(نظر
بعد نظر)
[1]
بقلم: حاكم بن عبيسان المطيري
بسم الله الرحمن الرحيم
الحَمْدُ لله رب العالمين وصلَّى الله وسلم على مُحَمَّد وآله وصحبه
أجمعين
وبعد....
فقد كان لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى أثره العظيم في إعادة
عقل الأمة الإسلامية إلى توازنه الَّذِي فقدته منذ أن شاعت بين المسلمين كتب
الفلسفة اليونانية من جهة، والآثار الموضوعة والضعيفة والإسرائيلية من جهة أخرى،
فوُجد من المسلمين من يقدّم الأدلة العقلية في نظره على الأدلة النقلية الصحيحة
مطلقاً، ويحكّم عقله في قبول ما يشاء ورد ما يشاء من الأدلة النقلية، وكذلك يحكم
العقل في فهم هذه الأدلة دون تقيد بضوابط أو التزام قواعد الفهم الصحيح.
ووُجد في مقابله من يعطّل العقل، ويحتج بضعيف المنقول، وسخيف المعقول،
كما وصفهم شيخ الإسلام ابن تيمية الَّذِي جاء بعد أن كادت تنطفئ أنوار السنن
والآثار الصحيحة ويخبو ضوء الأدلة العقلية الصريحة ليضع القواعد التي أعادت للعقل
الإسلامي توازنه وحياته، فلا تعارض بين الأدلة العقلية والأدلة النقلية ألبتّة، ولا
يقدم العقل مطلقاً، ولا النقل مطلقاً، بل يقدم القطعي منهما على الظني، ولا يكون
تناقض بين نقلي صحيح وعقلي صريح، وإنما يقع ذلك بين نقلي ضعيف أو عقلي سخيف،
فالنقل والعقل كلاهما من عند الله عز وجل ﴿ أَلا لَهُ الْخَلْقُ
وَالأَمْرُ﴾(الأعراف: 54)، فيستحيل وقوع التناقض أو التضاد بينهما، بل العقلي
الصريح شاهد على صدق النقلي الصحيح، ولا يأتي النقل بما يحيله العقل أبداً، بل
ربما جاء النقل بما يحار فيه العقل، والنقل قائد والعقل شاهد.
وقد عاد الاضطراب إلى العقل الإسلامي من جديد منذ فترة طويلة خاصة بعد
ظهور المخترعات والتطور المادي العظيم، مما أحدث هزة عنيفة لبعض المسلمين، فوُجد
فيهم من ينكر النقل ولا يؤمن إلا بالحسيات ومعطياتها، ولا يرى إلا العالم المادي،
وما وراءه لا يدخل عنده في دائرة العلم، ولا ينبغي الاشتغال (بالميتافيزيقا) وهو علم ما وراء المادة، ووُجد في المقابل من كابر في الحسيات بدعوى
الإيمان بالنقليات وبما وراء المادة من عالم الغيب، وصارت دعوى الإيمان بالغيب حجة
يحتج بها بعض المسلمين كلما عجزت عقولهم عن فهم المنقول أو إدراك المعقول.
وحتى وُجد في علماء المسلمين فضلاً عن عوامهم من يكابر فيما ثبت من
الحسيات بدعوى تعارضها مع النقليات، وصار كثير من المسلمين يحار بين التصديق بما
يشاهده ويراه أمام عينيه، أو تصديق ما يقوله بعض العلماء مما يصادم ذلك المحسوس،
فصاروا فريقين: فريق أخذ يشك في النقليات التي يزعم بعض أهلها أنها تصادم ما يراه
هو ويحسه، وما زال الشك يساوره ويراوده في النقليات كلما رأى من أهلها من يكابر في
الحسيات، حتى طغى الجانب المادي في تفكير هذا الفريق وصار لا يؤمن إلا بالماديات.
وفريق ألغى عقله وعطّل حواسه، وصار يكابر في مثل هذه الأمور المحسوسة
خوفاً أن يكون تصديقه بها يصادم النقل فيخسر دينه وآخرته، فأدى ذلك إلى طغيان
العقلية الغيبية عند هذا الفريق حتى صار أسهل جواب للرد على أي شبهة ترد عليهم هو:
أن هذا من الدين ومن الإيمان بالغيب ولا يُشْغل العقل به.
وهكذا عادت المشكلة مرة ثانية إلى العقل الإسلامي بسبب سوءٍ في فهم
النقل، أو قصور في إدراك العقل، ووُجد من يحتج بالنقل مع سوء الفهم، ومن يحتج
بالعقل مع قصور الإدراك.
شبه تَهَافَتُ كَالزُّجَاجِ تَخَالُها
حججاً وكُلٌّ كَاسِرٌ مَكْسورُ
إنها مشكلة ولا ابن تيمية لها!
أقول هذا بعد أن رأيت رد الفعل العنيف عند بعض الأخوة بعد أن ذكرت
رأيي في موضوع يأجوج ومأجوج، وأنها أمة من أمم الأرض تعيش على سطح الكرة الأرضية،
وأن قضيتهم قضية حسية، فقد كانوا يفسدون في الأرض وينال بعضَ الأمم من أذاهم، وقد
بنى ذو القرنين سداً بطلب ومساعدة من الأمم الضعيفة له في بنائه، ليكون مانعاً من
إفسادهم وأذيتهم لهذه الأمم التي دون السد، لا كل الأمم التي تجاورهم، وأن السد
كان سداً عظيماً ساوى فيه ذو القرنين بين صدفتي الجبل، فهو واضح ضخم لا يخفي على
من أتى تلك الأرض، وقد بناه أناس مع ذي القرنين، وشاهدوه بأبصارهم، وعملوه
بأيديهم، وعلموا أن يأجوج خلف هذا السد، وأنه سيكون مانعاً من أذيتهم، فإذا فقد
صلاحيته فقد يتعرضون لأذيتهم، وقد لا يتعرضون لوجود صوارف أخرى تمنع من إفسادهم
كما كانوا من قبل، والمقصود أن هذه القضية إلى هنا قضية حسية لا ريب فيها ولا شك
ولا ينبغي المكابرة في مثل هذا.
فكيف انقلبت القضية إلى قضية غيبية، حتى قال القائل: إن الله يخفي عنا
مكان السد! كيف تبنيه الأمم في ذلك العصر، وتعين ذا القرنين على بنائه، وتعمله
أيديهم، وتراه أبصارهم فترة من الزمن، وقد يراه أبناؤهم ومن جاء من بعدهم، ما دام
السد قائمًا شامخًا شموخ الجبال، ثم يختفي هذا السد عن أعين الخلق كلهم، ويصبح
قضية غيبية بعد أن كان من عالم الحس والمشاهدة كسد مأرب الَّذِي لا تزال آثاره
باقية إلى يومنا مع أنه أقدم من سد ذي القرنين وأصغر حجمًا؟! ما هو الدليل النقلي
القطعي الَّذِي يجعلنا نقول بهذا القول؟!
ثم لنفترض أن هذا السد اختفي ولم يعد يعرفه أحد، فأين الأمم التي خلف
الجبال التي بُني السد في جزء منها؟! وأين يأجوج ومأجوج، وهم أكثر أهل الأرض عدداً
من ذرية آدم؟! أين أرضهم وديارهم؟!
وهذه الأرض كلها تتقاسمها الأمم والشعوب، ولا يوجد جزء إلا وهو في
حدود دولة قائمة، وما من دولة إلا وقد أحصت عدد شعبها وسكانها، ولو قال قائل: إن
هناك دولة على وجه الأرض لا تعرفها دول العالم كله، وليس لها حدود مع أحد لعدّ هذا
القول هذيانا ومكابرة للحس، فما هو الدليل النقلي القطعي الَّذِي يصادم الحس إلى
هذا الحد؟!
لقد كان علماؤنا قديماً يصرحون بأنهم في أقصى الشمال، وأنهم خلف جبال
أرمينيا وأذربيجان كما ثبت عن بعض السلف، وكانوا يتصورون أن الأرض من السعة
والامتداد بحيث تبقى أجزاء شاسعة منها بعيدة عن الاتصال بأهل الأرض، وأن يأجوج
ومأجوج في تلك الأجزاء الشاسعة، ولم يقل أحد منهم إن السد سيختفي عن الأبصار، بل
ذكروا أن هناك من شاهده من المسلمين، فكيف صار قضية غيبية؟!
وقد كنت نشرت بحثًا بعنوان: (أثر
فيه نظر)، في مجلة المشكاة العدد الأول، درست فيه حديث أبي هريرة رضي الله عنه:
"إن يأجوج ومأجوج يحفرون السد كل يوم، حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس، قال
الَّذِي عليهم: ارجعوا، فسنحفره غدًا، فيعيده الله أشد ما كان، حتى إذا بلغت مدتهم
وأراد الله أن يبعثهم على الناس: قال الَّذِي عليهم ارجعوا ! فستحفرونه غدًا -إن
شاء الله تعالى- واستثنوا فيعودون إليه وهو كهيئته حين تركوه، فيحفرونه ويخرجون
على الناس".
وهذا هو الدليل الوحيد الَّذِي جعل بعض المعاصرين يلجأ إلى مثل هذه
المكابرة بعد أن تم اكتشاف الأرض كلها!!
وقد أَثْبَتُّ بالأدلة بطلان رفع هذا اللفظ إلى النبي ﷺ، وأثبت أنه موقوف على أبي هريرة رضي الله عنه من كلامه، وأنه أخذه عن
كعب الأحبار من الإسرائيليات التي كان يحدث بها كعب الناس خاصة أبا هريرة.
وهذا مجمل ما ذكرته من الأدلة هناك:
(1)
أن هذا اللفظ مداره على قتادة يرويه عن أبي رافع نفيع الصائغ عن أبي
هريرة رضي الله عنه مرفوعاً.
وقد ذكر الترمذي أنه غريب لا يُعرف إلا من هذا الوجه.
(2)
وقد نص شعبة بن الحجاج – وهو إمام عصره في علم الحديث وعلله ورجاله،
وتلميذ قتادة، وأعرف الناس به، وبما سمع من الحديث وما لم يسمع – على أن قتادة لم
يلق أبا رافع أصلاً.
فرواية قتادة إذن عن أبي رافع هي من الإرسال، أو الإرسال الخفي، على
الخلاف في ذلك بين أهل المصطلح، ففي الإسناد انقطاع يكون به الحديث ضعيفاً.
فلو أخذ إنسان بقول شعبة هذا، وحكم على الحديث بالضعف لكانت حجته
ظاهرة، إذ ما زال الأئمة من تلاميذ شعبة وأصحابه ومن بعدهم من أئمة هذا الفن
يأخذون بقوله، ويحتجون بحكمه، خاصة في معرفة سماع الرواة بعضهم من بعض، فقد كان
شعبة أول من اعتنى بهذا الشأن في العراق، وهو أستاذ يحيى بن سعيد القطان، وقد قال
عنه القطان كما في مقدمة الجرح والتعديل (1/127): "كان شعبة أعلم الناس
بالرجال".
