بسم الله الرحمن الرحيم
جزء الأربعين في أحكام الخلافة ووجوب سنن الخلفاء الراشدين
تصنيف أ.د. حاكم المطيري
22 ذو الحجة 1439 / 2 سبتمبر 2018
الحمد لله رب العالمين، ولي المؤمنين، وهادي المتقين، الذي أوجب على أهل
الإسلام التوحيد والاجتماع، وحرم عليهم الشرك والافتراق، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون . وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا
وَلاَ تَفَرَّقُواْ﴾، ووعدهم
بالاستخلاف في الأرض فقال - ووعده الحق وقوله الصدق - ﴿وَعَدَ اللَّهُ
الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ
كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي
ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي
لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾..
فجعل الخلافة والاستخلاف في الأرض عاقبة للمؤمنين كلهم حال اجتماعهم -
بعد الإيمان والعمل الصالح - بظهور دولتهم، وتمكين دينهم، والحكم به في كل شئونهم،
وبتحقق الأمن لهم..
وصلى الله وسلم على نبينا محمد الهادي الأمين، ورحمة الله إلى العالمين،
القائل - كما في صحيح مسلم - (إن الله يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن
تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم).
وقال - كما عند الترمذي بإسناد صحيح - (ثلاث لا يغل عليهن صدر مسلم: إخلاص
العمل لله، ومناصحة أولي الأمر، ولزوم جماعة المسلمين، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم).
فجعل التوحيد السياسي واجتماع الأمة رديف توحيد الله وإخلاص العمل له!
وقال حين حذر أمته من الفتن وسئل عن المخرج منها فأجاب - كما في الصحيحين
- (تلزم جماعة المسلمين وإمامهم) وقال - كما عند أبي داود بإسناد صحيح - (إن كان لله
في الأرض خليفة فالزمه)!
فجعل الجماعة والخلافة والأمة الواحدة من توحيد الله وطاعته والاعتصام
بحبله، وجعلها العصمة من الفتن والفرقة العامة ودعاتها الذين على أبواب جهنم!
ورضي الله عن أصحاب رسول الله ﷺ أجمعين، وعن الخلفاء الراشدين، الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، وأوجب
على من جاء بعدهم اتباع سبيلهم، واقتفاء أثرهم، وجعل ذلك من صراطه المستقيم، فهم أهله
وأحق الناس به، كما علم الله المؤمنين في صلاتهم أن يقولوا في كل ركعة ﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ
المُستَقِيم. صِرَاطَ الَّذِينَ
أَنعَمتَ عَلَيهِمْ﴾ وهم
أصحاب رسول الله الذين أطاعوه واتبعوه؛ كما قال تعالى: ﴿وَمَن يُطِعِ اللّهَ
وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ
وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ﴾، وأوجب على من جاء بعدهم اتباعهم، ولزوم سننهم، وعدم الخروج عن سبيلهم؛
فقال: ﴿وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ
وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ
عَنْهُ﴾، فهم الهداة المهديون
الراشدون؛ كما وصفهم الله فقال: ﴿حَبَّبَ إِلَيْكُمُ
الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ
وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُون﴾، وقال مخاطبا رسوله الكريم ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا
أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ.. وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ﴾، فكل خروج عن سبيل الله ورسوله وسبيل أصحابه فسق وظلم وكفر وطغيان، وقال
ﷻ: ﴿وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ
مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ
مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا﴾.
أما بعد..
فقد كانت الخلافة الراشدة وأحكامها وسننها امتدادا للدولة النبوية التي
أقامها النبي ﷺ بنفسه كما أرادها الله وأمره بها، وواقعا عاش المسلمون في عصرهم الأول
تحت كنفها، وقامت حضارتهم في ظلها، وقد تواترت النصوص النبوية تواترا قطعيا في شأنها،
وأجمع على العمل بها الصحابة أجمعون، حتى بايعوا جميعا الخليفة الراشد الثالث عثمان
رضي الله عنه - كما في صحيح البخاري - (على سنة الله ورسوله والخليفتين من بعده، فبايعه
المهاجرون والأنصار والمسلمون)، وكما قال الإمام الشافعي في الرسالة ص ٤١٨ (وما أجمع
المسلمون عليه: من أن يكون الخليفة واحدا).
وما زالت الأمة ظاهرة بالخلافة في الأرض؛ تحقيقا لوعد الله لها بالاستخلاف،
وتعبيرا عن وحدتها واجتماعها السياسي، وعن وحدة دار الإسلام، وعن اتحاد ذمة المسلمين
وعقدهم السياسي؛ كما في الصحيحين: (ذمة المؤمنين واحدة يسعى بها أدناهم).
حتى إذا زالت الخلافة من الأرض زال بذلك سلطانهم واستخلاف الله لهم، فاحتل
العدو أرضهم، وانتزع القدس منهم، وحل بهم ما لم يسبق أن حل مثله بهم، لتتجلى صدق النبوءات
والهدايات النبوية التي جعلت العصمة من الفتن العامة بالخلافة كنظام سياسي جامع للأمة
كلها، قائما على أصول دينها، وكتاب ربها، وسنة نبيها، وخلفائه الراشدين؛ فكان الواقع
وتجلياته شاهدا ومصدقا للوحي وهداياته!
