المقاومة.. والمسالمة
(٦)
العروة الوثقى والسلطان عبدالحميد
بقلم أ.د. حاكم المطيري
29/ 8/ 1444هـ
21/ 3/ 2023م
أصبحت "جمعية العروة الوثقى" السرية بعد صدور مجلة
"العروة الوثقى"، رائدة حركة المقاومة، وحادية ركبها، حيث تحولت إلى
تيار فكري وسياسي واسع ممتد من الهند إلى المغرب، وانضم إليها أشهر زعماء المقاومة
آنذاك، وإن بقيت عضوية أكثرهم فيها سرية، إلا إن نشاطهم وكتاباتهم تؤكد تلك
العلاقة بها، فكانت كالمطر لا يصيب أرضا إلا اهتزت وربت، وتحركت واضطربت، فكل حركة
مقاومة ظهرت بعد "جمعية العروة الوثقى" هي امتداد لها، وكل مجلة تأثرت
خطى "العروة الوثقى" ونسجت على منوالها؛ ثمرة لأعمالها، في كل بلد
إسلامي، كحركة الشيخين ابن باديس والبشير الإبراهيمي اللذين تعاهدا في المدينة
المنورة سنة ١٩١٣م على العودة إلى الجزائر وتحريرها من الاستعمار الفرنسي،
وإصدارهم مجلة الشهاب ١٩٢٤م والمنقذ ١٩٢٥، وتأسيس جمعية علماء الجزائر ١٩٣١م.
وحركة الشيخ أبي الفيض الكتاني في المغرب الذي حج سنة ١٣٢١هـ/ ١٩٠٣م،
ثم رجع وقام بإعلان الجهاد ضد فرنسا سنة ١٣٢٦هـ/ ١٩٠٨م، وخلع السلطان عبدالعزيز
لوقوفه مع فرنسا، واشترط في بيعة السلطان عبدالحفيظ [سلطان المغرب] ما دعت إليه
"العروة الوثقى" من شروط، كالالتزام بشورى الأمة، وإلغاء الامتيازات
للأجنبي، وإخراج فرنسا من المغرب. حتى أعدمه السلطان عبدالحفيظ سنة ١٩٠٩م!
وحركة الإمام أحمد الشريف
السنوسي وعمر المختار في ليبيا وجهادهما إيطاليا سنة ١٩١١م حتى نفي السنوسي إلى إسطنبول
سنة ١٩١٨م، وكانت علاقته وطيدة بالخلافة العثمانية.
فتكاد كل حركات المقاومة في هذه الفترة أن تنبئ عن نفسها، وتفصح عن
أصلها، من خلال أهدافها وكتاباتها، بحيث لا يخفى مدى الارتباط بينها وبين جمعية
"العروة الوثقى" السرية، والخلافة العثمانية، إن لم يكن تنظيميا كما ثبت
للأمير عبدالقادر الجزائري، وابنه محيي الدين، والإمام أحمد الشريف السنوسي،
ففكريا ومنهجيا كما هو حال ابن باديس والبشير الإبراهيمي وغيرهم من علماء هذه
الفترة وزعمائها ومجلاتهم التي عبرت عن توجهاتهم حتى كادت أساليبهم وموضوعاتهم تنم
عن مصدرها، كأنما صدرت من مشكاة واحدة، شكلا وموضوعا، وأسلوبا ومشروعا!
وفهم هذه القضية بالذات في غاية الأهمية لفهم كل الأحداث التي جرت في
تلك الفترة، فقد كان بينها كلها رابط بقدر ما اشتهر استسر، وبقدر ما خفي ظهر!
فاجعل هذا منك على ذكر قلب، وحضور عقل، فإن استبعاد الخلافة
العثمانية، والجامعة الإسلامية، وجمعية العروة الوثقى، من مشهد أحداث هذه الفترة
يجعل المؤرخ في عماية من أمره، لا يبصر طريقا، ولا يهتدي سبيلا، ولا يرى دليلا!
وما هو إلا أن تجعل هذه معالم وصوى لك حتى يستبين لك من أمر الأحداث
كلها ما كان خافيا، ويظهر منها ما كان متواريا، حتى كأنك -وإن لم تشارك أبطالها،
وتشهد أفعالها- تراها وتراهم رأي العين، لا يخفى عليك من أمر القوم شيء، وكلما خضت
ما خاضوا، وجربت ما جربوا، وصليت من نار الاستبداد والاستعمار ما صلوا، ورأيت ما
رأوا، كان ذلك أدعى لفهم الأمر على حقيقته، ودرك بدايته، ومعرفة نهايته.
رصد فرنسا نشاط العروة الوثقى:
وقد أدرك هذا السر وزير خارجية فرنسا الاستعمارية هانوتو وهو يحذر
فرنسا من وجود حركة سرية تتفرع خيوطها في كل بلد إسلامي، وتشتبك في إسطنبول!
فقد كتب مقالا في الصحف الفرنسية ونشرته مجلة المؤيد المصرية مترجما
سنة ١٣١٧هـ/ ١٨٩٩م وأورد فيه كلام كيمون في كتابه (باتالوجيا الإسلام) فرد عليه
الشيخ محمد عبده في جريدة المؤيد وقد جاء في كلام هانوتو: (ومن بين تلك الطرائق
والطوائف ما يخلد أعضاؤه إلى السكون، وربما كانت علاقتهم مع رجال حكومتنا في
الجزائر وتونس على أحسن ما يرام، وما ذلك إلا لأن الرابطة التي تربط بعضهم ببعض قد
اعتراها الوهن، ولأن الفوضى التي أصابت الإسلام الأفريقي قد أخذت نصيبها منهم،
ولكن توجد طوائف غيرها بلغت شدة العصبية منها مبلغا عظيما؛ لأنها مؤسسة على مبدأ
كفاح غير المؤمنين، وعلى كراهة المدنية الحاضرة.
وقد أسس الشيخ السنوسي في
جهة ليست بعيدة عن الأصقاع التي تلي أملاكنا في الجزائر مذهبًا خطيرًا له أشياع
وأنصار، ومقر هذا الشيخ بلدة جغبوب الواقعة على مسيرة يومين من الواحة التي
كان قائما بها هيكل البرجيس آمون، وقد هاجر أولاده الى "كفرة" ومن
مذهبهم التشديد في رعاية القواعد الدينية، وقد لبثوا زمنا مديدًا لا يرتبطون بعلاقة
ما مع الدولة العلية بسبب ما بينها وبين الدول المسيحية من العلاقات، ولكن يظهر أن
أخلاقهم الشديدة قد تلطفت، فتقربوا أخيرًا من الدولة العلية، غير أن هذا لم يمنعهم
من طرح حبائل الدسائس التي أوقفت رجال بعثاتنا عن كل عمل مفيد لصالحها في أفريقية
الجنوبية، ولم يكن الأمر قاصرًا على وسط القارة الأفريقية، فإنه توجد بالأستانة
نفسها، وبالشام، وبلاد العرب، ومراكش، "عصابة خفية"، و"مؤامرة
سرية"، تحيط بنا أطرافها، وتضغط علينا من قرب، ويخشى أنها تفترسنا إذا غضضنا
الطرف.
كنا نرى من زمن حديث رعايانا الوطنيين في الجزائر ينقادون لأوامر سرية
تناقلوها بالأفواه، وكانت تقضي عليهم بتأليف الزمر والأفواج لمهاجرة أوطانهم
والذهاب إلى آسيا الصغرى [تركيا] حيث يجدون الأمن المرجو.
يؤخذ مما تقدم أن جراثيم الخطر لا تزال موجودة في ثنيات الفتوح، وطي
أفكار المقهورين الذين اتبعتهم النكبات التي حاقت بهم، ولكن لم تثبط هممهم، نعم
ليس لمقاومتهم رؤساء يديرون هذه المقاومة، ولكن رابطة الإخاء الجامعة لأفراد
العالم الإسلامي بأسره كافلة بالرئاسة، ففي مسألة علائقنا مع الإسلام تجد المسألة
الإسلامية، والمسألة الدينية، والمسائل الداخلية والخارجية شديدة الاتصال
والارتباط بعضها ببعض، وهذا ما يجعل حلها صعبًا ومتعذرًا..).
فهانوتو لا يتحدث هنا من فراغ، فهو وزير خارجية فرنسا الاستعمارية وهي
في أوج قوتها، بل من حقيقة تجلت بكل وضوح لاحقا في حركات إسلامية جهادية تحررية
امتدت على طول وعرض خريطة العالم الإسلامي، مما جعل الحل عنده هو في تعميم النموذج
التونسي الوظيفي، الذي كان يمثل مذهب المسالمة، حيث يحكم المحتل الفرنسي من خلال
نظام وطني وظيفي، وهي التجربة التي عممت بعد ذلك لمواجهة حركة المقاومة في كل بلد
إسلامي، بتعزيز نفوذ حركة المسالمة وحمايتها وتوليتها السلطة نيابة عن الاستعمار
الخارجي!
كما جاء في مقال هانوتو: (أشرت سابقًا إلى الصلة الأكيدة بين السياسة
والدين في العالم الاسلامي، والمسلمون في الأحوال الراهنة شاعرون شعورًا قويا
بإيمانهم العام، غير أن إدراكهم مبهم من حيث الجامعة السياسية، وما كان يسميه
القدماء بالرابطة المدنية أو الوطنية، إذ ينحصر الوطن عندهم في الإسلام.
وهم يقولون إن السلطة مستمدة من الألوهية، فلا يجوز أن يتولاها إلا من
كان من عقيدتهم، ولم تدخل في رؤوسهم حتى الآن فكرة سوى هذه التي تمكنت من أفئدتهم،
وأخذت من قلوبهم أمتن مأخذ، فكان ذلك سببًا في حدوث سوء التفاهم بين الحاكمين
والمحكومين في البلاد الإسلامية الخاضعة لحكومات مسيحية.
على أنه بالرغم عن ذلك قد حصل انقلاب عظيم في بلد من هذه البلاد، فصلت
فيه السلطة الدينية عن السلطة السياسية بدون جلبة ولا ضوضاء، نريد به القطر
التونسي الذي وضعت عليه الحماية التي مؤداها احترام النظام السابق على الفتح
بصيانة القوانين والعادات من المساس، والمحافظة على مركز الباي [حاكم تونس].
وقد بالغنا في ذلك بحيث تمكنا بواسطة ما أدخلناه من التعديلات الطفيفة
شيئا فشيئًا، وأجريناه من المراقبة على الأمور الإدارية والسياسية من التداخل في
شؤون البلاد، والقبض على أزمتها، بدون شعور من أهلها! تم هذا الانقلاب بسرعة، فلم
يتألم منه الأهلون، ولم تنخدش له إحساساتهم، إذ لبثت المساجد مغلقة في أوجه
المسيحيين، والأملاك الموقوفة محبوسة على السبل التي خصصت لها، وتركت أزمة الأحكام
بأيدي القواد والقضاة، ولم يغير شيء من القوانين الأهلية إلا برضى وتصديق من
الأهالي، وربما كان بطلب منهم، وقام بأعمال هذا التغيير والتبديل، وهذا النسخ
والتحويل، عدد قليل من الموظفين، أكثرهم من التونسيين.