-
وقال عنه سفيان الثوري وهو صاحبه كما في مقدمة الجرح (1/126): "شعبة
أمير المؤمنين في الحديث"..
-
وقال عبد الرحمن بن مهدي وهو من تلاميذه: "شعبة إمام في
الحديث".
-
وقال الشافعي (1/127): "لولا شعبة ما عرف الحديث بالعراق".
-
وقال أبو حاتم كما في المقدمة (1/128): "كان شعب أبصر بالحديث
وبالرجال وكان الثوري أحفظ، وكان شعبة بصيراً بالحديث جداً، فهماً له، كأنه خلق
لهذا الشأن"..
وقد كان شعبة بصيراً في الرواة، وسماع بعضهم من بعض، سواء كانوا من
شيوخه الذين سمع منهم، أو من شيوخ شيوخه الذين لم يدركهم، لشدة فحصه وتحريه، وأما
في قتادة فهو أعلم الناس به بلا خلاف بين أئمة الحديث، فقد كان قتادة يسأله عن
حديث نفسه، روى معمر كما في مقدمة الجرح (1/127): "أن قتادة كان يسأل شعبة عن
حديثه -يعني حديث نفسه- قال أبو مُحَمَّد (ابن أبي حاتم): "وكان قتادة بارع
العلم، نسيج وحده في الحفظ في زمانه، لا يتقدمه كبير أحد، فحلّ شعبة من نفسه محلاً
يرجع إليه في حديث نفسه".
وقال أبو مُحَمَّد أيضًا: "بلغ من علم شعبة بقتادة: أن عرف ما
سمع من أبي العالية، وما لم يسمع".
وقال شعبة عن نفسه كما في المقدمة (1/170): "نصصت على قتادة
سبعين حديثاً كلها يقول سمعت من أنس إلا أربعة".
وقال أيضاً (1/169): "كنت أنظر إلى فم قتادة، فإذا قال للحديث
(حدثنا) عنيت به فوقفته
عليه، وإذا لم يقل (حدثنا) لم
أعن به".
وقال أيضاً كما في النكت للحافظ ابن حجر (2/630): "كفيتكم تدليس
ثلاثة: الأعمش، وأبو إسحاق، وقتادة" وقد ذكرت في البحث غير هذا.
وكل ما سبق دليل على عنايته بحديث قتادة، ومعرفته به، وما سمع من
شيوخه، وما لم يسمع، وكان يوقفه على السماع، ولهذا لزم قبول قوله في: أن قتادة لم
يسمع من أبي رافع، إذ يظهر أنه سمع منه حديثاً عن أبي رافع، فأوقفه على السماع،
فأخبره قتادة أنه لم يسمعه منه، وأنه لم يلق أبا رافع.
فمن احتج بقول شعبة هذا، وضعف رواية قتادة عن أبي رافع، فحجته ظاهرة
بلا شك.
3) ثم
على فرض أن قتادة قد لقي أبا رافع، فقد ذكرت في البحث: نصّ الأئمة الحفاظ على أنه
لم يسمع منه شيئاً، قال الإمام أحمد: "لم يسمع قتادة من أبي رافع"، وقال
يحيى بن معين: "لم يسمع قتادة من أبي رافع".. وقال أبو داود: "قتادة
لم يسمع من أبي رافع شيئاً".. وقال أبو بكر الأثرم من أصحاب الإمام أحمد: "ولم
يسمع قتادة من أبي رافع شيئاً".. وقال ابن رجب: "لم يسمع قتادة من أبي
رافع شيئاً" ونص الحافظ المنذري على انقطاع هذا الإسناد..
وقد ذكر العلائي بعض هذه الأقوال وأقرها ولم يتعقبها بشيء، ومع اشتهار
هذا القول عن هؤلاء الأئمة لم ينص أحد على خلاف قولهم، ولعله لا يوجد راو تتابع
جمع من الأئمة بهذا العدد على نفي سماعه ممن فوقه كما حصل في نفي سماع قتادة من
أبي رافع، ولو نص إمام واحد لكفى، فكيف بهؤلاء الأئمة جميعاً؟!
وعليه ففي الإسناد إرسال خفي، أو تدليس للاختلاف الواقع بين أهل الفن
في تسمية هذا النوع، هذا على فرض أن قتادة لقي أبا رافع.
وعلى كل فالحديث ضعيف لهذه العلة.
ولهذا السبب لم يخرّج الإمام مسلم في صحيحه، ولا النسائي بهذا الإسناد
شيئاً مع جلالة قتادة وأبي رافع، لعدم سماع قتادة من أبي رافع شيئاً، ولم يخرّج
أبو داود بهذا الإسناد شيئاً سوى حديث واحد في كتاب الأدب ونص على انقطاعه أيضاً،
وكذا لم يخرّج البخاري سوى حديث واحد في التوحيد، ولم يحتج به، وإنما له طرق أخرى
أخرجها في صحيحه، فيكون حكمه على حديث قتادة من حيث مجموع الطرق، كما ذكر الحافظ،
فخرجه لثبوت الحديث عنده من طرق أخرى صحيحة، ولم يخرج ابن ماجة به سوى هذا الحديث،
وأخرج الترمذي بهذا الإسناد حديثين أحدهما حديث قتادة هذا واستغربه، وحديث آخر
صححه لشواهده ومتابعاته.
4) ثم
على فرض أن قتادة قد سمع من أبي رافع في الجملة، فقد عُرف عن قتادة اشتهاره
بالتدليس، فلا بد أن يصرح بالسماع من أبي رافع، وكل أصحاب قتادة رووه بالعنعنة إلا
ما وقع في رواية سليمان التيمي عن قتادة عند ابن حبان: "عن قتادة أن أبا رافع
حدثه" وذكرت في البحث أن الموصلي روى هذا الحديث عن شيخ شيخ ابن حبان مباشرة
بلفظ (حدّث)، ورواية الموصلي أعلى إسناداً من رواية ابن حبان، هذا ولفظ (حدّثه) جادة تسبق الأوهام إليها بخلاف (حدّث) فإنه لا يضبطه إلا الحفاظ، ثم إن سليمان التيمي متكلم في روايته عن
قتادة، ونص الإمام الأثرم على أنه لا يقوم بحديث قتادة، وأنه وهم على قتادة في
أحاديث منها تصريحه بالسماع بين قتادة وأبي رافع، وقد عرض الأثرم هذا القول على
الإمام أحمد فأقرّه عليه، وعدّ ذلك من أوهامه على قتادة.
* وقد وقع تصريح بالسماع في رواية عبد الأعلى عن سعيد بن أبي عروبة عن
قتادة (ثنا) أبو رافع، كذا
في سنن ابن ماجة (ط عبد الباقي) .
وقد أثبتُّ أنه تصحيف وتحريف وأن الصواب (حدّث أبو رافع) كذا هو في تفسير ابن كثير، وفتح الباري للحافظ ابن حجر، وكذا في طبعة
الأعظمي لسنن ابن ماجة، وقد وقفت عليه في نسخة مخطوطة لسنن ابن ماجة قديمة وفيها: (حدّث
أبو رافع) .
وكذا وقع تصريح بالسماع في رواية روح عن سعيد عن قتادة (ثنا أبو رافع) في مسند أحمد، وأثبت في البحث أنه تصحيف أو وهم من روح أو من سعيد، إذ
أن روحا من صغار أصحاب سعيد بن أبي عروبة، وقد اختلط سعيد بأخرة، وقد نص الطحاوي
والحافظ ابن حجر على أن سماعه من سعيد بعد الاختلاط، وقد جعل الإمام أحمد روحا في
الطبقة الرابعة من أصحاب سعيد، ثم إن روحا متكلم في حفظه وضبطه، ولهذا لم يقبل
أحمد روايته هذه مع أنها في المسند، ونص الإمام أحمد على أنه لم يسمع منه، وهذا
منه رد لرواية روح هذه.
(5) وإذا
ثبتت رواية عبد الأعلى عن سعيد عن قتادة (حدّث) أبو رافع، كما في سنن ابن ماجة، ورواية الموصلي عن ابن المقدام عن
المعتمر عن أبيه عن قتادة (حدّث) أبو
رافع: فقد نصّ شعبة على أن هذه الصيغة يستعملها قتادة فيما لم يسمع من الحديث -
هذا على فرض أنه لقي أبا رافع وسمع منه في الجملة- وقد اتفق أئمة المصطلح على أن هذه
الصيغة محمولة على الانقطاع في روايات المدلسين، وقتادة من مشاهيرهم، وهذه علّة
تمنع من الحكم للحديث بالاتصال على فرض تحقق اللقيا والسماع بين قتادة وأبي رافع.
(6) ثم
على فرض أنه قد سمع هذا الحديث من قتادة، ففيه علّة أخرى ذكرتها في البحث وهي
الاختلاف على قتادة في رفعه ووقفه، حيث رواه حماد بن سلمة -وهو إمام كبير- عن قتادة عن أبي رافع عن أبي هريرة موقوفاً، وكثيراً
ما يعلّ الأئمة القدماء بمثل هذا فيعلّون المرفوع بالموقوف والموصول بالمرسل.
(7) ثم
على فرض أن الصحيح عن قتادة رواية الرفع، ففيه علّة أخرى وهي الاختلاف على أبي
هريرة، فقد رواه أبو صالح السمّان عن أبي هريرة موقوفاً عليه، ولا شك بأن أبا صالح
أعلم وأحفظ لحديث أبي هريرة من أبي رافع فروايته أرجح، والطريق إليه صحيح بخلاف
رواية أبي رافع، فإن الطريق إليه فيها من العلل ما سبق ذكره.
(8) ثم
على فرض أن الرواية لا اختلاف بين الرواة في رفعها، فقد أشبهت رواية كعب الأحبار،
فقد روى كعب هذا الحديث بألفاظ وحروفه بأطول من حديث أبي هريرة، وذكر ابن كثير أن
رواية أبي هريرة يحتمل أنها مأخوذة عن كعب، فقد ثبت عن أبي هريرة أخذه مثل هذه
القصص التي لا تتضمن حكماً شرعياً عن كعب، وقد أذن النبي ﷺ بالتحديث عن بني إسرائيل دون تصديق أو تكذيب، وقد ثبت أن أصحاب أبي
هريرة ربما وهموا عليه فجعلوا حديثه عن كعب مرفوعاً إلى النبي ﷺ وقد نقل ابن كثير عن بعضهم قوله: إن المرفوع غير محفوظ.
(9) ثم
إن متن هذا الحديث منكر مصادم لظاهر القرآن، ولظاهر الأحاديث النبوية الصحيحة في
هذه القضية، وبعضها من رواية أبي هريرة نفسه رضي الله عنه، فلو افترضنا أنه صحيح
الإسناد، وأنه لا علة في إسناده، لوجب رده لمصادمته ظواهر القرآن، والأحاديث التي
هي أصح إسناداً منه، وكم من حديث صحيح الإسناد أنكر الأئمة متنه ولفظه ورجحوا غيره
عليه.
