بين يدي البحث:
هذه دراسة حديثية اصطلاحية في شرح وتوضيح عبارة ابن حبان في مقدمة صحيحه
طالما دار الجدل حول مراده منها، وهي قوله (فأما الأخبار فإنها كلها أخبار آحاد،
لأنه ليس يوجد عن النبي صلى الله عليه و سلم خبر من رواية عدلين، روى أحدهما عن
عدلين، وكل واحد منهما عن عدلين، حتى ينتهي ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فلما استحال هذا وبطل ثبت أن الأخبار كلها أخبار الآحاد، وأن من تنكب عن قبول أخبار
الآحاد فقد عمد إلى ترك السنن كلها، لعدم وجود السنن إلا من رواية الآحاد).
وكان الشيخ حاتم العوني قد أرسل لي بحثا بعنوان (دفاع عن ابن حبان)، لنشره
في مجلة المشكاة، وكنت أحد المشرفين على تحريرها، فألفيته بحثا قيما ماتعا، أثبت
فيه العوني أن ابن حبان لم يقصد نفي الحديث العزيز من هذه العبارة، إلا إنه ظن بأنه
ينفي المتواتر كما هو ظاهر العبارة، فكتبت هذا البحث (دفاع ثان عن ابن حبان)،
أدليت فيه بدلوي في الموضوع، واجتهدت في دراسة هذه المصطلحات دراسة تاريخية
اصطلاحية لدى الأئمة القدماء للوقوف على معانيها بشكل دقيق.
"دفاع ثان عن ابن حبان"
بقلم حاكم المطيري
مجلة المشكاة - رمضان 1419هـ
الحَمْدُ لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا مُحَمَّد وآله وصحبه
أجمعين.
وبعد:
فقد قرأت بحث أخينا الشيخ الشريف حاتم العوني، الَّذِي شرفنا بمعرفته،
وأكرمنا بصحبته، أيام دراستنا مرحلة الماجستير في جامعة (أم القرى) بمكة المكرمة،
حرسها الله تعالى، فكان نعم الأخ علماً وأدباً.
وما إن بدأت بقراءة بحثه الممتع (دفاع عن ابن حبان) - المنشور بمجلة
المشكاة - حتى أخذني الإعجاب به، والتعجب منه، والحماس لمشاركته الرأي في هذه
القضية المثيرة للجدل منذ عصر الحافظ ابن حجر!
ولقد كان الأخ الشريف مُوَفَّقاً غاية التوفيق في الدفاع عن ابن حبان ببيان
أنه لم يقصد أبداً نفي وجود الحديث العزيز، إذ ليس في عبارته نص صريح يدل على ذلك،
كما أنه وُفِّق في بيان مراد ابن حبان، وأنه كان بصدد الرد على بعض المعتزلة الذين
اشترطوا لقبول الأخبار شرطاً يتعذر بناءً عليه قبول أيٍّ من الأخبار التي بين
أيدينا، ويلزم منه ردُّها كلها، وفي هذا إبطال للسنن كما قال ابن حبان.
غير أن حمل عبارة ابن حبان على أنه ينفي وجود الحديث المتواتر لا يمكن
التسليم به، وإن فهمه السخاوي وتابعه الملا علي والمناوي.
وهذا مقام تفصيل القول في هذه القضية، فأقول وبالله التوفيق:
أولاً: قبل البحث في مراد ابن حبان لابد من معرفة مصطلحات أهل الفن في
عصره؛ لأن مصطلح العزيز، والغريب، والمشهور ... الخ لها معان ومدلولات عند أهل
الفن في عصر ابن حبان، ومن قبله، تختلف عن مدلولاتها عند المتأخرين، وهم من جاء
بعد عصر ابن الصلاح، الَّذِي يمكن اعتبار كتابه (علوم الحديث) والمشهور (بالمقدمة)
حداً فاصلاً بين طريقة المتقدمين من أهل الحديث، والمتأخرين منهم، الذين انكبُّوا
على كتاب ابن الصلاح نظماً وشرحاً واختصاراً؛ لكونه اجتهد في تهذيب هذا الفن على
طريقة الفقهاء والأصوليين في تحرير المسائل وضبطها، ووضع التعريفات والمصطلحات والحدود،
لتقريب هذا العلم الجليل، ولقد كان ابن الصلاح متأثراً بشافعيته ومسلك فقهاء
المذهب أكثر من تأثره بطريقة أهل الحديث، ومما يدل على ذلك كونه يرى حرمة التصحيح
والتضعيف للمتأخرين، ويوجب التقليد، وهذه نزعة فقيه مذهبي، لا محدث لوذعي، كما إنه
لم يذكر في مسائل من كتابه أقوال أئمة الحديث، واقتصر على الآراء المشهورة عند
الأصوليين، وقد نبه على ذلك الحافظ ابن حجر في (النكت) كمسألة (زيادة الثقة)،
و(الاختلاف وصلاً وإرسالاً ووقفاً ورفعاً) ونحوها.
والمقصود مراعاة اصطلاحات أهل كل عصر من أهل كل فن، وقد أشار شيخ الإسلام
ابن تيمية إلى أهمية ذلك، وبيَّن أن سبب غلط بعض متأخري الفقهاء على أئمتهم هو
حملهم ألفاظ الأئمة على المصطلحات الحادثة بعدهم، كلفظ (الكراهة) الَّذِي كان
يستعمله كثير من الأئمة قديماً (للتحريم)، فجاء بعض المتأخرين وحملوه على معناه
الَّذِي استقر عليه اصطلاح الأصوليين؟! وأخطر من ذلك حمل ألفاظ الشارع على المعاني
العرفية، أو الاصطلاحية المتأخرة.
ثانياً: إذا كان الأمر كذلك، فقد ثبت أن معاني هذه المصطلحات في عصر ابن
حبان تختلف عنها بعد عصر ابن الصلاح وهذه بعض الأمثلة:
أ- العزيز: وهو كما استقر عليه
الاصطلاح ما رواه اثنان أو أكثر في كل طبقات السند، على أن تبقى على الأقل طبقة
واحدة فيها اثنان فقط، ليتميز عن المشهور.
إلا أن العزيز كما عرفه ابن مندة
– وهو في عصر ابن حبان – له معنى آخر، فهو: ما رواه رجلان أو ثلاثة عن إمام
كالزهري أو قتادة().
ب- والمشهور عند ابن مندة: ما
رواه جماعة عن إمام كالزهري أو قتادة().
بينما تعريفه عند المتأخرين مختلف تماماً.
وهكذا الشأن في تعريف الآحاد
والمتواتر، فإذا كان الآحاد هو: ما رواه الواحد أو الاثنان أو الثلاثة أو أكثر ما
لم يبلغ حد المتواتر، والمتواتر هو: ما رواه جمع عن جمع تحيل العادة تواطؤهم على
الكذب، وقيل عدد الجمع: مائة، وقيل: سبعون، وقيل: أربعون، وقيل: عشرة ...الخ.
فليس هذا المعنى معروفاً عند أئمة الحديث قديماً ولهذا قال ابن الصلاح (ومن
المشهور: المتواتر الَّذِي يذكره أهل الفقه وأصوله، وأهل الحديث لا يذكرونه باسمه
الخاص، المشعر بمعناه الخاص، وإن كان الحافظ الخطيب قد ذكره، ففي كلامه ما يشعر
أنه اتبع فيه غير أهل الحديث، ولعل ذلك لكونه لا تشمله صناعتهم، ولا يكاد يوجد في
رواياتهم)().
وما ذكره ابن الصلاح عن الخطيب من أنه اتبع في كلامه عن الحديث المتواتر
غير أهل الحديث: صحيح، ومن نظر في كلام الخطيب في (الكفاية) وكلام متكلمي الشافعية
كالباقلاني علم صدق ما ذكره ابن الصلاح، بل يكاد ينقل عنهم بالحرف دون زيادة أو
نقصان!
وما وقع فيه الخطيب من تأثر خُطى المتكلمين في بعض مباحث علم الحديث، وقع
فيه ابن الصلاح أيضاً!.