وجملة القول أن انقلابا عظيما حصل بدون أن يجر وراءه ألما أو توجعًا،
أو شكوى، بحيث وطدت الآن دعائم السلطة المدنية من غير أن يلحق بالدين مساس، وتسربت
الأفكار الأوربية بين السكان بدون أن يتألم منها الإيمان المحمدي، واقترنت
السلطة الفرنسية بالسلطة الوطنية اقترانا لم تغشه سحابة كدر.
إذا يوجد الآن بلد من بلاد الإسلام [تونس] قد ارتخى، بل انفصم الحبل
بينه وبين البلاد الإسلامية الأخرى الشديدة الاتصال بعضها ببعض، إذا توجد أرض
تتفلت شيئا فشيئا من مكة ومن الماضي الاسيوي. أرض نشأت فيها نشأة جديدة أنبتت في
قضائها، وإدارتها، وعاداتها، وأخلاقها. أرض يصح أن تتخذ مثالا يقاس عليه، ونموذجا
ينسج على منواله، ألا وهي البلاد التونسية.
كانت هذه البلاد ميدان التنافس والجلاد، إذ حكمت فيها قرطاجة، ورومية،
وبيزنطية، والعرب، وسان لويس، وشاراكان. فأصبحت الآن "مربط
المسالمة"، و"معهد التصالح والوئام"، ففيها الديانتان، بل
المدنيتان متلاصقتان، بل متداخلتان، حتى تأكدت نقط التشابه بينها، وانحسرت فرجة
الخلاف، وارتفعت الأحقاد من الصدور، رغبة من الفريقين في التمتع بمزايا الأراضي
الخصبة، والسماء الصافية الأديم، التي ينزل منها على القلوب برد وسلام يلطفانها.
ولعل الأطلال العديدة الشاهدة
على ما تعاقب في الأقطار التونسية من المدنيات القديمة لم تندثر تماما، ولم ينمح
أثرها، كي تهتز لاستقبالنا، ويوصل بعضها ببعض ما انقطع من حلقات سلسلة الدهر
الماضي، والزمن الغابر.
إن مسجد القيروان الجامع، شيدت عقوده على الأعمدة القديمة، وبنيت
كنيسة الكردينال لافيجري الكاتدرائية تجاه أكمة بيرسا التي عبدت فيها تانيت وخلاصة
القول أن مزيجا من التاريخ يركب في هذه الأرض تحت رعاية فرنسا وإنسانيتها، ومن
المحتمل أن تنبعث تلك الآثار من قبور الماضي فتعيش في خلال الميل الذي نطرق الآن
أبوابه للرتوع في واسع رحابه..).
وقد رد عليه الشيخ محمد عبده في عدة مقالات، وأدرك مرامي هانوتو
السياسية، فقال فيها: (يكثر المسلمون اليوم من ذكر الدولة العثمانية، والسلطان
عبدالحميد، ويعلقون آمالهم بهمته، وكثير منهم يدعو إلى عقد الولاء له، وهذا
أمر لا ينبغي أن يدهش، فإن هذه الدولة هي أكبر دول الإسلام اليوم، وسلطانها أفخم
سلاطينهم، ومنه يرتجى إنقاذ ما بين يديه من المسلمين لما حل بهم، وهو أقدر
الناس على إصلاح شؤونهم، وعلى مساعدة الداعين إلى تمحيص العقائد وتهذيب الأخلاق
بالرجوع إلى أصول الدين الطاهرة النقية.
فأي شيء في هذا يزعج أوربا
حتى تتحد على هضم حقوق المسلمين إذا حدثت حوادث مثل الحوادث الماضية؟!
بقي الكلام على جمع السلطة الدينية والسياسية في شخص واحد يقول فيه
مسيو هانوتو: إن أوربا لم تتقدم إلا بعد أن فصلت السلطة الدينية من السلطة
المدنية، وهو كلام صحيح. ولكنه لا يدري ما معنى جمع السلطتين في شخص عند المسلمين،
لم يعرف المسلمون في عصر من الأعصر تلك السلطة الدينية..
وأما العثمانيون من غير المصريين فإذا ارتقينا إلى الدولة وسلطانها
أيده الله وجدنا أن نظام الدولة قاض باستعمال المسيحيين في إدارتها ومحاكمها في كل
بلد فيه مسيحيون، والمأمورون من المسيحيين ينالون من النياشيين والرتب ما يناله
المسلمون على نسبة عددهم أو فوق ذلك، وكثير من المسيحيين نالوا من الامتيازات
والمنافع في الدولة مالم ينله مسلم، وسفارات الدولة ومناصبها العالية..).
لقد كاد يفصح الشيخ محمد عبده في هذه الفقرة عن الجهة السرية التي يحذر
منها هانوتو، والتي تتفرع في كل بلد، وتجتمع خيوطها في إسطنبول!
وهي التي انطلق منها جمال سنة ١٨٧١ في مهمة سرية، وسيعود إليها سنة
١٨٩٢م وقد أكمل المهمة!
وهذا النص في غاية الأهمية لمعرفة حقيقة دور "جمعية العروة
الوثقى" السرية، وكيف استطاعت تحويل حركة المقاومة، من حركات جهادية مناطقية،
إلى تيار فكري وسياسي يؤمن بالجامعة الإسلامية والخلافة العثمانية، ويمتد من أقصى
العالم الإسلامي إلى أدناه!
علاقة الحزب الوطني المصري بمشروع العروة الوثقى:
ولا يمكن فهم تاريخ هذه المرحلة، ونشاط الشيخين جمال الدين ومحمد عبده
بعيدا عن هذه الحقيقة التاريخية، وإن ظلت خفية سرية، في بعض مراحلها، بل وفي أهم
محطاتها كتاريخ تأسيس جمعية "العروة الوثقى"، وعلاقتها بالحزب الوطني
الذي أسسه جمال الدين في مصر بعد قدومه من إسطنبول، حتى بلغ من النفوذ حد خلع
الخديوي إسماعيل، والتحدث مع فرنسا وبريطانيا باسم الشعب المصري، والوقوف مع تولية
ابنه الخديوي توفيق!
وكل ذلك موافق تمام الموافقة لسياسة إسطنبول في مصر آنذاك، بل هو
تنفيذ حرفي لخطتها في مصر؛ لمنع انفصالها، والحيلولة دون تدخل بريطانيا في شئونها
واحتلالها.
وقد كان الخديوي توفيق نفسه عضوا في هذا الحزب، كما قال رشيد رضا: (جلس
محمد توفيق باشا على كرسي الخديوية في رجب سنة ١٢٩٦هـ، وكتب الأستاذ هذه المقالة
في تأييده، وتأييد حكومته في شعبان، تنفيذا لخطة الحزب الوطني الذي أسسه السيد
جمال الدين، وهو الذي سعى لإسقاط اسماعيل، وتولية توفيق إذ كان مشايعا له،
ومنتظما في سلكه، وصدر أمر توفيق في رمضان بنفي السيد جمال الدين من مصر بإغراء
قنصل الإنكليز، وبعزل الشيخ محمد عبده من وظيفة التدريس في مدرسة دار العلوم
ومدرسة الألسن، وإلزامه الاقامة في قريته "محلة نصر" لا يفارقها).
فالحزب الوطني نفسه هو جناح سياسي لجمعية "العروة الوثقى"
السرية، أرادت منه إسطنبول تعزيز نفوذها في مصر شعبيا، حتى لا يكون مصيرها مرهونا
بالخديوي متى ما شاء انفصل عنها، وقطع علاقته بها، وخضع للمحتل الخارجي، كما رآه
جمال في الهند وأفغانستان، حيث أدرك بأن علة شعوب العالم الإسلامي أنها أسلست
قيادها للأمراء والملوك، فوجدت بريطانيا أنها لا تحتاج أكثر من إقناع الأمراء
بالدخول تحت طاعتها ترغيبا أو ترهيبا، فإذا هي تحتل بلدانهم بلا كبير جهد وعناء،
كما سيأتي في مقالات جمال الدين!
ورأى كذلك أن سر استعصاء الأفغان على الاحتلال هو انتفاء هذه الطاعة
المطلقة، والحرية التي فطروا عليها، وأدرك أن تحرير الشعوب من الاستبداد هو السبيل
لحمايتها من الاحتلال، وتحريرها منه عند حدوثه.
ومما يؤكد طبيعة هذه العلاقة بين جمعية "العروة الوثقى"
والحزب الوطني والخلافة العثمانية، هو أن الحزب في طوره الثاني - الذي تشكل سنة
١٨٩٥م بقيادة مصطفى كامل ومحمد فريد، وجرى الإعلان عنه رسميا ١٩٠٧م - جاء امتدادا سياسيا وفكريا للحزب
الوطني الأول وجمعية العروة الوثقى ومشروعهما، ومدعوما دعما كاملا من السلطان
عبدالحميد، وكذا مجلته "مجلة اللواء" التابعة للحزب، وكانت قضيته
الرئيسة تحرير مصر من الاحتلال البريطاني، وتعزيز نفوذ الخلافة العثمانية، وطاعة
السلطان عبد الحميد الذي كان مصطفى كامل "يقدسه" على حد قول السيد رشيد
رضا!
واستطاعت بريطانيا
والخديوي توفيق قطع الطريق على الحزب الوطني -الذي فرض شروطه لتحقيق الإصلاح بعد خلع
إسماعيل، وشكل مجلسا وطنيا، وحكومة شعبية- باستثارة العسكر ودفعهم إلى الثورة بقيادة
أحمد عرابي فاختطفت الثورة الشعبية، ليستنجد توفيق ببريطانيا، فانتهت الثورة بالهزيمة،
كما ذكر ذلك الشيخ محمد عبده بعد نفيه إلى بيروت، في رسالته إلى جمال الدين، حيث قال:
(إني يا مولاي لا أحدثك عن شيء مما أصابنا بعد فراقك، فقد تكفل ببيانه أخي العزيز إبراهيم أفندي اللقاني سوى
ما تركه في كتابه من انقلاب بعض القلوب من خاصتك، وتحول أحوالهم بعد نزول ما نزل بك،
فقد تغلب أعوان الشر وأنصار السوء بقوة جاههم، وشدة بأسهم، فأرغموا العقول على الاعتقاد
بالمحال، وألجئوها بالتصديق بما لا يقال [بالافتراء على جمال]، حتى إنهم غيروا قلب
دولتلو رياض باشا عليك وعلى تلامذتك الصادقين أياما معدودة، ركن فيها للعمل بالشدة،
والأخذ ببادرة الحدة، لكن لم يلبث أن وصلنا إليه، وجلوت الأمر عليه، وكشفت له ما أغمض
من الحقيقة، حتى زال ما لبس المبطلون، وبطل كيدهم، وما كانوا يعملون، ونزلت عنده منزلة
حسدني عليها الكافة من العلماء والأمراء ورجال الحكومة، وقعدت من كل أمير مصعد النفس،
فلا ينطق إلا بما تريد حكمتك، ولا يعمل إلا ما تشاء إرادتك، فكأنك وحقك كنت بين أظهر
المصريين، ساعيا فيهم الى مقاصدك العالية، طالبًا بهم أوج السعادة، وذروة المجد والفخار
. وهكذا ضممت إلي كل من كان ينتسب إليك [من أعضاء الحزب الوطني]، صادقا في الانتساب
أو كاذبا، حتى إني لم أتأخر عن مساعدة أولئك الأشقياء الأدنياء وأمثالهم من اللئام،
تحسينا للظن، وإيثارًا لجانب العفو.
