لقد قامت الدولة النبوية ثم الخلافة الراشدة وفق هدايات القرآن، التي جاءت لتحقيق مصالح الإنسان، في شئون دينه ودنياه، ومن هذه المصالح التي راعتها الشريعة في أحكامها حاجة الإنسان للانتماء على اختلاف دوائره للأسرة والقبيلة والوطن والدين والجماعة، فجاء الإسلام بمراعاة الانتماء المجتمعي على اختلاف أنواعه، وجعل كثيرا من أحكامه الشرعية منوطة بهذا الانتماء، سواء للأسرة كأحكام الميراث كما في قوله تعالى: {وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله}، أو للقوم كأحكام الديات في قوله تعالى: {وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِه}، أو للدين كالحكم بين أهل الأديان والملل بالرد إلى شرائعهم، كما في قوله تعالى: {فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُم}، قال الزهري: (مضت السنة أن يردوا في حقوقهم ومواريثهم إلى أهل دينهم، إلا أن يأتوا راغبين في حد نحكم بينهم فيه، فنحكم بينهم بكتاب الله، وقد قال الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْط}).[1]
وقال عمر في ميراث عمة الأشعث بن قيس وقد بقيت على يهوديتها: (يرثها أهل دينها، كل ملة تتبع ملتها).[2]
وكل ذلك مراعاة من الإسلام للميل الطبعي الذي ينشأ لدى الإنسان لأهل دينه وملته، وربما كان هذا الميل أشد من ميله لأهله وقومه ممن ليسوا على دينه!
كما راعى الإسلام روابط الولاء والحلف والمصاهرة، التي كانت عليها العرب في جاهليتها، فقال صلى الله عليه وسلم: (مولى القوم منهم، وابن أختهم منهم، وحليفهم منهم).[3]
وقال صلى الله عليه وسلم: (لا حلف في الإسلام، وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة).[4]
قال الحافظ ابن حجر: (المنفي ما كانوا يعتبرونه في الجاهلية من نصر الحليف، ولو كان ظالما، ومن أخذ الثأر من القبيلة بسبب قتل واحد منها، ومن التوارث ونحو ذلك، والمثبت ما عدا ذلك من نصر المظلوم، والقيام في أمر الدين، ونحو ذلك من المستحبات الشرعية، كالمصادقة والمواددة، وحفظ العهد، وقد تقدم حديث بن عباس في نسخ التوارث بين المتعاقدين، وذكر الداودي أنهم كانوا يورثون الحليف السدس دائما، فنسخ ذلك... قال النووي: المنفي حلف التوارث وما يمنع منه الشرع، وأما التحالف على طاعة الله ونصر المظلوم، والمؤاخاة في الله تعالى فهو أمر مرغب فيه).[5]
وقال ابن جرير الطبري عن الحلف المشروع أن (الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالوفاء به من ذلك، هو ما لم يفسخه الإسلام، ولم يبطله حكم القرآن، وهو التعاون على الحق، والنصرة على الأخذ على يد الظالم الباغي، فإن قال: فإن هذا حق لكل مسلم على كل مسلم، فما المعنى الذي خص به في الجاهلية حتى وجب من أجله الوفاء به، ونهى عن مثله في الإسلام استئنافه؟ وهل على مسلم من حرج في معاقدة إخوان له من أهل الإسلام على التناصر إن بغى أحدا منهم أحد بظلم أو قصده بسوء؟
قيل: إن ذلك من معنى ما ذهب إليه بعيد!
وإنما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما كان من حلف في الجاهلية، فتمسكوا به)، إنما هو الحلف على النصرة من بعضهم لبعض في الحق، وذلك وإن كان واجبا على كل مسلم لكل مسلم، فإن على الحليف من ذلك لحليفه من وجوب حق نصرته على من بغاه بظلم دون سائر الناس غيره ما يجب للقريب على قريبه، والنسيب على نسيبه، دون سائر الناس غيره.
وإن نابته نائبة من عدو له قصده بظلم من الدفاع عنه، فله من استصراخه عليه بما قد نهي عن استصراخ عشيرته وقبيلته بمثله).[6]
وقال ابن الجوزي: (... [لا حلف في الإسلام وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة] أصل الحلف المعاقدة والمعاهدة على المعاضدة، فما كان منه في الجاهلية على القتال والغارات فذلك الذي أبطله الشرع بقوله: (لا حلف في الإسلام)، وما كان منه في الجاهلية على نصر المظلوم، وصلة الأرحام فهو الذي لم يزده الإسلام إلا شدة).[7]
فلا تعارض بين الانتماء للأمة، والانتماء للبلد، والانتماء للقبيلة، والانتماء للأسرة، والانتماء لجماعة، فالإنسان مدني بطبعه، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (الإنسان مدني بالطبع لابد له أن يعيش مع الناس).[8]
وهذه المدنية تقتضي من بني الإنسان الاجتماع برابط يربطهم سواء رابط النسب، أو الوطن، أو الدين، أو الجماعة، والتعاون فيما بينهم، إذ (الإنسان مدني بالطبع لا يستقل بتحصيل مصالحه فلا بد لهم من الاجتماع للتعاون على المصالح، ولا يتم ذلك إلا بطريق يعلم به بعضهم ما يقصده غيره).[9]
ولهذا احتاجوا للاجتماع برابط يربطهم لتنظيم شئونهم لتحقيق مصالحهم، سواء قلوا أو كثروا، وأن يكون لهم رؤساؤهم (وكل بني آدم لا تتم مصلحتهم لا في الدنيا ولا في الآخرة إلا بالاجتماع والتعاون والتناصر، فالتعاون والتناصر على جلب منافعهم؛ والتناصر لدفع مضارهم؛ ولهذا يقال: الإنسان مدني بالطبع، فإذا اجتمعوا فلا بد لهم من أمور يفعلونها يجتلبون بها المصلحة، وأمور يجتنبونها لما فيها من المفسدة؛ ويكونون مطيعين للآمر بتلك المقاصد، والناهي عن تلك المفاسد، فجميع بني آدم لا بد لهم من طاعة آمر وناه).[10]
أحاديث الفضائل وحفظ الانتماء:
وقد جاءت أحاديث الفضائل والمناقب عن النبي صلى الله عليه وسلم سواء في فضائل الأمم، أو البلدان، أو القبائل لحفظ هذا الانتماء الطبيعي، كما ورد في فضائل العرب وقريش والأنصار وقبائل الحجاز، كما في الصحيح: (قريش والأنصار وجهينة ومزينة وأسلم وغفار وأشجع موالي ليس لهم مولى دون الله ورسوله).[11]
وفضائل تميم نجد، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (لا أزال أحب بني تميم بعد ثلاث سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولها فيهم: هم أشد أمتي على الدجال).[12]
وأثنى على بني عبد قيس وهم أهل المشرق والبحرين فقال صلى الله عليه وسلم: (خير أهل المشرق عبد القيس).[13]
وقال في فضائل أهل الحجاز: (الإيمان في أهل الحجاز) وفي لفظ: (في أرض الحجاز).[14]
وقال في أهل اليمن: (أتاكم أهل اليمن ألين قلوبا، وأرق أفئدة، الفقه يمان، والحكمة يمانية).[15]
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا إلى حي من أحياء العرب فسبوه وضربوه، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو أنك أتيت أهل عمان ما سبوك ولا ضربوك).[16]
وكذا فضائل البلدان، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم).[17]
وأوصى صلى الله عليه وسلم بأهل مصر خيرا فقال: (إنكم ستفتحون مصر، فإذا فتحتموها فأحسنوا إلى أهلها، فإن لهم ذمة ورحما، أو قال ذمة وصهرا).[18]
وكما قال صلى الله عليه وسلم في فضل فارس: (لو كان الدين عند الثريا لذهب به رجل من فارس).[19]
وكل هذه الأحاديث وغيرها كثير فيها اعتراف من النبي صلى الله عليه وسلم بالانتماء الطبيعي للقبائل والبلدان، وبيان لفضائل أهلها.