هذا وقد فات ابن الصلاح أن (المتواتر) قد جاء في كلام الشافعي في كتابه
(الرسالة)()،
وقال البخاري في جزء القراءة: (وتواتر الخبر عن رسول الله r: "لا
صلاة إلا بقراءة أم القرآن")().
فأهل الحديث يستخدمون هذا اللفظ، ويستعملونه في معناه اللغوي وهو التتابع،
وله عندهم معنى موافق لمعناه الوضعي، وإن لم يوافقوا غيرهم في اصطلاحه وشروطه فهذا
لا ينفي معرفتهم به.
ولهذا رأينا الحافظ ابن حجر في فتح الباري عندما جاء يشرح ما بوَّبه
البخاري بعنوان (خبر الواحد) قال: (الواحد هنا حقيقة الوحدة وفي اصطلاح الأصوليين
ما لم يتواتر)()،
ولم يذكر اصطلاح المحدثين لأنهم لم يضعوا له اسماً خاصاً.
ثالثاً: إذا وجب مراعاة مصطلحات أهل كل فن من أهل كل عصر، وإذا ثبت أن
مصطلحات أهل الحديث في القرون الأولى قد تختلف عن معناها عند المتأخرين منهم الذين
تأثروا الأصوليين والمتكلمين، وإذا كان المتواتر من هذه المصطلحات التي يختلف معناها
عند المتأخرين عنه عند المتقدمين: فإن ذلك كله يقتضي إعادة النظر في اتهام ابن
حبان بأنه ينفي وجود الحديث المتواتر كما يقول السخاوي والمناوي، ولابد من محاولة
جديدة لفهم عبارته حتى لا تُحمَّل ما لا تحتمل.
قال رحمه الله تعالى: (فأمَّا الأخبار فإنها كلها أخبار آحاد)، ولا شك بأن
هذه العبارة صريحة في كون الأخبار كلها – بلا استثناء - هي أخبار آحاد عند ابن
حبان، وهي صريحة في نفي وجود خبر متواتر، ولكن هذا كله مبني على تعريف المتأخرين
(للآحاد) و(المتواتر)، وأن الآحاد ما رواه واحد أو أكثر ما لم يصل حد المتواتر وما
لم يُفد القطع والعلم الضروري، والمتواتر ما رواه جمع عن جمع تحيل العادة تواطؤهم
على الكذب وأفاد العلم الضروري.
والسؤال هنا: هل ابن حبان يعرِّف الآحاد والمتواتر بهذا الاصطلاح الحادث
المتأخر الَّذِي شهره المتكلمون وتأثرهم()
الأصوليون والفقهاء ثم المحدِّثون؟
والجواب: أمَّا المتواتر فقد سبق كلام ابن الصلاح عليه، الَّذِي نفى فيه
معرفة أهل الحديث بالمتواتر بهذا المعنى المخترع؛ وأمَّا الآحاد فهو عند المتقدمين
(خبر الواحد) عن (الواحد)، أو خبر (الجماعة) عن (الواحد)، أو خبر (الواحد) عن
(الجماعة).
قال منصور بن إسحاق الحنفي في كتابه (الغنية) في علم الأصول: (خبر الواحد: ما
نقله واحد عن واحد، أو عن جماعة، أو جماعة عن واحد)().
أي لابد أن يكون مدار الخبر على رجل واحد، سواء في أصله، أو أوله، أو وسط
الإسناد.
وقال ابن حزم: (وأما السنة، فمنها ما جاء متواتراً، ومنها خبر الآحاد: العدل
عن مثله، وقد يقع فيه العدل عن العدلين والثلاثة، والثلاثة عن الواحد).()
وهو مطابق لتعريف منصور بن إسحاق تمام المطابقة، ومنصور متقدم على ابن
حبان، وابن حزم متأخر عنه، ومتقدم على ابن الصلاح.
فهؤلاء عرَّفوا الآحاد بأنه ما رواه الواحد، فهذا هو معناه عند المتقدمين،
لا كما عند المتأخرين: ما رواه الواحد أو الاثنان أو الثلاثة ما لم يبلغوا حدَّ
التواتر؟!
وهذا أيضاً هو المطابق للوضع اللُّغوي، ولهذا رأينا الإمام الشافعي يعقد
فصلاً في الرسالة في (تثبيت خبر الواحد) والذي جعله في الدفاع عن حجية خبر الواحد،
وهي أشهر قضية دار حولها الجدل آنذاك، فالآحاد جمع أحد، بمعنى واحد، وأخبار الآحاد
هي الأخبار التي انفرد بها الوحدان()
من الرواة.
إذن فالآحاد عن ابن حبان – كما يظهر لنا – هو بمعناه عند ابن حزم ومنصور بن
إسحاق، وهو الخبر الَّذِي مداره على راوٍ واحدٍ، سواء روى عنه جماعة، أو روى هو عن
جماعة، أو روى عنه رجل واحد.
فهل ينفي ابن حبان في عبارته السابقة ما سوى هذا النوع من الأخبار، كالعزيز
والمشهور مثلا؟!
والجواب هو ما ذكره الشريف حاتم من أنه لا يتصور صدور مثل هذا من إمام كابن
حبان، كيف وصحيحه مليء بالحديث (العزيز) و(المشهور)!
قد يقول قائلٌ: هذا هو الَّذِي يضطرنا إلى حمل كلمة (آحاد) في عبارة ابن
حبان على ما سوى المتواتر؛ ليدخل تحت قوله: (الأخبار كلها آحاد) الغريب، والعزيز،
والمشهور؛ إذ لا يتصور أن ينفي هذين النوعين الأخيرين وهما في كتابه.
فالجواب: يمنع من ذلك – مع ما سبق ذكره من موانع – أن من المتقدمين من يجعل
القسمة ثلاثية (آحاد، ومشهور، ومتواتر)، ولهذا قال الحافظ ابن حجر: (وخبر الواحد
عندهم هو ما لم يبلغ درجة المشهور)().
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (ويقسمون الخبر إلى متواتر، ومشهور، وخبر واحد)().
وهذه القسمة الثلاثية موجودة عند المتكلمين والأصوليين منذ عصر ابن حبان!
بل أشد من ذلك أن من الفقهاء والأصوليين من يجعل المشهور قسماً من
المتواتر، لا قسيماً له؟!
قال الشوكاني في إرشاد الفحول: (وانفرد المشهور فيما رواه اثنان في القرن
الأول ثم تواتر في الثاني والثالث – أي عند الحنفية – وجعل الجصاص المشهور قسماً
من المتواتر، ووافقه جماعة من أصحابه الحنفية)().
فهؤلاء يرون أن المشهور هو ما رواه اثنان في القرن الأول ثم تواتر بعد ذلك،
وجعلوه قسماً من المتواتر، مع أنه – بحسب ما استقر عليه اصطلاح المحدثين المتأخرين
– داخل في صورة الحديث العزيز.
فكيف ينفي ابن حبان الخبر المتواتر مع وجود طوائف من العلماء يدخلون صورة
من العزيز فضلاً عن المشهور تحت قسم واسم الخبر المتواتر؟!
وكيف ينفي وجود غير الآحاد مع أن من علماء عصره من الأصوليين والفقهاء
والمتكلمين من يجعل المشهور قسماً مستقلاً وسطاً لا من الآحاد ولا من المتواتر؟!
هذا مع العلم بأن أهل الحديث
الَّذِي هو من أئمتهم لم يكن لهم مصطلح خاص كاصطلاح المتكلمين والأصوليين، حتى
يقال أن ابن حبان قصد المتواتر عند المحدثين فيجب حمل كلامه على مصطلحهم، وكذلك
ليس لغير المحدثين مصطلح متفق عليه، فمنهم من يخرج المشهور من اسم الآحاد، ومنهم
من يجعله من قسم المتواتر، فكيف ينفي ابن حبان دون أن يحدد للناس مراده بالآحاد
ومراده بالمتواتر على فرض أنه ينفيه؟!