(10) ثم
إنه مصادم للأدلة الحسية والعقلية كما ذكر ذلك العلامة السعدي، ونقلنا قوله كاملاً
في بحثنا آنف الذكر.
فهذه عشرة كاملة من الأدلة الإسنادية والمتنية، ذكرناها هنا على سبيل
الإجمال وسبق تفصيل القول فيها في العدد الأول من (المشكاة)، ولو لم يكن من الأدلة إلى الدليل الثاني والثالث لكان كافياً في الحكم
على هذا الحديث بالضعف -
على أحسن الأحوال - فكيف وهذه عشرة كاملة؟!
وأما من أبي إلا تقليد ابن حبان والحاكم فله ذلك، ولكن ليعلم: أن ذلك
لا يرفع الخلاف في هذا الحديث، إذ تقليد شعبة وأحمد ويحيى بن معين وأبي داود وأبي
بكر الأثرم والمنذري والعلائي وابن رجب: أولى من تقليد ابن حبان والحاكم، وأقل ما
يقال في هذا الحديث: أنه مختلف فيه تصحيحاً وتضعيفاً، فمن شاء قبله، ومن شاء ردّه.
هذا ولما ثبت عندي - بناء على ما سبق ذكره من الأدلة - بطلان حديث
قتادة عن أبي رافع، وأنه لا سد هناك يحفر كل يوم، ولا بشر يحفرون حتى إذا كادوا
يرون شعاع الشمس قال الَّذِي عليهم ارجعوا فيعود السد أشد ما كان، وأن هذه أسطورة
إسرائيلية خرافية، لما ثبت ذلك عندي: أخذت في توضيح شأن هذه الأمة على ضوء الآيات
القرآنية والأحاديث النبوية الصحيحة وتوصلت في البحث إلى التالي:
(1) أن
هذه الأمة (يأجوج ومأجوج) هي
من ذرية آدم بلا خلاف لحديث الصحيحين (يا آدم أخرج بعث النار)، ومن ذرية نوح، إذ
لم يتبق إلا ذريته، كما قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ﴾[الصافات:
77]، فهم بشر كسائر ذرية آدم، يأكلون مما يأكل الناس منه، ويشربون مما يشربون،
ويعيشون على هذه الأرض معهم كما يعيشون، وقد كانوا يفسدون في الأرض بالقتل والسلم
لغلبة الشر عليهم، فلما توجه ذو القرنين إلى جهة الشرق حيث مطلع الشمس كما في سورة
الكهف: ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ
لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا﴾ [الكهف: 90] فهم قبائل صحراوية لا
يعيشون في مدن وعمران يسترهم من أشعة الشمس، وإنما هم قبائل رحّل، ثم سار ذو
القرنين ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا
لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً﴾ لعجمة ألسنتهم وتخلفهم عن أسباب الحضارة
والمدنية ﴿ قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ
مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ
بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا، قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ
فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا، آَتُونِي
زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ﴾ أي بين الجبلين ﴿
قَالَ آَتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا، فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ
وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا﴾ [الكهف: 94-97].
ذكر السيوطي في الدر المنثور (4/448): أن ابن المنذر أخرج عن ابن عباس
في قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ﴾.
قال ابن عباس: "الجبلين أرمينية وأذربيجان" ورواه ابن جرير
في تفسيره (8/278) من
طريق ابن عباس مثله.
قال الشوكاني في فتح القدير (3/311): "السدان هما جبلان من قبل
أرمينية وأذربيجان".
وقال ابن كثير في تفسيره (3/109) عن السدين: جبلان بينهما ثغرة يخرج منها يأجوج ومأجوج على بلاد الترك،
فيعيثون فيها فساداً، ويهلكون الحرث والنسل".
وقد ثبت بالدراسات الجغرافية والتاريخية الحديثة (وانظر كتاب (الصين) للشيخ المسند)، أن السد هو في سلسلة جبال القوقاز، وهي سلسلة جبال
يبلغ طولها (1200) كم،
ويصل ارتفاعها إلى أكثر من (5000) م، ويحدها شرقاً بحر قزوين، وغرباً البحر
الأسود، لتصير بذلك حاجزاً طبيعياً بين الشمال والجنوب في أواسط آسيا، ولا يوجد
ممر بين سلسلة جبال القوقاز سوى ممر (داريال)، وهناك يوجد السد وقد بني من الحديد
والنحاس المذاب، وقد كان هذا السد بعد بنائه حاجزاً ومانعاً من هجمات الشعوب
والقبائل التي وراءه، وهي القبائل المغولية على القبائل الضعيفة التي دونه، أي
جنوب جبال القوقاز، مدة ألف عام تقريباً، توقفت فيها هجمات هذه القبائل حتى انحسر
بحر قزوين، وظهر بذلك ممر وطريق ساحلي بين شواطئ بحر قزوين وجبال القوقاز.
والمقصود بيان أن علماء الإسلام قد أشاروا إلى مكان وجود السد، وقد
وافق ما ذكروه ما توصلت له الدراسات الجغرافية الحديثة، وثبت أن من وراء السد أي
شمال القوقاز هم المغول والقبائل المغولية قال ابن حزم في الفصل (1/120): (فإن قيل:
ذكر في القرآن سد يأجوج ومأجوج ولا يدري مكانه ولا مكانهم!
قلنا: مكانه معروف في أقصى الشمال في آخر المعمورة، وقد ذكر أمر يأجوج
ومأجوج في كتب اليهود التي يؤمنون بها ويؤمن بها النصارى، وقد ذكر يأجوج ومأجوج
والسد أرسطاطاليس في كتابه (الحيوان)، وقد ذكر سد يأجوج ومأجوج بطليموس في كتابه
المسمى (جغرافيا) وذكر
طول بلادهم وعرضها، وقد بعث إليه أمير المؤمنين الواثق: سلام الترجمان في جماعة
معه، حتى وقفوا عليه، ذكر ذلك أحمد بن الطيب السرخسي وغيره، وقد ذكره قدامة بن
جعفر والناس).
وأصرح من ذلك أن الإدريسي وهو
من علماء المسلمين الجغرافيين في القرن السادس الهجري الذين جابوا الأرض وضع خريطة
دقيقة للعالم القديم أشار فيها إلى قبائل يأجوج ومأجوج، وهي كائنة في الخرائط
الحديثة في هضبة منغوليا، وقد توفي الإدريسي سنة 560هـ قبل خروج التتار من تلك
المنطقة.
فالقضية إذن معلومة عند علماء التاريخ والجغرافيا وفي كتب بني إسرائيل
القديمة، وليست هي قضية غيبية، بل حسية مشاهدة، فهناك قبائل همجية في الشمال
الشرقي، خلف سلسلة جبال القوقاز تدعى (يأجوج ومأوجوج) اشتهرت بالقتل والسلب والتدمير، تشن غاراتها على الجنوب الغربي حيث
القبائل الضعيفة البدائية في جنوب جبال القوقاز من خلال مضيق (داريال)، وقد اشتكت
هذه القبائل إلى ذي القرنين وطلبت منه أن يبني سداً في هذا المضيق، وهو الطريق
الوحيد بين سلسلة الجبال الشامخ ارتفاعها، فوافق على طلبهم وأمرهم بمساعدته، فبنى
السد من الحديد والحجارة، حتى ساوى بين جهتي الجبلين المتقابلين، ثم أذاب عليه
النحاس، وأحكم إغلاق المضيق، واستغرق عمله هذا عشر سنوات، وبهذا توقفت الهجمات
الوحشية، وكان هذا السد رحمة من الله بهذه القبائل الضعيفة تحققت على يد هذا الملك
الصالح.
هذا هو الجانب المحسوس المعلوم بالأدلة النقلية والعقلية والحسية في
هذه القضية.
أما الجانب الغيبي: فموعد خروج هذه الأمم في آخر الزمان لتدمير
الحضارة الإنسانية، وهو من علامات الساعة الكبرى وهذا ما لا يعلمه إلا الله عز وجل
﴿حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ
يَنْسِلُونَ﴾[الأنبياء: 96] وقد ثبت بالأحاديث الصحيحة أنهم يخرجون في آخر الزمان
بعد نزول عيسى عليه السلام، فيأمره الله عز وجل أن يحرز المؤمنين إلى الحصون،
فيسلم المسلمون من شرهم، وكذلك أيضاً أخبر ﷺ في أحاديث أخرى صحيحة: أن المسلمين يقاتلون هذه الأمم، وأن هذا الخطر
قريب، وأنه يهلك فيه الصالحون وهذا خروج جزئي وليس هو بالطبع الخروج النهائي، كما
لا يوجد دليل على نفي وقوع خروجهم على الأمم بالقتل والتدمير بين هذين الخروجين،
غاية ما هنالك أن النبي ﷺ أخبر بالخروج الجزئي لأنه أول خروج لهم، وفيه يقاتلون المسلمين، وكان
النبي ﷺ
يقول فيه: "ويل للعرب من شر قد اقترب"، وأخبر بالخروج النهائي لأنه
الأخير، وهو من علامات الساعة الكبرى، وليس هناك دليل على نفي ما سوى هذين
الخروجين، لأنه قد ثبت أن السد لم يعد مانعاً لهم منذ الخروج الجزئي، وهو هجوم
جنكيز خان المغولي على العالم في أوائل القرن السابع الهجري، بعد أن توقفت هجماتهم
على العالم نحو ألف سنة تقريباً - كما هو ثابت تاريخياً - كان فيها السد طوال هذه
المدة رحمة من الله بالأمم الضعيفة دون السد في الجنوب الغربي منه، وقد ذكرتُ في
بحث (أثر فيه نظر) شيئاً
من ذلك، وذكرتُ أن المانع لهم بعد انفتاح السد هي الصوارف الكونية القدرية، حتى
يهيأ الله الأسباب الدافعة لخروجهم الكبير على العالم قبل قيام الساعة..
