(جزء الأربعين في البشارة والشهادة للمؤمنين)
تصنيف أ. د. حاكم
المطيري
أستاذ قسم التفسير والحديث
كلية الشريعة -
جامعة الكويت
مقدمة:
الحمد الله الذي جعل الأخوّة والمحبة بين عباده المؤمنين آية منه
وفضلا، ورحمة بهم ووصلا، فقال سبحانه: ﴿وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ
أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ
وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ﴾، وقال: ﴿وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ
عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم
بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ
فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا﴾!
وأظهر لعباده المؤمنين في الدنيا قبل الآخرة حبه لهم، وحبهم له، فقال
لمن ارتدّ عنه: ﴿فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾!
وجعل الثناء عليهم من بعضهم من عاجل البشرى لهم؛ فقال عنهم: ﴿أَلا إِنَّ
أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون. الَّذِينَ آمَنُواْ
وَكَانُواْ يَتَّقُون. لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ
لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيم﴾!
وصلى الله وسلم على نبينا محمد البشير والبشرى، والرحمة الكبرى، وبعد:
فهذا جزء حديثي في أربعين حديثا صحيحا مرفوعا إلى النبي ﷺ، في حقيقة حب الله لعبده المؤمن، وكيف يعرف ذلك العبد من نفسه، ومن
حاله مع ربه، وبما يعرفه المؤمنون منه، والشهادة منهم له بذلك، وما يظهر له من
البشرى بالإيمان والعمل الصالح، والبشرى بمحبة الله له في الحياة الدنيا، وحقيقة
الاستبشار بذلك كله، والفرح ببشارات الله لعباده المؤمنين، عند الإيمان به، وعند
العمل الصالح، وعند حضور الموت، وعند الشهادة، وبعد الوفاة.
فقد بشر الله المؤمنين في آيات كثيرة، وأمر رسوله بأن يبشرهم
بالهداية، وبالنصر والفتح ﴿وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ
قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ﴾، ﴿وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا
نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِين﴾ فلما تحقق لهم
ذلك كله في الدنيا، كما وعدهم وبشرهم الله به، حتى رأوه رأي العين؛ عُلم يقينا أنه
قد تحقق لهم في الآخرة ما وعدهم الله به بلا شك ولا ريب!
وكذلك بشرهم بالفضل من الله ﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم
مِّنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيرًا﴾.
والغاية من البشرى هو تحقق الاطمئنان والفرح والسرور بها ﴿
وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ﴾!
وقد جعل الله القرآن هدى وبشرى لهم؛ فقال عنه: ﴿كِتَابٍ مُّبِين. هُدًى
وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِين﴾، وقال: ﴿ وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا
وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَاد . الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ
الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ﴾!
وخصّ المؤمنين المهاجرين والمجاهدين في سبيله بالبشارة بالرضا
والرضوان في الدنيا قبل الآخرة، فقال عنهم: ﴿ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ
فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ
وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُون . يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ
وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيم. خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾!
وبشر من اتبعهم من بعدهم بإحسان، بما بشرهم به من الرضا والرضوان؛
فقال: ﴿وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ
اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ﴾!
وجعل الشهداء منهم يستبشرون بالأحياء خلفهم؛ فرحا بقدومهم على ربهم،
حين يجدون ما وجدوه قبلهم من تحقق البشارة لهم؛ كما قال تعالى: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ
يُرْزَقُون. فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ
لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون.
يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ
الْمُؤْمِنِين﴾!
وكان النبي ﷺ يبشر كل من جاءه مؤمنا بالبشرى؛ كما في الصحيحين عن عمران بن حصين
رضي الله عنهما، قال: دخلت على النبي ﷺ وعقلت ناقتي بالباب، فأتاه ناس من بني تميم، فقال: (اقبلوا البشرى يا
بني تميم، قالوا: قد بشرتنا فأعطنا، مرتين، ثم دخل عليه ناس من أهل اليمن، فقال:
اقبلوا البشرى يا أهل اليمن، إذ لم يقبلها بنو تميم، قالوا: قد قبلنا يا رسول
الله).