فانبرى بعد سقوط الخلافة دعاة على أبواب جهنم كما حذر منهم النبي ﷺ - كما في الصحيحين - (دعاة على أبواب جهنم من أطاعهم قذفوه فيها.. من
بني جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا) يقاتلون مع العدو المحتل، ويذودون عن البديل الذي أقامه
لهم - على أنقاض خلافة الإسلام ودولته - ويقاتلون مع دولهم الوظيفية القومية والوطنية
والملكية والعسكرية، وشايعهم من علمائها ومفكريها من زين لهم الشيطان سوء أعمالهم،
فإذا أقصى أماني صالحيهم أن يبشروا الأمة بدولة النجاشي العادل الذي كان يكتم إيمانه
ولا يحكم بالإسلام وشريعته، بدعوى الديمقراطية والدولة المدنية!
وإذا المسلمون يتجادلون في القطعيات الشرعية للتفصّي منها بدعوى التجديد،
ومواكبة تطور الحضارة، وما ثمّ إلا الجاهلية الجديدة، واتباع أهواء الذين كفروا، واقتفاء
سبيل اليهود والنصارى الذين حذرت سورة الفاتحة من اتباعهم، وأمرت باتباع سبيل المؤمنين
﴿غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّين﴾، فصارت الدول القومية والوطنية الوظيفية العلمانية التي فرضتها الحملة
الصليبية المعاصرة البديل عن دولة الإسلام وخلافته، وصار الولاء لها وطاعة حكوماتها،
هو البديل عن الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين، وصارت قوانينها الوضعية هي البديل عن الشريعة
المطهرة!
وقد حذر الله من اتباع أهواء أهل الكتاب خاصة فقال: ﴿وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم
بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ
عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ﴾ وقال تعالى: ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ
الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِير﴾!
فكيف بتعطيل حكمه كله وإقصاء شريعته وخلافته من الأرض كلها إرضاء لهم!
حتى خرج على الأمة من أدعياء العلم من يزعم بأن الخلافة ليست أصلا من الدين،
بل لم يرد في الكتاب والسنة ما يوجبها، أو يأمر بها، ولا يوجد في الصحيحين ذكر لطبيعة
الخلافة وأحكامها!
فعاد الإسلام بين أهله غريبا كما بدأ بمكة غريبا، وسيظهر مرة أخرى كما
ظهر أول مرة!
وحتى خرج من أدعياء العلم من قال بأن أحاديث الخلافة الراشدة ووجوب اتباعها
ليست صحيحة! وغرتهم الأماني وظنوا أنهم أهدى سبيلا من أبي بكر وعمر، وأعلم بالإسلام
من عثمان وعلي، وأتبع للكتاب والسنة منهم، وأفقه في دين الله ممن وصفهم الله نفسه بالرشد؛
فقال: ﴿أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُون﴾!
ولم يفرق هؤلاء المفتونون بين الأحاديث الواردة في شأن الخلافة من حيث
الرواية التي يعنى بها المحدثون خاصة، والتواتر العلمي والعملي بين الصحابة ومن بعدهم
من الفقهاء والمحدثين والمفسرين وأئمة الدين بشأن الخلافة وأحكامها وطبيعتها ورسالتها،
وإجماعهم على أن الخلافة الراشدة هي وريث النبوة في نظامها السياسي، وليس في الإسلام
إلا الخلافة بالنص والإجماع والواقع التاريخي منذ ظهور الإسلام الأول، وتحقق الاستخلاف
الأول للمؤمنين حتى انتهى ذلك بسقوط الخلافة وعودة الإسلام غريبا كما بدأ غريبا، ودخل
المسلمون مرة أخرى في مرحلة الاستضعاف، وستعود الخلافة مرة أخرى بعودة الظهور الثاني
للإسلام واستخلاف الله مجددا للمسلمين، كما تواترت بذلك الأخبار، حتى يبلغ هذا الدين
ما بلغ الليل والنهار، وحتى لا يبقى بيت وبر ولا حجر إلا دخله هذا الدين، وحتى يفتح
المسلمون روما كما فتحوا القسطنطينية التي بشرت بفتحتها الأخبار النبوية الصحيحة فتحقق
الفتح بعد تسعة قرون!
فلذلك رأيت جمع جزء حديثي يحوي أربعين حديثا صحيحا - عامتها في الصحيحين
- في الخلافة وأحكامها خاصة، بعد جزء (الأربعين النبوية في الأحكام السياسية) عامة،
ليكون أيسر على كل مسلم معرفة هذا الأصل العظيم من أصول دينه، وليتيسر لكل مسلم الدعوة
إلى إحيائها والتبشير بها كما بشر بها النبي ﷺ ، فعسى أن نكون بذلك ممن أحيا سنته ودعا إليها، كما في الحديث الحسن عند
الترمذي وابن ماجه (من أحيا سنة من سنتي، فعمل بها الناس، كان له مثل أجر من عمل بها،
لا ينقص من أجورهم شيئا، ومن ابتدع بدعة، فعمل بها، كان عليه أوزار من عمل بها، لا
ينقص من أوزار من عمل بها شيئا).
تنزيل الكتاب