"الخلافة والثورة
العربية بين الريسوني وابن بيه"
بقلم
أ د حاكم المطيري
الأمين العام لمؤتمر الأمة
8 ربيع ثاني 1440
15 ديسمبر 2018
في ظل التنافس المحموم بين (مجلس حكماء المسلمين) برئاسة الشيخ ابن بيه
برعاية الإمارات، و(اتحاد علماء المسلمين) برئاسة د. الريسوني برعاية قطر -وتوظيف كلا
الدولتين الخطاب الديني خدمة لواشنطن، ولقيادة الرأي العام الإسلامي به نحو ما يحقق
أهداف الحملة الصليبية الغربية لمواجهة ثورات الشعوب العربية؛ كما جاء صريحا في تقرير
مؤسسة راند ٢٠٠٤ بعد احتلال العراق وبدء المقاومة الشعبية ضد المحتل الغربي- تم إعادة
انتاج خطاب علي عبد الرازق من جديد، الذي قرره في كتابه (الإسلام وأصول الحكم) المنشور
١٩٢٤م -وهو في الحقيقة كتاب طه حسين نفسه، كتبه بأسلوبه ونفَسه؛ كما في كتابه (الشعر
الجاهلي)، الذي صدر ١٩٢٦م، وقد نحله للشيخ الأزهري علي عبدالرازق ليروج بين الفقهاء
بوحي بريطاني- وقد تصدى لكتاب علي عبد الرازق أئمة عصره ونقضوا شبهه، كالطاهر بن عاشور،
ومحمد الخضر حسين، ومفتي الديار المصرية العلامة محمد بخيت المطيعي في كتابه (حقيقة
الإسلام وأصول الحكم)، وكان من أشد شبه الكتاب خطورة: نفي وجوب الوحدة السياسية بين
شعوب العالم الإسلامي، والذي هو الهدف من تأليف الكتاب، والغاية من نشره وترويجه؛ لتبوءة
الحملة الصليبية فكريا وعسكريا، وتكريس مشروعها الذي أسقط الخلافة واحتل المنطقة وقسمها
فيما بينه لدول وطنية وظيفية تحت نفوذه، بخطاب ديني يجعل من كل ذلك أمرا مشروعا، تحرم
مقاومته شرعا، بنفي وجوب إعادة وحدة الأمة من جديد؛ لأن الإسلام إنما جاء بالوحدة الدينية،
لا بالوحدة والأمة السياسية، ولأنه لا يوجد أصلا نظام حكم محدد في الإسلام وهو الخلافة؛
كما صرح به الريسوني؛ فكل ذلك قضايا اجتهادية تتغير بتغير الزمان والمكان؛ فيحرم لذلك
القتال من أجل وحدتها وتحريرها، بل الإسلام على العكس من ذلك جاء بالوحدة العالمية
بين شعوب الأرض ليصبح المسلمون والصليبيون المحتلون لأرضهم إخوة في ظل وحدة إنسانية!
كما قال ابن بيه كما في حسابه بالتويتر نقلا لكلمته
في مؤتمر الوحدة بمكة بتاريخ ١٣/ ١٢/ ٢٠١٨م (مفهوم الوحدة لا يعني بالضرورة أن يكون
المسلمون في كيان واحد، ولا يجوز إعلان الحروب وإلحاق الضرر بالناس من أجل ذلك،
فالخلافة مثلاً هي أمر مصلحي وليس تعبديًا).
وقال أيضا: (الوحدة مفهوم إسلامي عظيم، يشمل جميع دوائر الوجود الإنساني،
ويغطي جميع العلاقات الفردية والجماعية والدولية، فالإسلام هو دين التوحيد، ودين الوحدة،
وحدة الشعور والشعائر)!