رابعاً: إذا ثبت لنا بأن (الآحاد) عند ابن حبان هي الأخبار التي رواها
الوحدان، وأن خبر (الآحاد) هو عنده – كما عند أهل عصره - خبر الواحد، وإطلاق
(الآحاد) على خبر الواحد أمر مقطوع به وهو دلالة اللفظ اللغوية.
وأما إطلاقه المتأخر على ما رواه اثنان أو ثلاثة ما لم يتواتر فموضع بحث
ونظر؛ إذ لهذه الأنواع من الأخبار أسماء خاصة بها كالعزيز والمشهور، وبعض العلماء
يدخل بعض هذه الصور تحت قسم المتواتر، وبعضهم يجعلها قسماً مستقلاً، بل إن منهم من
يجعل المتواتر من أقسام المشهور، ويقسم الحديث إلى (آحاد) وهو ما رواه الواحد،
والى (مشهور) وهو ما رواه أكثر من واحد، ولهذا قال ابن الصلاح (ومن المشهور: المتواتر
الَّذِي يذكره أهل الفقه وأصوله، وأهل الحديث لا يذكرونه باسمه..)().
فقد جعل المتواتر من أقسام المشهور، لا قسيماً له.
وهذه القسمة الثنائية أدق وأصوب التقسيمات، فالحديث إما أن يكون من رواية
راو واحد فهو خبر آحاد بلا شك ولا ريب ولا خلاف بين العلماء في تسمية هذا النوع
بهذا الاسم بل هو ما يدل عليه اللفظ بدلالته الوضعية اللغوية؛ وإمَّا أن يكون راوي
الخبر أكثر من واحد، وهذا هو المشهور فيدخل فيه: العزيز، والمستفيض، والمتواتر؛
لأن تعدد طرقها دليل على شهرتها، ولا يضرها بعد ذلك تفاوتها في إفادتها للعلم، كما
لا يضر (الآحاد) تفاوتها في مزيد ضبط وإتقان رواتها.
أقول: فإذا ثبت مما سبق بيانه أن (الآحاد) عند ابن حبان هي الأخبار التي
رواها الوحدان فهل يدخل تحت كلمة (الآحاد) ما رواه أكثر من واحد؟ وإذا كان كذلك
فما الَّذِي نفاه ابن حبان إذن؟
خامساً: قبل الإجابة عن هذا السؤال لابد من معرفة الباعث الَّذِي دفع ابن
حبان إلى تدوين هذه العبارة في مقدمة صحيحه، فإن معرفة الباعث يساعدنا على فهم
مراد المتكلم والكاتب، والباعث لابن حبان هو الباعث للبخاري الَّذِي بوب في آخر
صحيحه باب (في إجازة خبر الواحد)، وقبله الإمام الشافعي في الرسالة الَّذِي عقد
فصلاً بعنوان (تثبيت خبر الواحد)، فقد كانت هذه القضية من أشهر القضايا الخلافية
بين أهل الحديث والسنة وغيرهم من الطوائف كالخوارج وبعض المعتزلة الَّذِين يشترطون
لقبول الخبر العدد اثنان فأكثر قياساً على الشهادة من جهة، واستدلالاً ببعض الآثار
من جهة أخرى، كطلب أبي بكر الصديق من المغيرة بن شعبة أن يأتيه بشاهد آخر في حديث
ميراث الجدة فجاء بمحمد بن مسلمة، وكطلب عمر بن الخطاب من ابن مسعود أن يأتيه
بشاهد في حديث الاستئذان، ونحوها من الآثار.
وهؤلاء لقوة شبهتهم أوجبت على أهل السنة التصدِّي لهم، خاصة وأن هذا الرأي
وجد له رواجاً بين المتكلمين والأصوليين والفقهاء، خاصة في القرن الثالث الهجري
حيث شاع الاعتزال بقوة السلطان، بعد تبني الدولة العباسية لمذهب المعتزلة فترة من
الزمن، وتأثر بعض الفقهاء خاصة من الحنفية بهذا الرأي القائل باشتراط العدد وعدم
قبول خبر الواحد حتى يأتي من طريق آخر قياساً على الشهادة، كما هو مذهب إبراهيم بن
إسماعيل بن علية، وهذا الرأي مشهور عن أبي علي الجبائي إمام المعتزلة في عصره.
قال الطوفي: (والشيخ أبو مُحَمَّد رحمه الله قال: ذهب الجبائي إلى أن خبر
الواحد إنما يقبل إذا رواه عن النبي r اثنان، ثم يرويه عن كل واحد
منهما اثنان، وقاسه على الشهادة).()
وقال ابن حجر: (اشتراط العدد في الحديث الصحيح قال به قديماً إبراهيم بن إسماعيل
بن علية وغيره، وعقد الشافعي في الرسالة باباً محكماً لوجوب العمل بخبر الواحد)().
وهذا القياس للرواية على الشهادة يقتضي أن يروي الحديث اثنان، وكل واحد
منهما سمعه من اثنين، وكل واحد من الأربعة سمعه من اثنين، وكل واحد من الثمانية
سمعه من اثنين هكذا إلى النبي r، أو بالعكس.
وهذه الحسبة الهندسية لا وجود لها أصلاً كما قال الطوفي: (ما ذكره الجبائي
على ما فسره الشيخ أبو مُحَمَّد في مذهبه يوجب أن يتعذر علينا إثبات حديث أصلاً)().
فهذه هي القضية التي دار وطال حولها الجدل، وإنما تدور حول خبر الواحد أحجة
هو أم لا؟
فاجتهد أئمة السنة في بيان كونه حجة، وخالفهم قوم فاشترطوا العدد قياساً
على الشهادة وردّوا خبر الواحد، حتى يشهد له آخر، ولهؤلاء شبهتهم من الآثار عن بعض
الصحابة، ومن القياس.
فليس الجدل إذن هو في الآحاد – باصطلاحنا - والمتواتر؛ إذ لا يُعْرف كبير
أحد من أهل الإسلام يشترط لقبول كلّ خبر أن يكون متواتراً، وبطلان هذا القول أظهر
من أن يشتغل الشافعي والبخاري وابن حبان وغيرهم من أئمة السنة بالاشتغال به، والرد
عليه.
ثم على فرض أن مراد أئمة السنة بمصطلح (الآحاد) هو ما يقابل (المتواتر)، لا
ما يقابل (العدد)، فإن المشكلة تظل قائمة؛ إذ أن من يقيسون الرواية على الشهادة –
وهم أشهر وأظهر من خالف أهل السنة في هذه القضية – لا يخرجون باشتراطهم هذا عن
دائرة من يحتجون بخبر الآحاد؛ لأنهم لا يشترطون لقبول الخبر أن يكون متواتراً،
وإنما يشترطون العدد – فقط - وهو أن يروي الخبر اثنان، كل واحد منهما سمعه من
شيخين، قياساً للرواية على الشهادة، وهذا الشرط لا يُخرج الخبر عن كونه (آحادياً)
حسب مصطلح المتأخرين (للآحاد) الذين يقسمون الخبر إلى (آحاد) و(متواتر)، ويجعلون
(الآحاد) هو ما رواه واحد فأكثر ما لم يصل حدّ (التواتر)!
فابن حبان يقسم الأخبار إلى قسمين:
1- قسم (آحاد) وهذا لا يشترط له أي شرط.
2-
وقسم (ثنائي هندسي) (اثنان عن أربعة عن ثمانية).
فالقسم الثاني لا وجود له أصلاً في السنن، فلم يبق إذن سوى القسم الأول،
فالأخبار إذن كلها أخبار (آحادية)، لا (ثنائية) هندسية.
ولو قلنا بأن (الآحاد) عند ابن حبان هو بمعناه عند المتأخرين – وهو ما لم
يبلغ حد التواتر – فإن النتيجة التي توصل إليها تكون غير صحيحة، بل هي تناقض صريح؛
لأن النوع الثاني الَّذِي نفاه ابن حبان وتوصل بناءً على نفيه إلى أن (الأخبار
كلها أخبار آحاد): هو أيضاً من الآحاد – في مصطلح المتأخرين – فما نفاه وما أثبته
كلها آحاد!!
