الثلاثاء 4 ربيع الأول 1437هـ
الموافق 15 ديسمبر 2015م
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
ورفع الله قدركم ويسر أمركم..
أخي الكريم وصلت رسالتكم، وصلكم الله بحبل رحمته وفضله، تشتكون مما يجري في الساحة الجهادية من اختلاف بين المجاهدين، وعدم وضوح رؤية جامعة للفصائل، وتؤكدون بأنكم قصرتم جهدكم على نصرة المظلومين والدفاع عنهم، دون الانشغال بقضايا إقامة الإمارة والدولة... إلخ وتستشيرون في هذه الرؤية هل هي صائبة أم لا؟
فأقول وبالله التوفيق:
لا تزعجكم أخي الكريم - فتح الله عليكم - هذه الفوضى التي تعيشها الساحة سواء السياسية أو الجهادية أو الفكرية، فالأمة كلها اليوم تعيش إرهاصات تحولات كبرى تاريخية، وهذا مظهر طبيعي من مظاهر هذه التحولات الجذرية..
ونحن جزء من أمة عظيمة معصومة مرحومة تعرضت لمحن كبرى منذ ظهور الإسلام، ثم حروب الردة، ثم حروب الفتح الإسلامي، ثم الحروب الصليبية، ثم المغولية، ثم الاستعمارية الغربية، وجاهدت الأمة عدوها وهزمته تارات وتارات، وما زال وعد الله لها وعهدها معه قائما إلى قيام الساعة {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ}، والأمة اليوم لا تحتاج من يقيم لها دولا، في أرضها ودولها، ولا ينقصها إلّا تحريرها من نفوذ عدوها، واتحادها ووحدتها، ولن يتحقق ذلك كله إلا بإرادتها بإذن الله، وهي تمضي لقدرها الرباني كما قال تعالى: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ} {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} وكلها جاءت بصيغة الفعل المضارع الذي يفيد التجدد والحدوث - كلما تكرر سببه {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} - وبدخول اللام عليهما وما تفيده من التوكيد في الأولى، والتعليل والغاية في الثانية، حتى يعم الأرض كلها، وهو ما لم يحدث بعد، وسيحدث كما وعد الله، كما حدث بعد وفاة النبي ﷺ من الفتوح لأصحابه ما لم يحدث لهم في حياته، ليعلموا أن بيعتهم وعهدهم مع الله، والنصر منه وحده، والوعد لهم وللمؤمنين إلى قيام الساعة، وكما جاء في الحديث الصحيح في آخر الزمان: (ثم تكون خلافة على منهاج النبوة)..
وكل من يحاول فرض رؤيته ومشروعه على الأمة الموعودة بالنصر والظهور سيسقط ولو بعد حين، وكل دولة أو إمارة تقام اليوم لن تُقام إلا إذا فتح العدو الغربي الطريق لقيامها لغرض وظيفي، وهو ما يجري لداعش اليوم وبترتيب مع قوى إقليمية ودولية لحصار الثورتين العراقية والسورية واحتوائهما، وتحييد الخزان البشري السني من الرمادي إلى حلب عن الدخول في الصراع، وهو ما نجحت داعش في تحقيقه لهم مؤقتا، حتى باتت عصاباتها تقاتل السوريين والمجاهدين السنة في حلب كما يقاتلهم الروس والإيرانيون! وهو ما حدث مثله في نجد تماما قبل مئة سنة، وبترتيب بريطاني لتقسيم المنطقة، ولحصار الثورات آنذاك في العراق وسوريا سنة ١٩٢٠م على الإنجليز والفرنسيين، بعد أن وعدوا العرب الذين وقفوا معهم ضد الخلافة العثمانية بالاستقلال، فلما غدروا بهم ثار العرب بعد الحرب العالمية الأولى ١٩٢٠م، ففتحت بريطانيا الطريق لتمدد إمارة نجد لتسقط الشريف حسين في الحجاز بعد خروجه عن توجيهاتهم، وحاصروا ثورة الشعبين السوري والعراقي، بعد أن حيدوا جزيرة العرب شرقا، ثم قسموها بعد ذلك، وحيدوا مصر غربا، حتى قضوا على الثورتين معا!