وقال لشرعنة هذا
الواقع الجاهلي ودويلاته الوطنية الوظيفية التي أقامتها الحملة الصليبية على أنقاض
الخلافة العثمانية في ظل ضعف الأمة وعجزها (دلت الممارسة التاريخية للأمة، حيث تعددت
دول الإسلام وتعدد أئمتهم ولم يثبت أن أحداً سعى إلى توحيد الأقطار تحت راية واحدة
بدافع عقدي يستبطن مبدأ وجوب الخلافة ووحدة الإمام.
فأفق الوحدة المنشود لا يمكن أن يكون مبررا لسلب
الدولة الوطنية حقها في الشرع والشرعية والمشروعية. فالدول الوطنية في عالمنا الإسلامي
اليوم مع اختلاف أشكالها وصورها، هي نظم شرعية لها من المشروعية ما كان للإمبراطوريات
الكبرى التي كانت قائمة في التاريخ بناء على قانون المصالح والمفاسد الذي تدور حوله
أحكام الشرع).
وهي عينها شبهة علي عبدالرازق يعاد انتاجها من جديد إلا أنه في هذه المرة
باسم أكبر الاتحادات الإسلامية الحركية برعاية قطر، والصوفية برعاية الإمارات، والسلفية
برعاية السعودية!
وإذا الأمة تفتن في دينها كما فتنت في دنياها!
وإذا العلمانية تلبس لبوس الإسلام، فإذا هي تعود من الشباك بعد أن أخرجها
فقهاء الأمة من الباب! وإذا الردة -كما حكم عليها به مفتي مصر الشيخ بخيت المطيعي وشيخ
الإسلام في الدولة العثمانية مصطفى صبري ومحمد الخضر حسين شيخ الأزهر- تصبح مقصدا من
مقاصد الإسلام في الخطاب الديني الجديد!
وقد نقض الشيخ المطيعي شبهة علي
عبدالرازق بأن الإسلام جاء بالأمة الدينية، وأوجب الوحدة الدينية فقط لا الأمة والوحدة
السياسية في دولة واحدة؛ فقال في ص ٣٤٧: (نعم إن الذين يرتبطون بهذا الدين الحنيف أمة
واحدة لها وحدة دينية ووحدة سياسية، أما الوحدة الدينية فهي رابطة دين الاسلام الذي
يرتبطون به ويؤمنون به وكانوا بذلك إخوة كما قال تعالى: {إنما المؤمنون إخوة} وهو دین
واحد لا تعدد فيه ولا اختلاف، وقانون واحد هو كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، وأما الوحدة السياسية فلأن رسالة نبينا الإلهية ولاية عامة تنتظم جميع
أنواع الولايات ومنها ولاية الملك المستمد من الله تعالى وهي تحمل الكافة على مقتضى
النظر الشرعي في جلب المصالح الدنيوية والدينية ودفع المضار الدنيوية والدينية، فإن الحق إن جميع أحكام الله تعالى التي هي عبارة عن الشريعة الإسلامية
مبناها مصالح العباد في جلب المنافع ودفع المضار في الحياة الدنيا والآخرة ومبناها
على التوسط بين جانبي التفريط والإفراط، فهي الصراط المستقيم..
فهذه وحدتها السياسية، فالملك الإلهي المستفاد منه تعالى الذي يرجع إلى
القانون الإلهي الذي وضعه الله تعالى لعباده وشرعه على لسان محمد ﷺ على مقتضاه يكون حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في جلب المصالح ودفع
المضار في الدارين، وكيف لا يكون للأمة الإسلامية وحدة سياسية والله تعالى يقول:
{يا أيها الذين آمنوا کونوا قوامین الله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنان قوم على أن
لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله ان الله خبير بما تعملون}، ويقول تعالى:
{يا أيها الذين آمنوا کونوا قوامین بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين
إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا
فإن الله كان بما تعملون خبيرا}، فهل الأمة التي يكون في شريعتها هذه العدالة التي
قضت بها تلك الآيات وأمثالها لا يكون لها وحدة سياسية؟!
