ورقة مقدمة لندوة
(الدولة الراشدة في الإسلام .. فريضة شرعية وضرورة سياسية)
الثلاثاء ١٦/ ٥ / ٢٠١٧
بقلم أ.د. حاكم المطيري
الحمد الله وكفى، وصلى الله وسلم على نبيه المصطفى؛ وبعد:
مدخل:
تمثل هذه الندوة أهمية كبرى من حيث:
١-موضوعها:
حيث الأمة اليوم أحوج ما تكون إلى دولة راشدة، وإلى نظام سياسي راشد؛ يعبر عن هويتها وخصوصيتها وإرادتها -لا إرادة الغرب المحتل وثقافته- ويحقق استقرارها وازدهارها، ويحفظ أمنها وقرارها، ويصون حقوق المواطنة فيها لكل مكوناتها؛
خاصة بعد الثورة العربية وانهيار النظام الوظيفي الذي فرضه الغرب للسيطرة على المنطقة منذ الحرب العالمية الأولى حتى اليوم!
٢-وفي توقيتها:
حيث عاد الصخب من جديد أشد ما يكون حول هل في الإسلام دولة؟ وهل له نظام سياسي راشد أم لا؟
وهنا مجموعة مقدمات ممهدات لفهم أبعاد هذه القضية وأهميتها وخطورتها وضرورتها:
المقدمة الأولى:
في تحديد أطراف الخلاف في هذه القضية، وتحرير محل النزاع بينها؛ فهناك أربع رؤى تطرح اليوم باسم الإسلام للإجابة عن هذا السؤال هي:
١- رؤية ترى أنه ليس في الإسلام نظام سياسي أصلا!
٢- ورؤية ترى بأنه ليس في الإسلام نظام سياسي، وإنما مبادئ عامة فقط، دون تقديم تصور عن طبيعة النظام الذي يعبر عن هذه المبادئ، ودور الإسلام والشريعة نفسها في تحديد معالمه!
٣- ورؤية ترى بأن للإسلام نظام سياسي، وليس بالضرورة هو الخلافة الراشدة، وإنما للأمة في كل عصر أن تختار ما يناسبها؛ دون تمييز بين النظم السياسية التي تعبر بطبيعتها عن عقائد سياسية تتميز بالثبوت كالموقف من الحرية وحق الشعب في اختيار نظامه؛ كما في الليبرالية، والعدالة الاجتماعية؛ كما في الشيوعية، والأنظمة والوسائل والآليات التي تتطور بتطور الزمان واختلاف المكان!
ودون أن تحدد هذه الرؤية موقفها من:
- الدول الوظيفية التي فرضها الغرب.
- والدولة القطرية وحدودها السياسية.
- والعلاقة بالنظام الغربي المحتل حيث نفوذه يمثل حجر أساس وجود هذه الدول عبر اتفاقيات التبعية به عسكريا وأمنيا واقتصاديا.
- وعلاقة هذه الدولة مع محيطها العربي والإسلامي وما يفرضه الإسلام من وجوب النصرة فيما بينها.
- والتبعية للنظام الدولي الذي تمثل قراراته الشرعية الأممية!
٤- ورؤية ترى الخلافة الراشدة هي النظام السياسي في الإسلام على مستوى النص والتجربة التاريخية والموروث الفقهي.
الحراك الفكري المصاحب لسقوط الخلافة من التصدي والرفض حتى التماهي والقبول:
ولم تكن هذه القضية محل خلاف بين الأمة عبر قرون استخلافها؛ حتى قرر الغرب إسقاط الخلافة، فألف رشيد رضا بعد الحرب العالمية الأولى كتابه (الخلافة) للرد على من دعا إلى إسقاطها، ثم ناقش عبد الرزاق السنهوري في رسالته الدكتوراه في السربون (نظام الخلافة) شبه علي عبدالرازق حولها ورد عليها.
وبشر بها مالك بن نبي وبعودتها وحتميتها.
وقامت الجماعات الإسلامية من أجل إعادتها.