وما تقومون به هو عين الصواب، فالجهاد اليوم الذي تقوم به الفصائل يجب أن يكون جهاد نصرة لكل شعب مسلم يواجه الاحتلال أو الطغيان، لدفع الظلم عنه حتى يتحقق له النصر الذي يرتضيه، ثم ترك الشعوب بعد ذلك تمضي في تغيير واقعها كما يقدر الله لها ولمصلحيها، فالشعوب الإسلامية فيها من العلماء والزعماء السياسيين والمفكرين ورجال الدولة من يستطيعون القيام بالمهمة، ولا ينقصهم إلا الشوكة، فإذا حققتها لهم الفصائل المجاهدة كانوا أقدر على الإصلاح والتغيير..
وهذا ما أدركه زعماء الجهاد قبل قرن حيث جاهدوا الاحتلال وتركوا الأمة تجني ثمرة جهادهم وتتحمل مسئوليتها..
فلو نجح المجاهدون في سوريا في إسقاط الأسد ونظامه وإنهاء مشروع إيران الطائفي الصفوي والنفوذ الروسي وقواعده العسكرية فيها لكان نصرا تاريخيا استراتيجيا، حتى لو حكم سوريا بعد ذلك نظام جمهوري عادل يتوافق عليه السوريون ويستعيدون قوتهم ويستجمون ويكونون رصيدا لأمتهم، لتكمل الأمة في كل ساحة تحررها شيئا فشيئا، وتنأى عن الاحتراب الداخلي الأهلي الذي يراهن عليه العدو الخارجي ويعززه في كل بلد، كما جرى في العراق، الذي لا يمكن له أن يعود كما كان في ظل النظام الطائفي الإجرامي الذي جاء به الاحتلال الأمريكي، وفي ظل وجود داعش التي هي بقايا النظام العربي القمعي بثوب إسلامي!
وقد حذرنا قادة الفصائل منذ بداية الثورة السورية وأكدنا بأن هذه ليست آخر معارك الأمة ولا أولها، ويجب أن يحقق الجهاد في كل ساحة هدفا استراتيجيا لشعبها - يكون رصيدا للأمة في معركتها من أجل تحررها - ثم يمضي المجاهدون لساحة أخرى تحتاجهم الأمة فيها، ويدعون شعوب الأمة تحكم نفسها بنفسها، وسيكون المجاهدون - إن أحسنوا إدارة الصراع مع العدو وكسبوا أمتهم إلى صفهم - هم أصحاب الكلمة فيها، سواء اختارتهم الشعوب أو اختارت من يزكيهم المجاهدون
وباختصار.. الصراع اليوم في ساحة الفكر والوعي لا يقل خطورة عنه في ساحة الجهاد والقتال، فإن استطاع المجاهدون بلورة رؤية لكل ساحة من خلال ما تحتاجه الشعوب نفسها في هذه الساحات، لا بحسب ما يطمح إليه المجاهدون فيها، فسيفتح الله عليهم وعلى الأمة كلها...
فالساحة السورية لا تحتاج إلّا إلى إسقاط الأسد ونظامه، والساحة العراقية لا تحتاج إلاّ إلى تحرير بغداد من النظام الطائفي الصفوي، والساحة الليبية لا تحتاج إلّا لحماية الثورة، والساحة اليمنية لا تحتاج إلّا إلى استعادة الشعب اليمني لتوازنه بعد أن أربكه تجاذب قطبي النظام السابق له في هذه الحرب الوظيفية، حتى إذا توجه الرأي العام إلى أهداف ثورته الموؤدة - بعيدا عن المشاريع الطائفية والوظيفية - كان المجاهدون قوة لشعبهم وظهيرا.
وكذا في كل ساحة، لا يتقدم المجاهدون فيها على شعبها، ولا يفتئتون عليه بفتح حروب لم يتهيأ الشعب لها، ولا يرغب في خوضها، وكذا لا يتخلفون عنه بالنصرة حين يثور بوجه الطغاة، أو حين يخوض حرب تحرير ضد الاحتلال.