ثم قال المؤلف علي عبدالرازق في صحيفة ۷۷: "تلك دعوة قدسية ظاهرة لهذا العالم أحمره وأسوده أن يعتصموا بحبل الله الواحد،
وأن يكونوا أمة واحدة يعبدون إلها واحدا، ويكونون في عبادته إخوانا، تلك دعوة إلى المثل
الأعلى لسلام هذا العالم وأخذه إلى ما يليق به من الكمال، وإلى ما أعد له من السعادة
تلك رحمة الله بالأرض، وفضل الله على العالمين"!
ونقول للمؤلف إذا كنت تعترف بأن الإسلام دعوة قدسية إلى آخر ما قلت؛ فكيف
تكون وحدة دينية لا وحدة سياسية؟!
وإذا كانت الدعوة إلى الملة الإسلامية دعوة قدسية كما تقول يتم بها ارتباط
المعتصمين بحبلها الواحد وهو القرآن وأن يكونوا أمة واحدة يعبدون إلها واحدا إلى آخر
ما ذكرت فكيف يتم ذلك الارتباط بدون أن يكون لهم رئيس يسوسهم ويحملهم باللين؟!
کيف والمشاهد خلاف ذلك؟!
وقال المؤلف علي عبدالرازق في صحيفة ۷۸: "فأما أخذ العالم كله بحكومة واحدة وجمعه تحت وحدة سياسية مشتركة فذلك مما
يوشك أن يكون خارجا عن طبيعة البشرية ولا تعلق به إرادة الله تعالى"!
ونقول له إننا معاشر المسلمين لا ندعي ذلك، بل نقول إن الذين يجب عليهم
أن يؤخذوا بحكومة واحدة، وأن يجتمعوا تحت سياسة مشتركة بينهم هي سياسة شريعتهم هم الأمة
التي ارتبطت برابطة دين الإسلام وشريعته، والتزمت العمل بها والجري على أحكامها في
أمور الدين والدنيا، وأما من لم يرتبط بهذه الرابطة فشريعتنا جعلت هؤلاء قسمين:
قسما عاهدونا ودخلوا في ذمة الإسلام والمسلمين، وهؤلاء تجري عليهم أحكامنا
في المعاملات الدنيوية، لهم ما لنا وعليهم ما علينا، ويجب علينا المحافظة على أنفسهم
وأموالهم وأعراضهم كما يجب علينا أن نحافظ على أنفسنا وأموالنا واعراضنا على حد سواء،
ولا نتعرض لهم في كل ما يتعلق بشعائرهم الدينية بل نتركهم وما يدينون وذلك عملا بعهد
الذمة الذي بيننا وبينهم. وقسما لا عهد بيننا وبينهم، وهؤلاء أحكامنا منقطعة بالكلية
في دیارهم فلا يجري فيها حكم من أحكام الاسلام، كما أن أحكامهم منقطعة في دارنا فلا
يجري في دارنا حكم من أحكامهم حتى قلنا بعدم التوارث بين من يكون في دارنا منهم حقيقة
وحكما، بأن دخل في ذمتنا وأقام في دارنا، وبين أمه وأبيه وزوجه وبنيه وكل قريب له إذا
كان في داره حقيقة وحكما، أو حكما فقط بأن كان في دارنا مستأمنا [وهو المقيم بيننا
بشكل مؤقت ثم يعود لدار الكفر كالتجار]، فإنه لا يرث من قريبه الذمي في دارنا، ومن
أسلم في دار الحرب ولم يهاجر إلينا وبقي مقيما بها لا يرثه قريبه المسلم في دارنا،
ولا يرث هو قريبه المسلم في دارنا قال تعالى: {والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من
ولايتهم من شيء}، كما هو مفصل في الفقه.