والدليل عليه: أن الأمم الضعيفة التي شكت إلى ذي القرنين أذية يأجوج
ومأجوج كانت موجودة قبل وجود السد، وقبل مجيء ذي القرنين لهم، ولم تؤدِ هجمات
يأجوج ومأجوج عليهم وإفسادهم في الأرض إلى فناء هذه الأمم الضعيفة، أو ارتحالها عن
أرضها دون الجبلين، فدل على أن الأذى والإفساد الَّذِي يقع من يأجوج ومأجوج هو
الغارات والهجمات التي يشنونها على هذه الأمم الضعيفة قبل بناء السد، ثم يرجعون
إلى أرضهم شمال شرق جبال القوقاز في أواسط وشمال آسيا حيث القبائل المغولية، وإذا
كان هذا هو الَّذِي يجري قبل بناء السد مجرد هجمات وغارات ثم تتوقف فترة من الزمن،
ثم تعود الهجمات ثم تتوقف: فإن هذا هو الَّذِي سيحدث بعد انتهاء صلاحية السد،
هجمات وغارات مدمرة ثم تتوقف، أولها هو ما حدث في القرن السابع، وآخرها قبل قيام
الساعة، وقد أثبت المؤرخون أن القبائل المغولية غزت العالم عدة مرّات، واستطاعت أن
تسقط إمبراطوريات قائمة، وتدمر حضارات زاهرة، في آسيا وأوربا وقد استطاعوا في
بعضها أن يسيطروا على آسيا من الصين إلى العراق، ويتوغلوا غرباً إلى أوربا
الشرقية، يسير الدمار معهم حيث ساروا، ويحل الخراب في الأرض حيث حلوا، ومن قرأ
تفاصيل خروجهم في القرن السابع، وما تحقق فيه من الدمار والخراب والقتل والسلب،
بما لا نظير له في الحروب التي تعرفها الأمم، والشعوب الإنسانية: علم يقيناً أن
السد الَّذِي بناه الملك الصالح (قورش)، الَّذِي أوقف هذه الهجمات على الشعوب التي
دون السد: كان رحمة من الله طوال فترة ألف سنة تقريباً، حتى انتهت صلاحية السد
وانحسرت سواحل بحر قزوين عن الطرف الشرقي لسلسلة جبال القوقاز، وظهر الطريق
الساحلي بين البحر والجبل، لتبدأ الغارات من جديد بكل وحشية وهمجية لا يعرف لها
التاريخ نظيرا.
وإذا كان كل هذا الَّذِي حصل منهم في القرن السابع هو عبارة عن خروج
جزئي، يسير شرّه، قليل خطره، فكيف بخرجهم الكبير قبل قيام الساعة، ولنا أن نتصور
مدى الدمار الَّذِي سيحصل في العالم لو وقع عشرة أضعاف أو مائة ضعف ما حصل في
القرن السابع من دمار وخراب.
هذا باختصار موضوع قصة ذي القرنين، ويأجوج ومأجوج، وبناء السد وموقعه
وما حصل في الماضي، وما سيحصل في المستقبل، كما تدل عليه ظواهر القرآن والأحاديث
الصحيحة وأقوال علماء الإسلام ومؤرخيه وجغرافييه، ليس فيها شيء يصادم الأدلة
الحسية أو العقيلة أو النقلية.
فمن أين جاءت إذن فكرة وجود أمة تحفر السد كل يوم؟ وكلما كادوا يرون
شعاع الشمس قال الَّذِي عليهم ارجعوا فيعود أشد ما كان؟..الخ؟!
لقد جاءت من حديث قتادة هذا، وقد أثبتنا بطلانه بالأدلة، وجاءت من قصص
كعب الأحبار من إسرائيلياته التي يحدث الناس بها.
وهذا الحديث هو الَّذِي أشاع أسطورة وجود أمة معزولة عن العالم، لا
يمكن الإطلاع عليها أو الاتصال بها مع أنه خلاف ظاهر القرآن والأحاديث الصحيحة،
وإذا كان يحرم على المسلم إنكار قضايا الغيب بدعوى قصور مدارك الحس عن إثباتها،
فكذلك يحرم عليه المكابرة في الحسيات ونفي وجودها بدعوى الإيمان بالغيب، إذ
الَّذِي أمرنا أن نؤمن بالغيب هو الَّذِي أمرنا أيضاً بإعمال الفكر والعقل والنظر
فلا ننكر الغيبيات ولا نكابر في المشاهدات والحسيات.
فائدة:
روى ابن أبي شيبة في المصنف (7/509) رقم (37626) قال
ثنا غندر مُحَمَّد بن جعفر عن شعبة عن الحكم بن عتيبة قال: سمعت أبا صادق يحدث عن
الربيع بن ناجذ عن ابن مسعود قال: "يأتيكم قوم من قبل المشرق عراض الوجوه،
صغار العيون، كأنما ثقبت أعينهم في الصخر، كأن وجوههم المجان المطرقة، حتى يوثقوا
خيولهم بشط الفرات.
وفي (7/511) رقم
(37637) عن عبد الله بن
نمير ثنا سفيان ثنا سلمة بن كهيل عن أبي الزعراء عبد الله بن هانئ عن ابن مسعود
موقوفاً حديث الدجال، ثم قال عبد الله: ويزعم أهل الكتاب أن المسيح عيسى بن مريم
ينزل فيقتله.
قال أبو الزعراء: ما سمعت عبد الله يذكر عن أهل الكتاب حديثاً غير
هذا.
الحديث الأول مسلسل بالحفاظ الأثبات إلى أبي الصادق الأزدي وقد قال
عنه ابن حجر في التقريب (8167): "صدوق من الرابعة" وقال في تهذيب
التهذيب (12/130): "قال يعقوب بن شيبة ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات"
وقال عنه أبو حاتم كما في الجرح والتعديل (8/200): "صدوق مستقيم
الحديث".
وقد روى أبو صادق هذا الحديث عن أخيه ربيعة بن ناجذ، وربيعة قال عنه
في التقريب (1918): "ثقة من الثانية".
والحديث وإن كان موقوفاً على عبد الله بن مسعود رضي الله عنه إلا أن
له حكم المرفوع، إذ ليس هذا مما يدرك بالعقل، بل هو من باب الإخبار بما سيحدث في
المستقبل، ثم هو موافق لما ثبت عن رسول الله ﷺ: "إنكم تقولون لا عدو ولا تزالون تقاتلون عدوا، حتى تقاتلون
يأجوج ومأجوج عراض الوجوه، صغار العيون، صهب الشعاف، من كل حدب ينسلون، كأن وجوههم
المجان المطرقة)
رواه أحمد (5/271)، وابن أبي عاصم في الآحاد (6/190) بإسناد صحيح.
وغيره من الأحاديث الأخرى الصحيحة التي ذكرناها في البحث في العدد
الأول من المشكاة، وكلها موافقة لحديث ابن مسعود رضي الله عنه.
وعبد الله بن مسعود رضي الله عنه قديم الوفاة، توفي في المدينة سنة
32هـ في عهد عثمان رضي الله عنه، ولم يشع في تلك الفترة رواية الإسرائيليات، بل
صرح أبو الزعراء عبد الله بن هانئ في الحديث التالي أنه لم يسمع عبد الله يحدث عن
أهل الكتاب إلا في ذلك الحديث، وقد ذكر عبد الله رضي الله عنه في حديثه ذلك أن أهل
الكتاب يقولون: كذا وكذا، مما يدل على تحريه وتوقيه فيما يرويه، فمع أنه لم يكن
يحدث عن أهل الكتاب بشيء إلا أنه عندما حدث عنهم صرح بأن هذا القول قول أهل
الكتاب، حتى لا يظن السامعون له أنه عن رسول الله ﷺ إذ مثله لا يدرك بالعقل.
وكل ذلك يؤكد أن حديثه الأول وإن كان موقوفاً إلا أنه له حكم الرفع.
وقد شهد التاريخ على صدق ما ذكره عبد الله بن مسعود رضي الله عنه،
وتحقق ما أخبر به بعد وفاته بـ 626 سنة، حيث تحركت القبائل والجيوش المغولية من
الشرق، وهم كما وصفهم عبد الله: عراض الوجوه، صغار العيون، كأن وجوههم المجان
المطرقة، وهذه هي الصفات الخلقية للجنس المغولي، وظلت تزحف هذه القبائل وتدمر كل
شيء أتت عليه، حتى أوثقوا خيولهم بشط الفرات، ودخلوا بغداد سنة 656هـ، وقتلوا
مليوني مسلم، وقتلوا الخليفة العباسي وآل البيت النبوي، والعلماء والصالحين، ولم
يحدث للعرب قبلها من الذل والهوان والصغار كما حدث لهم فيه، وقد أوثق المغول خيولهم
في العراق، ولم يستطيعوا أن يوثقوها بالشام، بل عصم الله الشام ومصر من طغيانهم،
وكانت هزيمتهم على يد الجيوش المصرية والشامية بعد أن بلغت القلوب الحناجر وظن
المسلمون بالله الظنونا.
وهنا أزيد الأمر جلاءً وتوضيحاً فأقول: في مجموعة الأحاديث التي في
الباب من الإشارات ما يلي:
(1) تحذير
النبي ﷺ من
شر قد اقترب وقوعه، وهذا الشر سينال العرب خاصة منه بلاء عظيم، وأنه يهلك فيه
الصالحون. بسبب كثرة الخبث وشيوع الفساد في المسلمين.
وهذا ما دل عليه حديث زينب بنت جحش -رضي الله عنها- مرفوعاً: "ويل
للعرب من شر قد اقترب "قالت: أنهلك وفينا الصالحون يا رسول الله؟! قال: نعم: إذا
كثر الخبث "والحديث في الصحيحين.
(2) وأن
هذا الشر سيكون على يد أمة عرفت في التاريخ بالشر والإفساد في الأرض، وهم يأجوج
ومأجوج، كما ورد في القرآن: ﴿إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي
الأَرْضِ﴾ [الكهف: 94].
والدليل على أنه سيكون على يد هذه الأمة: حديث زينب الآنف حيث جاء فيه:
"ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه" وحلق
بإصبعه تسعين.
ولولا أن بين هذا الشر الَّذِي اقترب، وخروج يأجوج ومأجوج ارتباطاً: لكان
ذكرهم في هذا الحديث لغواً وحشواً يصان كلام النبي ﷺ عنه.
ففيه إيماء إلى أن هذا الشر الَّذِي سيصيب العرب سيكون على يد هذه
الأمة، ويزيده وضوحاً وبياناً حديث خالد بن حرملة عن خالته مرفوعاً: "إنكم
تقولون لا عدو! ولا تزالون تقاتلون عدواً حتى تقاتلون يأجوج ومأجوج".
فدل ذلك على أن الشر الَّذِي اقترب هو قتال يأجوج ومأجوج للعرب، عندما
يكثر الخبث، وفي هذا الشر يهلك الصالحون.
ولا يقال: بأن هذا هو ما سيقع قبل قيام الساعة عندما يخرج يأجوج
ومأجوج على العالم كله، لأننا ذكرنا في البحث أن هذا الخروج لن يهلك فيه الصالحون،
بل ولن يحصل بين المؤمنين ويأجوج ومأجوج قتال أصلاً، إذ ثبت كما في حديث النواس بن
سمعان رضي الله عنه في صحيح مسلم (2137)، وحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عند ابن ماجة (1363)، أن الله يأمر عيسى أن يحرّز المؤمنين، وأنهم يتحصنون بحصونهم. فيسلم
المؤمنون من شرهم ويُهلك الله عز وجل يأجوج ومأجوج.
قال الإمام بدر الدين العيني: (المتوفي سنة855هـ) في (عمدة القاري شرح صحيح البخاري) (12/396) في
شرح حديث زينب بنت جحش الآنف الذكر: "قوله ويل للعرب.. "وإنما خص العرب
لاحتمال أنه أراد ما وقع من قتل عثمان بينهم، وقيل يحتمل أنه أراد ما سيقع من
مفسدة يأجوج ومأجوج، ويحتمل أنه أراد ما وقع من الترك من المفاسد العظيمة في بلاد
المسلمين وهم من نسل يأجوج ومأجوج) .