أما موضوع الحكم والسلطة فشأنه أخطر وأعقد، والشعوب هي المسئولة عنه، وهي صاحبة الحق فيه، ويحتاج من رجال الدولة وكفاءاتها المتخصصين ما لا تستطيع توفيره الفصائل الجهادية، كما تَعْتَوره عصبيات مجتمعية وسياسية لا يصلح أن يقحم المجاهدون فيها أنفسهم، كما لا يصلح ذلك للعلماء، إلا لمن جمع الله له مع العلم أو الجهاد الزعامة السياسية، وهذا استثناء نادر لما يحتاجه العلم والجهاد عادة من تفرغ كامل لفريضة الجهاد والعلم، بينما يحتاج السياسي إلى الاختلاط بالناس والارتباط بهم والقيام بمصالحهم، ولهذا لم يظهر من جمع بينهما إلا كشيخ الإسلام ابن تيمية مع أنه لم يتول أي ولاية أيضا!
وعلى كل حال إذا نظر المجاهدون إلى أنهم جزء من أمتهم، ليسوا أوصياء عليها، ولا جبارين فيها، ولا مسيطرين عليها، وأنهم يقومون بفرض من فرض دينهم، لنصرتها ورفع الظلم عنها كما قال تعالى: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ}، وأن الأمة وشعوبها أكبر من أن يحكمها فصيل أو تيار واحد، أو يسعها اجتهاد واحد - وهو الذي أفضى بها إلى هذه الثورات على الطغاة وطغيانهم على اختلاف أنظمتهم - فسيكون جهادهم رحمة بها، وعزة لدينها، وجمعا لكلمتها، إذ لا جهاد إلا بالأمة، فالرجال في ساحات الجهاد أبناؤها، والمال مالها، وكل جهاد تقف الأمة ضده، أو تنأى عنه وتشتبه به يؤول إلى بوار ودمار كما جرى في الصومال، وكما هو مشاهد في كل ساحة، وكل جهاد تقف معه الأمة يؤول إلى نصر وفتح بإذن الله...
وليس الجهاد وظيفة أو مهمة خاصة بالفصائل الجهادية، بل هو عبادة وفريضة فرضها الله على الأمة كلها فرض عين أو كفاية بحسب حالاته، وكانت الأمة تنهض إليه كلما وجب عليها ودعتها الحاجة إليه، وكلما استنفرها أهل بلد، فهو كالصلوات الخمس والحج، حتى دخل داء الحزبية فيه، وظن المغررون بأن هناك من هو أحق بالوصاية على الجهاد والمجاهدين من الأمة نفسها التي أوجب الله عليها الجهاد فريضة وعبادة، والتي ما زالت ولا تزال تجاهد منذ فرض الله الجهاد حتى اليوم لم يتعطل جهادها قبل أن توجد الجماعات الجهادية، التي حول بعضها الجهاد من جهاد أمة إلى جهاد أحزاب وفصائل تتقاتل فيما بينها، أو تقاتل الأمة نفسها، وهو ما يريده العدو لها كما تفعل داعش اليوم التي قتلت من الشعب السوري ومجاهديه السنة أكثر مما قتلت من العدو الخارجي!
زادكم الله علما وهدى وبصيرة وأنتم أعلم وأدرى بالساحة الجهادية وتعقيداتها، والأمة أعلم بأمور شئونها السياسية وما يصلح لها وما لا يصلح، فكونوا مع أمتكم ومع علمائها وفقهائها كما قال تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ}، وقال ﷺ: (من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين)..