وبذلك تعلم أن المسلمين لا يقولون بأخذ العالم كله بحكومة واحدة وجمعه
تحت وحدة سياسية واحدة مشتركة بل اعتقادهم أن الجهاد فريضة ماضية إلى يوم القيامة بنادي
على خلاف ما يدعیه المؤلف! فإن دوام فرضية الجهاد إنما هو بدوام من يجب على المسلمين
أن يجاهدوهم فالعقل والنقل يشهدان أن المسلمين لا يدعون ذلك)!
وقال المطيعي أيضا في ص ٣٧٦: (وقد قدمنا لك ما يهدم ما قاله المؤلف في
هذه الصحيفة وفي الصحيفة ۸۰ أيضا، وقوله "والعرب وإن جمعتهم شريعة الإسلام لم يزالوا يومئذ على
ما عرفت من تباين"، وقوله "تلك حال العرب يوم لحق عليه السلام بالرفيق الأعلى:
وحدة دينية عامة من تحتها دول تامة التباين الا قليلا إلى آخره"!
فإن كل هذا الذي قاله المؤلف کذب محض لما هو ثابت بالضرورة وبالتواتر،
فإن الثابت في الأحاديث الصحيحة والسير الصحيحة أنه ما من قبيلة دخلت في الإسلام إلا
كان عليه الصلاة والسلام يجعل عليهم أميرا منهم أو من غيرهم ويأخذون عنه ما يلزم لهم
من الأحكام في أمورهم الدينية والدنيوية، ويرجعون إليه في كل ما أشكل عليهم حكمه، كل
ذلك مسطور في كتب الحديث وكتب السير وقد ذكرنا منه كثيرا، وإن كان ما ذكرناه بالنسبة
لما تركناه خوف التطويل قليلا.
وماذا يقول المؤلف فيا اشتمل عليه القرآن والأحاديث من الأساليب السياسية
وأنظمة الدول المدنية كأحكام القصاص في العمد نفسا كان أو طرفا، وفي الديات في الخطأ
نفسا كان أو طرفا، وفي البيوع والإجارات والهبات والإمارات والمزارعة والمساقاة والتجارات
بأنواعها والشركات وضروبها والحدود والتعزیرات، ونظام القضاء وآدابه من مرافعات وحاكم
ومحكوم له ومحكوم عليه ومحكوم به وطريق وشروط كل واحد مما ذكر وما يتعلق بها من أحكام
الدفوع والشهادات وأنواعها وبيان من تقبل شهادته ومن لا تقبل وأسباب عدم القبول وغير
ذلك من كل ما يتعلق بالعباد في أمورهم الدنيوية!
والسير والتواريخ الثابتة بالأسانيد الصحيحة كلها تشهد بأن العرب جمعتهم
شريعة الإسلام لم تدع بينهم تباينا في السياسة ولا في غيرها من مظاهر الحياة المدنية
والاجتماعية والاقتصادية، وأنهم ما كانوا دولا شتى، بل كانوا دولة واحدة يحكمهم حاكم
واحد هو النبي ﷺ، وحكمه فيهم يرجع إلى قانون سیاسي واحد، يعرفه الكافة منهم، ويسلمونه
وينقادون إلى حكمه، قد
فرضه الله تعالى لعباده على لسان رسوله ﷺ، وهو نافع لعباده في أمورهم الدينية والدنيوية بحيث لا ينتظم معاشهم ومعادهم
الا باتباعه والعمل به والانقياد له كما قال تعالى : {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا
يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما}، كل هذا موجود في القرآن والأحاديث
-وهي متداولة بين الناس يقرؤنها ويدرسها نحو ثلاثمائة مليون مسلم على وجه الأرض- محسوس
يكاد يلمس باليد لا ينكره إلا من فقد حسه، وأنكر نفسه، كالمؤلف ومن على شاكلته ممن
اتخذوا المكابرة وإنكار الضروريات مذهبا ودیدنا!
