الخلافة العثمانية
ودورها في التجديد الديني وظهور الحركات الإصلاحية
تصنيف
أ.د. حاكم المطيري
بين يدي الكتاب:
الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على من لا نبي
بعده، وعلى آله وصحبه، وبعد..
فلم يتعرّض تاريخ دولة إسلامية للطعن والتشويه
في العصر الحديث؛ كما تعرّض تاريخ الخلافة العثمانية، حيث أقامت الحملة الأوربية
الصليبية -التي أسقطت الخلافة في الحرب العالمية الأولى واحتلت بلدان العالم
الإسلامي- على أنقاضها دويلات قومية ووطنية وظيفية، وشكلت ثقافة صليبية علمانية،
وأنتجت نخبا سياسية وأدبية وفكرية، نفضت يدها من دينها وهويتها وثقافتها، وولّت
وجهها شطر الغرب المحتل تسبّح بحمده وتقدّس له، وتعدّ ما سبقه احتلالا تركيا،
وتخلفا همجيا!
وقد جعلت هذه الحملة الصليبية من أولى
أولوياتها، وأهم أهدافها: الحيلولة دون عودة وحدة الأمة وشعوبها ولو شعوريا، ودون
عودة الخلافة التي طالما وحدتها سياسيا، وإن أدى هذا البديل القومي والوطني إلى
اجتياح هذه الدويلات واحتلالها، وتهجير شعوبها، وتدمير أوطانها؛ كما جرى ويجري في
فلسطين والعراق وسوريا واليمن وليبيا وأفغانستان؛ لفقدها القدرة على حماية نفسها،
ليظل المحتل هو المتحكم في شئونها وفي وجودها!
وقد تولّت هذه الدول الوظيفية -برعاية المحتل
الغربي نفسه- مهمة صياغة الفضاء الثقافي والفكري والمعرفي بما يعزز هذا الواقع
السياسي، وتضليل الرأي العام الشعبي؛ عبر مناهج التعليم ووسائل الإعلام، بنفَس
قومي عنصري، وهوس وطني جاهلي، يصوّر الخلافة العثمانية على خلاف حقيقتها، ويزوّر
حقائق تاريخها، وأنها احتلال تركي للعالم العربي، وسبب لتخلفه السياسي والديني،
خدمة للحملة الصليبية الغربية ومشروعها العلماني، وقد راجت شبهٌ وأباطيل، وأوهام
وأضاليل، حتى غدت عند قطاع واسع من الحقائق التي لا تحتاج لدليل! لولا أن تصدى لها
العلماء المصلحون، والمثقفون المنصفون الذين كشفوا زيفها، وفنّدوا شبهاتها.
وقد
بدأت بعد الربيع العربي موجة إعلامية جديدة مشبوهة لإثارة الروح القومية العربية
الجاهلية ضد تركيا وشعبها وتاريخها الإسلامي، بعد انحياز حكومتها للأمة وثورة
شعوبها في الربيع العربي من أجل الحرية، وأعادت تلك الموجة الإعلامية المشبوهة -
في ظل الثورة المضادة - الشبه ذاتها، وكان من أخطر تلك الشبه محاولة نزع صفة
الإسلامية عن الخلافة العثمانية، وبخسها دورها ودور الترك في الدفاع عن الإسلام
والأمة مدة أربعة قرون في ظل الخلافة، وقرنين قبله في ظل السلطنة العثمانية التي
تصدت للحملات الصليبية حتى فتحت القسطنطينية!
وهو ما يصادم ما أجمع عليه المؤرخون المسلمون
على اختلاف مذاهبهم وطوائفهم من الثناء على الترك وخلافتهم بالعدل، والشهادة لهم
بالصلاح والفضل، والفضل، ابتداء من المؤرخ المقريزي، والحافظ ابن حجر، والسخاوي،
والتغربردي، ومرعي الحنبلي، والغزي، وابن العماد الحنبلي، والقطب الحنفي، وانتهاء
بالعصامي المكي، والجبرتي المصري، والشوكاني اليماني!