فأصلحت لهم القلوب،
وفسحت لهم من الصدور، وفتحت لهم أبواب التقدم إلى المنافع الغزيرة، لكنهم لم يرعوا
ودًا، ولم يحفظوا عهدًا، ولا حاجة الآن إلى إيضاح ما صدر عنهم خيانة ولؤما. وألفت لحبك
ممن حرم التشرف بلقائك قبيلا ليس بالقليل، يجلون قدرك، ويعرفون لك فضلك، وكنا وإخواننا
كما شرح لك ابراهيم أفندي اللقاني، ولكن هذا لم يلهني عن طلب الانتصار لك، وكدت أصل
الى ذلك من طريق مألوف، ومذهب معروف، ولكن غلبنا على الأمر قطاع طريق الخير [العسكر]،
اللابسين ثياب الأنبياء، السالكين مذاهب الجبارين: انتحلوا طريقتنا في الدعوة إلى الحرية،
وتمكنوا بقوة السيف، وضعف الحكومة من إقناع العامة بكونهم دعاة الحق، وحماة القانون،
وكانوا في بداية أمرهم أشد الناس تعصبًا عليك، وعلى تلامذتك، واشتد معهم في التعصب
أولئك الاشرار الذين قدمنا ذكرهم عنـدما رأوا بعض رجال الحكومة يميل إلى أهوائهم، ويمدهم
في بعض غيهم، ولم يدم ذلك الا قليلا، حتى محصنا من قلوبهم، وجلونا عن بصائرهم، فكادوا
يشيمون ضياء الحق لولا أن أدركتهم ظلمة الغي والغرور، ومع هذا فكنا نستعملهم لما نريد،
ولغاية ما نحب بقدر الإمكان والاستطاعة، إلى أن غلبت عناصر الفساد، وعم الاختلال.
فطلبنا بأولئك الثائرين
أن تخلص البلاد من الشقاء، وينقذ العباد من طول العناء، ورجونا تأييدهم على ذلك من
سكان الأرض والسماء، وكدنا ندرك به خلاصا حسنا، وانتصارًا شريفا، لكن لسوء البخت كان أحمد عرابي على ما وصف الصابي أبا تغلب
بن حمدان عندما قاتله عز الدولة بن معز الدولة وهزمه حيث قال فيه :"إنه لم يلق
لقاء الباضع بالطاعة، المعتذر من سالف التفريط والإضاعة، ولا لقاء المصدق في دعواه
في الاستقلال بالمقارعة، المحقق لزعمه في الثبات للمدافعة، ولا كان في هذين الأمرين
بالبر التقي، ولا الفاجر القوي، بل جمع بين نقيصة شقاقه وغدره، وفضيحة جبنه وخوره،
قد ذهب عنه الرشاد، وضربت بينه وبينه الأسداد"!
وأزيد على ذلك مع
توفر الأسباب، وتفتح الأبواب، وظهور الأمر للعيان، وانجلائه لأذهان الصبيان، واجتماع
جميع القلوب عليه، ونزوع الأهواء على اختلافها اليه، فكان ما كان من العاقبة السوءى.
ولسيرنا في تلك
الحوادث نبأ طويل، إذا أردت يا مولاي أن أقدم إليك به تاريخا ربما يكون مفيدًا فأنا
رهين الإشارة.
ونحن الآن في مدينة
بيروت نقضي بها مدة ثلاث سنوات لا لذنب جنيناه، ولا جرم اقترفناه)
وكما قطعت بريطانيا
الطريق على الحزب الوطني الأول بنفي جمال، واستثارة العسكر وثورة عرابي؛ كذلك قطعت
الطريق على الحزب الوطني الثاني باغتيال مصطفى كامل سنة ١٩٠٨م، ونفي محمد فريد، وفتح
الباب أمام سعد زغلول وحزب الوفد الذي يمثل مذهب المسالمة!
فكان الحزب الوطني في طوره الثاني سنة ١٨٩٥م هو هو الحزب الوطني في طوره الأول سنة ١٨٧٥م، بعد أن نفت بريطانيا رجال الحزب الأول وقضت على ثورة أحمد عرابي،
حتى إذا استعادت الخلافة العثمانية نفوذها وقوتها بمصر مرة أخرى في آخر عهد
الخديوي توفيق، وعهد الخديوي عباس الثاني؛ كان الحزب الوطني فيها أشد وضوحا في
ارتباطه بالخلافة والسلطان عبدالحميد حد التقديس له، كما عبّر عن ذلك مصطفى كامل
في كتابه "المسألة الشرقية"!
وهو أيضا ما عبّر عنه بوضوح الشيخ محمد عبده بعد عودته من باريس إلى
بيروت سنة ١٨٨٥م، حيث رد على صحيفة الجنة بمقال سنة ١٣٠٣هـ/ ١٨٨٦م فند فيه تحريضها
على المصريين وثورتهم، وادعائها بأنها كانت ثورة على الخديوي، فقال: (ولم يزل
المصريون على وفاق في تعظيم خديويهم وتعضيد سموه في رعاية المصالح الدولية، مع
المحافظة على حقوق البلاد إلى أن حال الإنكليز بحربهم الظالمة بين جنابه العالي
وبين رعيته، فساءت ظنون قوم من كبار ضباط الجند لبعدهم عن حقيقة أمر خديويهم،
فاستمروا على المقاومة ظنا منهم أنهم لا يقاومون إلا الإنكليز، ولا يدافعون إلا
جيشا أجنبيا يغير على البلاد، ووافقهم على ذلك عامة المصريين لهذا الظن نفسه، فلما
طالت المدة، وفشا ما كان من أوامر الجناب الخديوي وإرادة الحضرة السلطانية
[العثمانية] فيما بينهم، كان ما كان من تراجع الناس، وتسليم القيادة إلى حاكمهم
الشرعي، وخضع له المصريون كافة خضوعًا غمر أفئدتهم، وخالط ألبابهم، وهذا شأنهم
إلى اليوم، ثم حالهم مع المسيطرين عليهم من الإنكليز لم يتعد حدود المسالمة
والامتثال لأوامرهم، رجاء التخلص من غوائلهم، وانتطارًا لوفائهم بوعودهم. ولو كان
المصريون قومًا شرس الطباع صعاب المراكب، جفاة الجوانب؛ لما سكنت لهم ثائرة، ولما جنحوا
إلى مسالمة، ولما رسخت قدم الإنكليز فيهم على قلة جيشهم، وشدة ما لاقوا من عنتهم،
أما فضائل الجناب الخديوي من العفة والاستقامة والشفقة على الرعية والسعي في
مصالحها، فهو مما ذاق المصريون لذته، ووجدوا فائدته، فلا يرتابون في شيء منه،
والتنبيه عليه إعلان لخفائه على أعين مشاهديه سنين عديدة، فهو إلى الطعن أقرب منه
الى المدح، ورضاء الحضرة السلطانية [العثمانية] عن الخديوي المعظم، وإقامة الشواهد
على الرضاء بإهداء النياشين والتحف مما نشرته الجرائد المصرية وشهد المصريون رونق
الاحتفال له وبلغ شاهدهم غائبهم، فأي أثر للاحتجاج به بعد سبق علمه بأزمان عند من
تقام الحجة به عليهم.
وبالجملة فالمصريون قوم عرفوا بالطاعة لحضرة سلطانهم المعظم أمير
المؤمنين أيده الله، وعلموا أن الجناب الخديوي نائبه في بلادهم، ومظهر سلطته
عليهم، فهم له خاضعون، وعلى محبته متفقون، فإن نقل ناقل خلاف ذلك فهو إما طالب فساد أو منخدع بوسوسة أجنبية،
فقد تبين أن من حظ الإنكليز إيقاع النفرة بين الخديوى ورعيته ليتم لهم ما يريدون
منها، كما مرنوا عليه في كل بلد دخلوه.
هذه هي الحقيقة التي ينكرها الجهلاء، ويعرفها العقلاء، فلم تكن أسباب
المشاكل ما ذكره حضرة الكاتب، وإنما سببها الجشع الإنكليزي كما اتفق عليه سياسيو
العالم، ولم يكن تداخل الإنكليز حقا مفروضا في بداية الأمر، ولا حلولهم اليوم يعد
من حسناتهم، فإنا لم نسمع بأن الديون تخول للدائن حق التغلب على المالك، وأمم
العالم بين أيدينا تهتف بنا أحوالها، ولو شاء حاكم أن يحكم بحق لأحد في التداخل
لإصلاح أمر من أمور مصر فليحكم به للدولة العلية، فهي حاكمة البلاد، ولا تعجز عن
تقرير النظام فيها بالكلام، فضلا عن تجريد الحسام، ورحم الله أمرًا عرف حده، فوقف
عنده، والله الموفق لما فيه الصلاح).
وقال الشيخ محمد أيضا في مقال نشره في "ثمرات الفنون"
ببيروت في شوال ١٣٠٣هـ/١٨٨٦م ردا على الكاتب السير صموئيل باكر فيما كتبه في صحيفة
التايمز البريطانية عن كيف تحل أزمة السودان، فقال الشيخ محمد عبده: (فلم يبق من
الوجوه الممكنة إلا وجه واحد وهو انجلاء الجنود الإنكليزية عن القطر المصري، وحلول
الجيوش العثمانية فيه، وسوق فرقة منها إلى أطراف السودان، وهذا أيسر الوجوه
وأدناها من الصواب، فإنه لما لزم الاعتراف بسيادة الدولة العلية على السودان ومصر،
وأن المصريين والسودانيين ينظرون إلى الإنكليز نظرهم إلى الأعداء المتغلبين، ولا
يخضعون لهم خضوعا ثابتا، وعلى هذا لا تستقر الراحة في مصر، ولا تتأيد سلطة الخديوي
ما داموا فيها. وجب أن يطلب إلى الدولة تقرير الراحة في الديار المصرية، كما يطلب
ذلك منها للسودان، وهذا أسهل على إنكلترة أن تتفق مع الدولة عليه، وتقنع من
أعمالها السابقة ببعض الامتيازات في إدارة المالية وفيها مع إدارة أخرى وبعض
الخصوصيات في قناة السويس، هذا إلى أن يتألف جيش عثماني مصري ثم تعود مصر إلى ما
كانت عليه إن كان لا بد من ذلك، وبهذا تفرغ إنكلترا من أعمال مصر إلى أعمال أهم
منها في آسيا لما تم الها محالفة الدولة العثمانية على وجه صحيح ثابت).
فتكاد تكون قضية الخلافة العثمانية، والسلطان عبد الحميد حاضرة في كل
مقالات الشيخ محمد عبده وجمال سواء في "العروة الوثقى" في باريس، أو في
صحيفة "ضياء الخافقين" في لندن، ثم في كتاباتهم بعد ذلك في كل الصحف
والمجلات التي نشروا مقالاتهم فيها!
الشيخ محمد عبده وإصلاح التعليم:
وقد كتب الشيخ محمد عبده لائحة إصلاح التعليم الديني للخلافة
العثمانية وهو في بيروت، وأرسلها إلى شيخ الإسلام في إسطنبول، وقال في مقدمتها: (إن
من له قلب من أهل الدين الاسلامي يرى أن المحافظة على الدولة العلية العثمانية
ثانية العقائد بعد الإيمان بالله ورسوله، فإنها وحدها الحافظة لسلطان الدين،
الكافلة لبقاء حوزته، وليس للدين سلطان في سواها، إنا والحمد لله على هذه العقيدة،
عليها نحيا، وعليها نموت.