ثم بدأ منذ عصر كامب ديفيد تراجع الحركة الإسلامية عن مشروع الخلافة بعد إشراك أمريكا للإسلاميين في السلطة التشريعية والتنفيذية في دولها الوظيفية منذ سبعينات القرن الماضي!
وبدأت أزمة تصور النظام السياسي الإسلامي تعود من جديد بين ثقافة الهزيمة وثقافة العزيمة!
ولم يتوقف هذا الجدل منذ أثار هذه القضية علي عبدالرزاق في كتابه (الإسلام وأصول الحكم) ورد عليه علماء عصره؛ مما يؤكد صحة نظرية ابن خلدون (المغلوب مولع بتقليد الغالب واتباعه).
وهو تعبير عن السنن التي تجري على الأمة كلما وهى أمرها، وضعفت شوكتها، وفقدت سيادتها، ودور العدو في حرفها عن هدايات دينها وهو ما أخبر عنه القرآن وحذرت منه السنة؛ كما قال تعالى: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} وقال: {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ}.
وكما جاء في الصحيح: (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر، وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه)، وقال ﷺ: (لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون قبلها، شبرا بشبر وذراعا بذراع، فقيل: يا رسول الله، كفارس والروم؟ فقال: ومن الناس إلا أولئك)
فالثقافة المأزومة العاجزة عن الإبداع، والروح المهزومة التي لا ترى إمكانية التغيير هما أبرز مظاهر هذه الأزمة وتجلياتها!
اختراق ثقافة فارس والروم للفكر الإسلامي:
لقد عاد الصراع اليوم على الأمة من جديد بين:
١- الثقافة الفارسية الساسانية التي اخترقت الثقافة الإسلامية مبكرا منذ مطلع القرن الثالث عبر آدابها السلطانية، وصارت جزءا من الموروث الثقافي؛ حيث جعلت من السلطة حاكما مطلقا يخضع له المجتمع والدين، وهو ما تعبر عنه حالة السلطوية في العالم العربي اليوم، وما تجده من خطاب ديني يبرر لها طغيانها، كما كانت عليه الكسروية الساسانية!
٢- والثقافة الرومانية اليونانية التي اخترقت الفكر الإسلامي عبر ترجمة كتب الفلسفة والمنطق؛ وجعلت من العقل حاكما يخضع له المجتمع والدين، منذ عهد المأمون العباسي مطلع القرن الثالث!
وقد عاد الصراع من جديد على الأمة بين هاذين المشروعين السياسيين والثقافيين:
المشروع الفارسي الساساني والغربي الروماني!
ليتحقق ما حذر منه النبي ﷺ كما في صحيح مسلم: (يوشك أهل العراق أن لا يجبى إليهم قفيز ولا درهم، قلنا: من أين ذاك؟ قال: من قبل العجم، يمنعون ذاك، ثم قال: يوشك أهل الشأم أن لا يجبى إليهم دينار ولا مدي، قلنا: من أين ذاك؟ قال: من قبل الروم)!
المقدمة الثانية:
تعريفات مهمة:
وهنا يجب لفهم أبعاد هذا الموضوع المهم معرفة المصطلحات التي يتداولها الكتاب فيه؛ ومن ذلك:
١- النظام السياسي الإسلامي: وهو مجموعة الأصول والقواعد والأحكام التي تحدد طبيعة الدولة وتنظم شئون المجتمع في الإسلام .
٢- الخلافة الإسلامية: ولها ثلاث إطلاقات:
أ- هي دولة الإسلام منذ أقامها النبي ﷺ حتى سقوط الدولة العثمانية.
ب- نظام الحكم في الإسلام كما عرفه الصحابة منذ عهد الصديق.
ج- رئاسة عامة، وزعامة تامة، على الأمة أو أكثرها، لسياسة الدولة والأمة، وإقامة أحكام الإسلام، وفق النظام السياسي الإسلامي.
٣- الخلافة الراشدة: ولها إطلاقان:
أ- إطلاق زماني محدد وهو خلافة النبوة وهم الخلفاء الأربعة.