وهو ما لم يحدث مثله لغير الدولة العثمانية،
وليس معهودا من هؤلاء المؤرخين من الفقهاء والقضاة والمحدثين العدول الثقات الثناء
على الدول بمثل ما خصوا به هذه الدولة، مع أن أكثرهم لم يكن تحت سلطانها أصلا، بل
أثنوا على جهاد أمرائها وصلاحهم وعدلهم وقيامهم بأحكام الدين منذ ظهور أمرهم في
أرض الروم، قبل أن يمتد سلطانهم إلى الشام ومصر، وكلهم عاصرها، وشهد بما شاع عنها،
وأطبقوا على تزكيتها، حد المبالغة غير المعهودة منهم، وما ذلك إلا لما أحدثه قيام
هذه الدولة وظهورها من التحول والتجديد في تاريخ الإسلام، فكان حدثا عظيما، وبعثا
جديدا، اهتز له العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه، فأنطق الله ألسنة مؤرخيه
وشاهديه بالشهادة لها، حتى إذا انتهى من سفر الوجود وجودها -وجعلها الله برزخا بين
نهاية الاستخلاف الأول للمؤمنين الذي ابتدأ بالدولة النبوية والخلافة الراشدة
وانتهى بسقوط الخلافة العثمانية، والاستضعاف الثاني الذي ابتدأ بإلغائها حتى تعود
من جديد أمة واحدة وخلافة راشدة- وافترى عليها أعداؤها وأعداء الله ورسوله ودينه،
من صنائع الحملة الصليبية التي أسقطتها، وأوليائها وحلفائها، فإذا شهادات أئمة
الإسلام العدول تنطق بالصدق، وتشهد لها بالحق، وكأنما ادخر الله لها ولخلفائها هذه
الشهادة كرامة منه لهم ليذب بها عنهم، جزاء قيامهم بالجهاد في سبيله، ونصرة دينه
﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾![الحج:38]
وقد بلغ الإسفاف في الإعلام الوظيفي اليوم -خاصة
في جزيرة العرب- حد الطعن في نسب خلفائها ودينهم واتهامهم بما هم براء منه، مع
أنهم مضوا ولم يعد لهم وارث! ومع أن النسب لا وزن له في ميزان الإسلام والقرآن؛ كما
قال تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾[الحجرات:13]، وفي الصحيح: (من بطأ به عمله لم
يسرع به نسبه)!
كل تلك الحرب الإعلامية المسعورة تشن على
الخلافة العثمانية لا لسبب إلا لأنها آخر دولة إسلامية تُذكّر الأمة بخلافتها
ورسالتها ووحدتها وسيادتها وهويتها!
وتُشنّ على تركيا الحديثة اليوم لا لشيء إلا
لأنها انحازت للأمة ولتاريخها ودينها، بعد قرن من الاغتراب، وخوفا من عودتها كدولة
مركزية قد تمهد لمشروع الأمة الواحدة والدولة المركزية القادرة على حماية شعوبها
ودفع العدو عنها، واستعادة القدس والمسجد الأقصى!
وهو ما تعدّه الحملة الصليبية ودولها الوظيفية
تهديدا مباشرا لوجودها في المنطقة كلها!
وقد جاء هذا الكتاب الذي بين يديك مختصرا لبيان
دور الخلافة العثمانية في تجديد الدين في القرن العاشر، وبعث حركة الإصلاح الديني
خاصة، والنهضة عامة، ودور الخلفاء والدولة نفسها في هذا التجديد، ابتداء بالسلطان
محمد الفاتح، وانتهاء بالسلطان عبدالحميد ومشروعه (الجامعة الإسلامية) والإحياء
الإسلامي في عصره الذي كان يسابق به الزمن قبل انهيار الخلافة أمام آخر الحملات
الصليبية، وقبل الحصار الأخير للمدينة النبوية، تلك (الجامعة الإسلامية) التي دعا
إليها السلطان عبدالحميد ولم تر النور بعد، فعسى أن تصبح يوما ما واقعا تعيشه
الأمة لتستعيد به وحدتها وسيادتها ونهضتها، وإنه لقريب، وما ذلك على الله بعزيز!
تنزيل الكتاب
……..
ذات صلة:
مكتبة أ.د. حاكم المطيري