه، فإن خالفه لم ينفذ، ولهذا قال الإمام أبو يوسف رحمه الله في كتاب الخراج من باب إحياء الموات: وليس للإمام أن يخرج شيئا من يد أحد إلا بحق ثابت معروف...
تصرف القاضي فيما له فعله في أموال اليتامى، والتركات، والأوقاف مقيد بالمصلحة، فإن لم يكن مبنيا عليها لم يصح، وبهذا علم أن أمر القاضي لا ينفذ إلا إذا وافق الشرع).[35]
وهنا يقرر الفقهاء هذه القاعدة العظيمة من قواعد الحكم وسياسة الأمة التي لم تعرفها الأمم إلا في عصرها الحديث، وهو اشتراط مشروعية الفعل السياسي الصادر عن السلطة التنفيذية، ومشروعية الحكم القضائي الصادر عن السلطة القضائية، وبطلان تصرف كلا السلطتين وعدم نفوذه بعد صدوره عنهما إذا لم يحقق المصلحة العامة، كما قال ابن نجيم: (إذا كان فعل الإمام مبنيا على المصلحة فيما يتعلق بالأمور العامة لم ينفذ أمره شرعا إلا إذا وافقه، فإن خالفه لم ينفذ).
وقال شارحه الحموي (قوله: إن السلطان لا يصح عفوه ولايسقط القصاص: لأن الحق للعامة، والإمام نائب عنهم فيما هو أنظر لهم، وليس من النظر إسقاط حقهم مجانا.
قوله: وعلله في الإيضاح بأنه نصب ناظرا.
أي: نصب ناظرا في أمور العامة في المصلحة، ولهذا قالوا: لا يصح وقف أراضي بيت المال إلا لمصلحة عامة كما في منظومة ابن وهبان).[36]
وكذا نص على هذه القاعدة فقهاء الشافعية، كما قال الزركشي: (تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة نص عليه: قال (الفارسي) في عيون المسائل: قال الشافعي رحمه الله: منزلة الوالي من الرعية: منزلة الولي من اليتيم. انتهى.
وهو نص في كل وال، ومن ثم إذا قسم على الأصناف حرم عليه التفضيل مع تساوي الحاجات؛ لأن عليه التعميم وكذا التسوية).[37]
وقال السيوطي: (القاعدة الخامسة تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة: هذه القاعدة نص عليها الشافعي، وقال منزلة الإمام من الرعية منزلة الولي من اليتيم، وولي الأمر مأمور بمراعاة المصلحة، ولا مصلحة في حمل الناس على فعل المكروه، قال السبكي في فتاويه: ...واستنبطت ذلك من حديث إنما أنا قاسم والله المعطي، قال ووجه الدلالة أن التمليك والإعطاء إنما هو من الله تعالى، لا من الإمام، فليس للإمام أن يملك أحدا إلا ما ملكه الله، وإنما وظيفة الإمام القسمة، والقسمة لا بد أن تكون بالعدل، ومن العدل تقديم الأحوج، والتسوية بين متساوي الحاجات).[38]
وقد نص على هذه القاعدة في مجلة الأحكام العدلية في الخلافة العثمانية حيث ورد فيها:
(... (المادة 58): التصرف على الرعية منوط بالمصلحة.
هذه القاعدة مأخوذة من قاعدة "تصرف القاضي فيما له فعله من أموال الناس والأوقاف مقيد بالمصلحة" أي أن تصرف الراعي في أمور الرعية يجب أن يكون مبنيا على المصلحة، وما لم يكن كذلك لا يكون صحيحا.
والرعية هنا: هي عموم الناس الذين هم تحت ولاية الولي... والحاصل يجب أن يكون تصرف السلطان والقاضي والوالي والوصي والمتولي والولي مقرونا بالمصلحة، وإلا فهو غير صحيح، ولا جائز ...).[39]
فمبدأ اشتراط مشروعية تصرف السلطة وكل صاحب ولاية، وكونه يحقق المصلحة، لم يعرف إلا في النظم السياسية المعاصرة، بينما هي قضية إجماعية في الفقه الإسلامي، وهي مما تقدم علم الأمة به!