ب- هي السلطة التي تقوم في دولة الخلافة على وفق سنن الخلفاء الراشدين ونهجهم في سياسة شئون الدولة والأمة.
٤- الدولة الراشدة: رئاسة خاصة على بعض الأمة، في قطر من الأقطار، وفق النظام السياسي الإسلامي.
و"الراشدة" وصف يقيدها ويحصرها في السلطة التي تلتزم سنن الخلفاء الراشدين ونهجم في سياسة شئون الدولة والأمة.
المقدمة الثالثة:
المرجعية للدولة الراشدة:
تتمثل مرجعية الدولة الراشدة في:
١- الخطاب السياسي القرآني والنبوي والراشدي على مستوى النظرية.
٢- وتتمثل المرجعية على مستوى التطبيق والنموذج في الدولة النبوية والخلافة الراشدة.
وعليه تمثل الخلافة الإسلامية عبر عصورها مدة ألف وثلاثمئة عام حتى سقوطها تجربة بشرية اجتهادية، لا مرجعية، ولا نموذجا يجب الالتزام به، ولا ينفى عنها وصف الخلافة كنظام سياسي بقطع النظر عن الخلفاء وجورهم وعدلهم؛ إذ الخلافة نظام سياسي واسع تنفيذي وتشريعي ورقابي، ويمثل منصب الخليفة أحد أركانه.
المقدمة الرابعة:
أسس مشروعية الخلافة:
وتمثل الخلافة النظام السياسي الإسلامي الوحيد الذي تواترت عليه النصوص، وأجمع عليه المسلمون منذ عهد الصحابة، ولم يعرف المسلمون في تاريخهم غيره حتى سقوطها في هذا العصر بالحملة الصليبية المعاصرة.
فقوة نظام الخلافة تكمن في شرعيته ومشروعيته في النص والإجماع والموروث الفقهي والتجربة التاريخية.
ففي النص القرآني وعد بالاستخلاف للأمة {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ}، وأشار إلى استخلاف الأنبياء {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً}.
وأما النصوص النبوية؛ فهي متواترة وأكثر من أن تحصى؛ ومن ذلك:
١- في الصحيحين عن أبي هريرة: (كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء فيكثرون فأوفوا بيعة الأول فالأول، وأعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم).
٢- وفي صحيح مسلم عن جابر بن سمرة: (لا يزال هذا الدين عزيزا منيعا إلى اثني عشر خليفة).
٣- وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري: (إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما).
٤- وفي صحيح مسلم عن جابر: (يكون في آخر أمتي خليفة يحثي المال حثيا، لا يعده عددا).
٥- وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري: (من خلفائكم خليفة يحثو المال حثيا، لا يعده عددا).
٦- وفي صحيح مسلم عن جابر وأبي سعيد كلاهما: (يكون في آخر الزمان خليفة يقسم المال ولا يعده).
٧- وفي الصحيحين من حديث حذيفة: (الزم جماعة المسلمين وإمامهم، قلت فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام) وفي رواية أحمد وأبي داود وصححها ابن حبان والحاكم: (إن كان في الأرض لله خليفة فالزمه أو فأطعه)، وفي لفظ: (فإن لم تجد يومئذ خليفة فاهرب حتى تموت، فإن تمت وأنت عاض على جذل، خير لك من أن تتبع أحدا منهم).
٨- وفي المسند والسنن وصحيح ابن حبان والحاكم عن حذيفة (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ).
٩- وفي المسند عن النعمان بشير بن سعد وأبي ثعلبة وحذيفة (تكون النبوة فيكم ما شاء الله... ثم تكون خلافة على منهاج النبوة... ثم تكون خلافة على منهاج النبوة).
١٠- وفي المسند والسنن وصححه الحاكم عن سعيد بن جهمان (خلافة النبوة بعدي ثلاثون سنة).