بل وعلى فرض أن هناك كبير أحد يشترط لقبول الخبر أن يرويه أربعة قياساً على
أعلى أنواع الشهادة – وهي الشهادة على الزنا – فإنه – أيضاً – لا يخرج بهذا الشرط
عن كونه محتجاً بخبر (آحاد)!
إذن فالنزاع هو بين من يحتجون بخبر الواحد وهو (الآحاد)، ومن يشترطون العدد
(اثنين) لقبول الأخبار.
أي أن الصراع على أشدِّه بين (الآحادية)، و(الثنائية)، وهؤلاء هم المقصودون
بالردِّ.
ويغني عن هذا كله نصّ ابن حبان عليهم حيث قال: (الأخبار كلها أخبار آحاد،
لأنه ليس يوجد عن النبي r خبر من رواية عدلين، روى
أحدهما عن عدلين، وكل واحد منهما عن عدلين، حتى ينتهي ذلك إلى رسول الله r، فلما
استحال هذا وبطل، ثبت أن الأخبار كلها أخبار آحاد).
فدلَّ هذا على أن ابن حبان إنما يردّ على (الثنائية) بالذات، ويجعل هذه
(الثنائية) بمقابل (الآحادية) التي يثبتها وينفي ما سواها.
وأصحاب (الثنائية) هؤلاء الذين ذكر مذهبهم ابن حبان كانت لهم في تلك الفترة
قوة ومكانة ومنهم القضاة والفقهاء.
سادساً: قد يقول سائل: فما هو إذن رأي ابن حبان في المتواتر، فإذا كان ينفي
(الثنائية)، فهو لما سواها أشد نفياً؟
والجواب مبني على المقدمات السابقة وهي بإيجاز:
أ- ليس لأهل الحديث مصطلح خاص بالمتواتر كما قال ابن الصلاح، حتى جاء
الخطيب البغدادي – وهو متأخر عن ابن حبان بنحو قرن من الزمان – فأخذ كلام
المتكلمين والأصوليين في (المتواتر) وأدخله في علم مصطلح الحديث.
ب- وقد ثبت أن أئمة الحديث يستخدمون كلمة (التواتر) ويستعملونها في معناها
اللغوي للدلالة على تتابع رواية الحديث من هنا وهناك من طرق مختلفة، كما قال
الشافعي: (وقد رأيت ممن أثبت خبر الواحد من يطلب معه خبراً ثانياً، ويكون في يده
السنة من خمس وجوه فيُحَدَّث بسادس فيكتبه؛ لأن الأخبار كلما تواترت وتظاهرت كان
أثبت للحجة).()
فهذا هو الشافعي الإمام – وابن حبان شافعي – يثبت التواتر، وهو عنده: ورود
الخبر من طرق ووجوه مختلفة، ويجعله اشد تثبيتاً للحجة من خبر الواحد الَّذِي تقوم
به وحده الحجة، وتزداد ثباتاً وقوة بانضمام غيره إليه. وقال في الأم: (جاءت
الأخبار كأنها عيان من وجوه متواترة أن النبي r لم يصلِّ على قتلى أحُدُ).
وقوله (كأنها عيان) يدل على أنه يقيم الخبر المتواتر مقام الحس المقطوع به،
وأنه يفيد العلم اليقيني.
وقال البخاري: (وتواتر الخبر عن رسول الله r: "لا صلاة إلا بأم
القرآن"().
وليس (المتواتر) عند البخاري والشافعي خبر (واحد) قطعاً، وليس هو من
(الآحاد) عندهما، والشافعي أمير المؤمنين في الحديث في القرن الثاني، والبخاري
أمير المؤمنين في الحديث في القرن الثالث، وابن حبان في القرن الرابع، ولا يخفى
عليه أن أهل الحديث – وهو منهم- يفرقون بين ما رواه الواحد – وإن كان حجة- وما
رواه العدد، ولا يخفى عليه استخدامُ الشافعي والبخاري لكلمة (التواتر)، كما لا
يخفى عليه مراد البخاري بإسناده (التواتر) لحديث (لا صلاة) وأن البخاري إنما قصد
أن ينبه المخالفين له إلى أن الحديث ليس محل نظر من حيث الثبوت عن النبي r وأن ثبوته
قطعياً.
وبعيد جداً أن يكون ابن حبان قصد نفي وجود خبر يصدق عليه بأنه (متواتر)، أو
يمكن وصفه (بالتواتر) عند المحدثين؛ لأن الأحاديث التي جاءت من طريق خمسة أو ستة
أو سبعة من الصحابة -رضي الله عنهم- كثيرة جداً، وإن خفيت على أحد فإنها لا تخفى
على أهل الحديث، وهذا النوع من الأحاديث إذا جاء بأسانيد صحيحة أو حسنة فإنه يصدق
عليه وصفه (بالتواتر)، وأنه (متواتر) لغةً، وكذلك في استعمال أهل الحديث الذين لا
يشترطون لوصف الخبر بأنه (متواتر) سوى التتابع من هنا وهناك، والورود من طرق ووجوه
مختلفة صحيحة، كما في عبارة الشافعي والبخاري، وإذا كان خبر الواحد يفيد العلم
النظري، فالمتواتر يفيد العلم الضروري كما يفيده العيان والحس والمشاهدة على حد
قول الشافعي.
فإذا كان ابن حبان لا يُتصور منه نفي وجود الحديث العزيز: وهو ما جاء من
طريقين، والمشهور: وهو ما جاء من ثلاث طرق، فكذلك لا يتصور منه نفي ما جاء من طرق
أكثر وهو ما يصدق عليه بأنه (متواتر) عند أهل الحديث – على الأقل.
فإن قيل: لعله يعتبر كل هذه الأنواع (آحاداً)، وإنما قصد نفي (المتواتر)
عند غير أهل الحديث، وهو ما رواه جمع عن جمع تحيل العادة اتفاقهم على الكذب، كما
عرفه المتكلمون والأصوليون؟
فالجواب: هو أن اختلاف هؤلاء في تعريف (المتواتر) شديد جداً حتى قال طاهر
الجزائري (سبب اختلاف العبارات واضطرابها إنما هو غموض هذا المبحث ودقته)()،
فإن منهم من اشترط عدداً محدداً لوصف الخبر بأنه (متواتر)، فقال بعضهم: ما زاد عن
أربعة فهو (متواتر)، وقال بعضهم: ما رواه عشرة، وقال بعضهم: ليس له عدد محدد وإنما
ما أفاد العلم فهو (متواتر)، وإن رواه أقل من عشرة ... الخ.
فأي هذه الأقوال ينفيها ابن حبان وأيها يثبتها؟
فإن قال ابن حبان: أنا أسمي ما رواه أكثر من الأربعة (آحاداً).
قيل له: غيرك يسميه (متواتراً) ولا مشاحة في الاصطلاح، على أن غيرك أسعد
منك، وأقوى حجة، فإن ما رواه الواحد (آحاد)، وما تتابع من هنا وهناك (متواتر)
بدلالة اللغة، وباستخدام الشافعي والبخاري هذا الوصف للدلالة على هذا المراد.
ب- أن شرط (الثنائية) أشد من شرط (المتواتر)، فلا يلزم من نفي وجود
(الثنائية) في الحديث النبوي نفي (المتواتر)؛ لأن (الثنائية) ترى وجوب قياس
الرواية على الشهادة، ثم الشهادة على الشهادة، وهكذا بطريقة هندسية (اثنان – أربعة
– ثمانية...الخ) وهذا النوع لا وجود له أصلا.
بخلاف (المتواتر) الَّذِي يُشترط له العدد وإفادة العلم.
فلو روى عشرة من التابعين عن عشرة من الصحابة حديثاً واحداً، كل تابعي
ينفرد به عن صحابي: لعُدَّ ذلك متواتراً عند من يشترط عدد العشرة أو اقل للتواتر،
بينما لا يعتبر هذا الحديث حجة عند أصحاب (الثنائية) بسبب تفرد كل تابعي عمن فوقه،
فلا بد من وجود شاهد مع كل تابعي عن ذلك الصحابي!