وهذه الاحتمالات الثلاث التي ذكرها العيني تدل على:
أ) أنه
لا يمانع من حمل حديث زينب على أمر قد وقع ومضى، وقد ذكر نحوه الحافظ ابن حجر في
فتح الباري (13/133) .
ب) أن
من الاحتمالات عنده أن يكون المراد ما وقع على يد الترك، ويقصد المغول عندما غزوا
المسلمين وأفسدوا في الأرض بالقتل والسلب وأنهم من نسل يأجوج ومأجوج.
ولا شك بأن الاحتمال الأول بعيد، إذ لا ارتباط بين قتل عثمان رضي الله
عنه وفتح ردم يأجوج ومأجوج، وإنما ذكرهم النبي ﷺ للإشارة إلى أن الهلاك والشر الَّذِي سيصيب العرب سيكون بسببهم؛
ولولا ذلك لكان ذكرهم في حديث زينب رضي الله عنها لغواً لا فائدة منه، وهو ما يجب
صون كلام النبي ﷺ عنه.
فلو قال قائل: "هلك العرب في هذا العصر، عَظُم شأن إسرائيل
"لتبادر إلى أفهام السامعين أن هلاك العرب مرتبط بعظم شأن إسرائيل، وأنه كائن
بسببه، ولو لم يقصد المتكلم هذا المعنى لكان ذكره لإسرائيل وعظم شأنها لغوا لا
معنى له ولا فائدة منه.
وقد ذكر النبي ﷺ أن هذا يكون إذا كثر الخبث وهو الفساد والرذيلة ولم يكثر ذلك في عصر
عثمان رضي الله عنه بل هذا الَّذِي كثر في القرن السابع.
وأما الاحتمال الثاني الَّذِي ذكره العيني وهو أن المقصود هو ما سيقع
في المستقبل عند خروج يأجوج ومأجوج قبل قيام الساعة ووقت ظهور علاماتها الكبرى،
فيمنع من هذا الاحتمال ما ذكرنا آنفاً من أن ذلك الخروج لا يحصل فيه قتال ولا هلاك
للمسلمين، بل يتحرزون مع عيسى عليه السلام، فلم يبق إلا الاحتمال الثالث، وهو حمل
هذه الأحاديث على ما جرى على يد المغول -وهم من نسل يأجوج ومأجوج- عندما غزوا أرض
الإسلام، وأكثروا فيها الفساد بالقتل والسلب والتدمير.
ج) أن
ذكر الإمام العيني للاحتمالين الأخيرين الذين ذكرهما آنفاً - دليل على أنه لا
تعارض ولا إشكال عنده أن يقال: إن ما فعله المغول – وهم عند العيني من نسل يأجوج
ومأجوج – في أرض الإسلام هو المقصود بحديث زينب، وهو خروج جزئي وأنه غير خروجهم
الَّذِي يكون من علامات الساعة، الَّذِي جاء ذكره في القرآن ﴿حَتَّى إِذَا
فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ﴾[الأنبياء: 96]
وجاء ذكره أيضاً في حديث النواس وأبي سعيد الخدري وغيرهم من الصحابة، ولم يرد
الإمام العيني مانعاً من خروج بعض يأجوج ومأجوج قبل خروج الدجال ونزول عيسى ثم
يخرجون الخروج الكبير بعد قتل الدجال..
قال الطاهر بن عاشور في تفسيره "التحرير والتنوير" (16/31):
"والذي يجب اعتماده أن يأجوج ومأجوج هم المغول والتتر، وقد ذكر أبو الفداء
(ابن كثير) أن مأجوج هم
المغول"، وقال في (جزء 17/148): "فقد كان زوال ملك العرب العتيد وتدهور
حضارتهم وقوتهم على أيدي يأجوج ومأجوج وهم المغول والتتار كما بين ذلك الإنذار
النبوي".
ونقل القاسمي في تفسيره (محاسن التأويل) (ص 4115) عن
بعض من وصفهم بالمحققين قولهم: "والغالب أن المراد بخروجهم هذا: خروج المغول
التتار وهم من نسل يأجوج ومأجوج، وهو الغزو الَّذِي حصل منهم للأمم في القرن
السابع الهجري وناهيك بما فعلوه إذ ذاك في الأرض بعد انتشارهم فيها من الإفساد
والنهب والقتل والسبي والراجح أن السد كان موجوداً بإقليم داغستان التابع الآن
لروسيا".
ونقل أيضاً عن (صفة الاعتبار): "وحينئذ يكون الفساد الموعود به
في النصوص من أولئك القوم: هو ما وقع من التتر من الفساد في الممالك كما في عهد
جنكيزخان، وما عاث هو وأصحابه في الدنيا".
وأعود إلى بيان ما في الأحاديث من إشارات:
(3) وفي
هذه الأحاديث بيان صفات هذه الأمة الخلقية التي ستقاتل المسلمين وأنهم: عراض
الوجوه، صغار العيون، كأن وجوههم المجان المطرقة (أي التروس التي تطوق بالجلود) .
هكذا جاء وصفهم في حديث خالد بن حرملة، وحديث عمرو بن تغلب رضي الله
عنه في صحيح البخاري (2769)، وحديث عبد الله بن مسعود السابق ذكره.
(4) ولا
شك بأن هذا الوصف البليغ هو صفة لشعوب وأمم شمال وشرق آسيا، وهذه الشعوب في الشرق
والشمال الشرقي من الأرض.
وجاء في حديث ابن مسعود رضي الله عنه: "يأتيكم قوم من قبل
المشرق" وهو الموافق لظاهر القرآن أيضاً ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ
الشَّمْسِ﴾[الكهف: 90].
(5) وجاء
في حديث ابن مسعود رضي الله عنه أيضاً أنهم يوثقون خيولهم بشط الفرات، وهذه إشارة
وكناية عن استيلائهم على أرض العراق، وسيطرتهم عليه.
هذه خمس إشارات في هذه الأحاديث، وهي: حديث زينب، وخالد بن حرملة عن
خالته، وحديث عمرو بن تغلب، وحديث ابن مسعود رضي الله عنه.
ومن نظر في هذه الأحاديث بعين بصيرته، وأنصف من نفسه: علم يقيناً بأن
المقصود ما حصل للمسلمين على يد المغول سنة 656هـ.
فهم الذين جاؤوا من الشرق، وهم عراض الوجوه، صغار العيون، وهم من نسل
يأجوج ومأجوج، وهم الذين قاتلوا المسلمين في عقر دارهم، واستولوا على أرضهم وسفكوا
دماءهم بما لاَ مثيل لَهُ في تاريخ المسلمين، وهم الَّذِين أصاب العرب مهم خاصة شر
عظيم، وهم الذين ربطوا وأوثقوا خيولهم بشط الفرات قاهرين غالبين.
هذا وكل ما فعلوه عندما خرجوا على أمم الأرض في القرن السابع من قتل
وسلب وتدمير وسيطرة على الشرق والغرب والجنوب، حيث سيطروا على الصين، وأواسط آسيا
إلى أن استولوا على بغداد، وكانت يومئذ عاصمة الدنيا فقتلوا عامة أهلها، وتوغلوا
غرباً في أوروبا وسيطروا على مناطق شاسعة منها.
كل هذا مع أنه لم يفتح من شرهم على الناس إلاَّ مقدار تحليق السبابة
بالإبهام كما في حديث زينب -رضي الله عنها- إن كانت هذه "إشارة إلى فتح أبواب
الشر والفتن، وإن هذه استعارة محضة، وضرب مثل "كما ذكره ابن كثير في البداية
(2/102) نقلاً عن بعضهم. فكيف إذا وقع خروجهم الأخير الَّذِي هو من علامات قرب
الساعة؟!
وهذا لا ينافي ما جاء في الأحاديث الصحيحة عن قتال المسلمين للترك
والخوز والكرمان وغيرهم، إذ حصل فعلاً هذا القتال، وفتح المسلمون أرضهم ولم يحصل
منهم ما حصل من قتال يأجوج ومأجوج الذين أوقعوا بالمسلمين والعرب خاصة شر وقعة
عرفها العرب، فلا تحمل هذه الأحاديث على تلك، ولا يفسر بعضها ببعض، إذ كل أمة
تختلف عن الأخرى اسماً ووصفاً وفعلاً.
- وهذه بعض الأسئلة والاعتراضات من بعض الإخوة الأفاضل أجيب عنها
بإيجاز:
الأول: إذا كان لاَ ارتباط بين خروج يأجوج ومأجوج قبل قيام الساعة
وانهدام السد، فما معنى الآية: ﴿قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ
وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا، وَتَرَكْنَا
بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ﴾؟
والجواب: قد ذكرت شيئاً منه في البحث، وسأزيده بياناً هنا فأقول:
اختلف في الضمير في قوله (جعله)، هل يعود على الجبل؟ أم على السد؟
قال قتادة كما في تفسير ابن جرير (8/289): "لاَ أدري الجبلين
يعني به أم ما بينهما"..
فهذا قتادة من أئمة التابعين في التفسير والحديث لاَ يجزم فيه بشيء،
إذ يحتمل أن يعود الضمير على الجبل الَّذِي بني فيه السد، وأن الله يجعله دكاء يوم
القيامة، كما في قوله تعالى: ﴿وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا
دَكَّةً وَاحِدَةً﴾ [الحاقة: 14] ويؤيد هذا الاحتمال:
(1) سياق الآيات، حيث جاء بعده قوله عز وجل: ﴿وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ﴾
أي يوم جعل الجبال دكاء، ويوم وقوع وعد الله الحق، ﴿ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ﴾ أي يختلط
بعضهم ببعض، لهول المطلع في ذلك اليوم.
قال ابن جرير في تفسيره (8/289): "يقول تعالى ذكره: وتركنا
عبادنا يوم يأتيهم وعدنا الَّذِي وعدناهم بأنا ندك الجبال وننسفها عن الأرض نسفا،
فنذرها قاعا صفصفا، بعضهم يموج في بعض".
ثم قال سبحانه وتعالى بعده مباشرة ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ
فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا﴾ أي وبعد دك الجبال، ووقوع الوعد الحق بقيام يوم القيامة،
واضطراب الخلائق واختلاطهم، ينفخ في الصور، ويجمع الخلق في صعيد واحد للحساب
والجزاء.
قال الألوسي في تفسيره (روح المعاني) (16/42): (فإذا جاء وعد ربي)
المراد من ذلك يوم القيامة، وقيل وقت خروج يأجوج ومأجوج، وتعقب بأنه لاَ يساعده
النظم... (وتركنا بعضهم) ضمير الجمع المجرور عند المحققين للخلائق) واستبعد
الألوسي أن يعود الضمير على يأجوج ومأجوج.
وقال البيضاوي في تفسيره (401) بعد أن ذكر أن المعنى يموج الخلائق
بعضهم ببعض يوم القيامة قال: "ويؤيده ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ﴾".