نشأة التعددية السياسية في الدولة النبوية:
لقد حرم الإسلام العصبية الجاهلية وأحلافها، ولم يحرم الانتماء للمكونات المجتمعية؛ ولهذا تشكل في المدينة النبوية انتماء سياسي جديد، وهو انتماء المهاجرين والأنصار، وحالف النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، وقد قيل لأنس بن مالك: [إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا حلف في الإسلام)؟ فقال أنس: (قد حالف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين قريش والأنصار في داره)].[20]
وقد أثنى الله على هذا الانتماء وأهله، وعلى أسمائه الشرعية، التي ذكرها القرآن، كما قال تعالى: {لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَار}، ومازال هذا الانتماء يقوى فيما بينهم، حتى بلغ الأمر أن تداعى له بعضهم بالعصبية الجاهلية، (يا للمهاجرين، يا للأنصار)، حتى غضب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (ما بال دعوى الجاهلية! دعوها فإنها منتنة).[21]
وقد كان الخلاف يوم السقيفة في شأن اختيار الخليفة الأول بين هاتين الجماعتين السياسيتين، اللتين تشكلتا على أساس ديني سياسي مرتبط أصلا بإقامة الدولة النبوية، وهما (النصرة) لها، و (الهجرة) إليها!
فقد جاء في الصحيح عن عائشة: (اجتمعت الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة، فقالوا: منا أمير ومنكم أمير، فذهب إليهم أبو بكر وعمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح... ثم تكلم أبو بكر فقال في كلامه: نحن الأمراء وأنتم الوزراء، فقال حباب بن المنذر: لا والله لا نفعل، منا أمير ومنكم أمير، فقال أبو بكر: لا، ولكنا الأمراء وأنتم الوزراء، هم أوسط العرب دارا، وأعربهم أحسابا، فبايعوا عمر، أو أبا عبيدة، فقال عمر: بل نبايعك أنت فأنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ عمر بيده فبايعه وبايعه الناس).[22]
و عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب قال: (من بايع رجلا عن غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو، ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا، وإنه قد كان من خبرنا حين توفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم إلا أن الأنصار خالفونا واجتمعوا بأسرهم في سقيفة بني ساعدة، وخالف عنا علي والزبير، ومن معهما، واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر فقلت لأبي بكر: يا أبا بكر، انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار فانطلقنا نريدهم).[23]
وقوله: (منا أمير ومنكم أمير)، أي: تارة نختار منكم خليفة، وتارة نختار منا خليفة، كما فسرتها رواية الزهري ففيها (قالت الأنصار والله ما نحسدكم على خير ساقه الله إليكم، وما خلق الله قوما أحب إلينا ولا أعز علينا منكم، ولا أرضى عندنا هديا، ولكنا نشفق مما بعد اليوم، فلو جعلتم اليوم رجلا منكم، فإذا مات أخذنا رجلا من الأنصار فجعلناه، فإذا مات أخذنا رجلا من المهاجرين فجعلناه، فكنا كذلك أبدا ما بقيت هذه الأمة، بايعناكم ورضينا بذلك من أمركم، وكان ذلك أجدر أن يشفق القرشي إن زاغ أن ينقض عليه الأنصاري، وأن يشفق الأنصاري إن زاغ أن ينقض عليه القرشي).[24]
فقد كان الخلاف بين الفريقين خلافا سياسيا في شأن اختيار من يتولى السلطة، والتداول لها فيما بينهم، وكل ذلك في دائرة التعددية السياسية المشروعة، ولهذا قال عمر: (والله ما وفينا لهم كما عاهدناهم عليه، إنا قلنا لهم: إنا نحن الأمراء وأنتم الوزراء، ولئن بقيت إلى رأس الحول لا يبقى لي عامل إلا أنصاري).[25]
وهذه التعددية السياسية تطورت بعد ذلك، وتشكلت على نحو جديد بعد وقوع الفتنة وقتل عثمان، فصار هناك انتماء سياسي جديد، وهو شيعة علي وحزبه وأنصاره في العراق، وشيعة معاوية وحزبه وأنصاره في الشام، وبلغ الصراع بين الفريقين السياسيين أوجه في معركة صفين، حتى ارتضى الطرفان تحكيم الأمة والرجوع إليها، لتحكم بينهما في الخلاف.
وقد عقد الطرفان وثيقة الصلح، وفيها النص على أن الاتفاق هو بين علي وشيعته من جهة، ومعاوية وشيعته من جهة أخرى، وأن عليا وشيعته ارتضوا أبا موسى الأشعري حكما عنهم، وأن معاوية وشيعته ارتضوا عمرو بن العاص حكما عنهم، وأن على الحكمين تحكيم الكتاب والسنة بين الطائفتين، وأن الطائفتين تلتزمان بحكم الحكمين ولا تخالفانه، ولا تنقضانه، وأن الأمة أنصارهما على ما قضيا به من الحق مما في كتاب الله، وأنه إن توفي أحد الحكمين قبل الحكومة فلشيعته وأنصاره أن يختاروا مكانه آخر من أهل العدل والصلاح، وإن مات أحد الأميرين قبل انقضاء الأجل لهذه القضية، فلشيعته أن يولوا مكانه من يرضونه، وأن الناس آمنون، والسلاح موضوع، والغائب من الطرفين كالشاهد، وللحكمين أن يختارا منزلا وسطا بين الشام والعراق، لا يحضره إلا من ارتضياه، وأن الأجل إلى رمضان، فإن شاء الحكمان تقديمه قدماه، وإن شاءا تأخيره أخراه، وعلى الأمة عهد الله وميثاقه في هذا الأمر، وهم جميعا يد واحدة على من أراد في هذا الأمر إلحادا أو ظلما أو خلافا.[26]
وقد أدى تحكيم الأمة في الخلاف بين الفريقين، إلى ظهور طرف سياسي ثالث، وهم الخوارج على علي رضي الله عنه، الذين رفضوا تحكيم الأمة كما فعل علي رضي الله عنه، بدعوى أن ذلك يخالف حكم الله، وأنه لا حكم إلا الله!