١١- وفي السنن والمسند من حديث أبي بكرة: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه الرؤيا الصالحة ويسأل عنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم: أيكم رأى رؤيا؟ فقال رجل: أنا يا رسول الله، رأيت كأن ميزانا دلي من السماء، فوزنت أنت بأبي بكر فرجحت بأبي بكر، ثم وزن أبو بكر بعمر، فرجح أبو بكر بعمر، ثم وزن عمر بعثمان، فرجح عمر بعثمان، ثم رفع الميزان، فاستاء لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: خلافة نبوة، ثم يؤتي الله الملك من يشاء) ويعني بالملك: الخلافة والسلطة؛ كما قال تعالى عن داود: {وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ}، وقال عنه: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ}.
١٢- وفي المسند والسنن وصححه ابن حبان والحاكم عن حذيفة: (اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر).
١٣- وفي صحيح مسلم عن ابن عمر: (من خلع يدا من طاعة، لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة، مات ميتة جاهلية) قال الإمام أحمد وقد سئل عن معنى هذا الحديث فقال: (أتدري من الإمام؛ هو الذي يقول المسلمون كلهم هذا هو الإمام).
١٤- وفي صحيح مسلم عن عرفجة: (من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد، يريد أن يشق عصاكم، أو يفرق جماعتكم، فاقتلوه).
١٥- وفي الصحيحين عن ابن عباس: (من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر، فإنه من فارق الجماعة شبرا، فمات، فميتة جاهلية).
١٦- وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة: (من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة، ثم مات مات ميتة جاهلية، ومن قتل تحت راية عمية، يغضب للعصبة، ويقاتل للعصبة، فليس من أمتي، ومن خرج من أمتي على أمتي، يضرب برها وفاجرها، لا يتحاش من مؤمنها، ولا يفي بذي عهدها، فليس مني).
١٧- وفي الصحيحين عن أبي هريرة: (من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني، وإنما الإمام جنة، يقاتل من ورائه، ويتقى به، فإن أمر بتقوى الله عز وجل وعدل، كان له بذلك أجر، وإن يأمر بغيره كان عليه منه).
١٨- وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو: (من بايع إماما فأعطاه صفقة يده، وثمرة قلبه، فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر).
ومن الأدلة أيضا: الإجماع:
حيث أجمع الصحابة بعد وفاة النبي ﷺ على الخلافة بعد النبوة وأنها شورى ورضا واختيار، وعلى وجوب لزوم نهج الخلافة الراشدة: كما في قوله تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ} {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيم. صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ}.
وهو ما أجمع عليه الصحابة كما في:
١- صحيح البخاري عن ابن عباس: (عن ابن عباس، قال: كنت أقرئ رجالا من المهاجرين، منهم عبد الرحمن بن عوف، فبينما أنا في منزله بمنى، وهو عند عمر بن الخطاب، في آخر حجة حجها، إذ رجع إلي عبد الرحمن فقال: لو رأيت رجلا أتى أمير المؤمنين اليوم، فقال: يا أمير المؤمنين، هل لك في فلان؟ يقول: لو قد مات عمر لقد بايعت فلانا، فوالله ما كانت بيعة أبي بكر إلا فلتة فتمت، فغضب عمر، ثم قال: إني إن شاء الله لقائم العشية في الناس، فمحذرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمورهم. قال عبد الرحمن: فقلت: يا أمير المؤمنين لا تفعل، فإن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم، فإنهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس، وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطيرها عنك كل مطير، وأن لا يعوها، وأن لا يضعوها على مواضعها، فأمهل حتى تقدم المدينة، فإنها دار الهجرة والسنة، فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس، فتقول ما قلت متمكنا، فيعي أهل العلم مقالتك، ويضعونها على مواضعها. فقال عمر: أما والله - إن شاء الله - لأقومن بذلك أول مقام أقومه بالمدينة.. فجلس عمر على المنبر، فلما سكت المؤذنون قام، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: أما بعد، فإني قائل لكم مقالة قد قدر لي أن أقولها، لا أدري لعلها بين يدي أجلي، فمن عقلها ووعاها فليحدث بها حيث انتهت به راحلته، ومن خشي أن لا يعقلها فلا أحل لأحد أن يكذب علي: إن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق، وأنزل عليه الكتاب..ثم إنه بلغني أن قائلا منكم يقول: والله لو قد مات عمر بايعت فلانا، فلا يغترن امرؤ أن يقول: إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمت، ألا وإنها قد كانت كذلك، ولكن الله وقى شرها، وليس منكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر، من بايع رجلا عن غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه، تغرة أن يقتلا).