وقبول البشرى -وهي تعمّ كل بشارات القرآن للمؤمنين- هو بتصديقها،
والفرح بها، عن اطمئنان ويقين؛ كأنما يرون ما بشرهم به ربهم رأي العين، والاستبشار
بها فرحا وسرورا؛ فلا يحزنهم الشيطان بالشك في هداية الله لهم إلى الإسلام
والإيمان، ولا في حب الله إياهم، ولا في تحقق وعده وبشارته لهم، التي تقتضي الفرح
منهم ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ﴾.
فمن لم يجد من نفسه اطمئنانا
بوعد الله، وسرورا ببشارته، وفرحا ببشرى الله له وللمؤمنين؛ فقد رد بشارة ربه،
وأساء ظنه به، وذلك ينافي شرط الإيمان وكماله، إن لم يناف حقيقته وأصله، وكما في
الصحيح: (أنا عند ظن عبدي بي؛ فليظن بي عبدي ما شاء)!
وكم كثر حول حقيقة البشارة السؤال، واشتد فيها الجدال، كلما توفي أو
استشهد عبد صالح مغمور، أو مجاهد صابر مستور، فأشاع الله ذكره، وأطاب الثناء
عليه، كحال المجاهد عبدالباسط الساروت
النعيمي تقبله الله في الفردوس الأعلى، وما أنطق الله به ألسنة الملايين من
المؤمنين بالثناء عليه، والشهادة له، وما وضعه الله له من القبول والمحبة في قلوب
العامة والخاصة؛ بلا اختيار منهم، وبلا عصبية قومية أو وطنية أو مذهبية أو حزبية
تحملهم على ذلك، ولا تسويق إعلامي يستنطقهم ويوجههم؛ كما هو حال المشاهير من الملأ
والرؤساء ودعاتهم وعلماء سلطانهم، أو من أهل الفضل والعلم والجهاد ورؤسائهم
وأعيانهم، فمع تواضع حال عبد الباسط وفقره -إلا من غنى نفس وشجاعة قلب وسمو همة-
فقد بسط الله -ولكل من اسمه نصيب- ذكره يوم استشهاده، وكان ذلك كشفا عن حقيقة حاله
مع الله، فهذه المحبة التي ظهرت فجأة بين المؤمنين إنما هي روح من روح الله ألقاها
عليه ساعة استشهاده، فاستبشر به -بإذن الله- الملأ الأعلى قبل الملأ الأدنى!
وهذا سر من أسرار الله في الخلق يظهر أوضح ما يكون عند وفاة العبد
وخاتمة حياته، وكما في الصحيحين عن سهل بن سعد عن النبي ﷺ: (إن العبد ليعمل، فيما يرى الناس، عمل أهل الجنة وإنه لمن أهل
النار، ويعمل فيما يرى الناس، عمل أهل النار وهو من أهل الجنة، وإنما الأعمال
بخواتيمها)!
فجعل الخاتمة عند الوفاة هي الدليل الكاشف، ولولا أنها كاشفة عن حال
العبد لما كان هناك فرق بين بوادي الأعمال وخواتمها فيما يتراءى للناس!
وربما كان ظاهر العبد على خلاف باطنه، كما في الحديث الصحيح -عند
الترمذي- عن أنس رضي الله عنه عن النبي ﷺ: (كم من أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له! لو أقسم على الله لأبرّه!
منهم البراء بن مالك).
وراه الطحاوي بلفظ: (كم ضعيف متضعف، ذي طمرين، لو أقسم على الله لأبرّ
قسمه، منهم البراء بن مالك).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه في صحيح مسلم: (رب أشعث أغبر، مدفوع
بالأبواب، لو أقسم على الله لأبره)!
ورواه الحاكم في صحيحه عنه
بلفظ: (رب أشعث أغبر ذي طمرين، تنبو عنه أعين الناس، لو أقسم على الله لأبره).
فهذا العبد الذي قد تزدريه عيون الناس لفقره وضعفه وفاقته وقلة ذات
يده هو عند الله في مقام من لو أقسم عليه لأبرّ قسمه؛ إكراما له!
وهذا سر من أسرار الله في خلقه؛ إذ العبرة بالقلوب والأرواح لا الصور
والأشباح، فالأولى من عالم الغيب، والثانية من عالم المادة، وشتان ما بين
العالمين!
وكما في الصحيح: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم بل ينظر إلى
قلوبكم وأعمالكم)!