وكذا الحال لو روى سبعون تابعياً عن سبعين صحابياً، حديثاً، كل واحد روى عن
واحد، فإنه وفق نظرية (الثنائية) التي ذكرها ابن حبان لا يكون الحديث حجة، مع أنه
متواتر عند أكثر من يثبتون المتواتر.
وهكذا يثبت لنا أن نفي ابن حبان (للثنائية) لا يلزم منه نفي المتواتر
الَّذِي يثبته الناس وإن اختلفوا في تعريفه.
ولهذا كان ابن حبان دقيقاً عندما قال باستحالة وجود حديث حسب النظرية (الثنائية)،
بينما لا يمكن القول باستحالة وجود حديث (متواتر)؛ لأنه على قول من لا يشترطون
للمتواتر عدداً محدداً، وإنما ما أفاد العلم فالأخبار كثيرة من هذا النوع، كما في
عبارة الشافعي في (الأم)، وعلى قول من يشترطون عدداً أكثر من أربعة أو عشرة أو
سبعين أو مائة ففي الأخبار عدد من هذا النوع، ولا يدعي الاستحالة من له نظر في
الآثار، فبعيد جداً أن ينفي ابن حبان وجود شيء من ذلك مع وجودها بالفعل.
جـ- هذا وابن حبان إمام في العربية يعرف ويدرك مدلول ألفاظه فلما قال: (الأخبار
كلها آحاد لأنه لا يوجد خبر يرويه اثنان، وكل واحد عن اثنين، فلما استحال ذلك ثبت
أن الأخبار آحاد) علمنا أنه إنما قابل بين نوعين فقط من الأخبار لا ثالث لهما،
ونفى الثاني، وأثبت استحالة وجوده، فلم يتبق عنده سوى النوع الأول؛ ولهذا علل قوله
(الأخبار كلها آحاد) بقوله (لأنه لا يوجد خبر يرويه...الخ).
وللمعارض أن يقول له: سلمنا لك أنه لا يوجد خبر يرويه اثنان.. الخ، لكن نفي
هذا النوع من الأخبار لا يستلزم النتيجة التي توصلت إليها وهي: (أن كل الأخبار
آحاد)! بدليل أن هناك أخباراً ليست آحاداً بل هي مشهورة أو متواترة مع أنها أيضاً
ليست من رواية اثنين يروي كل واحد منهما عن اثنين...الخ.
وهنا لا يكون أمام ابن حبان إلاَّ الاعتراف بأن عدم وجود ما نفاه، بل وأثبت
استحالة وجوده، لا يعني بالضرورة أن كل الأخبار آحاد، بل هناك المشهور منها، بل
والمتواتر أيضاً، وليس هذان النوعان مما يشترط فيهما أن يروي كل راوٍ عن اثنين ...
الخ.
أو أن يقول: أنا لست بصدد مقابلة الآحاد بالمشهور أو المتواتر حتى يَرِد
علي مثل هذا الاعتراض، وإنما أنا بصدد المقابلة بين (الآحادي) و(الثنائي) الَّذِي
اشترطه بعض فقهاء المعتزلة بدعوى قياس الرواية على الشهادة ثم الشهادة على الشهادة
إلى آخر الإسناد، فإذا أثبتُّ أنا أن هذا النوع لا وجود له، لم يتبق إلا (الآحاد)،
فيلزمهم الأخذ به، والاحتجاج والعمل بمقتضاه، ومما يدل على أنني أردت نفي هذا
النوع دون ما سواه: ذكري له، ونصي عليه.
ومثاله لو قال رجل: (كل مالي ذهبُ؛ لأنه لا فضة عندي)، فإننا نفهم من
عبارته أنه يقابل بين الذهب والفضة فقط، وبما أنه ليس عنده فضة فلم يبق إلا الذهب.
أمَّا لو أراد المتكلم أنه لا مال عنده من جميع الأجناس والأصناف، لكانت
عبارته قاصرة واستدلاله وتعليله عليلاً؛ فإن عدم وجود الفضة لا يعني بالضرورة أن
ماله كله ذهب، فقد يكون له إبل وغنم وعقار.. الخ. وكان يكفيه أن يقول: (كل مالي
ذهب) ويسكت، أو يقول: (لأني لا أملك سواه)، فلما قال: (لأني لا أملك فضة)، علمنا
أنه إنما قصد مقابلة الذهب بالفضة فقط.
سابعاً: إذن كل ما سبق ذكره هو بسبب خبر الواحد أحجة هو أم لا؟
فأكثر العلماء على أنه حجة، وذهب بعضهم إلى أنه لا حجة فيه حتى يبلغ مبلغ
الشهادة في العدد.
فالقضية إذن هي في حجية خبر الواحد أو عدم حجيته، لا في المتواتر وجوده
وعدمه.
ثم نشأت قضية أخرى بعد ذلك ألا وهي: هل خبر الواحد يفيد العلم أم لا؟ وهذا
بالطبع عند القائلين بحجيته.
وقد وقع فيها الخلاف بين أهل السنة أنفسهم الذين يحتجون بخبر الواحد، فقال
بعضهم بأنه يفيد العلم، وقال بعضهم بأنه يفيد الظن الموجب للعمل، وقال بعضهم بأنه
يفيد العلم الظاهر دون الباطن، مع اتفاق الجميع على كونه حجة يجب الأخذ به.
وهذه القضية هي التي استدعت البحث في المتواتر وحدِّه؛ لأن من قالوا بأن
خبر الواحد لا يفيد العلم ذهبوا يبحثون في متى تفيد الأخبار العلم؟
ولم يول أهل الحديث أهمية لهذا الموضوع، ولا يكاد يوجد له ذكر في مؤلفاتهم
قبل الخطيب البغدادي – كما قال ابن الصلاح – وإنما أولوا عنايتهم في بيان وجوب
الأخذ بخبر الواحد، والرد على من ترك الأخذ به؛ لأنها قضية يترتب عليها عمل، بخلاف
البحث في هل هو يفيد العلم أم الظن الراجح...الخ.
فهذه من مسائل علم الكلام التي لا ثمرة تحتها ما دام الجميع متفقون على
وجوب الأخذ بخبر الواحد الصحيح، فالذين خاضوا في تقسيم الحديث إلى آحاد ومتواتر لم
يكونوا يقصدون البحث في حجية الآحاد، وإنما أرادوا البحث في متى يفيد العلم،
والشروط التي وضعوها للمتواتر لم يكن المقصود منها جعلها حداً وشرطاً لقبول
الأخبار أو ردِّها، وإنما لمعرفة مدى إفادتها للعلم، فهي من المسائل النظرية التي
لا تهم أهل الحديث كثيراً بخلاف القضية الأولى، وإن ترتب عليها بعد ذلك آثار سيئة.
هذا مع العلم أن الاختلاف في خبر (الآحاد) وهل يفيد العلم إنما هو في الأصل
في خبر الواحد، أما العزيز والمشهور فلم يكن موضع خلاف بين أهل السنة في إفادته
العلم؛ ولهذا قال الشوكاني: (اعلم أن الخلاف الَّذِي ذكرناه في أول هذا البحث من
إفادة خبر الآحاد الظن أو العلم مقيد بما إذا كان خبر واحد لم ينضم إليه ما يقويه،
وأما إذا انضم إليه ما يقويه، أو كان مشهوراً أو مستفيضاً فلا يجري فيه الخلاف
المذكور)()
أي أنه يفيد العلم لا الظن.
والمقصود بيان الفرق بين قضية اشتراط العدد لقبول الخبر، وهي القضية التي
تصدى لها المحدثون، وشنعوا على من قال بها، وهي التي أشار إليها ابن حبان في مقدمة
صحيحه، وبين موضوع تقسيم الخبر إلى آحاد ومتواتر لمعرفة ما الَّذِي يفيد العلم من
الظن، وهو موضوع لم يستثر اهتمام المحدثين حتى يحمل كلام ابن حبان عليه، بل لم
تدخل هذه القضية في مباحث علم الحديث إلا بعد الخطيب البغدادي التي نقلها من كتب
المتكلمين والأصوليين.