إن للخلافة الإسلامية حصونا
وأسوارًا، وإن أحكم أسوارها ما استحكم في قلوب المؤمنين من الثقة بها، والحمية
للدفاع عنها، ولا معقد للثقة، ولا موقد للحمية في قلوب المسلمين، إلا ما أتاهم من
قبل الدين..).
ثم كتب لائحة للإصلاح في
ولاية الشام حذر فيها من خطر فرنسا وبريطانيا في استمالة الطوائف والأقليات عبر
المدارس، قال فيها: (إن للدولة العلية أدام الله سلطانها، وعزز مكانها، حقوقا
ثابتة على ذمم المسلمين تتقاضاها العقيدة بعد أن قضت بها طبيعة الحياة الملية، ولا
هوادة بين الله وبين أحد من خلقه في إغفال حق من تلك الحقوق، وأدناها صرف الفكر
إلى النظر فيما يعزز جانب تلك الدولة ويقوي أركانها، وأدناها بذل ما يستطاع من السعي
لدفع مالا يلتئم مع مصلحتها، وأعلاها الجود بالنفس واستقبال هول الموت في ذلك
السبيل الأقوم.
وإنني على ضعفي –والحمد لله– مسلم العقيدة، عثماني المشرب، وإن كنت
عربي اللسان، لا أجد في فرائض الله بعد الإيمان بشرعه والعمل على أصوله فرضًا
أعظم من احترام مقام الخلافة، والاستمساك بعصمته، والخضوع لجلالته، وشحذ الهمة
لنصرته بالفكر، والقول، والعمل، ما استطعت إلى ذلك سبيلا، وعندي أني إن لم أقم على
هذه الطريق؛ فلا اعتداد عند الله بإيماني، فإنما الخلافة حفاظ الإسلام، ودعامة
الإيمان، فخاذلها محاد الله ورسوله، ومن حاد الله ورسوله فأولئك هم الظالمون.
فهذا الذي أزعج همي للتفكر في أحوال هذه البلاد مدة إقامتي بها، غريبًا
عن أهلها، مفكرًا في مجاري أعمالهم، ومآخذ مشاربهم، وضروب مذاهبهم، من وجه ما
يتعلق بالدولة رعاها الله، وهو الذي بعثني على أن أعرض ما ألمت به من ذلك على مقام
دولتكم بعد الثقة بأنكم من أغزر رجال الدولة علما، وأرجحهم حلما، وأقومهم سيرة،
وأشدهم حرصًا على تعزيز عرش الخلافة، وأصدقهم إخلاصا في خدمة أمير المؤمنين أعز
الله نصره، وأرفع إلى علي نظركم ما لو ألقي بين يدي سواكم لخشيت إغفاله، وتوجست
إهماله، ولو نال الحظ من جليل رأيكم فيه لكساه قبولكم حلة الفخار، وأكسبته لحظات
التفاتكم العالي مسحة الحق والنصفة، فإن كان ما رجوت فذلك فضل الله وكمال سجاياكم
الطاهرة وعلو رأيكم، وإن كانت الأخرى فما هو إلا الفرض أقضيه مع الاعتراف بالعجز،
وقصور الفكر، وكلال النظر).
ثم بعد أن تحدث عن حال كل طائفة في ولاية الشام قال: (المسلمون من أهل
السنة: هم عماد الدولة، وركنها الشديد، وهم قومها الحقيقيون، وفيهم عصبتها
الثابتة، ومن البين أن قوائم الدولة العلية ثبتها الله مستقرة على أديم الدين؛
لأنها دولة خلافة، فعاملها في القلوب سلطان الدين، فكلما قوي الدين في الأفئدة
ظهرت آثاره في الأعمال، فاستمات أهله لحماية مسند الخلافة، وكلما ضعف الدين ضعف
أثره بحكم الضرورة، ولكل وسيلة خلف منها، أما الدين فلا عوض عنه للدولة العلية
أيدها الله.
المسلمون السنيون يتفقون مع الدولة في المذهب الديني تمام الاتفاق،
وهي علاقة من أمتن العلائق في طبيعتها، ولكن عرض عليها ما يوجب الالتفات ويستدعي
دقة النظر، وهو غشيان الجهل بحقائق الدين بعد ما أهمل التعليم الإسلامي الصحيح،
وبيان ذلك مفصل بعض التفصيل في اللائحة المعروضة لدولة شيخ الاسلام.
وقد كان للمسلمين من نحو ثلاثين سنة حال يحمد في نظر المسلم، فقد
تسابقوا ركبانا ورجالا متطوعين الى الجهاد المقدس في حرب سباستبول المشهورة [حرب
القرم ١٨٥٥م]، ثم كانت حالهم أيام الحرب الأخيرة من التقاعد ما لا يسر [حرب
البلقان ١٨٧٨م]، وفى هذه الأيام الأخيرة يبذل الرجل منهم كل ما لديه للفرار من
الخدمة العسكرية!
وإن جاءت لا قدر الله حرب ذهبوا إليها كارهين، بعد أن كانوا يذهبون
راغبين!
كل هذا والجهاد من فرائض دينهم، يفيض به كتاب الله في أغلب سوره، وما
كان خمود الحمية في نفوسهم إلا لضعف العقيدة بمخالطة الاوربيين، وإهمال التعليم المذهبي..).
وخطب محمد عبده في حفل علمي في بيروت ونشره في صحيفة ثمرات القلوب في
شوال سنة ١٣٠٣هـ، قال فيه: (أفتتح كلامي بالدعاء لمولانا أمير المؤمنين، وخليفة
رسول رب العالمين، السلطان عبد الحميد خان، فمقام هذا الخليفة الأعظم فينا، هو
الحافظ لنظامنا، والمحامي عن مجدنا، والأخذ بميزان القسط بيننا، وهو هادينا
إلى أفضل سبلنا، فهو ولي النعمة علينا، ولو أفرغنا جميع أوقاتنا في الدعاء لعظمته
ما أدينا أدنى حقه علينا، فاللهم أيد شوكته، وأيد دولته، ومتع بوجوده رعاياه
الصادقين.
ثم أتبعت ذلك بالدعاء لوزرائه الذين فوض إليهم النظر في شؤون رعيته،
والقيام بتنفيذ إرادته بفتح المدارس، ونشر العلم في كل الطبقات...).
فهذا ما كان يدين به الشيخ محمد عبده، ويدعو إليه، في كل أطوار حياته
كما سيأتي بيانه، حين نفي من مصر إلى بيروت، وحين ذهب إلى باريس، وحين عاد منها
إلى بيروت، ثم إلى مصر، وهو ما يؤمن به شيخه جمال الدين، وما كان يدعوان إليه،
بحكم تمثيلهم لجمعية العروة الوثقى التي قامت على أساس الدعوة إلى وحدة الأمة،
والجامعة الإسلامية، والالتفاف على الخلافة العثمانية، وهو ما سيسفر عنه كل
نشاطهما لاحقا، والذي لا يمكن فهمه إلا في هذا السياق. وهو ما بدا واضحا وضوح
الشمس في رائعة النهار، في مقالات العروة الوثقى في باريس سنة ١٨٨٤م، وما ظل واضحا
جليا بعد حصار بريطانيا للمجلة، والضغط على فرنسا لإغلاقها والحد من نشاط القائمين
عليها، مما اضطرهما إلى تغيير خطة عملهما بما يخدم مشروع الجمعية، التي انتدبتهم
لهذه المهمة.
طبيعة العلاقة بين الشيخين جمال الدين ومحمد عبده:
قال المؤرخ الرافعي: (بعد أن توقفت جريدة العروة الوثقى عن الصدور
انفصل الحكيمان، وعاد الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده إلى بيروت، ثم الى مصر سنة
١٨٨٩م (١٣٠٦هـ)، وانقطع عن الكفاح السياسي، وانصرف إلى الإصلاح الديني والاجتماعي.
أما جمال الدين فاستمر على الكفاح السياسي إذ أنه يراه الأساس لنهضة الشرق، ويبدو
أن اختلاف الحكيمين في هذا الصدد قد بدأ في باريس، فقد أشار الأستاذ الإمام على
جمال الدين أن يذهبا إلى مكان بعيد غير خاضع لسكان دولة تعرقل سيرهما، ثم ينشئان
فيه مدرسة للزعماء ويختاران لها التلاميذ من نجباء الناشئين من الأقطار الإسلامية،
ومن يتوسمان فيهم الخير، ثم يربيانهم على منهج قويم يختارانه، ويعدانهم للزعامة
والاصلاح، ولكن جمال الدين لم يقبل هذا الرأي وعده تراجعا عن الكفاح السياسي
وتثبيطا للعزيمة، ورجح رأي جمال الدين مؤقتا فأصدر الحكيمان جريدة العروة الوثقى،
وبدا من أسلوب الجريدة أن الأستاذ الإمام اقتنع برأي أستاذه، على أنه حين عاد إلى
مصر سنة ۱٨٨٩ رجع إلى
فكرته التي أبداها في باريس، وانقطع إلى الاصلاح الاجتماعي والديني وبلغ فيه
الذروة.
ولقد قلت في هذا الصدد سنة
١٩٢٧ في كتابي عن "الثورة العرابية والاحتلال الانجليزي": ونقطة الضعف
في شخصية الأستاذ الإمام هي تخلفه عن الكفاح السياسي، واختلافه في هذه الناحية مع
أستاذه جمال الدين الأفغاني. ولقد بدأ انقطاعه عنه منذ عودته الى مصر سنة ١٨٨٩م.
فترك أستاذه يعاني متاعب الكفاح السياسي وآلامه ومرارته، وكان من قبل عضده وساعده
الأيمن، وإنك لتلمح تراخي الصلات بينهما حتى الصلات الشخصية منذ أن عاد إلى مصر
حتى وفاة السيد جمال الدين من قراءة منتخبات الأستاذ الإمام، فإنك لا تجد فيها رسالة
واحدة كتبها إلى السيد في محنته ومنفاه. بل إن جمال الدين توفى سنة ١٨٩٧م، فلا تجد
للأستاذ الإمام كلمة في رثاء أستاذه الروحي والفلسفي وزميل جهاده في "العروة
الوثقى" وهذه الناحية هي أثر من آثار الاحتلال).
هذا ما ذكره الرافعي في كتابه، وكذا ذكره محمد رشيد رضا، توهما منهما
أنهما افترقا بسبب تباين وجهتي نظرهما في سبيل الإصلاح، الذي كشفته المحاورة بين
جمال ومحمد عبده بخصوص الاعتزال في مكان وتدريس عدد من الطلبة المخلصين لهما
ليحملا مشروع الجمعية في كل مكان!
وفات الرافعي ورضا أن الشيخ محمد عبده عضو في جمعية سرية، أقسم بأغلظ
الأيمان على العمل لها حتى الموت، والالتزام بالسرية، ورأي الأكثرية، وأن تلك
المحاورة لم تكن سوى رأي طرحه محمد عبده على شيخه وليد اللحظة، ثم تجاوزاه، ولم
يقفا عنده، إلا أن هذا الوهم صار عند رشيد رضا حقيقة بنى عليها تأريخه كله لشيخه
محمد عبده، وفسر أحداثه لاحقا تفسيرا خاطئا، بناء على استنتاج خاطئ وأنه افترق عن
شيخه وترك الاشتغال بالسياسة!