وروى الطبراني في الأوسط بإسناد حسن عن ثوبان عن النبي ﷺ: (إن من أمتي من لو جاء أحدَكم فسأله دينارا لم يعطه، ولو سأله درهما
لم يعطه، ولو سأله فلسا لم يعطه، ولو سأل الله الجنة لأعطاها إياه، ذو طمرين لا
يؤبه له، لو أقسم على الله لأبره).
وروى الحاكم في صحيحه -وصححه ووافقه الذهبي- عن زيد بن أسلم، عن أبيه،
أن عمر رضي الله عنه، خرج إلى المسجد يوما فوجد معاذ بن جبل رضي الله عنه عند قبر
رسول الله ﷺ يبكي، فقال: ما يبكيك يا
معاذ؟ قال: يبكيني حديث سمعته من رسول الله ﷺ يقول: (اليسير من الرياء شرك، ومن عادى أولياء الله؛ فقد بارز الله
بالمحاربة، إن الله يحب الأبرار الأتقياء الأخفياء، الذين إن غابوا لم يفتقدوا،
وإن حضروا لم يعرفوا، قلوبهم مصابيح الهدى، يخرجون من كل غبراء مظلمة).
وقد أدّى خفاء هذه المعاني القرآنية في الثقافة الإرجائية المعاصرة
-مع ظهورها في آيات القرآن ظهورا قطعيا- إلى شيوع روح الشك بها، في هذا العصر الذي
غلبت على أهله الحياة المادية، حتى بين أهل العلم والفضل والصلاح بدعوى أن هذا من
الغيب الذي لا يعلمه إلا الله! فلا يشهدون لمؤمن بالبشارة، ولا يفرحون لشهيد
بالشهادة!
وقد وافق إعداد
هذا الجزء استشهاد الرئيس المصري محمد مرسي رحمه الله على يد الطاغوت في سجنه صابرا
محتسبا، فأراد الطاغوت إخفاء أمره، وطمس ذكره، فأبى الله إلا رفعه فأنطق الله الملايين
من المؤمنين بالدعاء له والثناء عليه، وضجت المساجد في مشارق الأرض ومغاربها تصلي عليه
صلاة الغائب وتذكر مآثره، بلا حول منه ولا قوة، ولا مال ولا جاه، إلا جاه الجهاد والشهادة
التي كتبه الله له على يد أعداء الله ورسله! وهذا الشعور الجمعي للأمة كلها على اختلاف
مكوناتها تجاه قتله يؤكد أن المسلمين أمة واحدة كما قالﷺ (مثل المؤمنين
في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد أو الرجل الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له
سائر الجسد بالسهر والحمى)!
وبقدر تحقق الأخوة
الإيمانية بينهم وفيهم يكون التداعي والسهر والحمى! ولا يحرم من هذا التداعي الإيماني
لما يصيب أهل الإسلام والإيمان إلا فئتان لفقدهما حقيقة الأخوة الإيمانية وانفصالهما
عن الأمة شعوريا وانقطاع ما بينهما وبينها من وشائج الموالاة:
١-المنافقون بنص
القرآن ﴿ما هم منكم﴾
٢-الطغاة والغلاة
كما في الصحيح(من خرج على أمتي يقتل برها وفاجرها ولا يتحاشى من مؤمنها ولا يفي لذي
عهدها فليس مني أو من أمتي)!
ومع ظهور هذه البشارة
الظاهرة للشهيدين مرسي والساروت وغيرهما كثير من المجاهدين والشهداء والصالحين، فقد
أبى أهل الإرجاء إلا إثارة الشبه حول جواز إطلاق وصف الشهيد عليهما مع ثبوت أسبابهما
الشرعية كما وردت في النصوص!
فعطّلوا البشارات عن مضمونها، وجعلوا للشيطان على أنفسهم وعلى
المؤمنين سبيلا فأحزنهم، وبلغ الشيطان -بسوء ظنهم بالله- مراده منهم بإحزانهم
وتخويفهم، لا مراد الله منهم الذي بشرهم ليطمئنوا ويفرحوا ﴿إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ
الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾، ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ
أَوْلِيَاءهُ﴾!
اضغط هنا لتكملة المقدمة وتنزيل الجزء