فكانوا أول من رفض التعددية السياسية والاجتهاد والخلاف في الرأي، وأول من رفض مبدأ تحكيم الأمة في موضوع الخلافة، وجعلوها قضية عقائدية يحكمون بالكفر على من خالفهم فيها، وأكبروا على علي رضي الله عنه أن يرضى ولو بالحكم على خلعه من الخلافة، ورفعوا شعار (لا حكم إلا لله! فقال علي: إنه لا حكم إلا لله، ولكنهم يقولون لا إمرة! ولا بد للناس من أمير بر أو فاجر، يعمل في إمارته المؤمن، ويستمتع فيها الكافر، ويبلغ الله فيه الأجل)، (وتأمن سبلكم، وتقوم أسواقكم، ويقسم فيئكم، ويجاهد عدوكم، ويؤخذ للضعيف من القوي، أو قال من الشديد منكم).[27]
وفي رواية: (بينما علي بن أبي طالب على المنبر إذ جاء رجل فقال: لا حكم إلا لله! ثم قام آخر فقال: لا حكم إلا لله! ثم قاموا من نواحي المسجد يحكمون الله! فأشار بيده اجلسوا: نعم لا حكم إلا لله! كلمة حق يبتغى بها باطل، حكم الله ينتظر فيكم الآن، لكم عندي ثلاث خلال: ما كنتم معنا لن نمنعكم مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، ولا نمنعكم فيئا ما كانت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تقاتلوا).[28]
لقد أدرك علي رضي الله عنه بأن الإسلام الذي أقام دعوته ودولته على أساس {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}، حتى ترك اليهود على يهوديتهم، والنصارى على نصرانيتهم، والمجوس على مجوسيتهم، والصابئة على ملتهم، لن يضيق ذرعا من باب أولى في طوائف أهل الإسلام نفسه، فقال كلمته المشهورة، التي أصبحت قاعدة راسخة في التعامل مع الطوائف المخالفة في الاعتقاد والرأي، وأجمع عليها الصحابة، حيث قال: (لهم علينا ثلاث: ألا نبدأهم بقتال ما لم يقاتلونا، وألا نمنعهم مساجد الله أن يذكروا فيه اسمه، وألا نحرمهم من الفيء ما دامت أيديهم مع أيدينا).[29]
وقد حاورهم علي وجادلهم وجادلوه فقال لهم: (قد كان من أمرنا وأمر الناس ما قد رأيتم، فقفوا حيث شئتم، حتى تجتمع أمة محمد صلى الله عليه وسلم، بيننا وبينكم أن لا تسفكوا دما حراما، ولا تقطعوا سبيلا، ولا تظلموا ذمة، فإنكم إن فعلتم فقد نبذنا إليكم الحرب على سواء، إن الله لا يحب الخائنين)، فقالت عائشة رضي الله عنها: يا بن شداد فقد قتلهم! فقال: [والله ما بعث إليهم حتى قطعوا السبيل، وسفكوا الدم، واستحلوا أهل الذمة، فقالت: آلله! قال: آلله الذي لا إله الا هو لقد كان]).[30]
وهذا يؤكد إجماع الصحابة على حرمة قتالهم ابتداء ما لم يصولوا على الناس، ولهذا استنكرت عائشة في البداية قتال علي لهم.
فلم يقاتلهم علي رضي الله عنه لكفرهم أو خروجهم عليه، بل قاتلهم دفعا لعدوانهم وبغيهم على الأمة، وقد شهد علي نفسه لهم بأنهم مسلمون، كما روى طارق بن شهاب قال: (كنت عند علي فسُئل عن أهل النهر أهم مشركون؟ قال: من الشرك فروا! قيل: فمنافقون هم؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا! قيل: فما هم؟ قال: قوم بغوا علينا).[31]
وبهذه السنن الراشدة أخذ الإمام الشافعي رحمه الله تعالى فقال: (ولو أن قوما أظهروا رأى الخوارج، وتجنبوا جماعات الناس وكفروهم، لم يحلل بذلك قتالهم، لأنهم على حرمة الإيمان لم يصيروا إلى الحال التي أمر الله عز وجل بقتالهم فيها، بلغنا أن عليا رضي الله تعالى عنه بينا هو يخطب إذ سمع تحكيما من ناحية المسجد: لا حكم إلا لله عز وجل! فقال علي رضي الله تعالى عنه: كلمة حق أريد بها باطل، لكم علينا ثلاث: لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله، ولا نمنعكم الفيء ما كانت أيديكم مع أيدينا، ولا نبدؤكم بقتال.
قال الشافعي: أخبرنا عبد الرحمن بن الحسن بن القاسم الأزرقي الغساني عن أبيه أن عديا كتب لعمر بن عبد العزيز إن الخوارج عندنا يسبونك! فكتب إليه عمر بن عبد العزيز: إن سبوني فسبوهم أو اعفوا عنهم، وإن أشهروا السلاح فأشهروا عليهم، وإن ضربوا فاضربوهم.
قال الشافعي: وبهذا كله نقول، ولا يحل بطعنهم للمسلمين دماؤهم، ولا أن يمنعوا الفيء ما جرى عليهم حكم الإسلام وكانوا أسوتهم في جهاد عدوهم، ولا يحال بينهم وبين المساجد والأسواق، ولو شهدوا شهادة الحق وهم مظهرون لهذا قبل الاعتقاد أو بعده وكانت حالهم في العفاف والعقول حسنة انبغى للقاضي أن يحصيهم بأن يسأل عنهم: فإن كانوا يستحلون في مذاهبهم أن يشهدوا لمن يذهب مذهبهم بتصديقه على ما لم يسمعوا ولم يعاينوا، أو يستحلوا أن ينالوا من أموال من خالفهم أو أبدانهم شيئا يجعلون الشهادة بالباطل ذريعة إليه لم تجز شهادتهم، وإن كانوا لا يستحلون ذلك جازت شهادتهم، وهكذا من بغى من أهل الأهواء، ولا يفرق بينهم وبين غيرهم فيما يجب لهم وعليهم من أخذ الحق والحدود والأحكام).[32]
وبهذا كانت الدولة الإسلامية النبوية ثم الخلافة الراشدة أول دولة تقر التعددية الفكرية والمذهبية والسياسية، وتضمن للمخالف حريته وحقوقه الدينية والمالية والسياسية والتجارية والقضائية (فأهل الأهواء لا يفرق بينهم وبين غيرهم فيما يجب لهم وعليهم في الحق والحدود والأحكام) كما قال الإمام الشافعي.
وقال الحافظ ابن حجر -بعد أن أورد هذه النصوص عن علي رضي الله عنه، وبيّن ما فيها من أحكام-: (فيه الكف عن قتل من يعتقد الخروج على الإمام ما لم ينصب لذلك حربا، أو يستعد لذلك لقوله:(إذا خرجوا فاقتلوهم)، وحكى الطبري الإجماع على ذلك في حق من لا يكفر باعتقاده، وأسند عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب في الخوارج بالكف عنهم ما لم يسفكوا دما حرامًا، أو يأخذوا مالا، فإن فعلوا فقاتلوهم ولو كانوا ولدي، ومن طريق ابن جريج: قلت لعطاء: ما يحل في قتال الخوارج؟ قال: (إذا قطعوا السبيل، وأخافوا الأمن)، وأسند الطبري عن الحسن أنه سئل عن رجل كان يرى رأي الخوارج ولم يخرج؟ فقال: [العمل أملك بالناس من الرأي]).[33]
فلا يحل قتالهم بمجرد رأي ضلوا فيه وكفروا الأمة عليه، وإنما يشرع قتالهم إذا عملوا بالرأي، وتجاوزوه إلى الفعل.