(2) قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ﴾ أي
تركنا الخلق يموج بعضهم ببعض يوم دك الجبال ووقوع وعد الله الحق كما قال ابن جرير،
ثم قال سبحانه ﴿وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا﴾.
ويوم عرض الكافرين على جهنم هو يوم النفخ في الصور، وهو أيضاً يوم موج
الخلائق بعضهم ببعض لشدة هول ذلك اليوم، وهو أيضاً يوم دك الجبال ونسفها، فـ
(يومئذ) في الآيتين المقصود به يوم القيامة، وهو يوم واحد كما هو معلوم، فيه تدك
الجبال وتنسف، وفيه تزلزل الأرض وتنشق، ويموج الخلائق بعضهم في بعض حيارى سكارى
وما هم بسكارى، وفيه ينفخ في الصور، ويجمع الخلق في صعيد واحد، وفيه تعرض جنهم على
الكافرين عرضا.
(3) أن الوعد المذكور في قول ذي القرنين: ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ
رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا﴾ المقصود به يوم القيامة
على الراجح، كما هو قول ابن جرير الطبري وقال القرطبي في تفسيره (11/63) " ..
(فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي) ..أي يوم القيامة، وقيل وقت خروجهم".
وهذا اختيار منه للقول الأول.
ويؤيد ذلك: أن الوعد الحق إذا أطلق في القرآن يراد به غالباً يوم
القيامة، يوم البعث والحساب والجزاء، وهو الَّذِي كفر به كثير من الخلق، ويؤيده
أيضاً ذكر هذا الوعد في قصة يأجوج ومأجوج في سورة الأنبياء: ﴿حَتَّى إِذَا
فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ،
وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ﴾ ففي هذه الآية أن انفتاح يأجوج ومأجوج وخروجهم
على أهل الأرض هو قبل الوعد الحق -وهو يوم القيامة- وقريب منه، إذ خروجهم من
علامات الساعة الكبرى. فقول ذي القرنين: ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ
دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا﴾ هو والله أعلم المذكور في الأنبياء: ﴿وَاقْتَرَبَ
الْوَعْدُ الْحَقُّ﴾.
(4) وقد ذكر القرطبي في تفسيره (11/63) قراءة ابن أبي عبلة: (هذه رحمة
من ربي)، فهذه إشارة -والله أعلم- من ذي القرنين لسلسلة الجبال الشاهقة التي تكوّن
حاجزاً طبيعياً يمنع غارات يأجوج ومأجوج بمجرد سد المضيق بينهما، إذ لولا وجود هذه
الجبال لما كان بالإمكان إقامة سد يمنع ويدفع شر هذه القبائل الهمجية عن القبائل
الضعيفة جنوب غرب السد، ويؤيده: أن ثناء ذي القرنين على صنع الله الطبيعي، وحمده
عليه: أبلغ من الثناء على ما شيده هو وباشر صناعته، ولا شك أن نعمة الله عليهم
بالجبال العظيمة التي تمنع كثيراً من الشر عنهم أعظم من نعمة السد الَّذِي شيده ذو
القرنين وإن كان هذا أيضاً من رحمة الله عز وجل بهم ونعمته عليهم.
هذا كله إذا كانت الإشارة إلى الجبل أو الجبال، والضمير يعود عليه أو
عليها، أما إن كانت الإشارة إلى السد والردم والضمير في (جعله) يعود عليه، فالمعنى
والله تعالى أعلم ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي﴾ أي يوم القيامة ﴿جَعَلَهُ﴾ أي جعل
الله سبحانه وتعالى السد والردم ﴿دَكَّاءَ﴾ أي مستوياً بالأرض ﴿وَكَانَ وَعْدُ
رَبِّي حَقًّا﴾ أي بإقامة الساعة ﴿وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي
بَعْضٍ﴾ أي تركنا الخلائق يوم القيامة يموج ويختلط بعضهم ببعض من شدة أهوال ذلك
اليوم ﴿فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا﴾ في صعيد واحد للحساب والجزاء ﴿وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ
يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا﴾.
والأدلة الثلاثة الأول المذكورة في الاحتمال الأول صالحة للاستدلال
بها في هذا الاحتمال أيضاً.
ويكون ذو القرنين قصد من ذلك إعلام هذه الأمم الضعيفة أن هذا السد
والردم العظيم الَّذِي استغرق بناؤه سنوات طويلة- قيل أكثر من عشر سنين حتى ساوى
به بين صدفتي الجبل وسد المضيق – هذا السد يوم القيامة يصير دكاء متساوياً بالأرض
دلالة على عظمة والله وقدرته، حتى لاَ تعتقد هذه الأمم بذي القرنين ما لاَ ينبغي
اعتقاده فيه، إذا رأوا عظمة ما صنعه لهم، فأعلمهم أن قدرة الله أعظم، وأنه يساوي
به الأرض يوم القيامة كحال الجبال الأخرى التي ينسفها الله نسفا فيذرها قاعاً
صفصاً لاَ ترى فيها عوجاً ولا أمتا.
قال القاسمي في (محاسن التأويل) (ص 4113): "قال بعض المحققين..
أما قوله ﴿هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ
دَكَّاءَ﴾ فمعناه: أن هذا السد رحمة من الله بالأمم القريبة منه لمنع غارات يأجوج
ومأجوج عنهم، ولكن يجب عليهم أن يفهموا انه مع صلابته ومتانته لاَ يمكن أن يقاوم
مشيئة الله القوي القدير فإن بقاءه إنما هو بفضل الله.
فمراد ذي القرنين بهذا القول تنبيه تلك الأمم على عدم الاغترار بمناعة
هذا السد أو الإعجاب والغرور بقوتهم فإنه لاَ شيء يذكر بجانب قُوَّةَ الله، فلا
يصح أن يستنتج من ذلك أن هذا السد يبقى إلى يوم القيامة، بل صريحه أنه إذا قامت
القيامة في أي وقت كان، وكان هذا السد موجوداً: دكه الله دكا، وأما إذا تأخرت
فيجوز أن يدك قبلها بأسباب أخرى كالزلازل، إذ قَدم عهده، وليس في الآية ما ينافي
ذلك) أهـ.
قلت: أو يكون مقصود ذي القرنين إعلامهم بعظمة هذا السد، وأنه سيظل
باقياً على مر العصور إلى أن يدك يوم القيامة، وأنه لاَ يُدك قبل ذلك اليوم
للإشارة إلى عظمة هذا البناء، وهذا لاَ ينافي انفتاح جزء منه، وانتهاء صلاحيته
كحاجز، ولم يقصد ذو القرنين أنه سيظل مانعاً من خروج يأجوج ومأجوج إلى وقت خروجهم
قبل قيام الساعة واقترابها في علاماتها الكبرى.
والدليل على ذلك:
(1) ما ثبت بالأحاديث الصحيحة أن يأجوج ومأجوج سيخرجون على العالم
خروجاً جزئياً قبل خروجهم الأخير، وفيه يقاتلون المسلمين والعرب منهم خاصة، ويهلك
الصالحون، ويربطون خيولهم بشط الفرات، وهذا ما لن يحدث في خروجهم الأخير إذ يأمر
الله عيسى عليه السلام أن يحرز المؤمنين فلا يقع قتال أصلاً.
(2) أنه لاَ يشترط لخروج يأجوج ومأجوج على الأمم التي دون السد أن يدك
السد كله ويتساوى بالأرض، بل يكفي لخروجهم أن تفتح فيه فرجة وثغرة تمر معها الجيوش
أو تنحسر شواطئ البحر عن الجبال – كما حصل فعلاً- ويوجد طريق آخر، وعلى كل حال
فانعدام صلاحية السد من أن يكون مانعاً وحاجزاً لاَ يقتضي أن يدك بالكامل ويساوى
بالأرض، بل انهدام جزء منه كاف لخروجهم لضخامة السد وعظمته، وما زال هذا السد
قائماً إلى يومنا هذا في تلك الأرض.
(3) أنه ثبت بالأحاديث الصحيحة أن الله يفتح الردم تدريجياً كما في
رواية البخاري التي أوردناها في البحث (فتح الله من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه)
وحلق بأصبعيه السبابة والإبهام.
وفَتْحُ الله للردم يكون بالأسباب الكونية الطبيعية من عوامل التعرية
كالأمطار والرياح والزلازل ونحوها، فلا يزال الردم ينفتح شيئاً فشيئاً حتى يفقد
صلاحيته كحاجز، ويبقى قائماً حتى يوم القيامة فيدكه الله دكا دكا، فيتساوى بالأرض
فبان الفرق بين الانفتاح الَّذِي ورد ذكره في الأحاديث، والدك الَّذِي ورد ذكره في
القرآن، فالأول حصل في عصر النبي ﷺ ولم يزل يزداد حتى خرج يأجوج ومأجوج على العالم في القرن السابع
ودمروا الحضارة الإنسانية، والثاني وهو الدك إنما يقع دفعة واحدة يوم القيامة.
ولا شك بوجود الفرق اللغوي بين معنى انفتح ومعنى اندكّ، وكذلك هناك
فرق بين السياق الَّذِي ورد فيه ذكر الانفتاح، والسياق الَّذِي ورد فيه ذكر الدكّ.
وكل ما سبق ذكره يدل على أنه لاَ يوجد في الآيات القرآنية أو الأحاديث
النبوية الصحيحة ما يدل دلالة ظاهرة على ارتباط خروج يأجوج ومأجوج باندكاك السد
الوارد ذكره في سورة الكهف، إذ الدك يظهر أنه يحصل لما تبقى من أجزاء السد القائمة
عند قيام الساعة، ووقوع الوعد الحق، بينما خروجهم يحصل قبل ذلك مرات عديدة بعد
انفتاح جهة من السد، أو وجود طرق أخرى، ثم لاَ يزالون يخرجون على الناس ويفسدون في
الأرض كما كانوا يفعلون قبل بناء السد إلى أن يحين وقت خروجهم الأخير الَّذِي هو
من علامات يوم القيامة.
هذا بالنسبة لآيات سورة الكهف الواردة في هذا الموضوع.
أما آية سور الأنبياء: ﴿حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ
وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ، وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ﴾[97].
