إشكالات الدولة العربية
الحديثة
دول الخليج نموذجا
بقلم أ.د. حاكم المطيري
28
/12/ 1439هـ
8/ 9/ 2018م
مقدمة:
تعد الدولة أرقى وأعقد وأخطر منظومة سياسية مجتمعية على الإطلاق عرفها
الإنسان، ولم يشتغل الفكر الإنساني كما اشتغل وانشغل بتفسير ظاهرة الدولة ومكوناتها،
والسلطة وصلاحيتها، وحقوق الأفراد فيها وواجباتهم، منذ أفلاطون وكتابه "الجمهورية"
ثم الفارابي في كتابه "آراء أهل المدينة الفاضلة" ثم جاك روسو في "العقد
الاجتماعي" حتى يومنا هذا!
وكلما توفرت للدولة شروطها الموضوعية الضرورية؛ كان ذلك أدعى لاستقرارها
وازدهارها ودوامها؛ والعكس بالعكس!
وقد باتت الدولة العربية الحديثة اليوم مهددة في وجودها، مع أنه لم يمض
عليها منذ استقلالها الصوري نصف قرن؛ وذلك لفقدها الشروط الطبيعية لقيام الدول فهي
تعيش إشكالات كبرى تهددها في صميم وجودها ومن ذلك!
١- إشكالية الشرعية الدينية والمشروعية السياسية:
هذه الشرعية التي تتجلى عادة في
لحظة إعلان تأسيس الدول، وتستند على الأسس العقائدية والفكرية والسياسية التي تقوم
عليها، والرسالة التي تحملها، والغاية التي تنشدها، والمهمة والوظيفة التي تتصدى لتحقيقها،
ومن هنا تكون لحظة التأسيس لحظة تاريخية فاصلة في مشروعية الدولة؛ ولهذا نجد مشروعية
الدولة النبوية وأسسها العقائدية والغاية منها والرسالة التي قامت من أجلها تجلت في
لحظة التأسيس التي كانت بيعة العقبة هي محطته الرئيسية، وفيها تم تحديد المبادئ العامة
والشروط والواجبات والحقوق، ثم كانت الهجرة وكتابة صحيفة المدينة المحطة الثانية التي
حددت بشكل تفصيلي مكونات الدولة والمرجعية الدستورية والتشريعية والسياسية لها:
ولحظة التأسيس هذه عادة ما تكون:
أ) جلية ومفصلية في التاريخ.
ب) واضحة المبادئ.
ج) ملهمة بشكل دائم.
د) تعبر عن إرادة المجتمع.
وعادة ما تظل الدولة رهينة هذه اللحظة التأسيسية حتى إذا استنفذت أغراضها؛
فقدت شرعية استمرارها وانهارت.
فالجمهورية الفرنسية مثلا توفرت لها لحظة تأسيسية؛ تمثلت في الثورة التاريخية
على الملكية سنة ١٧٨٩م وإعلان الدستور وحقوق الإنسان؛ وما زالت ملهمة بمبادئها حتى
اليوم؛ بينما انتهت الدولة الماركسية في روسيا الشيوعية، وانهار الاتحاد السوفيتي حين
فشلت الدولة في تحقيق الغاية التي من أجلها قامت الثورة البلشفية؛ وهي تحقيق العدالة
الاجتماعية!
وكذا الجمهورية التركية الأتاتوركية التي عبرت عن إرادة الخارج - وهي الدول
الأوربية الصليبية التي احتلت أقاليم الدولة العثمانية - أكثر من تعبيرها عن إرادة
الداخل، حتى إذا استنفذت أغراضها، واستعاد الداخل قدرته على فرض إرادته جاءت الجمهورية
الثالثة اليوم، وفقدت الأتاتوركية مشروعية وجودها واستمرارها!
وأما العالم العربي عامة، ودول الخليج خاصة؛ فهي تفتقد كل الشروط الموضوعية
لمشروعيتها واستمرارها!
فهي:
أ) لا تعبر عن إرادة شعوبها؛ بل عن إرادة المحتل الغربي للمنطقة في حدودها،
وأنظمتها، ومن يحكمها، وفي قوانينها!
ب) تمثل لحظة التأسيس سرا من الأسرار الخفية؛ كما هو شأن كل الاتفاقيات
والمعاهدات التي وقعت مع بريطانيا والتي على أساسها تم منح الشرعية السياسية لمن وقعها
من المشيخات بشكل سري ضمن بعد ذلك في الدساتير الصورية!