فعندما قال ابن حبان (الأخبار كلها آحاد) إنما كان يرد على أصحاب
(الثنائية) التي يشترطونها لقبول الأخبار، لا على من قسموا الخبر إلى آحاد
ومتواتر؛ لأن هؤلاء لم يجعلوا التواتر شرطاً لقبول الأخبار بل كلهم – إلا من قال
(بالثنائية) – يحتجون بخبر الواحد ويوجبون الأخذ به غير أنهم يجدون ببداهة العقول
الفرق بين ما رواه الواحد وما رواه الخمسة وما رواه السبعة.. الخ
وقد عرف الحازمي مراد ابن حبان وأنه يرد على المعتزلة حيث قال: (ولا أعلم
أحداً من فرق الإسلام القائلين بقبول خبر الواحد اعتبر العدد سوى متأخري المعتزلة،
فإنهم قاسوا الرواية على الشهادة، واعتبروا في الرواية ما اعتبروا في الشهادة، وما
مغزى هؤلاء إلا تعطيل الأحكام، كما قال أبو حاتم ابن حبان)().
ثامناً: ثم على فرض أن ابن حبان ينكر وجود المتواتر، فلابد أنه ينكر نوعاً
محدداً منه؛ لأنه كما لا يتصور أن ينفي ابن حبان وجود العزيز والمشهور، مع أن
كثيراً من العلماء قبل ابن حبان وفي عصره لا يجعلون المشهور من قسم الآحاد، بل هو
قسم مستقل: فكذلك لا يتصور أن ينفي المتواتر بجميع صوره، مع وجود من يطلق على ما
رواه خمسة أو ستة أو عشرة بأنه متواتر وهو موجود في صحيحه.
والسبب الَّذِي يمنعنا من تصور أن ينفي ابن حبان المشهور، هو السبب الَّذِي
يمنعنا من تصور أن ينفي المتواتر بجميع صوره، بل إن من العلماء من يجعل المشهور من
قسم المتواتر، ومنهم من يجعل المتواتر تحت اسم المشهور – كما سبق بيانه – ولا يخفى
على ابن حبان أن هناك من العلماء من لا يجعل المشهور من قسم الآحاد، فإذا قال (كل
الأخبار آحاد) فإنه بذلك ينفي ما يثبته غيره تحت قسم المشهور وسيقولون له: بل هناك
أخبار مشهورة، وكتابك الصحيح مليء بها، فإن قال لهم: إن هذه عندي من الآحاد. قالوا
له: هي عند غيرك ليست كذلك، بل هي قسيم للآحاد، وليست قسماً منه، فكيف تطلق
الألفاظ الموهمة في مثل هذه الأحكام الخطيرة دون أن توضح مرادك؟!
والمقصود أنه كما لا يتصور أن ينفي ابن حبان المشهور – وإن كانت عبارته حسب
اصطلاح المتأخرين (للآحاد) توهم ذلك – فكذلك لا يتصور أنه ينفي جميع صور المتواتر
الَّذِي اختلف المتكلمون والأصوليون في تحديده أشد الاختلاف، ولابد أن ابن حبان
أراد منه نوعاً محدداً معيناً مقابلاً (للآحاد) وقسيماً له، ولا وجود له في السنة
أصلاً، وقد أغنانا هو عن البحث عن هذا النوع حيث نص عليه، وأنه الَّذِي يُشترط
لقبوله أن يكون من رواية اثنين، رواه كل واحد منهما عن اثنين، وكل واحد من الأربعة
عن اثنين، وكل واحد من الثمانية عن اثنين... الخ قياساً للرواية على الشهادة، ثم
الشهادة على الشهادة.
فهذا النوع هو الَّذِي يقابل (الآحاد) في نظر ابن حبان؛ ولهذا استدل ابن
حبان على كون (الأخبار كلها أخبار آحاد) بعدم وجود ذلك النوع في السنة أصلاً،
ومعلوم أن هذا النوع مغاير للمشهور والمتواتر الذين لا يشترط فيهما هذه
(الثنائية)، فإذا روى سبعة –مثلاً- من التابعين عن سبعة من الصحابة حديثاً واحداً،
فانه يصدق عليه بأنه (متواتر) عند من يعتبر للمتواتر عدد خمسة أو ستة أو سبعة من
الرواة، وهذا النوع من المتواتر موجود في السنة وكثير بلا شك، وإن كان كل طريق من
طرقه (آحادي) فإنه بمجموعها يسمى (متواتراً)، بخلاف النوع الَّذِي نفاه ابن حبان
فإنه لا وجود له، وقد قال الطوفي: (ما ذكره الجبائي يوجب أن يتعذر علينا إثبات
حديث أصلاً)().
مع أن الطوفي لم يدَّعِ ذلك التعذر في (المتواتر)، لعلمه أن ما اشترطه
الجبائي ومن وافقه من المعتزلة أشد مما اشترطه من تكلم في المتواتر واجتهد في
حدِّه.
هذا وابن حبان أدرك في شبابه الجبائي إمام المعتزلة في ذلك العصر، وعلم
خطورة هذا الرأي، وأن من اشترطوا هذا الشرط لا يعلمون – بسبب جهلهم بالسنن – أنه
لا وجود لمثل هذه الأخبار على هذه الصفة وهذا الشرط، وأن ذلك يفضي إلى إبطال السنن
كلها؛ ولهذا شنع عليهم في مقدمة صحيحه.
وهذا بخلاف من تكلموا في تقسيم السنة إلى آحاد ومتواتر، فإنهم:
أولاً: لمَ يجعلوا التواتر شرطاً لقبول الخبر، بل أكثرهم يرى الحجة قائمة
بخبر الواحد.
وثانياً: لم يتفقوا على حدٍّ واحد في تعريف المتواتر.
وثالثاً: لم تكن هذه القضية ذات أهمية خاصة في ذلك العصر، بخلاف القضية
الأولى التي جُعلت شرطاً لقبول الخبر قياساً على الشهادة، فقد كانت غاية في
الخطورة والأهمية، ولا شك في أن ابن حبان إنما أراد الرد على أصحابها في عبارته
هذه كما قال الحازمي.
تاسعاً: ثم إن خلاف العلماء في المتواتر ليس في وجوده، وإنما خلافهم في
حدِّه الَّذِي يتميز به عن غيره، إذ لا خلاف بين العلماء على أن هناك أخباراً
تواترت عن النبي r، وهي بلا شك ليست كالسنن التي
جاءت من طريق واحد – وإن كانت الحجة تقوم بالجميع.
والتواتر هو التتابع، فإذا روى أهل المدينة عن أبي هريرة أو ابن عمر
حديثاً، ورواه أهل البصرة عن أنس أو عمران بن حصين، ورواه أهل الكوفة عن ابن
مسعود، ورواه أهل مصر عن ابن عمرو، ورواه أهل مكة عن ابن عباس، فمثل هذا متواتر
لغة، ومفيد للعلم عند أكثر العلماء، ولا يمكن أن يقال: إن هذا خبر واحد أو خبر
آحاد.
وإنما الخلاف بينهم هو في الشرط الَّذِي يحكم به على الخبر بأنه متواتر،
فمنهم من لم يشترط عداً محدداً، بل إذا تتابع الخبر من وجوه كثيرة، وأفاد العلم
كالعيان فهو المتواتر، وهذا قد يتحقق عندهم فيما رواه خمسة أو ستة.
ومنهم من اشترط عدداً محدداً، وهؤلاء اختلفوا فيما بينهم في العدد الَّذِي
إذا وجد أفاد الخبر العلم، فقال بعضهم: خمسة، وقال بعضهم: عشرة...الخ.