ونقل عن الخطابي قوله: (أجمع علماء المسلمين على أن الخوارج مع ضلالتهم فرقة من فرق المسلمين، وأنهم لا يكفرون ما داموا متمسكين بأصل الإسلام).[34]
وقال: (وقد أخرج الطبري بسند صحيح عن علي، ذكر الخوارج، فقال: إن خالفوا إماما عدلا فقاتلوهم، وإن خالفوا إماما جائرا فلا تقاتلوهم، فإن لهم مقالاً).[35]
وقد سار الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز بسيرة علي رضي الله عنه في الخوارج، فقد خاصمهم وجادلهم ثم قال لرجل أرسله إليهم: (إن قتلوا وأفسدوا في الأرض فاسط عليهم وقاتلهم، وإن هم لم يقتلوا ولم يفسدوا في الأرض فدعهم يسيرون).[36]
ورواه الحسن البصري عن أبيه قال: (قُرئ كتاب عمر بن عبد العزيز علينا: إن سفكوا الدم الحرام وقطعوا السبيل، فتبرأ من الحرورية وأمر بقتالهم).[37]
وهذا ما استقر عليه رأي جمهور الفقهاء كما قال ابن قدامة الحنبلي: (إذا أظهر قوم رأي الخوارج؛ مثل تكفير من ارتكب كبيرة، وترك الجماعة، واستحلال دماء المسلمين وأموالهم، إلا إنهم لم يخرجوا عن قبضة الإمام، ولم يسفكوا الدم الحرام، فإنه لا يحل بذلك قتلهم ولا قتالهم، وهذا قول أبي حنيفة والشافعي وجمهور أهل الفقه... واحتجوا بفعل علي رضي الله عنه فإنه قال: (لكم علينا ثلاث؛ لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله تعالى، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا، ولا نبدؤكم بقتال)... ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتعرض للمنافقين الذين معه في المدينة فغيرهم أولى).[38]
ولم يقتصر علي رضي الله عنه على تأكيد حرمة دمائهم، وحقهم في العبادة في المساجد، بل وأجرى عليهم المخصصات المالية، ولم يقطع عنهم حقوقهم المالية، مع كونهم يمثلون حزبا عقائديا متطرفا معارضا لسياسته!
قال أبو عبيد القاسم بن سلام: (إن عليًا رأى للخوارج حقًا في الفيء، ما لم يظهروا الخروج على الناس، وهو مع هذا يعلم أنهم يسبونه ويبلغون منه أكثر من السب -أي: يكفرونه- إلا أنهم كانوا مع المسلمين في أمورهم ومحاضرهم حتى صاروا إلى الخروج بعد).[39]
وبهذه السنن الراشدة، التي أخذ بها عامة الفقهاء، في الموقف من أهل القبلة وطوائف الإسلام، استقر نظام الإسلام السياسي على أسس التعددية الدينية والسياسية، التي حمت الأمة والدولة من الاقتتال والحروب الأهلية بسبب الخلاف في الدين والمذهب، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الثنتين وسبعين فرقة: (فأما من كان في قلبه الإيمان بالرسول وما جاء به، وقد غلط في بعض ما تأوله من البدع، فهذا ليس بكافر أصلاً، والخوارج كانوا من أظهر الناس بدعة وقتالاً للأمة وتكفيرًا لها، ولم يكن في الصحابة من يكفرهم لا علي بن أبي طالب، ولا غيره، بل حكموا فيهم بحكمهم في المسلمين الظالمين المعتدين، وكذلك سائر الثنتين وسبعين فرقة، من كان منهم منافقًا فهو كافر في الباطن، ومن لم يكن منافقًا بل كان مؤمنًا بالله ورسوله في الباطن، لم يكن كافرًا في الباطن، وإن أخطأ في التأويل كائنًا ما كان خطؤه؛ وقد يكون في بعضهم شعبة من شعب النفاق، ولا يكون فيه النفاق الذي يكون صاحبه في الدرك الأسفل من النار، ومن قال: إن الثنتين وسبعين فرقة كل واحد منهم يكفر كفرًا ينقل عن الملة، فقد خالف الكتاب والسنة وإجماع الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، بل وإجماع الأئمة الأربعة وغير الأربعة، فليس فيهم من كفر كل واحد من الثنتين وسبعين فرقة...).[40]
ولهذا نص الأئمة على صحة الجمعة والجماعة خلف أهل البدع بناء على عدم كفرهم، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وكذلك إذا كان الإمام قد رتبه ولاة الأمور، ولم يكن في ترك الصلاة خلفه مصلحة، فهنا ليس عليه ترك الصلاة خلفه، بل الصلاة خلف الإمام الأفضل أفضل، وهذا كله يكون فيمن ظهر منه فسق، أو بدعة، تظهر مخالفتها للكتاب والسنة، كبدعة الرافضة، والجهمية ونحوهم... وأما الصلاة خلف المبتدع: فهذه المسألة فيها نزاع، وتفصيل، فإذا لم تجد إمامًا غيره كالجمعة التي لا تقام إلا بمكان واحد، وكالعيدين وكصلوات الحج، خلف إمام الموسم فهذه تفعل خلف كل بر وفاجر باتفاق أهل السنة والجماعة، وإنما يدَعُ مثل هذه الصلوات خلف الأئمة؛ أهلُ البدع كالرافضة ونحوهم، ممن لا يرى الجمعة والجماعة، فإذا لم يكن في القرية إلا مسجد واحد، فصلاته في الجماعة خلف الفاجر خير من صلاته في بيته منفردًا؛ لئلا يفضي إلى ترك الجماعة مطلقًا.
وأما إذا أمكنه أن يصلي خلف غير المبتدع فهو أحسن، وأفضل بلا ريب، لكن إن صلى خلفه ففي صلاته نزاع بين العلماء، ومذهب الشافعي، وأبي حنيفة تصح صلاته، وأما مالك وأحمد، ففي مذهبهما نزاع وتفصيل، وهذا إنما هو في البدعة التي يعلم أنها تخالف الكتاب والسنة، مثل بدع الرافضة والجهمية ونحوهم).[41]
وقال أيضا: (أهل الحديث والسنة كالشافعي وأحمد وإسحاق وغيرهم متفقون على أن صلاة الجمعة تصلى خلف البر والفاجر، حتى أن أهل البدع كالجهمية الذين يقولون بخلق القرآن، وأن الله لا يرى في الآخرة، ومع أن أحمد ابتلي بهم وهو أشهر الأئمة بالإمامة في السنة، ومع هذا لم تختلف نصوصه أنه تصلى الجمعة خلف الجهمي، والقدري -المعتزلي- والرافضي، وليس لأحد أن يدع الجمعة لبدعة في الإمام).[42]
دولة التوحيد والتعددية الدينية:
وكما وحد النبي صلى الله عليه وسلم العرب سياسيا في دولة واحدة، فقد حمى خصوصيتهم المجتمعية الدينية والسياسية، في توازن فريد بين التوحيد السياسي العام للأمة والدولة، واحترام الاستقلال الذاتي الخاص لكل مكون في أرضه، حيث ضمت دولته النبوية في جزيرة العرب يهود نجران جنوبا، ومجوس هجر شرقا، ونصارى أيلة وتيماء وأذرح من أرض الشام شمالا، قال ابن سعد: (وكانت دومة وأيلة وتيماء قد خافوا النبي لما رأوا العرب قد أسلمت، وقدم يوحنة بن روبة على النبي صلى الله عليه وسلم وكان ملك أيلة، وأشفق أن يبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم كما بعث إلى أكيدر دومة الجندل، وأقبل ومعه أهل الشام، وأهل اليمن، وأهل البحر، ومن جربا وأذرح فأتوه -وهو صلى الله عليه وسلم في تبوك بعد فتحها- فصالحهم، وقطع عليهم جزية معلومة، وكتب لهم كتابا بسم الله الرحمن الرحيم: هذا أمنة من الله ومحمد النبي رسول الله ليحنة بن روبة وأهل أيلة لسفنهم وسيارتهم في البر والبحر، لهم ذمة الله وذمة محمد رسول الله، ولمن كان معهم من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر، ومن أحدث حدثا فإنه لا يحول ماله دون نفسه، وأنه لا يحل أن يمنعوا ماء يردونه، ولا طريقا يريدونه من بر وبحر).[43]
فإذا كان الملوك إذا دخلوا أرضا جعلوا أعزة أهلها أذلة ظلما وعدوانا، وفسادا في الأرض وطغيانا، فإن الإسلام على نقيض ذلك، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين}، فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فتح أرضا جعل أذلة أهلها أعزة، ورفع عنهم الأغلال التي كانت عليهم، ولم يذل أعزتها، بل يحفظ لهم مكانتهم، ويصون جاههم، كما قال يوم فتح مكة: (من دخل داره فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن).