فهذا بلا خلاف في خروجهم الأخير لقوله: ﴿وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ
الْحَقُّ﴾ وهو يوم القيامة، وخروج يأجوج ومأجوج من علامتها الكبرى، وقد فسرت
الأحاديث النبوية هذا الخروج، وقد استشهد النبي ﷺ بهذه الآية في ذكره لقصة خروجهم الَّذِي يكون في آخر الزمان، فإذا
كان الأمر كذلك فما معنى الفتح هنا؟
ذكر كثير من المفسرين أن المعنى: حتى إذا فُتح سد يأجوج ومأجوج، على
تقدير محذوف دل عليه السياق، اعتقاداً منهم أن يأجوج ومأجوج، لاَ يخرجون على
العالم البتة إلاَّ في خروجهم الأخير في علامات الساعة الكبرى، وقد أثبتُ بطلان
هذا التصور بأدلة كثيرة في بحث (أثر فيه نظر)، وأثبتُ أن السد لم يعد مانعاً لهم
منذ خروجهم الأول، وإنما المانع لهم هو ما يقدره الله عز وجل من الصوارف والأسباب
الكونية حتى توجد الأسباب الدافعة لخروجهم، كأن تضيق بهم أرضهم، أو تقل عليهم
معايشهم فيخرجون غزاة للعالم، تماماً كما كان حالهم قبل بناء السد، إذ كانوا قبل
بناء ذي القرنين للسد يعيشون في أرضهم، وكانوا باستطاعتهم أن يخرجوا من أرضهم إلى
جهة الأمم التي دون السد، خاصة وأنهم أقوياء، وأهل بأس وحرب، كما جاء وصفهم في
القرآن ﴿يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ﴾ أي بالغارات والغزوات
المتقطعة بحسب حاجتهم إليها، فإذا لم يكن عدم وجود السد قبل ذي القرنين سبباً
دافعاً لهم للخروج على العالم خروجاً نهائياً من أرضهم وإنما يخرجون في فترات
زمنية متفاوتة بحسب حاجتهم، فكذلك بعد انفتاح السد إلى أن يهيأ الله عز وجل
الأسباب الكونية التي تبعثهم على العالم قبل قيام الساعة.
وعليه فقوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ﴾ ليس المعنى: حتى
إذا فتح سد يأجوج. . الخ.
بل المعنى والله أعلم: حتى إذا فتح الله يأجوج ومأجوج على العالم ..
الخ ويوضحه الأحاديث الواردة في الباب مثل "يبعث الله يأجوج ومأجوج" على
الناس ﴿وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ﴾، ويخرج يأجوج ومأجوج.
فالفتح هنا بمعنى: الخروج والانبعاث على الناس لقتالهم. ويؤيد ذلك:
(1) أنه
لا حاجة فيه إلى تقدير محذوف كما في القول الأول فهو أولى.
(2) أنه يناسبه ما بعده وهو قوله: ﴿وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ﴾
فيكون المعنى: فإذا فتح الله عز وجل وبعث وأخرج يأجوج ومأجوج حال كونهم في
انفتاحهم وانبعاثهم من كل حدب ينسلون..الخ.
(3) أن
الفتح يأتي بمعنى الكشف كما في اللسان (2/537) وخروج الشيء وانبعاثه وانفتاحه وانكشافه كلها فيها معنى الظهور.
(4) أن
النبي ﷺ قال:
"يبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون" وفي حديث: "يخرج
يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون" فهذا تفسير لآية: ﴿حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ
يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ﴾، ففسر النبي ﷺ لفظ الفتح الوارد في الآية بأنه البعث والإخراج، وهذا واضح بحمد
الله، ويؤيده أنه لم يأت ذكر للسد قط في هذه الأحاديث.
(5) أن
الفعل المبني للمجهول أُسند إلى تاء التأنيث (فتحت) فترجح أن المراد: أمة وقبائل يأجوج ومأجوج لا السد والردم.
ويغني عن هذا كله ما ثبت بالأحاديث الصحيحة أن السد قد انفتح قبل
خروجهم الأخير كما فصلناه سابقاً والله تعالى أعلم.
ثم إن لفظ (يخرج يأجوج ومأجوج) و(يبعث الله يأجوج ومأجوج) و(فتح الله يأجوج ومأجوج) لا يعني أنهم كانوا في أرضهم معزولين عن العالم، وأن السد يمنعهم من
الاتصال بهم إلى قبل قيام الساعة، كما هو ظاهر حديث قتادة عن أبي رافع عن أبي
هريرة، الَّذِي أثبتنا بطلانه بالأدلة، وأنه من قصص كعب الأحبار وإسرائيلياته التي
كان يقصصها على الناس، وكان بعض الصحابة ربما حفظوها وحدثوا بها لعلمهم بإذن النبي
ﷺ
بذلك: "وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج" غير أن هؤلاء الصحابة y كانوا يحدثون بها ونصب عينيهم قول النبي ﷺ كما في البخاري (4215): "لا تصدقوا أهل الكتاب ولا
تكذبوهم" ثم جاء من بعدهم فظن أن هذا من تفسير الصحابي المأخوذ عن النبي ﷺ فقبلوه وأخذوا به واعتقدوه.
والمقصود أن لفظ (الخروج) و(البعث) و(الفتح) لا يدل على شيء من ذلك، بل الأول مثل قوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ
أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران: 110] مع أن العرب لم يكونوا في معزل عن
أمم الأرض لا يتصلون بهم ولا يصلون إليهم.
والثاني مثل قوله تعالى: ﴿بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي
بَأْسٍ شَدِيدٍ﴾ [الإسراء: 5] وهذا في قصة بني إسرائيل عندما بعث الله عليهم
بختنصر البابلي من أرض العراق وسلبهم ملكهم وسباهم وأحرق مسجدهم، وقيل غير ذلك.
والمقصود أن بعث يأجوج على الأمم كبعث بختنصر على بني إسرائيل أي
أزّهم ودفعهم عليهم.
وكذا فتح يأجوج ومأجوج على العالم وإظهارهم لا يعني أنهم في مكان لا
يتصلون بأحد حتى يأتي يوم خروجهم، إذ لا دلالة في اللفظ على ذلك، لولا ما علق في
أذهان بعض المفسرين وشراح الحديث من الإسرائيليات التي صورت الأمر على خلاف ظواهر
الآيات من أنهم معزولون عن العالم، وهم يعملون ليل نهار، ويحفرون كل يوم إلى أن
يخرجوا على الناس، وهذا ما لا تعضده الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الصحيحة
وقد نقل القاسمي في تفسيره (محاسن التأويل ص 4115) عن بعض المحققين قوله: "وأما قوله ﴿حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ
يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ﴾ فالمراد منه خروجهم بكثرة وانتشارهم في الأرض".
السؤال والاعتراض الثاني: إذا قلنا بأن المغول الذين خرجوا على العالم
وقاتلوا المسلمين، وأسقطوا عاصمتهم بغداد: هم من نسل يأجوج ومأجوج، وأنهم
المقصودون بحديث "ويل للعرب من شر قد اقترب" و"لا تزالون تقاتلون
عدواً حتى تقاتلون يأجوج ومأجوج عراض الوجوه صغار العيون كأن وجوههم المجان
المطرقة".
فمعنى ذلك: أنهم يسلمون، إذ معلوم أن المغول بعد غزوهم للعالم
الإسلامي، وتدميرهم للحضارة الإسلامية، دخلوا الإسلام وصاروا مسلمين، وهذا ينافي
وصف القرآن لهم "مفسدون في الأرض" وحديث "يا آدم أخرج بعث النار من
كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين وواحد في الجنة. قالوا يا رسول الله وأينا الواحد؟
فقال: "أبشروا فإن منكم رجلاً ومن يأجوج ومأجوج ألفاً"([1]).
فالجواب: أنه لا دليل من القرآن أو السنة على أن هذه الأمة لا يؤمن
منها أحد، غاية ما هنالك أنهم أهل إفساد وشر، ويغلب عليهم الظلم والكفر، وكذلك
كانوا في عصر ذي القرنين يفسدون في الأرض بالقتل والسلب، وليس في الآية أنهم لا
يؤمنون أبداً ولا يسلم منهم أحد إلى يوم القيامة، فهذا ما لا تدل عليه الآية بأي
وجه من وجوه الدلالة، وقد قال الله عن بني إسرائيل: ﴿لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ
مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا﴾ [الإسراء: 4] مع أنه وجد فيهم
الصالحون والمؤمنون في كل عصر، وإن كانت الغلبة فيهم للمفسدين والغالب عليهم
الإفساد، لما طبعوا عليه من الشر، ولما أشربته قلوبهم من الظلم والكفر. وكذلك حال
يأجوج ومأجوج.
وأما الأحاديث الصحيحة فإنها إنما أخبرت عما سيحدث منهم في المستقبل
إذا خرجوا في آخر الزمان قبل قيام الساعة، وأنهم يفسدون في الأرض بالقتل والسلب،
وليس فيها أبداً أنهم لا يؤمن منهم أحد منذ خلقهم الله إلى يوم القيامة.
أما حديث: "يا آدم أخرج بعث النار" فليس فيه دلالة على أنه
لا يؤمن منهم أحد، وإنما يدل على كثرة عددهم، كما جاء في نفس الحديث وفي بعض
الروايات: "فإنكم في أمتين ما كانتا في شيء إلا كثرتاه يأجوج ومأجوج
"فدل هذا الحديث على كثرة عددهم، وغلبة الكفر عليهم وليس فيه أي دلالة على
أنه لا يؤمن منهم أحد البتة.
ويزيده وضوحاً أن هاتين الأمتين من ذرية آدم، بل ومن ذرية نوح عليهما
السلام، وهما أكثر أمم أهل الأرض عدداً، وقد قال سبحانه وتعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ
أُمَّةٍ إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ﴾ [فاطر: 24].
قال قتادة كما في (تفسير ابن جرير 10/408): "كل أمة كان لها
رسول"وقال ابن كثير في تفسيره (3/560): "أي وما من أمة خلت من بني آدم
إلا وقد بعث الله تعالى إليهم النذر وأزاح عنهم العلل".
والآية جاءت بصيغةٍ مِن أظهر صيغ العموم فـ (أمة) نكرة في سياق النفي، و(إن) بمعنى (ما) النافية،
فتكون ظاهرة في العموم، ثم دخلت عليها (من) فصارت نصاً في العموم.
وما دام الأمر كذلك فلا شك بأن يأجوج ومأجوج قد خلت فيهم النذر من
قومهم، سواء من الرسل أو من أتباعهم، قال البيضاوي في تفسيره (577): "خلا
فيها نذير من نبي أو عالم ينذر عنه".
ومثله قوله تعالى: ﴿وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾[الرعد: 7] ومعلوم أن (كل) من صيغ العموم.
وقوله تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا﴾
[الإسراء: 15] فلا يعذب الله عز وجل أمة إلا بعد إرسال الرسل إليهم: ﴿وَلا
يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ [الكهف: 49]، وهذا كله قبل إرسال النبي ﷺ أما بعد إرساله إلى الناس كافة، وإلى الخلق عامة إنسهم وجنّهم، فقد
صارت أمة يأجوج ومأجوج من أمة الدعوة التي بعث لهم النبي ﷺ، فهم في عموم أمته كغيرهم من ذرية آدم، وكل خطاب ورد بصيغة العموم في
القرآن فهم داخلون فيه.
وقد قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ
فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ
عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا﴾ [الإسراء: 70) .
وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ
وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ
عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: 13].
فهذه نصوص قطعية لا يمكن بأي حال من الأحوال تأويلها.
وقد روى ابن أبي حاتم في تفسيره كما في الدر المنثور (4/453) عن السدي الكبير قال: قال علي رضي الله عنه إن يأجوج ومأجوج خلف السد،
ثم ذكر حديثاً يشبه حديث كعب الأحبار وفيه: "فلا يزالون كذلك حتى يولد فيهم
مولود مسلم فإذا غدوا .. قال لهم قولوا بسم الله..".