والمسألة التي تكلم فيها المؤلف وخاض فيها ونحن الآن بصددها مسألة نقلية
محضة والمدار في قبولها على تصحيح النقل وقد صح النقل بوجود تلك القواعد والأنظمة السياسية
والدينية في الكتاب والسنة، والمؤلف ينكر كل ذلك ويفتري على الشريعة الإسلامية والدين
المحمدي ويسلخ منهما كل الأحكام المتعلقة بالأمور الدنيوية، وينكر الآيات القرآنية
والأحاديث النبوية المتعلقة بتلك الأحكام، وهو معلوم من الدين بالضرورة يعرفه الخاص
والعام، ومنكره كافر بلا شك! فليختر المؤلف لنفسه ما يحلو له ومع ذلك ما قاله فضلا
عن كونه إنكارا محضا للبديهيات، فعلى فرض أنه رأى ايجابي فهو ليس معه نقل ولا عقل،
لأنه لا حجة في المسائل الشرعية النقلية إلا في قول الله تعالى وقول رسوله ﷺ.
فالمؤلف بعد هذا خرج بإنكاره وليس معه عقل ولا نقل ولا دين! وبذلك بطل
قوله: "تلك حال العرب يوم لحق عليه الصلاة والسلام بالرفيق الأعلى وحدة دينية
عامة من تحتها دول تامة التباين إلا قليلا، ذلك الحق لا ريب فيه"!
وتبين أنه الباطل لا ريب فيه!
قال المؤلف في ص ۸۰ "قد يخاف
أن يخفى عليك أمر ذلك التباين الذي تقول إنه كان بين أمم العرب زمن النبي عليه السلام
وأن تخدعك تلك الصورة المنهجية التي يحاول المؤرخون أن يضموها لذلك العصر فاعلم أولا
أن في فن التاريخ أخطأ كثيرة ولكم يخطئ التاريخ وكم يكون ضلالا كبيرا"!
وأقول إن المؤلف لما وجد أنه لا يستطيع أن يمحو تلك القواعد والآداب والشرائع
من السير والتواريخ حتى يتسنى له إنكارها بلا معارض ووجد أن السير والتواريخ مملوءة
بهذه القواعد والآداب والشرائع أراد أن يطعن في التواريخ بأن في فن التاريخ خطأ إلى
آخره! ولكنه بفرض تسليم ما يقوله فليس الخطأ في كل التواريخ بل منها ما فيه الخطأ والصواب،
ومنها ما هو مروي بالسند عن الرجال الثقات فهو صواب كله، واحتمال الخطأ فيه احتمال
عقلي لم يدل عليه دليل فلا يلتفت إليه ولا يعول عليه حينئذ، ووجود الخطأ في فن التاريخ
كثيرا كان أو قليلا لا يمنع من وجود تواریخ وسير صحيحة، فكان الواجب على المؤلف إذا
كان عنده اطمئنان فيما جاء في التواريخ والسير الصحيحة منقولا بالأسانيد الصحيحة كتاريخ
الطبري وابن خلدون وابن الأثير وابن خلكان وأمثالهم ممن تحرى مؤلفوه الوقائع الصحيحة
فنقلوها وإن كان يحتمل الخطأ فهو ككل احتمال في كلام البشر لا يرد به كل الكلام، بل
إنما يرد ما ظهر خطأه بالدليل، فليقل لنا المؤلف هل عنده دليل على وجود الخطأ فيما
جاء به في تاريخ الطبري وفي كتاب تخريج الدلالات السمعية وفي السير الصحيحة من أن العرب
وغير العرب ممن جمعتهم رابطة الاسلام كان لهم وحدة سياسية ودولة واحدة؟ وحاكم واحد؟
وقانون سياسي واحد مفروض من قبل الله تعالى شامل لكل تلك القواعد التي ذكرها المؤلف
ولغيرها مما لا يعد ولا يحصى وكلها تدل على أن الأمة الإسلامية كلها كانت دولة واحدة