وقد قال القاضي عبد الجبار – وهو إمام المعتزلة في عصره -: (الأخبار
المتواترة نحو خبر من يخبرنا أن النبي r كان يتدين بالصلوات الخمس،
وإيتاء الزكاة، والحج إلى بيت الله، وغير ذلك، فإن هذا سبيله يعلم اضطراراً، وأقل
العدد الَّذِي يحصل العلم بخبرهم خمسة)().
فهذا القاضي عبد الجبار يقرر أن خبر الخمسة متواتر يفيد العلم. وأكثر
المتكلمين والأصوليين يترددون في العدد ما بين الخمسة إلى العشرة.
والصحيح ما ذهب إليه أصحاب الرأي الأول من أنه لا يشترط عدد محدد، بل متى
أفاد الخبر العلم، وورد وتتابع من طرق عدَّة فهو المتواتر.
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن رجل ينكر وجود الخبر المتواتر فقال:
(أما من أنكر تواتر حديث واحد فيقال له: التواتر نوعان: تواتر عن العامة؛
وتواتر عن الخاصة وهم أهل علم الحديث. وهو أيضاً قسمان: ما تواتر لفظه؛ وما تواتر
معناه. فأحاديث الشفاعة والصراط والميزان والرؤية وفضائل الصحابة ونحو ذلك متواتر
عند أهل العلم، وهي متواترة المعنى وإن لم يتواتر لفظ بعينه، وكذلك معجزات النبي r الخارجة عن
القرآن متواترة أيضاً، وكذلك سجود السهو متواتر أيضاً عند العلماء، وكذلك القضاء
بالشفعة ونحو ذلك.
وعلماء الحديث يتواتر [عندهم] ما لا يتواتر عند غيرهم؛ لكونهم سمعوا ما لم
يسمع غيرهم، وعلموا من أحوال النبي r ما لم يعلم غيرهم، والتواتر لا
يشترط له عدد معين؛ بل من العلماء من ادعى أن له عدداً يحصل له به العلم من كل ما
أخبر به كل مخبر، ونفوا ذلك عن الأربعة وتوقفوا فيما زاد عليها، وهذا غلط! فالعلم
يحصل تارة بالكثرة؛ وتارة بصفات المخبرين؛ وتارة بقرائن تقترن بأخبارهم وبأمور
أخر.
وأيضاً فالخبر الَّذِي رواه الواحد من الصحابة والاثنان: إذا تلقته الأمة
بالقبول والتصديق أفاد العلم عند جماهير العلماء، ومن الناس من يسمي هذا: المستفيض.
والعلم هنا حصل بإجماع العلماء على صحته؛ فإن الإجماع لا يكون على خطأ؛ ولهذا كان
أكثر متون الصحيحين مما يعلم صحته عند علماء الطوائف: من الحنفية، والمالكية،
والشافعية، والحنبلية، والأشعرية، وإنما خالف في ذلك فريق من أهل الكلام كما قد
بسط في موضعه)().
فهنا لم يذكر شيخ الإسلام عن أحد من أهل السنة أنه ينكر المتواتر – وهو
أعلم الناس بمذاهب الناس – وقد كان بصدد الإجابة على سؤال عمن ينكر ذلك.
وذكر أن التواتر نوعان: تواتر عن العامة ترويه عن العامة، ويأخذه الكافة عن
الكافة، وعامة شرائع الإسلام الظاهرة هي من هذا النوع كما ذكر القاضي عبد الجبار –
آنفاً- وكما قال الشافعي في مناظرته مع أحدهم: (قلت: أفرأيت سنة رسول الله r بأي شيء
تثبت؟
قال: تثبت من أحد ثلاثة وجوه.
قلت: فاذكر الأول منها.
قال: خبر العامة عن العامة.
قلت: أكقولكم مثل أن الظهر أربع؟
قال: نعم.
قلت: هذا مما لا يخالفك فيه أحد علمته)().
وهذا النوع من الأخبار لا تطلب لها الأسانيد عادة؛ لكونها معلومة من الدين
بالضرورة بنقل العامة عن العامة.
والسيرة النبوية من حيث العموم هي من هذا الضرب؛ ولهذا لم تُطلب لها
الأسانيد، إذ معلوم بالاضطرار أن النبي r هو ابن عبد الله بن عبد المطلب
بن هاشم، القرشي، المبعوث في مكة، المهاجر إلى المدينة، وأنه قاتل قريشاً في بدر
فانتصر، وقاتلهم في أحد، وحاصره الأحزاب في الخندق، وفتح مكة ... الخ.
وإنما تطلب الأخبار بأسانيدها لِمَا لَمْ يشتهر من الحوادث الفرعية الجزئية
وعلى هذا سار صاحب (السيرة) مُحَمَّد بن إسحاق.
وأما النوع الثاني من المتواتر – كما قال شيخ الإسلام – هو المتواتر عند
الخاصة، وهم أهل العلم من أهل الحديث والأخبار الذين اعتنوا بجمعها بأسانيدها، وقد
تواتر عندهم من السنن الشيء الكثير، والناس تبع لهم في هذا الباب.
وقال ابن حزم في الأحكام: (وقد يرد خبر مرسل إلا أن الإجماع قد صح بما فيه
متيقناً، منقولاً جيلاً فجيلاً، فإن كان هذا علمنا أنه منقول نقل كافة كنقل
القرآن، فاستغني عن ذكر السند فيه، وكان ورود ذلك السند وعدم وروده سواء ولا فرق،
وذلك نحو (لا وصية لوارث) وكثير من أعلام نبوته r وإن كان قوم قد رووها بأسانيد
صحاح فهي منقولة نقل الكافة).
وقال أيضاً: (إذا ورد حديث مرسل فوجدنا ذلك الحديث مجمعاً على أخذه، والقول
به، علمنا يقيناً أنه حديث صحيح لا شك فيه، وأنه منقول نقل الكافة، مستغنى فيه عن
نقل الآحاد).
وقال طاهر الجزائري: (إن اتفق للمتواتر إسناد لم يبحث في أحوال رجاله البحث
الَّذِي يجري في أحوال الأسانيد التي تروى بها الآحاد، هذا إذا ثبت تواتره لأن
الإسناد الخاص يكون مستغنى عنه وإن كان لا يخلو من فائدة)().
هذا والمقصود بالمتواتر عند الأصوليين والمتكلمين هو المتواتر عن الخاصة، وهو
الَّذِي يروى بالأسانيد؛ لأن النوع الأول لا خلاف فيه، وخلافهم في النوع الثاني
ليس في إثبات وجوده أو نفيه، وإنما خلافهم في العدد الَّذِي يشترط للحديث والخبر
للحكم عليه بأنه متواتر، والراجح عدم اشتراط عدد محدد؛ لأن ذلك يختلف باختلاف
أحوال الخبر والمخبرين كما قال شيخ الإسلام.
عاشراً: ثم على فرض أن ابن حبان ينفي النوع الثاني من المتواتر، وهو
المتواتر عند الخاصة، الَّذِي تُجمع أسانيده، فهل هو ينفي كونه يفيد العلم أم ينفي
مجرد الاسم؟
أمَّا نفي اسم (المتواتر) فلا مشاحة في الاصطلاح، فله أن يسميها أخبار
(آحاد)، لكنه –قطعاً- لا ينفي عنها كونها تفيد العلم، كما هو مذهب أهل الحديث
قديماً قبل تأثرهم بالمتكلمين، فقد كانوا يرون أن خبر الواحد إذا كان عدلاً ضابطاً
عن مثله إلى رسول الله r، يفيد العلم بأنه صادر عن رسول
الله r، مع أنهم أيضاً لا يشكون بأنه
كلما كثرت الروايات ازداد اليقين بها، وهذا وفق قاعدتهم في تفاوت العلم والإيمان
في القلب.
وأما المتكلمون والأصوليون الَّذِين فرقوا بين الآحاد والمتواتر في
إفادتهما للعلم، فقد جعلوا إفادة الآحاد ظنية، وإفادة المتواتر قطعية، وهذا وفق
قاعدتهم في أن ما يقع في القلب هو شيء واحد ثابت، فإما علم، وإما ظن، كما في
الإيمان فإما إيمان وتصديق، أو شك، فليس الإيمان عندهم شيء يزيد ويتفاوت، وكذلك
العلم عندهم.