ج) تفتقد للشرعيتين:
١- الدينية: حيث ما زال المسلمون
يؤمنون بأنهم أمة واحدة، كانوا في دولة واحدة طوال ١٣ قرنا، ويحرم في عقيدتهم الافتراق
والتنازع ﴿واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا﴾
.
٢- وللشرعية السياسية: حيث يرفض الفكر القومي العربي هذا الواقع السياسي
وتشرذمه لصالح المحتل الخارجي؛ كما يرفض الفكر الليبرالي الأنظمة غير المنتخبة، ويرفض
الفكر الإسلامي الدولة الوظيفية التي فرضها المحتل الخارجي على أنقاض الخلافة؛ فلم
يبق لهذه الدول أسس للشرعية السياسية سوى الأساس الوطني القطري الذي فشل في تحقيق الشروط
الأخرى؛ كما سيأتي.
د) تفتقد هذه الدول الوظيفية للإلهام التاريخي؛ فلا توجد دولة عربية واحدة
تمثل تجربة ملهمة لشعوب الأمة، وقد استنفذت أغراضها والمهمة التي تم تأسيسها من أجلها
منذ سنة ١٩٢٠م، فالأنظمة العسكرية انتهت بالمهمة التي أوكلت لها وهي مهمة الضبط والسيطرة،
والحرب على شعوبها إذا ثارت ضدها؛ لتكريس نفوذ الدول الغربية التي كانت وراء هذه الانقلابات
العسكرية منذ خمسينات القرن الماضي! والأنظمة الملكية استنفذت مهمتها بتمليك المحتل
كل ثروات شعوبها وأوطانها؛ كما تقتضيه المعاهدات السرية مقابل تنصيبها على العروش!
٢- إشكالية السيادة الفعلية:
فالدول العربية والخليجية فاقدة
للسيادة أصلا؛ ولهذا لا تستطيع وحدها حماية شعوبها؛ فضلا عن حماية غيرها، وسوريا اليوم
أوضح نموذج، ومن هنا فقدت الأساس الأهم والشرط الأول في تعريف الدولة، فسيادة الدول
الوظيفية مرهونة بقرار خارجي تزول بزواله! ولهذا حدد النبي ﷺ وظيفة السلطة؛ كما في الحديث الصحيح: (الإمام جنة يقاتل من ورائه).
٣- إشكالية الانتماء والولاء:
فهذه الدول تواجه إشكالا خطير في الانتماء لها؛ إذ حصر الإسلام الانتماء
والولاء لله ولرسوله وللمؤمنين ﴿إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا﴾ ﴿الله ولي
الذين آمنوا﴾ وفي الصحيح: (أنا أولى بكل مؤمن)؛ وهي ولاية مطلقة تقتضي الطاعة مطلقا
في كل مكان وزمان، ومن هنا لا طاعة مستقلة لهذه الدولة ولا انتماء يعلو لها يعلو فوق
الانتماء لله ولرسوله وللمسلمين!
وفي الوقت الذي يوجب الإسلام الوحدة والاتحاد بين المؤمنين؛ تحاول هذه
الدول فرض الانتماء لها على حساب جماعة المسلمين التي أوجب النبي ﷺ لزومها؛ كما في الصحيحين: (تلزم جماعة المسلمين وإمامهم)!
٤- إشكالية الهوية:
فالدول الوطنية تحاول اصطناع هوية ذات خصوصية تجعل لوجودها مشروعية معقولة
إلا أن هذه الخصوصية تكاد تكون معدومة؛ فالكويتي والقطري والسعودي والعماني والإماراتي
شعب واحد وقبائل وأسر واحدة ممتدة لا يمكن ادعاء هوية تخص كل شعب إلا بشكل متكلف!
بل تحاول وسائل الإعلام فرض ثقافة فئوية تمثل بعض مكونات المجتمع على كل
الدولة كلها مما يعزز روح الفئوية والعصبية المجتمعية!
٥- إشكالية المواطنة والرعوية:
وهي أخطر إشكالية تواجهها شعوب الخليج؛ فما زال الخليجي حتى اليوم يفتقد
حقوق المواطنة التي تجعل من حقه المساواة في كل الحقوق والواجبات؛ ومنها: حقه في المشاركة
في السلطة وإدارة الدولة؛ إذ ما تزال العلاقة علاقة رعوية يخضع المجتمع فيها لاستبداد
الأسر والعشائر الحاكمة التي تشكل في حقيقتها أحزابا شمولية غير فكرية؛ بل عرقية قبلية
وتتحكم في كل مفاصل الدولة وإدارتها؛ كما هو حال حزب البعث في العراق وسوريا!