المذهب المستحيل!
بقلم: أ.د. حاكم المطيري
١٨ / ٩/ ١٤٤٤هـ
٩/ ٤/ ٢٠٢٣م
كما لا يمكن اختراع مذهب جديد في النحو لا يمكن اختراع مذهب فقهي جديد
في الدين؛ لأنها أصلا علوم نقلية موروثة، فالنحو موروث عن فصحاء العرب وكيف نطقوا باللغة،
والفقه موروث عن فقهاء الصحابة، وكيف فقهوا الدين، كما أمرهم الله {فلولا نفر من كل
فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين}، فأمرهم القرآن بالنفير مع النبي ﷺ ليأخذوا عنه الفقه في الدين، كما أخذوا القرآن، فأخذ الصحابة العلم والفقه
بالكتاب والسنة عن النبي ﷺ، وصار لكبار فقهاء الصحابة أصحاب وأتباع لا يخرجون عن إجماعهم فيما اتفقوا
عليه، وهو أكثر مسائل الأحكام والفقه، ولا يخرجون عن مجموع أقوالهم فيما اختلفوا فيه،
وبدأ أصحابهم من فقهاء التابعين يختارون من أقوالهم ما عرفوا مأخذه ودليله فيما ذهبوا
إليه، وصار كل أهل بلد يتوارثون علم فقهاء بلدهم، فنشأت مدرسة المدينة الفقهية التي
ورثت فقه عمر، وزيد بن ثابت، وعائشة وغيرهم من الصحابة، واشتهر فقهاؤها السبعة من أئمة
التابعين التي انتهت رئاستها إلى الإمام مالك فجمع علمهم رواية وفقها وأصولا في كتابه
"الموطأ" و"المدونة"، واختار من أقوالهم أرجحها دليلا، وأقواها
مأخذا، فاشتهر مذهبه الذي لا يعدو أن يكون اختياراته من أقوالهم، وما فرعه على أصولهم.
واشتهرت في العراق مدرسة الكوفة التي أخذت الفقه عن علي، وابن مسعود، وأبي
موسى الأشعري، وانتهت رئاستها إلى الإمام أبي حنيفة وأصحابه: أبي يوسف القاضي، ومحمد
بن الحسن الشيباني، وجمعوا علم هذه المدرسة رواية وفقها وأصولا في كتبهم ككتاب
"المبسوط" و"الآثار" و"الحجة على أهل المدينة"، واختاروا
من مذاهب الصحابة عندهم ما ترجح دليله، وفرعوا عليها، فصار مذهبا فقهيا كوفيا، لا يعدو
أن يكون اختيارات للإمام وأصحابه من هذا الموروث الفقهي العراقي الواسع.
واشتهر في الكوفة أيضا سفيان الثوري الذي جمع علم أهلها رواية وفقها في
كتابه "الجامع"، واختار من أقوالهم ما صار مذهبا فقهيا له أتباعه.
وكان في البصرة من فقهاء الصحابة عمران بن حصين، وأنس بن مالك، وجابر بن
سمرة، وغيرهم، واشتهر من أصحابهم الحسن البصري، وابن سيرين، وجابر بن زيد، وقتادة،
وجمع علمهم رواية وفقها: حماد بن زيد، وحماد بن سلمه في مصنفاته، وسعيد بن أبي عروبة
في السنن.
وكذا نشأت مدرسة مكة الفقهية واشتهر فقهاؤها من أصحاب ابن عباس كعطاء،
ومجاهد، وابن جبير، وطاووس، وانتهت رئاستها إلى سفيان بن عيينة الذي جمع علمهم رواية
وفقها في كتابه "الجامع".
وفي الشام اشتهر مذهب الإمام الأوزاعي، وفي مصر مذهب الإمام الليث بن سعد،
وجمعا في مصنفاتهما فقه شيوخ بلديهما ورواياتهم، واختارا منه مذهبهما.
وجاء الإمام الشافعي فأخذ العلم عن هذه المدارس الأربع الحجازية، والعراقية،
والشامية، والمصرية، وجمع كتبهم، وقرأها عليهم، فقرأ "الموطأ" على مالك،
و"الجامع" على ابن عيينة، وكتب أصحاب أبي حنيفة، وكتب الأوزاعي، والليث بن
سعد، وألف كتابه "الأم" في الفقه، و"الرسالة" في الأصول، فحاكم
المذاهب، وحاججها، وقوى بعضها، وضعف بعضها في الأصول والفروع، واختار له مذهبا منها.
ثم جاء الإمام أحمد وكانت بغداد قد صارت عاصمة العلم والعلوم، وكان أهل
الحديث فيها ينزعون إلى مذهب سفيان الثوري، وحماد بن زيد، ومالك، وأهل الأثر، بينما
أهل الفقه ينزعون إلى مذهب أبي حنيفة، والأوزاعي، وأهل النظر، فجمع أحمد علم الفريقين،
حيث قرأ على أبي يوسف القاضي كتبه، وعلى أصحاب الثوري، وأصحاب مالك، والحمادين، واختار
منها ما ترجح دليله، فكان حجازيا عند وجود الأثر، وإلا فعراقيا في النظر، فحيثما وجد
الأثر كان أميل إلى مذهب الحجازيين، وحيثما فقده كان أميل للعراقيين.
ثم اشتهر في بغداد داود الظاهري، وكان شافعيا، ثم استقل بمذهب له، بناه
على نفي القياس، وكذا اشتهر ابن جرير الطبري بمذهب فقهي بعد أن جمع علوم أهل الإسلام
في التفسير في كتابه، "الجامع"، وفي الحديث والفقه في "تهذيب الآثار"،
واختار من مذاهبهم مذهبا، وتوفي سنة ٣١٠ للهجرة وبه ختمت المذاهب الفقهية، والتي لا
تعدو عن كونها اختيارات لأصحابها من مجموع أقوال الصحابة، حتى قال الإمام أحمد: ما
من مسألة إلا وللصحابة فيها قول.
ولهذا لم يجترئ المعتزلة على اختراع أصول للفقه ولا مذهب فقهي جديد في
أوج صراعهم الفكري مع علماء الأمة، بل التزموا بالمذاهب المشهورة؛ لأنهم أدركوا طبيعة
الفقه والأحكام الشرعية العملية وأصول استنباطها الموروثة عن الصحابة فيما أجمعوا عليه
واختلفوا فيه فلم ينازعوا الفقهاء والمحدثين فيها.
قال أبو الحسين البصري المعتزلي
في المعتمد في أصول الفقه ٢/ ١٥٠: (لأن الأحاديث قد ضبطت وجمعت فما لا يعرفه أصحاب الحديث منها في وقتنا
هو كذب)، وقال: (فأما خبر الواحد إذا أجمعت الأمة على مقتضاه وحكمت بصحته فإنه يقطع
على صحته لأنها لا تجمع على خطأ، وإن لم تحكم بصحته فعند الشيخ أبي هاشم وأبي الحسن
وأبي عبد الله أن الأمة لا تجمع على مقتضى خبر الواحد إلا وقد قامت به الحجة، وعند
غيرهم أنه لا تكون الحجة قد قامت به ولا مقطوعا على معينه، لأن الامة إذا اعتقدت وجوب
العمل بالخبر المظنون لم يستحل أن يروى لها خبر واحد قد تكاملت فيه شرائط العمل، فتعمل
به لأن العمل يتبع الاعتقادات ولهذا جاز أن يجمعوا على الحكم بالاجتهاد لما كانوا قد
اتفقوا على وجوب العمل به وجواز ذلك في خبر الواحد أولى لأنّه أظهر).