ولهذا اجتهدوا في تحديد عدد للمتواتر ليفرقوا بين الآحاد الَّذِي لا يفيد
إلا الظن، والمتواتر الَّذِي يفيد العلم – مع احتجاجهم بالجميع.
فابن حبان إن كان يوافق على أن ما رواه الخمسة أو الستة أو السبعة أو
العشرة يفيد العلم – وهو قطعاً يقول بذلك – فهذا هو المتواتر عند غيره كما عند
كثير من المتكلمين والأصوليين، وكما نقلناه عن القاضي عبد الجبار، ولا يضير بعد
ذلك أن لا يسميه (متواتراً) غير أنه قطعاً لا يمكنه نفي وجوده في السنن النبوية
كما أمكنه نفي (الثنائية) التي لا وجود لها بالفعل.
وقد نقل ابن الصلاح عن أهل الحديث أنهم يسمون المتواتر قبل الخطيب مشهوراً
حيث قال: (ومن المشهور المتواتر الَّذِي يذكره أهل الفقه والأصول، وأهل الحديث لا
يذكرونه باسمه الخاص..)().
فابن حبان يدرج هذه الأحاديث التي ليست بخبر واحد تحت اسم (المشهور) كما
يفعل أهل الحديث في زمانه، قبل الخطيب البغدادي، ويوافق المتكلمين والأصوليين على
كون هذه الأخبار تفيد العلم، فأصبح الخلاف لفظياً فما يسمه هؤلاء (متواتراً) يسميه
ابن حبان (مشهوراً)، وصار نفيه لما سوى الآحاد لغواً لا معنى له، فوجب حمل كلامه
على نفي (الثنائية) التي نص عليها هو في عبارته، وقصد إبطالها، والتي لا وجود لها
بالفعل، ولا تحمل على نفي وجود المتواتر الَّذِي لا يختلف أهل السنة ولا المعتزلة
ولا غيرهم في وجوده، وإن اختلفوا في حدِّه وشروطه، بل إن عامة أحاديث الصحيحين
مقطوع بثبوتها عن النبي r، ولم يضع البخاري ومسلم في
صحيحيهما إلا ما أجمع على صحته أهل الحديث في عصرهما، وقبلهما، وكثير منها أحاديث
مشهورة رواها صحابيان أو ثلاثة أو أكثر.
وقد قال العلائي –كما في اليواقيت والدرر– عن المشهور: (هذا القسم ملحق
بالمتواتر عند المحدثين يفيد العلم النظري إذا كانت طرقه متباينة سالمة من ضعف
الرواة ومن الشذوذ والعلة، لكنه يفارق المتواتر في أنه يشترط عدالة نقلته، فإن
المشهور قد يكون آحادي الأصل ثم يشتهر بعد الصحابة في القرن الثاني..)().
ومعلوم أن مثل هذا النوع من الأخبار كثير جداً خاصة في الصحيحين، وقد سبق
نقل عبارة الشوكاني في إطلاق الجصاص ومن معه على مثل هذا النوع اسم المتواتر.
وهذا موجز لما سبق تفصيله:
1- لابد من مراعاة مصطلحات وألفاظ أهل
الفن بحسب عصورهم، إذ قد تختلف من عصر عن آخر.
2- وقد ثبت أن مصطلح العزيز، والمشهور، والمتواتر،
والآحاد، تختلف في معناها في عصر ابن حبان عنها بعد عصر ابن الصلاح.
3- كما ثبت أن أهل الحديث لم يستعملوا (المتواتر)
قبل الخطيب البغدادي بمعناه الاصطلاحي عند المتكلمين والأصوليين، بل كانوا يدرجون
هذا النوع تحت اسم (المشهور) كما ذكر ابن الصلاح.
4- وقد كانت القضية التي لقيت عناية فائقة من
المحدثين، وكانت مثار جدل ونزاع في عصر ابن حبان، ومن قبله، مع المعتزلة ومن
تأثرهم من الأصوليين والفقهاء: هي حول حجية خبر الواحد، والرد على من قاسوا
الرواية على الشهادة.
5- وأن أهل الحديث في تلك الفترة لم يقسموا الحديث
إلى آحاد يفيد الظن، ومتواتر يفيد العلم، بل الأحاديث التي أجمعوا على صحة
أسانيدها كرواية مالك عن نافع عن ابن عمر، أو أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة،
ونحوها: إن جاءت من طريق واحد فهي (الآحاد) وهي مفيدة للعلم النظري الاستدلالي،
وإن كانت من طرق عديدة كثيرة فإنها تفيدهم العلم الضروري وهي الاحادي (المشهورة).
6- كما لم يول أهل الحديث أهمية لقضية تقسيم الخبر
إلى آحاد ومتواتر، ولم ينشغلوا بها، لأن أهل هذا التقسيم يوافقونهم على الاحتجاج
بخبر الواحد، إلا من خالفهم من (الثنائية).
7- هذا وقد تصدى ابن حبان لمن اشترطوا (الثنائية)
لقبول الأخبار، ونصَّ على مذهبهم، وذكر أنه لا يوجد في السنة شيء من هذا النوع
الَّذِي توهموه، وأن هذا يفضي إلى إبطال السنن.
8- وقد علل ابن حبان قوله (الأخبار كلها آحاد) بأن
رواية اثنين كل واحد منهما عن اثنين... الخ لا وجود لها، وما دام الأمر كذلك
(فالأخبار كلها آحاد)، فدل ذلك على أنه بصدد مقابلة مذهب أهل السنة الَّذِين
يحتجون (بالآحاد) وخبر (الواحد)، بمذهب من يشترطون (الثنائية).
9- وقد كان أهل الحديث في عصر ابن حبان يطلقون على
الأحاديث التي رواها أكثر من واحد أسماء خاصة بها (كالمشهور) الَّذِي يشمل عندهم
(المتواتر) عند غيرهم.
10-
ولم يختلف العلماء من أهل السنة ومن خالفهم من
المتكلمين والأصوليين والفقهاء في وجود (المتواتر)، وإنما خلافهم في حدِّه وشروطه.
11-
وقد اتفقوا على أن المتواتر يفيد العلم،
ويروى من وجوه كثيرة، وحدد بعضهم عدداً لأقل طرقه، ولم يحدد غيرهم عدداً معيناً.
12-
وابن حبان أجلّ من أن يخفي عليه مثل ذلك أو
أن ينفي الأخبار التي تفيد العلم لكثرة طرقها، وهذا ما لا يقوله المعتزلة، فكيف
بإمام من أئمة الحديث؟
كل ذلك يجعلنا نقطع بأن ابن حبان عندما قال: (والأخبار كلها أخبار آحاد) لم
يكن يقصد نفي (المتواتر) كما توهم السخاوي، والملا علي القاري، والمناوي، وإنما
كان بصدد نفي (الثنائي).
وكما لا يُتصور أن ينفي ابن حبان (المشهور) فكذلك لا يتصور أن ينفي
(المتواتر)، الَّذِي كان أهل الحديث يدرجونه تحت اسم (المشهور).
كما لا يتصور –أيضاً- أن مقصود ابن حبان هو نفي الاسم فقط، مع موافقته على
أن هناك أخباراً تفيد العلم وتروى من وجوه كثيرة؛ لأن هذه هي الأخبار (المتواترة)
عند غيره.
وإنما الَّذِي أوقع السخاوي ومن معه في هذا الوهم تصورهم أن كلمة (آحاد)
عند ابن حبان هي بالمعنى المعهود عندهم وهو ما يقابل (المتواتر)، مع أن هذا
التقسيم إنما استقر بعد عصره، وبعد أن أدخل الخطيب (المتواتر) في علم الحديث.
وإذا كان الشريف حاتم قد حكم ببراءة ابن حبان من تهمة نفي الحديث (العزيز)،
فقد توصلت أنا إلى الحكم ببراءته من نفي (المتواتر).
والله تعالى أعلم.