٢- وفي صحيح البخاري أن عبدالرحمن بن عوف خطب يوم بيعة عثمان؛ فقال: (أما بعد، يا علي إني قد نظرت في أمر الناس، فلم أرهم يعدلون بعثمان، فلا تجعلن على نفسك سبيلا، فقال: أبايعك على سنة الله ورسوله، والخليفتين من بعده، فبايعه عبد الرحمن، وبايعه الناس المهاجرون والأنصار، وأمراء الأجناد والمسلمون).
٣- وقال الشافعي في الرسالة ٤١٨: (وما أجمع المسلمون عليه: من أن يكون الخليفة واحدا... فاستخلفوا أبا بكر، ثم استخلف أبو بكر عمر، ثم عمر أهل الشورى ليختاروا واحدا، فاختار عبد الرحمن عثمان بن عفان...).
٤- وقال الخطابي في معالم السنن ٣/ ٥: (قول عمر "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستخلف" أي لم يسم رجلا بعينه للخلافة فيقوم بأمر الناس باستخلافه إياه، فأما أن يكون أراد به أنه لم يأمر بذلك، ولم يرشد إليه، وأهمل الناس بلا راع يرعاهم، أو قيم يقوم بأمورهم، ويمضي أحكام الله فيهم.. ولذلك رئيت الصحابة يوم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقضوا شيئا من أمر دفنه وتجهيزه حتى أحكموا أمر البيعة ونصبوا أبا بكر إماما وخليفة وكانوا يسمونه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم طول عمره إذ كان الذي فعلوه من ذلك صادرا عن رأيه ومضافا إليه وذلك من أدل الدليل على وجوب الخلافة وأنه لا بد للناس من إمام يقوم بأمر الناس ويمضي فيهم أحكام الله... وكل ذلك يدل على وجوب الاستخلاف ونصب الإمام، ثم أن عمر لم يهمل الأمر ولم يبطل الاستخلاف ولكن جعله شورى في قوم معدودين لا يعدوهم فكل من أقام بها كان رضا ولها أهلا فاختاروا عثمان وعقدوا له البيعة فالاستخلاف سنة اتفق عليها الملأ من الصحابة وهو اتفاق الأمة).
٥- وقال ابن بطال في شرحه للبخاري ٥/ ٧٩: (لا تستحق الخلافة ببنوة، ولا بقرابة، وإنما تستحق بما ذكره الله من السابقة والإنفاق والمقاتلة).
٦- وقال ابن حزم: (علمنا بضرورة العقل وبديهته أن قيام الناس بما أوجبه الله من الأحكام عليهم في الأموال والجنايات، والدماء، والنكاح، والطلاق، ومنع الظلم، وإنصاف المظلوم، وأخذ القصاص ممتنع غير ممكن – أي دون إمام – وهذا مشاهد في البلاد التي لا رئيس لها، فإنه لا يقام هناك حكم حق، ولا حد، حتى ذهب الدين في أكثرها، فلا تصح إقامة الدين إلا بالإسناد إلى واحد، أو أكثر).
وقال أيضا في الفصل ٤/ ١٢٩: (ولا خلاف بين أحد من أهل الإسلام في أنه لا يجوز التوارث فيها).
٧- وقال الغزالي: (وجوب الإمام من ضروريا الشرع الذي لا سبيل إلى تركه).
٨- وقال القرطبي: (لا خلاف في وجوب الإمامة بين الأمة ولا بين الأئمة وأنها ركن من أركان الدين الذي به قوام المسلمين).