وقد تجلى التنوع المجتمعي والتعددية في الدولة النبوية أوضح ما يكون عام الوفود حيث جاء العرب بكل تنوعهم القبائلي والمناطقي والثقافي والديني، من أقصى اليمن جنوبا، إلى أطراف الشام شمالا، وبايعوا النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليقيموا أول أمة ودولة موحدة في جزيرة العرب، ليس في عاصمتها الدينية مكة، بل في عاصمتها السياسية المدينة، التي ستنطلق منها حركة الفتح الإسلامي بكل قيمها الإيمانية والإنسانية والمدنية الحضارية!
وقد ساق ابن إسحاق بعضا من خطب الوفود وأشعارهم عام الوفود وعهودهم وعقودهم بما يعبر عن طبيعة تنوع المجتمع الإسلامي، وهو ما سينعكس على الدولة بعد تحولها إلى دولة قارية تضم أمما وشعوبا وأديانا وقوميات متعددة أكثر تنوعا وأقل تجانسا!
وكان من أوضح صور التنوع والتعددية الدينية ما جرى مع وفد نصارى نجران حين وفدوا على النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن إسحاق: (وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نصارى نجران ستون راكبا، فيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم، وفي الأربعة عشر منهم ثلاثة نفر إليهم يؤول أمرهم، العاقب أمير القوم وذو رأيهم وصاحب مشورتهم والذي لا يصدرون إلا عن رأيه واسمه عبد المسيح، والسيد لهم ثمالهم وصاحب رحلهم ومجتمعهم واسمه الأيهم، وأبو حارثة بن علقمة أحد بني بكر بن وائل أسقفهم وحبرهم وإمامهم وصاحب مدراسهم، وكان أبو حارثة قد شرف فيهم ودرس كتبهم حتى حسن علمه في دينهم، فكانت ملوك الروم من النصرانية قد شرفوه ومولوه وأخدموه وبنوا له الكنائس وبسطوا عليه الكرامات لما يبلغهم عنه من علمه واجتهاده في دينهم).[44]
وقد جادلوا النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد في ألوهية المسيح وأنه ابن الله، (فخاصموا رسول الله صلى الله عليه وسلم خصومة لم يخاصم مثلها قط)[45]، ونزل قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ الله}، ثم رضوا بالصلح ورغبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يبعث معهم من أصحابه من يقضي بينهم، وصالحهم النبي صلى الله عليه وسلم، وأرسل معهم أبا عبيدة بن الجراح أمين الأمة يقضي بينهم، قال ابن إسحاق: (لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فدخلوا عليه مسجده حين صلى العصر، عليهم ثياب الحبرات جبب وأردية في جمال رجال بني الحارث بن كعب، قال يقول بعض من رآهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ: ما رأينا وفدا مثلهم، وقد حانت صلاتهم، فقاموا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلون، فأراد الناس منعهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوهم فاستقبلوا المشرق فصلوا صلاتهم).[46]
قال ابن القيم: (فصل: في فقه قصة وفد نجران: ففيها: جواز دخول أهل الكتاب مساجد المسلمين، وفيها: تمكين أهل الكتاب من صلاتهم بحضرة المسلمين وفى مساجدهم أيضا، إذا كان ذلك عارضا، ولا يمكنون من اعتياد ذلك).[47]
فإذا كان الإسلام هو دين التوحيد الديني والسياسي والتشريعي، كما قال تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِد}، وقال: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَة}، فإنه كذلك راعى الطبيعة البشرية والاختلاف والتعددية الدينية ورفع الإكراه، كما قال تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة}، وقال: {لا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين}، وجعل الاختلاف من السنن الكونية التي أرادها الله قضاء وقدرا {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُم}، ليبتليهم ويختبرهم {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}، وأن الغاية من تنوعهم شعوبا وقبائل ليتعارفوا {جَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُم}، وأن الله أرسل الرسل وأنزل الكتب {لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْط}، وأمر بالقتال في سبيل الله {حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} وظلم وعدوان لا على مسلم ولا على غير مسلم، كما قال تعالى عنه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين} جميعا من آمن به، ومن لم يؤمن به، كما قال ابن عباس، ورجحه الطبري.[48]
فكان الإسلام هو دين الوحدة والتوحيد، وفي الوقت ذاته دين الرحمة والسماحة، فلا إكراه في الدين، ولا يظلم فيه أحد، ولا يفتن عن دينه أحد!
ولهذا كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأسقف بني الحارث بن كعب وأساقفة نجران وكهنتهم ومن تبعهم ورهبانهم (أن لهم على ما تحت أيديهم من قليل وكثير، من بيعهم وصلواتهم ورهبانيتهم، وجوار الله ورسوله، لا يغير أسقف عن أسقفيته، ولا راهب عن رهبانيته، ولا كاهن عن كهانته، ولا يغير حق من حقوقهم، ولا سلطانهم، ولا شيء مما كانوا عليه ما نصحوا وأصلحوا فيما عليهم غير مثقلين بظلم ولا ظالمين).[49]
فحفظ لهم بذلك مكانتهم الدينية وخصوصيتهم، فلا تتدخل السلطة في الإسلام في شئون أهل الذمة الدينية، ولا في اختيار مناصبهم الدينية، التي هي في الوقت ذاته مناصب سياسية ورئاسة وسلطان على الطائفة، كما كان عليه أشراف وفد نصارى نجران، فكانوا هم الرهبان والسادة.