وهذا وإن كان لا يثبت عن علي رضي الله عنه إذ لا يثبت سماع السدي منه،
فالرواية مرسلة، على أننا لم نقف على إسناد ابن أبي حاتم إلى السدي أيضًا، وهو أيضًا
متكلم فيه. [تهذيب الكمال: 3/135].
أقول مع أن هذا لا يثبت عن علي رضي الله عنه غير أنه مروي عن السدي
وقد رواه ابن أبي حاتم وبلغهم أن فيهم من يسلم كما في هذا الأثر.
وقال الحافظ ابن حجر في الفتح (13/135): "وأخرج ابن مردويه من
حديث حذيفة نحو حديث أبي هريرة وفيه: "فيصبحون وهو أقوى منه بالأمس (أي السد) حتى يسلم رجل منهم فيقول المؤمن غداً نفتحه إن شاء الله"،
والصحيح أن هذا هو حديث قتادة عن أبي رافع عن أبي هريرة "إن يأجوج ومأجوج
يحفرون السد".
وقد أخرجه ابن مردويه من طريق سعيد بن بشير عن قتادة عن صاحب له عن
أبي سعيد الخدري، كما في النكت الظراف (10/392)، فوهم سعيد على قتادة، والصحيح ما
رواه الحفاظ من أصحاب قتادة وقد قال ابن حجر بعد نقله السابق: "وسنده ضعيف
جداً".
وقد نقل الحافظ كلام ابن العربي في فوائد حديث أبي هريرة الَّذِي فيه:
"قال الَّذِي عليهم ارجعوا فستخرقونه غداً إن شاء الله واستثنى".
فذكر ابن العربي من فوائده: "وأن فيهم من يعرف الله ويقر بقدرته
ومشيئته"
وفي عمدة القاري للعيني (12/ 396): "وفي تفسير مقاتل: "يغدون
إليه في كل يوم فيعالجون (أي يحفرونه) حتى يولد فيهم رجل مسلم... الخ".
وقد قال العيني في معنى حديث "ويل للعرب من شر قد اقترب": ويحتمل
أنه أراد ما وقع من الترك (أي التتار) من المفاسد العظيمة في بلاد المسلمين وهم من نسل يأجوج ومأجوج
"والعيني متأخر (توفي سنة 855هـ) أي بعد الغزو التتاري بمائتي سنة، ويعلم أنهم أسلموا بعد غزوهم للعالم
الإسلامي، فلم ير فيما ذكره من احتمال: ما يتعارض مع الأحاديث التي تصفهم
بالإفساد، ولم يفهم منها أنه لا يسلم منهم أحد البتة.
وأصرح من ذلك قول ابن كثير في تفسيره (3/204) في آية سورة الأنبياء: "قد قدمنا أنهم من سلالة آدم عليه السلام
بل هم من نسل نوح أيضاً من أولاد يافث أبي الترك، والترك شرذمة منهم تركوا من وراء
السد الَّذِي بناه ذو القرنين".
وقال الحفاظ في الفتح (6/476): "ذكر ابن هشام: أن أمة منهم آمنوا
بالله فتركهم ذو القرنين لما بنى السد بأرمينية فسموا الترك لذلك".
فهذه الأقوال من ابن كثير وقبله ابن هشام تثبت أنهم يذهبون إلى أن
الترك هم من أمة يأجوج ومأجوج، غير أنهم آمنوا، فدل على أنهم لا يرون ما يمنع من
أن يوجد فيهم من يؤمن ولا دليل يدل على نفي ذلك.
هذا بعض ما وقفت عليه في هذه القضية ولم أستقصِ والله تعالى أعلم.
الاعتراض الثالث: هذا القول الَّذِي ذكرته لم تسبق إليه، ويخالف ما
عليه أهل السنة، والأولى أن تجمع بين الأدلة بدل تضعيف بعضها!
الجواب: أن هذا القول هو ما تدل عليه ظواهر النصوص من القرآن والسنة،
إذا أبعدنا الأحاديث الضعيفة والروايات الإسرائيلية التي أدت إلى صرف هذه الأدلة
عن ظاهرها والجمع إنما هو بين الأدلة الصحيحة، ولا يسوغ الجمع بين الأدلة الصحيحة
والأدلة الضعيفة، إذ قد يفضي هذا الجمع إلى تأويل الأدلة الصحيحة بدعوى الجمع،
وهذا في حد ذاته ترجيح للأدلة الضعيفة من حيث إعمال ظواهرها في التقييد والتخصيص
ونحوه على حساب الأدلة الصحيحة بدعوى الجمع بينهما وهو قول باطل.
وأما أهل السنة فإنهم لا يذكرون في كتب السنة والاعتقاد إلا مجرد
الإيمان بخروج يأجوج ومأجوج على ما ثبت بالأدلة، ولا يدخلون في تفصيل ذلك، وهذا ما
نؤمن به -بحمد الله- وأن هذه الأمة سوف تخرج من أرضها وتغزو العالم كله قبل قيام
الساعة، وهذا الخروج من علاماتها الكبرى، ويجري منهم ما ذكره النبي ﷺ في الأحاديث الصحيحة ويتحصن عيسى عليه السلام ومن معه من المؤمنين ثم
يدعو عليهم فيهلكهم الله عز وجل بدعائه وكل ذلك نثبته ولا نتأول شيئاً من ذلك، ولا
نصرفه عن ظاهره إلا بدليل.
وأما مخالفة العلماء فالحجة بالإجماع القطعي وما من جزئية في هذا
البحث إلا أقمنا عليها الأدلة من الكتاب والسنة، واستشهدنا ببعض كلام أهل العلم،
فقد أثبتنا أن هذه الأمة من ذرية آدم ومن ذرية نوح، وأنهم على هذه الأرض يعيشون
عليها كما تعيش باقي الأمم، وأنهم في الشرق وهم خلف جبال أرمينيا وأذربيجان كما
نقل عن ابن عباس وغيره من السلف، وكانوا يغيرون على من كان دون هذه الجبال من
الأمم الضعيفة البدائية، ويفسدون في الأرض فاشتكى هؤلاء إلى ذي القرنين أذيتهم،
وطلبوا منه أن يبني سداً في مضيق بين الجبلين هو الطريق الوحيد بين الأمتين، وقد
ثبت بالأدلة التاريخية والجغرافية القديمة والحديثة أن هذه الجبال هي سلسلة جبال
القوقاز طولها (1200 كم) ينتهي
طرف هذه السلسلة شرقاً داخل شواطئ بحر قزوين وغرباً البحر الأسود بارتفاع (5000م)، لتكوّن بذلك حاجزاً طبيعياً من بحرين بينهما سلسلة جبال شاهقة لا يوجد
فيها طريق سوى مضيق (داريال)، وهذه
المنطقة هي التي قال عنها ابن عباس وغيره هي جبال أرمينيا وأذربيجان، فلم يتبق سوى
هذا المضيق فبناه ذو القرنين وردم فيه الحجارة والحديد حتى إذا ساوى بين صدفتي
الجبل أفرغ عليه النحاس المذاب فلا يستطيع أحد نقبه ولا تسلقه لعظمة بنائه.
وظل هذا السد والردم رحمة من الله بمن دون السد طوال نحو ألف سنة
توقفت خلالها الهجمات والهجرات من شمال السد إلى جنوبه طوال هذه الفترة كما أثبتت
الدراسات التاريخية، حتى كان أول ظهورها في القرن السابع الهجري بعد أن فقد السد
صلاحيته وستظل هذه الأمم مصدر خطر كما كانت قبل ذي القرنين وبناء السد حتى يحين
موعد خروجها على العالم قبل قيام الساعة.
وتمتاز هذه الأمة بالكثرة العددية الهائلة، وغلبة الكفر عليها، وجهلها
بالأديان السماوية، وشدة بأسها، وهم كما جاء وصفهم عراض الوجوه صغار العيون، فطس
الأنوف كأن وجوههم المجان المطرقة، ولا شك بأن القبائل المغولية هي جزء من هذه
الأمم وأرضهم خلف جبال القوقاز في هضبة منغوليا، فإذا انضم إليهم باقي قبائل وشعوب
أمتي يأجوج ومأجوج من الصين وغيرهم من أمم الشرق الأسيوي فإنهم حينئذ سيكونون مصدر
خطر حقيقي للعالم كله، وهذا قبل قيام الساعة، ولا يعلم موعده إلا الله عز وجل: ﴿حَتَّى
إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ،
وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ﴾..
وقد اختلف العلماء وأهل التفسير: فذهب بعضهم إلى اعتقاد أن خروج يأجوج
ومأجوج الوارد في الآيات والأحاديث قد وقع وهو ما جرى على يد المغول في القرن
السابع الهجري، وتأولوا بعض ألفاظ هذه النصوص، وذهب بعضهم إلى أنهم لم يخرجوا ولن
يخرجوا إلا قبل قيام الساعة وأن السدّ يمنعهم من الخروج إلى ذلك اليوم، اعتقاداً
منهم بصحة حديث أبي رافع عن أبي هريرة، والصحيح -إن شاء الله تعالى- ما ذكرته في
هذا البحث: وهو أن خروجهم المذكور في سورة الأنبياء ﴿حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ
يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ﴾، والمذكور أيضاً في
حديث النواس بن سمعان في صحيح مسلم، وحديث أبي سعيد الخدري في ابن ماجه، لم يقع
بعد وأنه من علامات الساعة الكبرى ويحصل فيه ما أخبر به النبي ﷺ ولا تأول النصوص عن ظاهرها إلا بدليل.
وأما خروجهم المذكور في الأحاديث الأخرى كحديث زينب بنت جحش وخالد بن
حرملة فهذا هو الَّذِي وقع فعلاً سنة 656هـ على المغول بقيادة جنكيز خان. والله
تعالى أعلم.
هذا وأرجو من القارئ الكريم قراءة مقدمة هذه الورقات وليتأمل!
* استدراك:
قال لي بعض الأخوة الأفاضل أن الدارقطني يصحح سماع قتادة من أبي رافع،
ويوافق البخاري؛ ولهذا لم يستدرك عليه ذلك في (التتبع والإلزامات)!
وكان جوابي: أن الدارقطني لم يقصد الاستقصاء كما ذكر ذلك في أول
كتابه، ولا بد لمعرفة رأيه من البحث في كل كتب الدارقطني المطبوعة والمخطوطة، فإذا
لم نتوصل إلى شيء فإنه لا ينسب له قول لمجرد عدم وجوده في (التتبع والالزامات).
وكان أكبر ظني أن سيوافق شعبة على قوله، ثم وقفت بعد طباعة هذا البحث
على كلامه في العلل (11/209) وفيه
(وقتادة لم يسمع من أبي رافع) وهذا
الجزء من العلل طبع أخيراً، فالحمد لله على توفيقه.
وصلى الله وسلم على مُحَمَّد وآله
وصحبه أجمعين