٩- وقال النووي في شرحه على صحيح مسلم ١٢/ ٢٠٥: (قول "عمر إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني وإن أترك فقد ترك رسول الله" حاصله أن المسلمين أجمعوا على أن الخليفة إذا حضرته مقدمات الموت وقبل ذلك يجوز له الاستخلاف ويجوز له تركه، فإن تركه فقد اقتدى بالنبي صلى الله عليه وسلم في هذا، وإلا فقد اقتدى بأبي بكر؟ وأجمعوا على انعقاد الخلافة بالاستخلاف، وعلى انعقادها بعقد أهل الحل والعقد لإنسان إذا لم يستخلف الخليفة، وأجمعوا على جواز جعل الخليفة الأمر شورى بين جماعة، كما فعل عمر بالستة، وأجمعوا على أنه يجب على المسلمين نصب خليفة... لأن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على اختيار أبي بكر وعلى تنفيذ عهده إلى عمر وعلى تنفيذ عهد عمر بالشورى ولم يخالف في شيء من هذا أحد...).
وقال في ١٥/ ١٥٤("سئلت عائشة: من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخلفا لو استخلفه؟ قالت: أبو بكر، فقيل لها: ثم من بعد أبي بكر؟ قالت: عمر، ثم قيل لها: من بعد عمر؟ قالت: أبو عبيدة بن الجراح ثم انتهت إلى هذا" يعني وقفت على أبي عبيدة، هذا دليل لأهل السنة في تقديم أبي بكر ثم عمر للخلافة، مع إجماع الصحابة وفيه دلالة لأهل السنة أن خلافة أبي بكر ليست بنص من النبي صلى الله عليه وسلم على خلافته صريحا؛ بل أجمعت الصحابة على عقد الخلافة له وتقديمه لفضيلته).
١٠- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين؛ بل لا قيام للدين إلا بها، فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع، لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بد لهم عند الاجتماع من رأس؛ لأن الله أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة، وكذلك سائر ما أوجبه من الجهاد والعدل وإقامة الحج والجمع والأعياد، ونصر المظلوم، وإقامة الحدود لا تتم إلا بالقوة والإمارة).
وهو ما استقر عليه إجماع الصحابة ومن بعدهم حتى بعد الخلافة الراشدة
كما قال بن المبارك - رحمه الله-
(إن الجماعة حبل الله فاعتصموا ... منه بعروته الوثقى لمن دانا)
(لولا الخلافة لم تؤمن لنا سبل ... وكان أضعفنا نهبا لأقوانا)
المقدمة الخامسة:
حجية سنن الخلافة الراشدة:
وقد اتفق الفقهاء على حجية ما سنّه الخلفاء الراشدون؛ إذا لم يخالفهم فيه أحد من الصحابة؛ بل عدوا اتفاقهم إجماعا وحجة.
قال ابن رجب الحنبلي في جامع العلوم (2/ 123): (اختلف العلماء في إجماع الخلفاء الأربعة: هل هو إجماع، أو حجة، مع مخالفة غيرهم من الصحابة أم لا؟ وفيه روايتان عن الإمام أحمد، وحكم أبو خازم الحنفي في زمن المعتضد بتوريث ذوي الأرحام، ولم يعتد بمن خالف الخلفاء، ونفذ حكمه في ذلك في الآفاق.
ولو قال بعض الخلفاء الأربعة قولا، ولم يخالفه منهم أحد، بل خالفه غيره من الصحابة، فهل يقدم قوله على قول غيره؟ فيه قولان أيضا للعلماء، والمنصوص عن أحمد أنه يقدم قوله على قول غيره من الصحابة، وكذا ذكره الخطابي وغيره، وكلام أكثر السلف يدل على ذلك، خصوصا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فإنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه أنه قال: "إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه".
وكان عمر بن عبد العزيز يتبع أحكامه، ويستدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه".