وفي كتاب آخر لهم (ولنجران وحاشيتهم جوار الله وذمة محمد النبي رسول الله على أنفسهم، وملتهم، وأرضهم، وأموالهم، وغائبهم، وشاهدهم، وبيعهم، وصلواتهم، لا يغيروا أسقفا عن أسقفيته، ولا راهبا عن رهبانيته، ولا واقفا عن وقفانيته، وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير، وليس ربا ولا دم جاهلية، ومن سأل منهم حقا فبينهم النصف غير ظالمين ولا مظلومين لنجران، ومن أكل ربا من ذي قبل فذمتي منه بريئة، ولا يؤاخذ أحد منهم بظلم آخر، وعلى ما في هذه الصحيفة جوار الله وذمة النبي أبدا، حتى يأتي الله بأمره إن نصحوا وأصلحوا فيما عليهم غير مثقلين بظلم).[50]
وكذا كتب النبي صلى الله عليه وسلم مع عمرو بن حزم كتابا حين بعثه واليا إلى اليمن وفيه: (بسم الله الرحمن الرحيم هذا بيان من الله ورسوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُود} عهد من محمد النبي رسول الله لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن أمره بتقوى الله في أمره كله، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وأمره أن يأخذ بالحق كما أمره الله، وأن يبشر الناس بالخير، ويأمرهم به، ويعلم الناس القرآن ويفقههم فيه... ويخبر الناس بالذي لهم والذي عليهم، ويلين للناس في الحق، ويشتد عليهم في الظلم فإن الله كره الظلم، ونهى الناس عنه، فقال: {أَلاَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِين}، ويبشر الناس بالجنة وبعملها، وينذر الناس النار وعملها، ويستأنف الناس حتى يفقهوا في الدين... وأنه من أسلم من يهودي أو نصراني إسلاما خالصا من نفسه ودان بدين الإسلام فإنه من المؤمنين، له مثل ما لهم، وعليه مثل ما عليهم، ومن كان على نصرانيته أو يهوديته فإنه لا يرد عنها) وفي رواية البيهقي: (لا يفتن عنها).[51]
وعن عروة بن الزبير قال: (كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن: [إنه من كان على يهودية أو نصرانية، فإنه لا يفتن عنها، وعليه الجزية، فمن أدى ذلك إلى رسلي، فإنه له ذمة الله وذمة رسوله]).[52]
وعن الحكم قال: (كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى معاذ وهو باليمن: [ولا يفتن يهودي عن يهوديته]).[53]
كما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم الجزية من مجوس البحرين وقال: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب).[54]
قال ابن القيم: (فلما بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم استجاب له ولخلفائه بعده أكثر الأديان طوعا واختيارا، ولم يكره أحدا قط على الدين، وإنما كان يقاتل من يحاربه ويقاتله، وأما من سالمه وهادنه فلم يقاتله ولم يكرهه على الدخول في دينه، امتثالا لأمر ربه سبحانه حيث يقول: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ}،وهذا نفي في معنى النهي، أي لا تكرهوا أحدا على الدين، نزلت هذه الآية في رجال من الصحابة كان لهم أولاد قد تهودوا وتنصروا قبل الإسلام، فلما جاء الإسلام أسلم الآباء وأرادوا إكراه الأولاد على الدين، فنهاهم الله سبحانه عن ذلك حتى يكونوا هم الذين يختارون الدخول في الإسلام، والصحيح أن الآية على عمومها في حق كل كافر، وهذا ظاهر على قول من يجوز أخذ الجزية من جميع الكفار، فلا يكرهون على الدخول في الدين، بل أما أن يدخلوا في الدين، وإما أن يعطوا الجزية).[55]
ورجح ابن القيم قول من قال بأنها تؤخذ من (الأمم كلها إذا بذلوا الجزية، قبلت منهم: أهل الكتابين بالقرآن، والمجوس بالسنة، ومن عداهم ملحق بهم، لأن المجوس أهل شرك لا كتاب لهم، فأخذها منهم دليل على أخذها من جميع المشركين).[56]
قال الزهري: (أخذ النبي صلى الله عليه وسلم الجزية من مجوس البحرين، وأن عمر بن الخطاب أخذها من مجوس فارس، وأن عثمان بن عفان أخذها من البربر).[57]
وقد كتب عمر بن عبد العزيز إلى الحسن البصري يسأله: (ما بال من مضى من الأئمة قبلنا أقروا المجوس على نكاح الأمهات والبنات؟ وذكر أشياء من أمرهم قد سماها!
فكتب إليه الحسن: أما بعد، فإنما أنت متبع ولست بمبتدع والسلام).[58]
وعلى هذا مضى الخلفاء الراشدون في الفتوح، ثم من جاء بعدهم من الخلفاء العدول، حتى صارت دار الإسلام دولة قارية تمتد على ثلاث قارات آسيا وأفريقيا وأوربا، لتسوس بالعدل والتعددية أهل الأديان كافة من يهود ونصارى ومجوس وصابئة على اختلاف قومياتهم وشرائعهم...
قال مالك بن أنس: (بلغنا أن النصارى كانوا إذا رأوا الصحابة الذين فتحوا الشام يقولون: والله لهؤلاء خير من الحواريين فيما بلغنا).[59]
وقد (ركب عمر من الجابية بعد أن فتح الشام يريد الأردن بعدما قضى ما أراد، وقد توافى إليه الناس، ووقف له المسلمون وأهل الذمة، فخرج عليهم على حمار وأمامه العباس على فرس، فلما رآه أهل الكتاب سجدوا له، فقال: لا تسجدوا للبشر واسجدوا لله! ومضى في مسيره، وقال القسيسون والرهبان: ما رأينا أحدا قط أشبه بما يوصف من الحواريين من هذا الرجل).[60]
وحين اقتحم نصارى نجران الربا وأفسدوا وخالفوا عهدهم، أجلاهم عمر وخيرهم بين الشام والعراق، وأعطاهم بدل أرضهم، وكتب لهم (بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما كتب عمر أمير المؤمنين لأهل نجران، من شاء منهم آمن بأمان الله تعالى، لا يضره أحد من المسلمين، ووفى لهم بما كتب لهم محمد النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، أما بعد فمن وقفوا به من أمير الشام وأمير العراق فليوسعهم من حرث الأرض، فما أعملوا بين ذلك فهو لهم صدقة لوجه الله تعالى، وعقبى لهم مكان أرضهم، لا سبيل عليهم فيه لأحد ولا معترض، أما بعد فمن حضرهم من رجل مسلم فلينصرهم على من ظلمهم، فإنهم أقوام لهم الذمة، وجزيتهم عنهم متروكة أربعة وعشرين شهرا بعد أن يقدموا، ولا يكلفوا إلا من بعد صنعهم البر غير مظلومين ولا معنوفا عليهم).[61]
وهذه الممارسات السياسية القرآنية والنبوية والراشدية هي حجر الأساس للتعددية الدينية في دار الإسلام، التي اتسعت بعد ذلك لكل أشكال الاختلاف العقائدي والفقهي من باب قياس الأولى، على نحو فريد في التاريخ، ما أسهم في امتداد حضارة الإسلام ودولته واستقرارها أكثر من ألف عام، قبل أن تعرف أوربا التعددية والتسامح الديني وحقوق الإنسان، التي استفادتها أوربا من نظم الملل في الدولة العثمانية!
ولم تقتصر هذه الحرية الممنوحة لغير المسلمين على الجانب العقائدي والديني، بل تجاوزته إلى حرية التحاكم إلى شرائعهم، والتقاضي إلى قضاتهم، لعموم قوله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}، ولعموم {فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُم} ...
قال الزهري: (مضت السنة أن يردوا في حقوقهم ومواريثهم إلى أهل دينهم، إلا أن يأتوا راغبين في حد يحكم بينهم فيه بكتاب الله).[62]
وسأل سحنون ابن القاسم -كما في المدونة عن لإمام مالك- (قلت: أرأيت الأمم كلها إذا رضوا بالجزية على أن يقروا على دينهم أيعطون ذلك أم لا في قول مالك؟
قال: قال مالك في مجوس البربر: إن الجزية أخذها منهم عثمان بن عفان.
قال: قال مالك في المجوس ما قد بلغك عن عبد الرحمن بن عوف أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب)، فالأمم كلها في هذا بمنزلة المجوس عندي.
قال ابن القاسم: ولقد قال مالك في الفزازنة وهم جنس من الحبشة سئل عنهم مالك، فقال: لا أرى أن يقاتلوا حتى يدعوا إلى الإسلام.
ففي قول مالك هذا لا أرى أن يقاتلوا حتى يدعوا، ففي قوله هذا أنهم يدعون إلى الإسلام، فإن لم يجيبوا دعوا إلى إعطاء الجزية، وأن يقروا على دينهم، فإن أجابوا قبل ذلك منهم، فهذا يدل على قول مالك في الأمم كلها إذ قال في الفزازنة أنهم يدعون، فكذلك الصقالبة والآبر والترك، وغيرهم من الأعاجم ممن ليسوا من أهل الكتاب).[63]
وقال أيضا: (يحلف اليهودي والنصراني في كنائسهم حيث يعظمون، ويحلف المجوس في بيت نارهم وحيث يعظمون).[64]
وقال الإمام الشافعي يرد على من شنع عليه كيف تدع أهل الذمة يتحاكمون لشرائعهم وقد تكون باطلة، ولا تحكم بينهم بحكم الإسلام (فقال لي بعض الناس: فإنك إذا أبيت الحكم بينهم رجعوا إلى حكامهم فحكموا بينهم بغير الحق عندك؟
فقلت له: إذا أبيت الحكم فحكم حاكمهم بينهم بغير الحق، لم أكن أنا حاكما، وقد أعلمتك ما جعل الله لنبيه صلى الله عليه وسلم من الخيار في الحكم بينهم أو الترك لهم، وما أوجدتك من الدلائل على أن الخيار ثابت بأن لم يحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا من جاء بعده من أئمة الهدى، أو ترى تركي الحكم بينهم أعظم أم تركهم على الشرك بالله تبارك وتعالى؟
قال الشافعي: فقال لي قائل: فإن امتنعوا أن يأتوا حكامهم؟
قلت: أخيرهم بين أن يرجعوا إليهم أو يفسخوا الذمة.
قال: فإذا خيرتهم فرجعوا وأنت تعلم أنهم يحكمون بينهم بالباطل عندك فأراك قد شركتهم في حكمهم؟
قال الشافعي: فقلت له: لست شريكهم في حكمهم، وإنما وفيت لهم بذمتهم، وذمتهم أن يأمنوا في بلاد المسلمين، لا يجبرون على غير دينهم، ولم يزالوا يتحاكمون إلى حكامهم برضاهم، فإذا امتنعوا من حكامهم قلت لهم: لم تعطوا الأمان على الامتناع والظلم، فاختاروا أن تفسخوا الذمة، أو ترجعوا إلى من لم يزل يعلم أنه كان يحكم بينكم منذ كنتم...
قال الشافعي: وإن جاز لنا القتال عنهم، ونحن نعلم ما هم عليه من الشرك، واستنقاذهم لو أسروا، فردهم إلى حكامهم، وإن حكموا بما لا نرى، أخف وأولى أن يكون لنا.
قال الشافعي: فقال لي بعض الناس: أرأيت إن أجزت الحكم بينهم كيف تحكم؟
قلت: إذا اجتمعوا على الرضا بي، فأحب إلي أن لا أحكم لما وصفت لك، ولأن ذلك لو كان فضلا حكم به من كان قبلي، فإن رضيت بأنه مباح لي لم أحكم حتى أعلمهم أني إنما أجيز بينهم ما يجوز بين المسلمين، وأرد بينهم ما يرد بين المسلمين).[65]
وقد عرفت الدولة الإسلامية منذ القرن الثاني المحاكم الخاصة بأهل الكتاب، فقد كان في مدينة الري قاضيان سعيد بن عنسبة للمسلمين، وشعيب بن خالد البجلي للمجوس وأهل الذمة للفصل في خصوماتهم إذا ترافعوا إليه.[66]
وكذا كان سويد بن عبد العزيز قاضيا في دمشق يتقاضى إليه أهل الذمة.[67]
كما جرت العادة باختيار رئيس منهم للقضاء بينهم، كما قال الخطيب الشربيني: (وأما جريان العادة بنصب حاكم من أهل الذمة عليهم، فقال الماوردي والروياني: إنما هي رياسة وزعامة لا تقليد حكم وقضاء، ولا يلزمهم حكمه بإلزامه بل بالتزامهم، ولا يلزمون بالتحاكم عنده).[68]
كما فعل عمر بن العاص في مصر في عهد عمر، حيث يقول المؤرخ القبطي يعقوب روفيلة في كتابه (تاريخ الأمة القبطية): (أخذ عمرو في تنظيم البلاد، مستعينا بفضلاء القبط وعقلائهم، فقسم البلاد إلى أقسام، يرأس كلا منها حاكم قبطي، ورتب مجالس ابتدائية واستئنافية من ذوي النزاهة، وعين نوابا مخصوصين من المسيحيين، منحهم حق التدخل في القضايا المختصة بأهل دينهم، والحكم بمقتضى شرائعهم الدينية والأهلية، وضرب الخراج بطريقة عادلة، تقبض في آجال محددة، ورتب الدواوين فاختص الأقباط منها بمسك الدفاتر والأعمال الكتابية والحسابية، فكان الأقباط قد نالوا في أيام عمرو بن العاص راحة لم يروها منذ أزمان طويلة).[69]
وقد ذكر القاضي الماوردي أقسام الوزارة فقال: (والوزارة على ضربين: وزارة تفويض ووزارة تنفيذ).[70]
وجوز في وزارة التنفيذ أن يتولاها ذمي فقال: (ويجوز أن يكون هذا الوزير من أهل الذمة، وإن لم يجز أن يكون وزير التفويض منهم).[71]
وقال القاضي أبو يعلى الحنبلي: (وقد ذكر الخرقي ما يدل على أنه يجوز أن يكون وزير التنفيذ من أهل الذمة... وروي عن أحمد ما يدل على المنع).[72]
وقد عرفوا وزير التنفيذ كما قال القاضي ابن جماعة: (وزير التنفيذ: هو الذي ينفذ عن الخليفة أو السلطان ما يأمر به، ويمضي ما حكم به، ويخبر بما تقدم سلطانه به من تقليد الولاة والحكام، وتجهيز الجيوش والبعوث وغير ذلك من الأمور السلطانية، من غير أن يستبد هو بشيء من ذلك، ويعرض هو على السلطان ما يرد من الأمور المهمة ليتقدم السلطان فيها بما يراه أصوب).[73]
وقد زار بغداد في مطلع القرن الهجري السادس في عصر الخليفة العباسي المسترشد بالله -الذي تولى الخلافة من سنة 512 إلى سنة 530 هـ- الرحالة اليهودي الأندلسي بنيامين التطيلي، ووصف الحال التي كان عليها الوضع في بغداد سياسيا واجتماعيا والتعددية التي كانت من أبرز ملامح حضارتها، فقال عن بغداد كعاصمة لدار الإسلام، وعن الخليفة كإمام:
(بغداد كرسي مملكة الخليفة أمير المؤمنين العباسي من آل بيت نبي المسلمين، وهو إمام الدين الإسلامي يدين له بالطاعة ملوك المسلمين قاطبة، فهو عندهم بمقام البابا عند النصارى).[74]
وما ذكره بنيامين من قياس الخليفة على البابا هنا، فهذا بحسب ما عهده عند النصارى، وإلا فالخلافة رئاسة سياسية عامة على الأمة، وليست رئاسة دينية كبابا النصارى! كما إن الخلفاء ليسوا ملوكا، لما تقرر في عقيدة التوحيد أن الله هو الملك وحده لا شريك له!
والخليفة المسترشد بالله هو الخليفة التاسع والعشرون من بني العباس، أحد الخلفاء الفقهاء العدول، قال عنه الذهبي صاحب (دين ورأي، وشهامة وشجاعة، وكان خليقا للإمامة، قليل النظير)[75]، وقال عنه ابن النجار: (كان يتنسك في أول زمنه، ويلبس الصوف، ويتعبد، وختم القرآن، وتفقه، لم يكن في الخلفاء من كتب أحسن منه، وكان يستدرك على كتابه، كان ذا شهامة وهيبة، وشجاعة وإقدام).[76]
ثم قال التطيلي عن وضع اليهود في ظل دار الإسلام وعاصمة الخلافة في عهد المسترشد بالله: (ويقيم ببغداد نحو (أربعين) ألف يهودي، وهم يعيشون بأمان وعز ورفاهة في ظل أمير المؤمنين الخليفة، وبينهم عدد من كبار العلماء ورؤساء المثيبة وعلماء الدين، ولهم في بغداد عشر مدارس مهمة، أما رئيس هؤلاء العلماء جميعهم، فهو الرابي دانيال بن حسداي الملقب (سيدنا رأس الجالوت)، ويسميه المسلمون (سيدنا ابن داود)، لأن بيده وثيقة تثبت انتهاء نسبه إلى الملك داود، وهو يستمد سلطانه من كتاب عهد يوجه إليه من الخليفة أمير المؤمنين عملا بالشرع المحمدي، وينتقل هذا المنصب إلى ذريته بالوراثة، وعند نصب الرئيس يمنحه الخليفة ختم الرئاسة على أبناء ملته كافة، وتقضي التقاليد المرعية بين اليهود والمسلمين وسائر أبناء الرعية بالنهوض أمام رأس الجالوت، وتحيته عند مروره بهم –أي: باليهود- ومن خالف ذلك عوقب بضربه مائة جلده، وعندما يخرج رأس الجالوت لمقابلة الخليفة يسير معه الفرسان من اليهود والمسلمين، ويتقدم الموكب مناد ينادي بالناس: (اعملوا الطريق لسيدنا ابن داود)، ويكون الرئيس ممتطيا صهوة جواده، وعليه حلة من حرير مقصب، وعلى رأسه عمامة كبيرة تتدلى منها قطعة قماش مربوطة بسلسلة منقوش عليها شعار الخليفة، وعندما يمثل في حضرة الخليفة يبادر -أي: رأس الجالوت- إلى لثم يده –أي: يد الخليفة- وعندئذ ينهض الخليفة وينهض معه الحجاب ورجال الحاشية، فيجلس الرئيس فوق كرسي مخصص لجلوسه قبالة الخليفة.
ويسري نفوذ رأس الجالوت على جميع طوائف اليهود المنتشرة في شنعار (العراق)، وبلاد خراسان، وسبأ (اليمن)، وبلاد ما بين النهرين (الجزيرة)، وجبال أراراط (أرمينية)، وبلاد اللان المحوطة بالجبال الشاهقة، والتي لا ينفذ إليها سوى من الأبواب الحديد التي شيدها الإسكندر فتهدمت من بعده؛ وطوائف اليهود المنتشرين في سبيرية، وبلاد التوغرميم (التركمان)، وبلاد كرجستان (جورجية)، حتى شواطئ نهر جيحون، وحدود سمرقند، وبلد الطيبات (التبت)، وديار الهند، ففي هذه الأقطار كلها لا يعين الرابيون والحزانون إلا بمعرفة رأس الجالوت، وهم يشخصون إلى بغداد بعد نصبهم لمقابلة الرئيس، ويحملون إليه الهدايا والعطايا من أقصى المعمور، ويمتلك الرئيس العقارات الواسعة والمزارع والبساتين في جميع أنحاء بابل (العراق)، وأكثرها مما ورثه عن أجداده، وأملاكه هذه مصونة، ليس من حق أحد أن ينتزعها منه، وله إيراد سنوي عظيم من الفنادق والأسواق والمتاجر عدا الهدايا التي تتوارد عليه من البلدان القصية، فهو على ذلك واسع الثروة، وعلى جانب عظيم من الحكمة والفقه بأحكام التوراة والتلمود.
ويجري الاحتفال بنصب (رأس الجالوت) الجديد بمهرجان مشهور، إذ يبعث إليه الخليفة بإحدى ركائبه الملوكية فيتوجه إلى قصر الخلافة، وفي ركابه الأمراء والنبلاء، ومعه الهدايا والتحف النفيسة للخليفة ورجال قصره، وعندما يمثل بين يدي الخليفة يتسلم منه كتاب العهد، ثم يضع أمير المؤمنين يده على رأس الرئيس الجديد، ومن ثم يعود إلى داره بموكبه الخاص وحوله الجماهير الغفيرة، وتنفخ أمامه البوقات وتقرع الطبول، وبعدها يحتفل بتجديد نصب رؤساء المثيبة بأن يضع الرئيس الأكبر يده على رأس كل منهم).[77]
وقد كان الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور أول من استقبل رأس الجالوت زعيم الطائفية اليهودية العنانية، حين جاء من المشرق، كما قال المقريزي: (وأما العانانية: فإنهم ينسبون إلى عانان (رأس الجالوت) الذي قدم من المشرق في أيام الخليفة أبي جعفر المنصور، ومعه نسخ المشنا الذي كتب من خط النبيّ موسى، وأنه رأى ما عليه اليهود من الربانيين والقرّائين يخالف ما معه، فتجرّد لخلافهم وطعن عليهم في دينهم، وازدرى بهم، وكان عظيماً عندهم يرون أنه من ولد داود عليه السلام، وعلى طريق فاضلة من النسك على مقتضى ملتهم، بحيث يرون أنه لو ظهر في أيام عمارة البيت لكان نبيًا، فلم يقدروا على مناظرته، لما أوتيَ، مع ما ذكرنا من تقريب الخليفة له وإكرامه).[78]
وما زلنا مع (عودة الخلافة) والتعددية السياسية والدينية في الدولة الإسلامية وللحديث بقية!