وكم نقض الخطأ من حقيقة، فضلت بسببه الأفهام! وكم تولد من الوهم أوهام
وأوهام!
وقد صرح الشيخ محمد عبده في رسائله بحقيقة عودته من باريس، ومهمته في
بيروت، بما لا يبقى مع نصوص رسائله اجتهاد أو ظنون!
فقد رجع من باريس لبيروت لأداء مهمة أوكل بها من جمعية "العروة
الوثقى"، ليكون قريبا من ميدان المعركة، كما في رسالة منه إلى بعض قادة
الجمعية بتاريخ ٧ جمادى الأولى سنة ١٣٠٢هـ / ١٨٨٥م، قال فيها -وقد فسرت هنا بعض
رموزها بين معكوفين- :(تعاظمت حوادث الشرق، خصوصا ما مال منها نحو الجنوب
[السودان]، فشغل الاهتمام بها مواضع الفكر، وأخذت صور عقباها بمواقع النظر، فتلقيت
من الأمر الجديد [من الجمعية] أن أكون على مقربة من الضوضاء، ومسمع من
النداء، ولعل الله ينهض بالقول همما، أو يكشف بالبيان جهالات، فتعرف أنفس ما
ادخر لها العمل..
هذا ما اندفع بي إلى بلاد
أستعين الله فيها على تجديد عهوده [بين أعضاء العروة الوثقى]، والتوقيف على حدوده،
عسى أن يتواصل المتقاطعون، ويتناصر المتخاذلون، غير أني لا يراني من أهلها إلا
المخلصون، ولا يعرفني فيها إلا العارفون، وإن لك بينهم ذكرا يليق بهمتك،
ومكانة تجدد بها عزيمتك.
وقد أبلغت السيد [جمال الدين]
من خبر صنيعك ما وفر لك شكره، وأخلص لك سعيه، ورجائي أن يوافيني من لدنك ما يطمئن
به القلب على صحتك، وما يتروح به الفؤاد من أنباء مساعيك بين الأخيار من قومك،
أحيا الله بك موات الهمم، وأقر بك نواظر الفضل، وسلامي عليك، وعلى أنجالك وآل ودك،
والله يديم رعايته عليك والسلام).
وهذه الرسالة كما يظهر كتبها للأمير محي الدين بن عبد القادر
الجزائري، وقد صرح فيها بالمهمة الموكلة إليه بقوله: (فتلقيت من الأمر الجديد أن
أكون على مقربة من الضوضاء) وهي أحداث مصر والسودان، ويبلغ هذا العضو شكر السيد
جمال، على ما قام به هذا العضو، الذي يدعو قومه للانضمام إلى الجمعية وسعيه: (بين
الأخيار) من قومه!
وأصرح منها قوله في رسالة أخرى بالتاريخ نفسه لعضو في الجمعية
وقياداتها العليا: (فلست أنساك حتى أكون بمعزل عن نفسي، ولكن حولتني مهمات
الشرق [مصر والسودان] عن الغرب [باريس]، بما رآه المولى السيد [جمال] من
فرصة العمل في هذه الحوادث المتتالية [السودان]، فخليته عونا لنا حيث هو [في
باريس]، وتحولت إلى مقربة من معاقد العروة [مصر]، ومكامن القوة [الخلافة]..
وسيدي السيد يهديكم أتم تحية).
فهذا نص صريح بأنه تحول من باريس إلى بيروت، بأمر من السيد جمال،
ليكون على مقربة من الأحداث، ومن مقر الجمعية السري (معاقد العروة)!
وجاء في رسالة أخرى أرسلها لقائد كبير، وزعيم خطير في بلده، من قادة
الجمعية وفي التاريخ نفسه، يثبت عقده، ويذكر سبب رجوعه من باريس، ويوصيه باستنهاض
قومه، ويضع له خطة عمله، قال فيه: (أيد الله بك الحق، وأعانك على العمل بما وهبك،
عرفان تنير به أفئدة السذج من قومك، وترد به جماح الغاوين من عشائرك، ويقين في
الدين ينهضك إذا قعد المرتابون، ويشد عضدك إذا ضعف الواهمون، ومكانة في قلوب
أشياعك تمكن الثقة بك، والاستمساك برأيك، وسعة في البيان، تقطع بها طريق الشيطان.
فوجه عزمك للنصيحة، وجادل بالتي هي أحسن، وإذا أخذت من أحد بحبل فلا
ترسله، ومن وسوست له نفسه بالقطيعة فلا تقطعه، وصل حبالك وحبال المهتدين بحبل
الله، وكن على ثقة من الفوز، ويقين من النجاح، ما دام هدي النبي هديك، وسعي
الأصحاب سعيك.
وإن أشكل عليك أمر، أو اشتبهت لك المنافذ، فإخوانك كثيرون، وهم بمعونة
الله في عونك،
كما أنه لا غنى لهم عن الاستعانة برأيك.
ومقامي اليوم في بلد ما كنت أحتسب الذهاب إليه، وإن كان أوفر لهفي
عليه، ولكن مكاتيبك تصل إلى إن شاء الله من يوم فارقتك ما استقر بي مكان حتى الآن.
ذهبت إلى باريس فما عتمت
أن تلقيت من الرأي الجديد [انتداب الجمعية له] أن أنحو جهة الشرق، حيث مسيل
الحادثات، ومخرق الذاريات [حرب السودان].
فمررت على بلاد كثيرة منها مدينة (كذا..) عملت في جميعها على إحكام
"العروة"، وتمكين عقودها، ثم أصعدت بعد ذلك إلى بلد خلعت به عذار شبيبتي، وطرحت في كف الخطوب
عناني.
وأنا اليوم فيه أتعرف الوجوه، وأتنكر للعيون!
وأسأل الله نجاح العمل، وإقبال الأمل.
إن لي في حميتك رجاء عرفه المخلصون، وهم لتحققه منتظرون، {فادع الى
سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة}. فإن فناء في الحق لهو عين البقاء، وإن نميا في
الباطل لهو الشقاء، فاستكثر من الإخوان، ونقهم من الخُوّان، واثبت بهم على أصول
الشريعة، وارجع بهم إلى سيرة صاحبها عليه الصلاة وأتم التسليم، وليكن القول من
مولاي الصادق تأسيسا لا تدريسًا، ولا تكونن كلمة إلا وغايتها عقد يبرم، ورباط يحكم
[للجمعية].
أستغفر الله أن أنبه يقظان،
أو أهدي البيان لمعدن العرفان، ولكن ذلك حديث نفسي لنفسي، وخطاب قلبي لقلبي، ومن
علمي بأنبائك، وما يكون من آثارك.
ألهاني مشهدي منك، عن طلبي لترجمة حياتك، فلو تفضلت بإرسالها من قلم
أحد تلامذتك، لتثبت في صحائفي، ذخيرة لي ولخلائفي.
وإذا رأيت فنبهه أن قوة الاتحاد في الجنوب [اتحاد قبائل السودان مع
المهدي]، أفزعت قوة النيران في الشمال [بريطانيا]، وأن نيران القلوب [الحمية
الدينية] أذابت مدافع الكروب [مدافع القوات البريطانية].
وما النصر إلا من عند الله
يؤتيه الصادقين، ويوليه المخلصين، {إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم}.
أما والله إن غلب المسلمون عن تفرق وتخاذل، فلن يغلبوا عن ضعف وقلة،
ولكن {من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدًا}.
السيد [جمال] يهديكم السلام، وقد أخذت في ترجمة رسالته في نقض مذهب
الطبيعيين [الرد على الدهريين]، وعند تمامها أبعث إليك بها، فإن حسن لديك طبعها في حاضرتكم، فذلك لكم، والوسيلة تصل إن شاء الله
إليكم، وسلامي على روحكم الزكية).
وقال في رسالة أخرى لعضو من أعضاء الجمعية: (حولتني صروف الحوادث
عن الغرب إلى الشرق، حيث يقصد أحكام العروة [الوثقى]، وتأييد القوة بالقوة
[الجهاد]، ولي في ذكر حضرة الوالد شأن، وفي تعديد أوصافه كما سمعت بيان، وسيدي
الأستاذ [جمال] يهديكم أزكى السلام، وأنا في انتظار لنبأ منك عن صحتك وصحة
السادات أشقائك، والوسيلة واصلة إليك إن شاء الله، وسلامي عليك وعلى سيدي الشريف
ومن تودون، والله يتولى رعايتكم والسلام).
وقال في رسالة لقائد فرع في الجمعية جديد، يضع له خطة العمل، ويوصيه
بالسرية، وبانتخاب رئيس مجموعتهم، جاء فيه: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وبه
الحول والقوة:
بسم الله الرحمن الرحيم {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله
والمؤمنون. وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون}.
كتبتم إلي بأنكم اجتمعتم جملة من الصادقين، وأهل الحمية للنظر في
تقويم ديننا، والأخذ بما يرضي إلهنا، ويقر عين نبينا، ثم حدثت بعد ذلك الأحداث،
وتلك سنة الله في الأولين والآخرين عند بداية كل عمل صالح مقبول لديه، محفوف
بالعناية منه، ولم يمنعني حدوث ما حدث عن مخابرة من أنوب عنهم بما كان من
اجتماعكم، ثقة مني بهمتك، وصدق عزيمتك، فورد لي الإذن بتسمية مجتمعكم، وإرسال بعض
القواعد التي يبتدأ بها العمل.
واليوم أبعث بها إليكم، وأملي أن تكون في حرز الصيانة، وأن تكون مرجع
الأعمال إن شاء الله، فإذا وصل إليكم ذلك فخذوا عهدكم على القسم المذكور، وانتخبوا
رئيسكم، وعجلوا الخبر بما انتهيتم إليه، وفصلوا أسماء من معكم، وألقابهم، ومواضع
إقامتهم، وسموا لنا رئيسكم. وكتمان السر أول وصيتي إليك، وهو نهايتها، والسلام
على أهل العقد الرابع من عقود "العروة الوثقى"، والله يتولى
إعانتكم.
رسالة الرد على الدهريين أشرفت على نهايتها من الترجمة وستطبع في
بيروت إن شاء الله، ومتى تمت أرسلنا إليكم منها..).
وكتب رسالة دعوية عظيمة في ١٥ ذي سنة ١٣٠٢هـ -لأحد كبار قادة الجمعية- في التذكير بالقيام
بأمر الله، والجهاد في سبيله بالنفس والمال، قال فيها: (ويثني على معرفتك ما آتاك
الله من الحول، وما رزقك من الطول، ونزوعك لشكرك إياه على ما آتاك بالعمل فيه
لآخرتك ودنياك، ولم يفتك الاعتبار بقوله تعالى: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم
وأموالهم بأن لهم الجنة} الآية، ولا بقوله: {ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا
مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب
لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين} [التوبة: ١٢٠]
ولن يعجز مؤمن وإن ضعف حاله، وقل ماله، أن يأتي واحدة مما ذكر الله،
فكيف بك وقد آتاك الله بسطة جاه في قومك، تستطيع بها تقويم طباعهم، وتهذيب عقولهم،
وردهم إلى ما انحرفوا عنه من طريق الشرع القويم، وتنبيههم لما غفلوا عن رعايته من
طلب الشهادة، وعدها أفضل ذخائر السعادة، وإن لله يدا عندك بما آتاك، ولست تأمن
مكره في حفظ نعمته عليك لعقبك: إن أمنت ذلك لنفسك، إلا أن تؤدي حق الله فيها، ولا
تؤدي حقه حتى يكون معظمها منصرفا لإعزاز دينه وإعلاء كلمته، والجهاد للحق حتى
يظهر، وفي الباطل حتى يدحر، فأوصيك وما أنت بمحتاج للوصية أن تجعل كتاب الله
أمامك، وأن تأتمر له كما كان نبينا وأصحابه يأتمرون له، فلم يكافئهم الله دوننا،
ولم يسامحنا الله دونهم، وليس بين الله وبين أحد من خلقه هوادة في فريضة فرضها، أو
سنة سنها، وإياك وتعلات النفوس، وأهاويل الأوهام، فإنها من مضلات العقول، ومداحض
الهلكة، وجند الشيطان، وليس بينك وبين الحق إلا أن تهم، وتخلص الله همك، فتكون يد
الله على يدك، يؤيدك ويأخذ للحق بك، والله لا يعين خاذله، ولا يضيع عملا أخلص له،
ألا أيها الشيخ الجليل! إن الله قد اشترى منا حياة دنيئة لو طلبت من عاقل لجاد بها
بلا عوض، لقيامها على قواعد الأتعاب، وقوائم الأوصاب، بدايتها ضعف، ونهايتها عجز،
وما بينها إلا خروج من أحدهما دخول في الآخر، ما فات من لذاتها يولد الأسف على
فواته، وما حضر مشوب بالجزع على ذهابه، واللهف الدائم على تحصيل ما يؤمل منها،
فليس فيها حال تخلو من آلام، وقد وعدنا دينا حقًا أن يعوضنا عنها سعادة أبدية في
حياة أبدية لا يشوب لذتها ألم، ولا يمازج صفوها كدر، وذلك عند ما تسلم له السلعة
تامة في نهاية الأجل، فان لم نقبل بيعة الله في ذلك كنا المغبونين، وإن لم ندفع له
سلعته خالصة كنا الخاسرين، حياتنا ذاهبة إلى الفناء رغما عنا، وليس لنا من إمكان
للخلود فيها، فانظر إلى رحمة الله في شرائها منا، وإجزال العوض وتعظيمه حتى كأنه
يساومنا ملكا لنا، وفي سعتنا أن نستبد به عليه، ونمنعه مراده منه، جلت عظمته،
ووسعت رحمته!
ألا فلنتق الله ولا نبخل عليه
بما هو له، ولا نُغر بإملائه لنا، ومطاولتنا عليه!
فشمر عن ساقك، واحسر عن
ذراعك، واذهب إلى الله بخير الذخائر وهو تأليف عباده على الحق، واستجاشة قلوبهم
للدين، وتأليبهم على تلبية داعي الإيمان، والله يتولى إرشادك في جميع الأحوال.
أما حادثة الشيخ فقد مسنا منها ما مسه، ولم يكن ما وجدنا منه أقل مما
وجده، ولم يغب عنا شيء من أطرافها، وقد جهدنا فيها ما استطعنا، وربما رأيتم أو
سمعتم بما أطالت به جرائد باريز في المدافعة عن الشيخين، وتعنيف الحكومة على ما
فعلت وذلك بمحاورة من تعلمون هناك، ولقد تنازعني في هذه الحادثة مسرة وحزن، أما
المسرة فلأن الشيخ قام على طريق الصديقين يتلقى من الاختبار الإلهي ما تلقوه،
لينال من رضا الله إذا احتسب ما نالوه..).
وكتب خطابا آخر بتاريخ ١٥ ذي الحجة ١٣٠٢هـ وهو في بيروت، يحدد فيه
طريقة الدعوة إلى جمعية "العروة الوثقى"، جاء فيه: (لا إله إلا الله
وحده لا شريك له وبه الحول والقوة:
السلام عليكم، تحية أخ يهزه الشوق إليكم، وبعد، فقد تلقيت اليوم
كتابك، شممت منه ريح الحمية، والنعرة الدينية، وأرجو أن تصل بك بدايتك إلى ما
يختار الله لك من حسن النهاية، ولم يكن ظني في همتك، دون ما تبينت من عبارتك،
فليكن سرورك بنفسك، على قدر شفقتك على دينك، وحركة ميلك للأخذ بيده، وتقويم أوده،
فإنما هو الدين المتين الذي أطلق العقل من قيده،
وأخذ على الوهم في كيده، وهز النفوس إلى نيل الفضائل، ونكب بها عن
مشايعة الرذائل، حتى ساد به الضعفاء، وذلت لسلطانه الأقوياء، وسبق وعد الله بأن
يظهره على الدين كله، والله منجز وعده لأهله، وإنما خلقنا الله وكلفنا بصرف همومنا
إليه، وتعويلنا في شؤوننا عليه، وليس لنا من الحق في أنفسنا وأموالنا، إلا ما
نبذله في تأييد ديننا، ولا حاجة الله فيمن لم يكن له من نفسه وماله نصيب.
داوم قراءة القرآن، وتفهم أوامره ونواهيه، ومواعظه وعبره، كما كان
يتلى على المؤمنين والكافرين أيام الوحي، وحاذر النظر إلى وجوه التفاسير إلا لفهم
لفظ مفرد غاب عنك مراد العرب منه، أو ارتباط مفرد بآخر خفي عليك متصله، ثم اذهب
إلى ما يشخصك القرآن إليه، واحمل بنفسك على ما يحمل عليه، وضم إلى ذلك مطالعة
السيرة النبوية، واقفا عند الصحيح المعقول، حاجزًا عينيك عن الضعيف والمرذول،
واعتبر بما قاسى النبي وأصحابه من الجهد والعناء لنصر دين الله، وما ركبوا من
المتاعب، وما احتملوا من المصاعب، على ما تعلم من درجة قربهم إلى الله، وغفرانه
لهم ما تقدم من ذنبهم وما تأخر. واجعل عيشك للآخرة، واستعد لما وعد الله، فإنها
سعادة أبدية، لا تنال إلا بسيرة محمدية، ولن تنال بنوم موسد، على فراش ممهد، واعلم
أنك محاسب على الدقيقة من أوقاتك، واللحظة من لحظاتك، إن صرفتها لإعزاز دينك كانت
لك، وإلا كانت عليك، وأرجو أن يكون كل سعيك خيرًا، يجعله الله نورًا يسعى بين يديك
إن شاء الله.
أما ما ذكرت من مسألة الشيخ الصغير فبودي لو توجه إلى الله كل مسلم،
واعتصم بحبله كل مؤمن، فما بالك بشيخ من جمال الوصف على ما ذكرت، ومن علو المنزلة
على ما بينت؛ فإن تيسر لك السبيل فتقدم لدعوته، وادخل إليه ابتداء من طريق لا
يعرفه، وتلطف له في القول، وإن شئت أطلعته على شيء من مقالات "العروة
الوثقى"، فاذا انتهيت به إلى ما يعرف، وآنست منه الميل والرضاء فإما أن يكتب إلي، وإما أن يستعد لتلقي كتاب
مني، ثم سراع إلي بالخبر، ثم نبئني عن الشيخ... واسأله أن يكتب إلي بالعنوان الذي
به تصل إليه كتبي، فإنني قد أذنت أن أبعث اليه ببعض المواد الأصولية، التي يجب
اعتبارها أساسا للبناء، كما اعتبرها المستمسكون بالعروة في كل قطر، ليتحد المسير،
وإلى الله المصير.
ثم إنني الآن في بيروت وأقيم
بها زمنا، فاذا كتبت فليكن العنوان... ولا حاجة لما يزيد عن ذلك، فإنه يصل إلي
بمجرد هذا العنوان، وبادر للكتابة والسلام).
ولم يقتصر دور الشيخ محمد عبده بعد رجوعه من باريس على تأكيد عقد
قيادات العروة الوثقى، الذي يظهر من رسائله إليهم أنهم كانوا من كبار زعماء العالم
الإسلامي وعلمائه، من كل أقطاره، بل وصل الأمر إلى دعوة أحد شيوخ الإسلام للانضمام
إلى الجمعية، كما جاء في بعض رسائله: (إن كنت وثقت بشيخ الإسلام الذي ذكرته فخذ
العهد عليه، وسق إليه ببعض كتابي هذا أو بكله إن رأيت ذلك ملائما لحاله، وإلا
فزدني فيه بصيرة، فأكتب إليه بما يلهمه الله، وافني بكتبك بما أمكن من السرعة، ولا
تبطيء علي بعد الآن والسلام).
وكذا كتب بعد أربع سنوات من عودته من باريس خطابا في صفر سنة ١٣٠٥/
١٨٨٨م يؤكد استمراه بعمله الذي انتدب إليه، وهو التواصل مع قيادات "العروة
الوثقى"، والدعوة إليها، وإلى مشروعها، وقد جاء في آخره: (ولا بركة لنا في
شيء من أعمالنا إلا باتباع سنته، والسير على المأثور من سيرته، والتخلق بأخلاقه،
والتماس خلاقه، واقتفاء أعلاقه.
هذا صلاحنا، وهو سلاحنا {إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم}، {قل
إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله}، وعلى هذا فليكن دأبك، حتى يظهر الله
أمره، ويعلن سره. وإياك والملل، فالخطب جلل، وقضاء الله أجل.
ومع هذا كتاب من الأمير أوصله إلى صاحبه حسب رأيك. والسلام عليك، وعلى
كل صادق الإيمان ثابت الجنان).
وقد بيّن في إحدى رسائله لعضو من أعضائها -فهم من نظام الجمعية بأنها
تدعو إلى مذهب الظاهرية- فأخبره بأن أعضاء الجمعية كلهم من أهل السنة، والمذاهب
الأربعة، فقال: (أما ما ذكرت في كتابك من اسم الظاهرية، فلم يكن ليخطر على بالي
توجه فكركم إليه، فإن المذكور في القسم تحكيم كتاب الله في الأخلاق والأعمال بلا
تأويل، ولا تعليل.
ومن الظاهر البين أن المراد من الأعمال عزائمها من الجهاد في الله حق
جهاده، وبيع النفس في مرضاته، والسعي لإعزاز دينه، والقيام بحفظ أوامره ونواهيه،
التي يكفر جاحدها، ويفسق الحائد عنها، ويشهد بذلك اقتران الأعمال بالأخلاق، فكيف
ذهب خاطر سيدي إلى العقائد أو أعمال الفروع!
وليعلم سيدي: أننا سنيون
أشعريون، أو ماتريديون، وأننا في أعمال العبادات دائرون بين المذاهب الأربعة، فمنا
المالكي، والشافعي، والحنبلي، والحنفي.
وفي المعاملات على مذهب حاكم البلاد إن وافق واحدًا منها، فإن كان على
غيرها توقينا المرافعة إليه ما أمكننا.
وإنما ذلك القيد ليخرج الداخل معنا من حكم قوله تعالى: {أفتؤمنون ببعض
الكتاب وتكفرون ببعض}؛ وليمتاز المؤمنون بالكتاب عن الذين يزعمون الإيمان به، ولا
يأخذون بشيء من أحكامه، إلا صورًا من الأعمال لا ينظر الله إليها، وأولئك قوم
عرفناهم وعرفتموهم: يهونون على أنفسهم ضيم الدين لا يحزنون لذله، ولا يعملون
لحمايته، ويتعللون باليأس، يفرون من الله فيما ألزمهم عمله، ويسألون المعونة على
ما نهاهم عنه، ويركنون في ذلك إلى التأويل والتفسير!
ولو أن شيئا من المكروه
أصابهم لرأيتهم يطيلون الأحزان، ويحشدون الاشجان، ولو عنّ لهم حطام من الدنيا
رأيتهم يشدون المآزر، ويشمرون عن السواعد، كأنهم للدنيا خلقوا، وكأنهم فيها
يخلدون!
لعل في بياني هذا كفاية، ولو وسع الوقت أطول منه لأتيت بما تملك
تلاوته.
وأما ما ذكرته في أمر المواد من أنها لا توافق بلادكم، فلم أعرف له
سببا، فإنها مواد عمومية جرب العمل بها في أقطار مختلفة، والحمد الله صادفت نجاحا.
فإن كان ذلك كما ذكرتم فابعثوا بها إلي في أول بوسطة، وأقسم عليك
بالله الآخذ بناصيتي وناصيتكم ألا تنقلوا لها صورة، ولا تنسخوا من موادها مادة،
لأردها من حيث جاءت، ثم ابعثوا إلي بما تجدونه موافقًا لكم لنطلع عليه، فإن رأيناه
موافقا سألنا لكم إقراره.
والسلام عليكم وعلى من يتصل بكم).
قال رشيد تعليقا على هذا الخطاب وسؤال السائل وقصده: (يعني العبارة
المرادة من القسم هنا هي: وأقسم بالله العالم بالكلي والجزئي، والجلي والخفي،
القائم على كل نفس بما كسبت، الآخذ لكل جارحة بما اجترحت، لأحكمن كتاب الله في
أعمالي وأخلاقي، بلا تأويل ولا تعليل).
وقال رشيد أيضا: (كان أكثر أعضاء الجمعية من المالكية والشافعية، وهم
من الاشعرية، ومن الحنفية وهم ماتريدية، والأستاذ نفسه كان اشعريا صوفيا، ثم صار
بالتدريج سلفيا).
ويؤكد قول الشيخ رشيد ما قاله الشيخ عبدالرزاق البيطار بأن الشيخ محمد
بن عبده في دعوته لتجديد الدين ونبذ البدع هو ثالث ثلاثة مع شيخ الإسلام ابن
تيمية، وابن القيم، وقد جاء في رسالة لمحمد عبده -ردا على تهنئة جمال الدين
القاسمي له بتولي منصب الإفتاء وذكر له فيها رأي البيطار فيه-: (جعلني الشيخ عبد
الرزاق البيطار ثالث الرجلين، وما أنا في شيء من أمرهما إلا نزر من الهمة، وكثير
من معرفة قدرهما..).
ومع دعوة الشيخ عبده إلى الجمعية "العروة الوثقى" في كل
رسائله، وتعزيز العلاقة بين قادتها، كان يعد بيعة الخليفة في إسطنبول هدفا من
أهدافها، حتى كأنما رئيسها الأعلى هو السلطان عبد الحميد نفسه!
فهي المحك الذي يختبر بها الإيمان بالجامعة الإسلامية، باعتقاد أن
الخلافة ركن الدين الأعظم بعد الشهادتين، كما صرح محمد عبده في لائحته الإصلاحية
للتعليم العثماني.
وقد قال في خطاب طويل إلى أحد قادة الجمعية وهو من شيوخ الحركة
السنوسية في المغرب -كما يبدو- جاء فيه: (لمحت من آخر كتابك بروق الأمل من جمعية
أهلك، هيأ الله لهم الخير فيما ولوا وجوههم شطره، إن لنا صلة تامة بآل البيت
الذي أشرت إليه [الأمير عبدالقادر الجزائري وأولاده في دمشق]، وأحكم الصلة بيننا
وبين أرشدهم رأيا، وأسماهم همة، وأقومهم هديا صاحب عهد أبيه [الأمير محي الدين
بن عبد القادر].
وهو الذي تفرد بينهم بالثبات على عهود دينه بعد انتقال أبيه إلى الدار
الآخرة، وأبى الخضوع لشريعة المتغلبين عليه، الزاعمين القيام بحمايته [الفرنسيين].
وقد قامت بينه وبينهم مخاصمات شديدة كانت نهايتها قطع العلاقة بهم، ووصل
الحبل بينه وبين الدولة العثمانية أيدها الله، فأحنت الدولة عليه، وانعطفت
إليه، وعدته في مقدمة الرجال الصادقين، ولم ينضم إليه إلا اثنان من أخوته، والتصق
الباقون بأعداء دينهم، رغبة في حطام يسوقونه إليهم من فضلات مالهم! فليس في أحدهم
أمل، ولا يليق أن يناط بواحد منهم عمل، إلا ذلك الشهم الذي نظر ما أعده الله في
غيبه، فلم يبع يقينه بريبه، وقد كان له فكر يسمو إلى ما أشرت اليه، وهو على مرقب
الحوادث يرصد الفرص للعمل فيها ما يرشد إليه الدين، وتبعث عليه الحمية له.
وأما صلته مع مشايخ الطرق والزوايا فكانت قاصرة على آل السنوسي، ولم
يتوجه خاطره إلى ابن التيجاني، وقد شكرنا لك التنبيه عليه، وتوجيه الفكر إليه..).
والأمير محيي الدين بن عبد القادر الجزائري كان كأبيه من قادة
"العروة الوثقى"، ومن دعاة "الجامعة الإسلامية"، وقد خرج من
دمشق -حيث كان مع أبيه منفيا- ووصل إلى الجزائر خفية سنة ١٨٧١م ودعا إلى جهاد
فرنسا، وبايعه أهلها، وحقق نصرا، ثم اشتد قتال فرنسا له، فانسحب وعاد إلى دمشق،
وقد قلده السلطان عبدالعزيز النيشان العثماني سنة ١٨٦٤م، ثم قلده السلطان عبدالحميد
سنة ١٨٨٥م رتبة أمير أمراء، وأرسله سفيرا له إلى مراكش.
فما توهمه رشيد والرافعي من أن الشيخ محمد عبده رجع واعتزل العمل
السياسي، يتناقض مع نشاط محمد عبده السري بعد عودته من باريس إلى بيروت، وقد كتب
مقالا مطولا في صحيفة الأهرام أغسطس ١٨٨٥م عما يجري في الهند، يؤكد أنه ما زال
يقوم بالمهمة نفسها من الخوض في السياسة والتحريض على بريطانيا، تحت اسم مستعار
(أحد أفضال الكتاب البلغاء)!
وقد جاء في آخره: (إن للدولة العثمانية شأنا في المسألة الهندية لا
يسوغ إنكاره، فإن لها عدة كافية، وقوة وافية، يمكنها أن تستخدمها لآرائها السياسية
متى شاءت، ويسهل عليها أن تستفيد منها اذا أقبلت عليها بشيء من التدبير، تلك قوة
خمسة وأربعين مليونا من المسلمين أهل السنة يعتقدون أنها دولة الخلافة، وأنها مرمى
آمالهم في تخليصهم من أيدي الأجانب، ومكانتها من قلوبهم أعلى من مكانة حاكميهم،
وأوصال أعمالهم معقودة بأوامرها، ولو أن لدولة أخرى قوة مثل هذه القوة لرأينا
جوادها المجلي في هذه المجاراة، ولكن مما يوجب الأسف أن هذه المدة ربما تتبدد،
وتلك القوة تضمحل، ولا يكسب رجال الدولة من إهمالها إلا ما يكسبه باذل ماله أهدره،
وفقهم الله للسداد في آرائهم، والصلاح في أعمالهم).
وقد علق رشيد عليه بقوله: (لم نعثر للأستاذ رحمه الله تعالى على مقالة
في جريدة مصرية بعد عودته من باريس إلى سورية -وترك جريدة العروة الوثقى- إلا هذه
المقالة، وهي تشبه مقالات العروة الوثقى السياسية التي كانت من نفثات السيد
جمال الدين في قلم الأستاذ، وكان الحكيمان يرجوان من تحرش الروسية بالهند في
تلك السنين أن يفضي الى ترك الإنكليز لمصر والسودان فلذلك كانا يعظمان شأن ذلك
التحرش).
وللشيخ رشيد رضا كثير من مثل هذه التعليقات التي حاول فيها تفسير هذا
النشاط لشيخه محمد عبده ليتوافق مع رأيه الذي ظنه -وأكذب الحديث الظن- بأنه رجع من
باريس تاركا الانشغال بالعمل السياسي، والاهتمام فقط بالتربية والتعليم لتحقيق
الإصلاح المنشود، وهو الخط الذي يعتبر نفسه وريثه فيه، وامتدادا له؛ وهو ما تؤكد
الرسائل خلافه بشكل واضح جلي، والتي لم يطلع عليها رشيد كما يبدو إلا بعد أن عزم
على نشر التاريخ الذي كتبه مبكرا بعد أن استقر في ذهنه ظنه ذلك، وطبع قبل وفاة
رشيد بأربع سنوات فقط!
هذا مع أن رشيد رضا ذكر في مقدمة تاريخه ص ٣ بأنه لم ينشر كل الرسائل،
ولا كل المقالات، لضيق هامش الحرية آنذاك كما سبق بيانه!
وقد ازداد حذر الشيخ محمد
عبده واحتياطه بعد رجوعه إلى مصر سنة ١٨٨٩م، إذ ما زال الخديوي توفيق مناوئا له
ساخطا عليه، فكان يحذر عيونه وجواسيسه! ولم يأذن له بالرجوع إلى مصر، ولم يصدر
العفو عنه إلا بشرط اشترطه عليه هو والمستشار البريطاني كرومر وهو ألا يشتغل
بالسياسة!
وهذا السبب وحده كاف في فهم تغير طريقته في العمل السياسي في مصر،
وأنه ممنوع منه، مشروط عليه، وقد قبل الشرط لأن الجمعية كلفته بمهمة هناك.
وقد بلغ من سريته أنه كتب كتابا لشيخه جمال وهو في إسطنبول لم يوقع
عليه، وألغز له فيه، حتى لا يعرف البريد من كاتبه، ولا مضمونه، لمعرفة شيخه بخطه،
فعاتبه عتابا شديدا.
وقد ظل محمد عبده وفيا لشيخه إلى يوم وفاته، حتى رثاه نثرا بأبلغ مما
لو كان شعرا، كما نقله عنه رشيد من مذكرته، حيث يقول عنه: (تلك الوراثة النبوية
التي عبر عنها [محمد عبده] يوم موت السيد بقوله في رثائه الوجيز البليغ:
"والدي أعطاني حياة يشاركني فيها علي ومحروس، والسيد جمال الدين أعطاني حياة
أشارك بها محمدا، وإبراهيم، وموسى، وعيسى (ص)، والأولياء، والقديسين، ما رثيته
بالشعر لأني لست بشاعر، وما رثيته بالنثر لأنني لست الآن بناثر، رثيته بالوجدان
والشعور؛ لأنني إنسان أشعر وأفكر" ا.هـ بنصه.
هذه الوراثة هي التي أخرج الله تعالى بها محمدًا عبده من خمول تصوفه،
وخمود أزهريته إلى ميادين الجهاد والتجديد الديني، والإصلاح الاجتماعي المدني،
يخوض غمرات الثورات، وتتقاذفه أمواج الأسفار، وتكفأه فتن الأمراء المستبدين،
وجهلة حملة العمائم الجامدين).