وكان النبي ﷺ زعيمها وحاكمها يعاونه في ذلك ولاته وأمراؤه وقضاته؟
لكن المؤلف لما وجد أن إنكار تلك القواعد والآداب والشرائع بالكلية مكابرة
مفضوحة وأنه في إمكانه أن يقول في التواریخ ما يقول لا يستطيع أن يقول مثل ذلك في القرآن
الذي هو صريح في أن أمم العرب كانت لهم وحدة سياسية ودولة واحدة سياسية أراد أن يموه
في ذلك فقال في ص۸۰ أيضا فبعد أن قال: "واعلم ثانيا أنه في الحق أن كثيرا من تنافر العرب
وتباينهم قد تلاشت آثاره بما ربط الإسلام بين قلوبهم وما جمعهم عليه من دین واحد ومن
أنظمة وآداب مشتركة واذكر ثالثا ما أسلفنا لك الإشارة إليه من أثر الزعامة الدينية
التي كانت للرسول عليه السلام فلا عجب إذن أن يكون تباين الأمم العربية قد وهت آثاره
وخفيت مظاهره وخفت حدته وذهبت شدته {واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين
قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها} = قال مكابرا
"ولكن العرب على ذلك ما برحوا أمما متباينة ودولا شتى، وكان ذلك طبيعيا، وما كان
طبيعيا قد يمكن أن تخفف حدته وتقلل آثاره ولكن لا يمكن التخلص منه بوجه من الوجوه"!
ونقول للمؤلف هب أن ما قلته صحيح لكن هل يلزم في كون الأمم الاسلامية كلهم
صاروا دولة واحدة مجتمعين على حكومة واحدة وتربطهم رابطة واحدة هي رابطة الإسلام التي
هي العروة الوثقى لا انفصام لها أن لا يقع بينهم خصام في شيء ولا شقاق وتنازع على شيء؟!
لو كان كذلك لم يوجد في العالم كله أمة لها وحدة سياسية ودولة واحدة سياسية
ذات حكومة واحدة سياسية وهذا تكليف للمجتمع الإنساني بما يغاير طبعه البشري!
ومكلف الايام غير طباعها
متطلب في الماء جذوة نار
لا شك أن وجود خلاف بين الأمم في أشياء، وتنازعهم على أشياء، وتباينهم
في أشياء، لا يقتضي أنهم دول شتى، ولا يمنع من أن يكونوا أمة واحدة ذات دولة واحدة،
ولو كان الأمر كما يقول المؤلف وأن الرابطة الدينية في كل الأمم كافية في زوال التنافر
والتباين والاختلاف والتنازع لم يكن هناك حاجة إلى وازع، وحاكم يسوس الأمة في أمورها
الدينية والدنيوية، وهذا أيضا ما يكذبه العيان والواقع والتاريخ، بل يلزم مع وجود
الرابطة الدينية أن يكون معها وازع آخر هو الحاكم الذي يرجع حكمه إلى قانون سياسي عادل
مفروض يسلمه الكافة وينقادون إلى حكمه، ولو كان الواضع لهذا القانون عقلاء الأمة
وكبراؤها وبصراؤها، فما بالك والواضع لقانون الرابطة الإسلامية {هو الله الخالق البارئ
المصور} {ألا له الخلق والامر تبارك الله رب العالمين}، و{ألا يعلم من خلق وهو اللطيف
الخبير}، كيف لا تكون الأمة الاسلامية بعد أن كانت أمم متباينة متنافرة أمة واحدة ذات
دولة واحدة وحاكم واحد هو أفضل الناس أجمعين؟!).
وقد انتهى رد العلامة
المطيعي على شبهة علي عبدالرازق التي بعثها من جديد الريسوني وابن بيه وما زلنا مع
نقض شبهاتهم وما زال للحديث بقية!