وقال مالك: قال عمر بن عبد العزيز: سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده سننا، الأخذ بها اعتصام بكتاب الله، وقوة على دين الله، وليس لأحد تبديلها، ولا تغييرها، ولا النظر في أمر خالفها، من اهتدى بها فهو مهتد، ومن استنصر بها فهو منصور، ومن تركها واتبع غير سبيل المؤمنين، ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم، وساءت مصيرا...
وقال خلف بن خليفة: شهدت عمر بن عبد العزيز يخطب الناس وهو خليفة، فقال في خطبته: ألا إن ما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحباه، فهو وظيفة دين، نأخذ به وننتهي إليه..
عن الشعبي، قال: إذا اختلف الناس في شيء، فانظر كيف قضى فيه عمر، فإنه لم يكن يقضي عمر في أمر لم يقض فيه قبله حتى يشاور.
وقال مجاهد: إذا اختلف الناس في شيء، فانظروا ما صنع عمر، فخذوا به. وقال أيوب عن الشعبي: انظروا ما اجتمعت عليه أمة محمد، فإن الله لم يكن ليجمعها على ضلالة، فإذا اختلفت فانظروا ما صنع عمر بن الخطاب فخذوا به.
وسئل عكرمة عن أم الولد، فقال تعتق بموت سيدها، فقيل له: بأي شيء تقول؟ قال: بالقرآن، قال: بأي القرآن؟ قال: {أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ}، وعمر من أولي الأمر..وقال وكيع: إذا اجتمع عمر وعلي على شيء فهو الأمر.
وروي عن ابن مسعود أنه كان يحلف بالله: إن الصراط المستقيم هو الذي ثبت عليه عمر حتى دخل الجنة.
وبكل حال، فما جمع عمر عليه الصحابة، فاجتمعوا عليه في عصره، فلا شك أنه الحق، ولو خالف فيه بعد ذلك من خالف).
وقال الإمام مالك كما في المؤتلف والمختلف للدارقطني: (إن الإمام لا يكون إماما أبدا إلا على شرط أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، فإنه قال: وليتكم ولست بخيركم، ألا وإن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ له بحقه، ألا وإن أضعفكم عندي القوي حتى آخذ منه الحق، إنما أنا متبع ولست بمبتدع، فإن أحسنت؛ فأعينوني، وإن زغت؛ فقوموني).
وقال: (لا بيعة لمكره).
المقدمة السادسة:
معالم الدولة الراشدة وهي التي يجب توفرها في الدولة؛ لوصفها بأنها دولة إسلامية راشدة:
1- التحرر من النفوذ الخارجي والمحافظة على سيادة الدولة والأمة فيها؛ كما قال تعالى: {وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا}.
2- أن يكون السلطان فيها للأمة والسيادة للشريعة.
3- أن يتم اختيار السلطة فيها بالشورى والرضا.
4- أن يتحقق فيها رقابة الأمة على السلطة وأدائها.
5-أن تتم فيها رقابة الأمة على بيت المال وعدم استئثار السلطة واستفراده بالتصرف فيه دون إذن الأمة وشوراها.
6- سيادة القضاء والقضاة وعدم تدخل السلطة في شئونهم.
7- تحقق العدل والمساواة في الحكم والقسم لكل أفراد المجتمع وفئاته كما قرره الإسلام.
8- القيام بمصالح الدولة وتنظيمها وشئون المجتمع وتطويرها وتحقيق النهضة والتنمية.
9- الجهاد مع الأمة وشعوبها، والدفاع عن مقدساتها، والمشاركة في تحقيق مصالحها وحماية أمنها، والعمل على تحررها وتحريرها، وتعزيز الوحدة والاتحاد بين دولها وشعوبها؛ لتعود من جديد أمة واحدة وخلافة إسلامية راشدة!
10- الدعوة إلى الإسلام والسلام والرحمة بين أمم الإنسانية، والدفاع عن الشعوب المظلومة، وإغاثة الشعوب المنكوبة، والتعاون على البر والتقوى.
هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد...