بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب
الخـــــــــلافـــة
والديمقـراطيـــة
أزمة مصطلحات أم صراع
حضارات؟
أ.د. حاكم المطيري
بين يدي الكتاب:
منذ "الثورة العربية" والساحة الفكرية
السياسية في العالم العربي والإسلامي يتنازعها خطابان:
الأول: فقهي تقليدي رسمي؛ يرى شرعية الواقع
السياسي القائم بكل تخلفه وفساده، وطغيانه واستبداده، ويرفض ثورة الشعوب لتغيير
واقعها، ويستصحب للدفاع عنه موروثا فقهيا يرى وجوب السمع والطاعة للدول الوظيفية
مهما جارت وانحرفت، وعطلت وبدلت، ومهما عبرت عن إرادة المحتل الخارجي، وتنازلت عن
سيادتها وحماية شعوبها؛ لتظل هي في السلطة فقط ولتذهب الشعوب إلى الجحيم!
ودون اجتهاد من هذا التيار الفقهي السلطوي في
النوازل، ولا مراعاة لتغير الفتوى بتغير الزمان والمكان، ودون إدراك بأن الانهيار
الذي تعيشه هذه الدول هو نتيجة طبيعية للظلم والطغيان، وليس بسبب ثورة الشعوب التي
ضاقت بها وبالحياة تحت حكمها ذرعا!
والثاني: تيار تغريبي يرى الحل لأزمة الأمة في
الديمقراطية الغربية، كمنتج حضاري إنساني يمكن للأمة الاستفادة منه، لأن الإسلام
في نظره لم يأتِ أصلا بنظام سياسي؛ بل جاء بمبادئ عامة للعدل والحرية، ولأن
الخلافة ليست سوى اجتهاد بشري لم يعد صالحا لهذا العصر، ولا يمكن استعادته!
فالدول الوظيفية مهما تكاثرت وبتقسيم المحتل
الدولي نفسه لها قطريا ومناطقيا وطائفيا تظل مشروعة في نظر هذا التيار! ومهما تم
تقاسم السلطة بين القوى السياسية فيها بإشراف غربي! ومهما خضعت لنفوذ الغرب
المحتل؛ فكل ذلك لا ينافي مشروعية وجودها!
فإذا خطاب علي عبد الرازق يعود بعد مئة عام بثوب
إسلامي حركي بعد أن كان نفثة مستشرق صليبي بصوت شيخ أزهري!
لقد عاد الصراع من جديد بين الثقافة الفارسية
الساسانية - التي تعزز شرعية الملك والسلطة؛ مهما جارت وطغت، والتي اخترقت الفكر
الإسلامي منذ بداية العصر العباسي حيث استعانت فيه السلطة بالفرس كقوة عسكرية،
وصارت تلك الثقافة الساسانية جزءا من موروثه الفقهي السياسي- والثقافة اليونانية
الرومانية التي اخترقت الفكر الإسلامي منذ أواخر القرن الثاني ومطلع الثالث، حيث
تأثر الاعتزال بالمنطق اليوناني، لتتحقق النبوءة بأوضح صورها؛ كما أخبر بها النبي ﷺ: (لتتبعن سنن من كان
قبلكم شبرا شبرا حتى لو دخلوا جحر ضب لاتبعتموهم)، وقال: (لا تقوم الساعة حتى
تأخذ أمتي بأخذ القرون قبلها، شبرا بشبر، وذراعا بذراع، فقيل: يا رسول الله، كفارس
والروم؟ فقال: ومن الناس إلا أولئك)!
وها هي الطاغوتية السياسية بموروثها الفارسي
الساساني، والديمقراطية الغربية بموروثها اليوناني، تتصارعان من جديد في عالمنا الإسلامي؛
لتعبر عن أزمة عقائدية سياسية عميقة من جهة، وعن سنن الله في الأمم وتدافعها، وهذا
الأمة الوارثة لها ولثقافاتها من جهة أخرى؛ بحكم وسطيتها المكانية بين فارس
والروم!
لقد أسقط كلا الخطابين الرسمي التقليدي، والتغريبي
التجديدي، قضية الخلافة من خطابه السياسي والفكري، مع أن الخلافة كنظام سياسي هي
النظام الوحيد الذي لم يعرف المسلمون غيره طوال تاريخهم حتى سقطت بحرب صليبية
كبرى!
لقد كان كلا الخطابين يعبر عن عصر الهزيمة أكثر من
تعبيره عن الإسلام وهدايته، فهما صدى صوت النفوذ الغربي المحتل الذي يعتبر الخلافة
كنظام سياسي عدوا تاريخيا له ولا يمكن له العودة في ظل الحضارة الغربية التي تحكم
العالم اليوم!
فالخطاب الرسمي التقليدي يرفضها بحكم أن الدول
الوظيفية نفسها صناعة غربية لا تحتاج من الخطاب الفقهي التقليدي إلا إلى إثبات
شرعيتها فقط؛ لتمارس كل ما يمليه المحتل من سياسات؛ بما في ذلك تهميش الإسلام من
واقع الحياة!
والخطاب التغريبي يرفضها بحكم أنه نتاج
الانبهار بالغرب الغالب الذي يولع المغلوب عادة باتباعه وتقليده بذريعة التطور
الطبيعي!
وبحكم أن الواقعية السياسية تقتضي الاعتراف للغرب
بتفوقه والاستفادة من تجربته واحترام نفوذه الدولي والالتزام بشرعيته!
وبين هذين الخطابين؛ يظل الخطاب الإسلامي الراشد (عليكم بسنتي وسنة
الخلفاء الراشدين)، الذي يقوم على "الاتباع"
و"الاجتهاد" هو الصراط المستقيم، والطريق الوسط، والحل والمخرج للأمة من
هذا التيه الذي دخلت فيه حين أعرضت عن القرآن والسنة!
﴿وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل
فتفرق بكم عن سبيله﴾
ولن تخرج الأمة من هذا التيه إلا بالعودة إلى
هدايتهما، ولن يصلح آخر هذه الأمة -كما قال الإمام مالك- إلا بما صلح به أولها!
وقد جاءت هذه النظرات في هذا الكتاب كرسائل
وتغريدات مباشرة، تواكب عصر السرعة، ووسائل التواصل الاجتماعي وما تقتضيه من
الإيجاز والاختصار، حتى في مناقشة أخطر الأفكار، حاولت فيها الإجابة عن أسئلة
كثيرة، تتداخل فيها أزمة المصطلحات، بصراع الحضارات، حيث لا تقل ساحة المعارك
الفكرية، أهمية وخطورة عن ساحة المعارك العسكرية، في ظل الثورة العربية!
والله الهادي إلى صراط مستقيم..