وجاء في مجلة الأحكام العدلية أيضا: (... (المادة 59): الولاية الخاصة أقوى من الولاية العامة:
لو أجر القاضي عقارا للوقف بما له من الولاية العامة على الوقف، وأجر متولي الوقف ذلك العقار نفسه، يكون إيجار المتولي صحيحا، ولا يعتبر إيجار القاضي؛ لأن الولاية الخاصة أقوى من الولاية العامة، ولا يحق لصاحب الولاية العامة أن يتصرف بمال الوقف مع وجود صاحب الولاية الخاصة، وإن كان القاضي هو الذي عين ذلك المتولي، كذلك لا يحق للقاضي عزل المتولي المنصوب من قبل الواقف ما لم تظهر عليه خيانة؛ لأن ولاية الواقف على الوقف ولاية خاصة، وهي أقوى من ولاية القاضي، كذلك لا يحق للقاضي أن يتصرف بمال اليتيم الذي نصب عليه وصي، ولا أن يزوج اليتيم أو اليتيمة عند وجود الولي، والحاصل أنه إذا وجدت الولاية الخاصة في شيء لا تأثير للولاية العامة ولا عمل لصاحبها، وأن تصرف الولي العام عند وجود الولي الخاص غير نافذ).[40]
وكل هذه المنظومة من الأحكام والقواعد التشريعية التي كانت تنظم شئون الدولة والمجتمع الإسلامي هي محل إجماع أو اتفاق بين علماء الأمة وفقهائها وقضاتها، وهي التي كانت تحد من تجاوزات السلطة، التي كانت تعلم بأنها منفذ لأحكام الشرع، وقد فصل القرافي المالكي في كتابه (الفروق) في بيان أنواع تصرفات الإمام، وما ينفذ منها، وما لا ينفذ فقال: (القسم الأول: ما تتناوله الولاية بالأصالة: اعلم أن كل من ولي ولاية الخلافة فما دونها إلى ولاية وصية، لا يحل له أن يتصرف إلا بجلب مصلحة، أو دفع مفسدة، لقوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن}، ولقوله صلى الله عليه وسلم: (من ولي من أمور أمتي شيئا ثم لم يجتهد لهم، ولم ينصح، فالجنة عليه حرام)، فيكون الأئمة والولاة معزولين عما ليس فيه بذل الجهد، والمرجوح ليس بالأحسن، بل الأحسن ضده، وليس الأخذ به بذلا للاجتهاد بل الأخذ بضده، فقد حجر الله على الأوصياء التصرف فيما ليس بأحسن، مع قلة الفائت من المصلحة في ولايتهم لخستها بالنسبة إلى الولاة والقضاة، فأولى أن يحجر على الولاة والقضاة في ذلك، ومقتضى هذه النصوص أن يكون الجميع معزولين عن المفسدة الراجحة، والمصلحة المرجوحة، والمساوية، وما لا مفسدة فيه ولا مصلحة، لأن هذه الأقسام الأربعة ليست من باب ما هو أحسن، وتكون الولاية إنما تتناول جلب المصلحة الخالصة أو الراجحة، ودرء المفسدة الخالصة أو الراجحة، فأربعة معتبرة، وأربعة ساقطة، ولهذا قال الشافعي لا يبيع الوصي صاعا بصاع، لأنه لا فائدة في ذلك، ولا يفعل الخليفة ذلك في أموال المسلمين، ويجب عليه عزل الحاكم إذا ارتاب فيه، دفعا لمفسدة الريبة على المسلمين، ويعزل المرجوح عند وجود الراجح، تحصيلا لمزيد المصلحة للمسلمين، واختلف في عزل أحد المتساويين).[41]
كما ليس للسلطة عزل الأصلح من القضاة والعمال الأكفاء وتولية من هو دونهم بلا سبب راجح، إذ عزل الأصلح على خلاف المصلحة، فلا ينفذ عزلهم، خاصة القضاة، إلا من كثرت منهم شكاية الناس لجورهم فإنه يسوغ عزلهم.[42]
وكذلك ليس للسلطان أن يولي الوظائف من ليس أهلا لها، كما قال ابن نجيم الحنفي: (إذا ولى السلطان مدرسا ليس بأهل لم تصح توليته لما قدمناه من أن فعله مقيد بالمصلحة، ولا مصلحة في تولية غير الأهل... فإذا لم تكن موجودة –أي: الأهلية- لم يصح تقريره، خصوصا إن كان المقرر عن مدرس أهل فإن الأهل لم ينعزل، وصرح البزازي في الصلح أن السلطان إذا أعطى غير المستحق فقد ظلم مرتين: بمنع المستحق، وإعطاء غير المستحق، وقد قدمنا عن رسالة أبي يوسف رحمه الله إلى هارون الرشيد: أن الإمام ليس له أن يخرج شيئا من يد أحد إلا بحق ثابت معروف، وعن فتاوى قاضي خان: أن أمر السلطان إنما ينفذ إذا وافق الشرع وإلا فلا ينفذ).[43]
فلا طغاة في الإسلام ولا طغيان، ولا سلطة مطلقة لبشر على بشر، بل الأمة فوق الإمام، تراقبه وتقومه، ولا ينفذ من تصرفاته إلا ما وافق حكم الله ورسوله، وإلا ما حقق المصلحة العامة للأمة، فإن تعدى الإمام واعتدى على أحد وجب إقامة القصاص والحد عليه، فإن أذعن لحكم الله ولحكم القضاء، وإلا وجب خلعه، وفقد شرعية ولايته، كما قال ابن حزم: (والواجب إن وقع شيء من الجور وإن قل أن يُكلم الإمام في ذلك، ويُمنع منه، فان امتنع، وراجع الحق، وأذعن للقود من البشرة، أو من الأعضاء، ولإقامة حد الزنا والقذف والخمر عليه، فلا سبيل إلى خلعه، وهو إمام كما كان لا يحل خلعه، فان امتنع من إنفاذ شيء من هذه الواجبات عليه، ولم يراجع وجب خلعه، وإقامة غيره ممن يقوم بالحق لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَان}، ولا يجوز تضييع شيء من واجبات الشرائع).[44]
وما زلنا مع (عودة الخلافة) ومعرفة أحكامها السياسية، وما زال للحديث بقية.