فمن يرى قتال الأمة وشعوبها، لأنها تريد الحرية السياسية والتداول السلمي للسلطة من خلال الانتخابات أو لأنها تتفاوض مع عدوها لتحقيق مصالحها - فقد خرج من دائرة الجهاد المشروع إلى الفساد في الأرض؛ إذ هذه القضايا مما يدخل في دائرة الاجتهاد، ومما اختلف فيها الفقهاء، وعامة فقهاء الأمة اليوم على جوازها، كما قرر العلامة السعدي بأن للمسلمين أن يتعاونوا مع قومهم غير المسلمين على إقامة نظام جمهوري عادل إذا تعذر إقامة نظام إسلامي راشد، قال في تفسيره (١/ ٣٨٨): (إن الله يدفع عن المؤمنين بأسباب كثيرة، قد يعلمون بعضها، وقد لا يعلمون شيئا منها، وربما دفع عنهم، بسبب قبيلتهم، أو أهل وطنهم الكفار، كما دفع الله عن شعيب رجم قومه بسبب رهطه، وأن هذه الروابط التي يحصل بها الدفع عن الإسلام والمسلمين، لا بأس بالسعي فيها، بل ربما تعين ذلك؛ لأن الإصلاح مطلوب على حسب القدرة والإمكان، فعلى هذا لو ساعد المسلمون الذين تحت ولاية الكفار، وعملوا على جعل الولاية جمهورية يتمكن فيها الأفراد والشعوب من حقوقهم الدينية والدنيوية، لكان أولى من استسلامهم لدولة تقضي على حقوقهم الدينية والدنيوية، وتحرص على إبادتها، وجعلهم عمَلَةً وخَدَمًا لهم، نعم إن أمكن أن تكون الدولة للمسلمين، وهم الحكام، فهو المتعين، ولكن لعدم إمكان هذه المرتبة، فالمرتبة التي فيها دفع ووقاية للدين والدنيا مقدمة)، وكان العلامة القاضي الشرعي والمحدث المجتهد الشيخ أحمد بن محمد شاكر من أوائل فقهاء الأمة الذين أدركوا الفرق بين الدستور والقانون، وأجاز العمل السياسي البرلماني لتحقيق الإصلاح، حيث يقول عن القوانين الوضعية التي تصادم أحكام الشريعة (القضاء في الأعراض والأموال والدماء بقانون يخالف شريعة الإسلام، وإلزام أهل الإسلام بالاحتكام إلى غير حكم الله، هذا كفر لا يشك فيه أحد من أهل القبلة)!
بينما يقول في رسالته (الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدر التشريع في مصر-ص 89-) : (سيكون السبيل إلى ما نبغي من نصر الشريعة السبيل الدستوري السلمي، أن نبث في الأمة دعوتنا، ونجاهد فيها ونجاهر بها، ثم نصاولكم عليها في الانتخاب، ونحتكم فيها إلى الأمة، فإذا وثقت الأمة بنا، ورضيت عن دعوتنا، واختارت أن تحكم بشريعتها، طاعة لربها، وأرسلت منا نوابها للبرلمان، فسيكون سبيلنا وإياكم أن ترضوا بما يقضي به الدستور، فتلقوا إلينا مقاليد الحكم كما تفعل كل الأحزاب، ثم نفي لقومنا بما وعدناهم به من جعل القوانين كلها مستمدة من الكتاب والسنة..)
فقتال الأمة عليها بدعوى التوحيد هو تماما كشبهة الخوارج الذين كفروا عليا والصحابة حين رضي بحكم الأمة في شأن الخلافة، فقالوا: حكمت الرجال ولا حكم إلا لله! فقال: كلمة حق أريد بها باطل!
فتأملوا كيف حدث أول انحراف للخوارج، وكيف استحلوا قتال الأمة بسبب رفضهم تحكيم الأمة ورد الأمر إليها في شأن الخلافة، كما فعل علي رضي الله عنه، بشبهة التوحيد وأن الحكم لله لا للأمة!
وكل ذلك لما غاب الفقه وحل مكانه التنطع والغلو آنذاك، أما اليوم فالأمر أشد وأنكى، فللعدو دور كبير في هذه الظاهرة، ولدوائر الاستخبارات يد طولى في صناعتها؛ لتوظيفها في مواجهة الأمة وثورتها وجهادها في كل ساحاتها!
ولعلكم تراجعون رسالتي (الرسالة المهمة إلى مجاهدي الأمة) ورسالتي (إلى شيوخ المجاهدين) وكتابي (الإعلام بأحكام نوازل الجهاد بالشام) فقد تجدون فيها ما يجيب عن كثير من الأسئلة عندكم..
فتح الله عليكم، وبارك فيكم، ونصركم، آمين آمين
…………………………………
مواضيع ذات صلة:
الرسائل المهمة لمجاهدي الأمة
إلى شيوخ المجاهدين
كتاب الإعلام بأحكام الجهاد ونوازله بالشام
رسائل وأحكام ووصايا مهمة للمجاهدين
موقع أ.د. حاكم المطيري
مكتبة الشيخ أ.د. حاكم المطيري