وفي هذا رد على ما ذكره المؤرخ الرافعي من أن محمد عبده انقطع عن
الاتصال بشيخه حتى أنه لم يرثه!
ولم يتنبه إلى الشرط الذي اشترط عليه بعدم الاشتغال بالسياسية!
والظروف التي تحد من نشاط محمد عبده بحكم عضويته السرية في جمعية العروة الوثقى،
والبيعة والقسم الذي كان يعد نكثه نكوصا عن بيعة الله ورسوله، كما جاء في بعض
رسائله لعضو من أعضائها بعد رجوعه من باريس إلى بيروت: (أما ذلك الشيخ فإن نكث
فإنما ينكث على نفسه، غرته الحياة الدنيا، وغره بالله الغرور، فقطع ما أمر الله به
أن يوصل [عهد الجمعية]، وواد من حاد الله ورسوله، وباع نفسًا شريفة بثمن بخس،
وأضاع سعادة أبدية بمتاع قليل {ان الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم
الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم. ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله
سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم. فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم
وأدبارهم . ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم}، بشره بأن
سيؤخذ من مأمنه، ويزلزل من مسكنه، ومن أعان ظالما سلط عليه، ومن يخذله الله فلا
ناصر له، ولئن أمهل أياما فوالله ما أهمل، ولقد كان خيرًا له لو ابتعد ولم يعد،
وباعد قبل أن يعاهد، ولكنه أقبل ثم ولى، وأمسك ثم خلى، فلصق به عار الغادرين، وحقت
عليه جريمة الناكثين {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون}!
وما ضره لو سالم القوم
بظاهره، وبقي مع الله بباطنه، فأخذ حظا من دنياه، وحظا من آخرته؟ هل ظن أنهم
أشد سلطانا عليه من قهار السموات والأرض؟ أم أنهم أنفذ إلى باطنه علما من عالم
الغيب والشهادة؟! فأعطى للقوم قلبه، وجعل لله سلبه!
لمحت من آخر كتابك بروق الأمل من جمعية أهلك هيأ الله لهم الخير فيما
ولوا وجوههم شطره..).
وكان يوصي كل من كاتبه في شأن الجمعية بالسرية، كما سيأتي، وكما قال
في رسالته لبعض أعضائها: (وأما عدم ثقة الشيخ بهمة من ذكرتم فمما له الحق فيه،
وهكذا أمر هذه الأمة [أعضاء الجمعية] في جميع أقطارها، ولهذا احتجنا إلى معاناة
الإضمار، ومقاساة الإسرار، والاستخفاء بما أمر الله إلى أن يعلن ويظهر، غير أن
القليل ممن يكون على الشرط كثير، وقد صرحت تلك المبادئ بأن الرشد والنصيحة العامة
من الواجبات على القائمين بأمر الحق، لتستعد النفوس، وتتهيأ العقول! وليس في هذا
حرج على المتعاطي، ولكن أهل العقد [وهم القادة المؤسسون] وهم بمنزلة القوة العاقلة
في البدن لا بد أن يكونوا على الشروط المعروفة عند أصحاب الرابطة).
وأبلغ من هذا في الدلالة على استمراره في الإصلاح السياسي خفية، ما
كتبه محمد عبده وهو مفتي مصر آنذاك في مجلة في المنار ١٣٢٠هـ/ ١٩٠٢م باسم مستعار
عن محمد علي بمناسبة احتفال مصر بمئويته، حيث قال فيه: (ما الذي صنع محمد علي؟ لم
يستطع أن يحيي ولكن استطاع أن يميت! كان معظم قوة الجيش معه، وكان صاحب حيلة
بمقتضى الفطرة، فأخذ يستعين بالجيش، وبمن يستميله من الأحزاب على إعدام كل رأس من
خصومه، ثم يعود بقوة الجيش وبحزب آخر على من كان معه أولا وأعانه على الخصم الزائل
فيمحقه، وهكذا حتى إذا سحقت الأحزاب القوية، وجه عنايته إلى رؤساء البيوت الرفيعة،
فلم يدع منها رأسا يستتر فيه ضمير (أنا)! واتخذ من المحافظة على الأمن سبيلا لجمع
السلاح من الأهلين، وتكرر ذلك منه مرارًا حتى فسد بأس الأهالي، وزالت ملكة الشجاعة
منهم، وأجهز على ما بقي في البلاد من حياة في أنفس بعض أفرادها، فلم يبق في البلاد
رأسا يعرف نفسه حتى خلعه من بدنه، أو نفاه مع بقية بلده إلى السودان فهلك فيه.
أخذ يرفع الأسافل ويعليهم في البلاد والقرى، كأنه كان يحن لشبه فيه
ورثه عن أصله الكريم! حتى انحط الكرام، وساد اللئام، ولم يبق في البلاد إلا آلات
له يستعملها في جباية الأموال، وجمع العساكر بأية طريقة، وعلى أي وجه، فمحق بذلك
جميع عناصر الحياة الطيبة من رأي وعزيمة واستقلال نفس، ليصير البلاد المصرية
جميعها إقطاعا واحدًا له ولأولاده، على أثر إقطاعات كثيرة كانت لأمراء عدة ماذا
صنع بعد ذلك؟ اشرأبت نفسه لأن يكون ملكا غير تابع للسلطان العثماني، فجعل من العدة
لذلك أن يستعين بالأجانب من الاوربيين، فأوسع لهم في المجاملة، وزاد لهم في
الامتياز خارجًا عن حدود المعاهدات المنعقدة بينهم وبين الدولة العثمانية، حتى صار
كل صعلوك منهم لا يملك قوت يومه ملكا من الملوك في بلادنا يفعل ما يشاء ولا يُسأل
عما يفعل! وصغرت نفوس الأهالي بين أيدي الأجانب بقوة الحاكم، وتمتع الاجنبي بحقوق
الوطني التي حرم منها، وانقلب الوطني غريبًا في داره، غير مطمئن في قراره، فاجتمع
على سكان البلاد المصرية ذلان: ذل ضربته الحكومة الاستبدادية المطلقة، وذل سامهم
الأجنبي إياه ليصل إلى ما يريده منهم، غير واقف عند حد، أو مردود إلى شريعة..
ظهر الأثر العظيم عند ما جاء الإنكليز لإخماد ثورة عرابي، دخل
الإنكليز بأسهل ما يدخل به دامر [الذي يهجم بلا استئذان] على قوم، ثم استقروا ولم
توجد في البلاد نخوة في رأس تثبت لهم أن في البلاد من يحامي عن استقلالها! وهو ضد
ما رأيناه عند دخول الفرنساويين الى مصر، وبهذا رأينا الفرق بين الحياة الأولى
والموت الاخير!
وجهلة الأحداث فهم يسألون أنفسهم عنه، ولا يهتدون إليه لا يستحيي بعض
الأحداث من أن يقول إن محمد علي جعل من جدران سلطانه بنية من الدين! أي دين كان
دعامة للسلطان محمد علي؟! دين التحصيل؟ دين الكرباج؟ دين من لادين له إلا ما يهواه
ويريده؟!
وإلا فليقل لنا أحد من الناس أي عمل من أعماله ظهرت فيه رائحة للدين
الاسلامي الجليل؟ لا يذكرون إلا مسألة الوهابية. وأهل الدين يعلمون أن الإغارة
فيها كانت على الدين للدين! نعم أن الوهابية غلوا في بعض المسائل غلوا أنكره عليهم
سائر المسلمين، وما كان محمد علي يفهم هذا، ولا سفك دماءهم لإرجاعهم إلى الاعتدال
وإنما كانت مسألة سياسية محضة تبعها جراءة محمد علي على سلطانه العثماني وكان معه
ما كان مما هو معروف..).
فهذا المقال رأي سياسي خطير، لا يمكن أن يظن بأن كاتبه اعتزل الإصلاح
السياسي، وقد كتب هذا قبل وفاته بثلاث سنين فقط!
وكتب في مجلة الجامعة العثمانية ١٨٩٩م مقالا بعنوان (إنما ينهض الشرق
بمستبد عادل)،
وهي مجلة لفرح أنطون الذي كان مع الخلافة العثمانية ضد بريطانيا!
إصلاحات الشيخ محمد عبده في منصب الإفتاء بمصر:
لقد استطاع محمد عبده بعد أن عاد لمصر بشرط عدم اشتغاله بالسياسة أن
يحقق من أهداف جمعية العروة الوثقى بالإصلاح الديني والتعليمي ما يفوق ما يمكن
تحقيقه بالسياسة، خاصة بعد أن أصبح مفتي مصر سنة ١٨٩٩م بقرار من الخديوي عباس
الثاني، فكان عبر منصبه هذا يعزز نفوذ الخلافة العثمانية في مصر، ويحث عباس على
ذلك، وعلى إضعاف النفوذ البريطاني، حتى وشى به الواشون، وساءت العلاقة بينهما، بل
وشي به إلى السلطان عبدالحميد! كما جاء في تاريخه: (عمل الأستاذ الإمام في منصب
الافتاء:
وفي أثناء ذلك رفعت تقارير
إلى السلطان عبدالحميد بالطعن في مفتي مصر، ورميه بعداوة الخليفة، والسعي لخلعه!
وقابل ذلك آخرون بتقارير في الطعن في سمو الخديوي، وإثبات أنه هو
القائم بما يتهم به المفتي، بل هو يطمع في منصب الخلافة، والمفتي هو الذي يعارضه
وحده.
ومن أدلة ذلك أنهم لقبوه في مجلس شورى القوانين بصاحب الجلالة، فاعترض
المفتي الشيخ محمد عبده على ذلك، وأمر كاتب المجلس بشطب لقب صاحب الجلالة، ووضع
لقب الجناب العالي في موضعه، وقد اشتهر ذلك ونشر في الجرائد.
وكذلك فعل أحد الخطباء في خطبة الجمعة على مسمع من سموه، ولم يعترض
على ذلك إلا المفتي.
وقد اطلعنا على تقرير رفعه إلى المابين [الباب العالي في إسطنبول]
سعادة يوسف باشا طلعت صاحب جريدة الراوي نذكر هنا أهم مواده الخاصة بهذه الدسائس،
وما في معناها وهي:
تقرير رفع إلى السلطان في الطعن على الخديوي:
مواد التقرير الذي رفعه الى المابين الهمايوني:
صاحب السعادة يوسف طلعت باشا صاحب جريدة الراوي اليومية:
البند الاول: إن الخديوي يحاول أن يجعل الازهر آلة سياسية دينية يهدد
بها مولانا السلطان وغيره، لقضاء مآربه، وهو متمكن من التأثير على مشايخه البسطاء،
ولكن وجود المفتي في الأزهر يحول دون غرضه، فإنه رجل قوي العزيمة، ويعتقد أن
استعمال رجال الدين في السياسة يضر بالإسلام والمسلمين، ويعتقد أن المحتلين
[بريطانيا] يتداخلون في كل شيء يتداخل الخديوي فيه، فيخاف أن تمتد أيديهم إلى
الأزهر، فهو يقاوم ذلك، وله حزب في الأزهر يؤيده، حتى إن شيخ الأزهر الحالي على رأيه).
كما وقف الشيخ محمد عبده ضد خطة بريطانية فرنسية لمنع الحج من مصر
والهند، حتى لا يتأثر الحجاج بمكة بآراء زعماء الثورات ضدهما ويسمعوا أخبارها،
فأراد الخديوي إصدار قرار بذلك، فوقف المفتي في وجهه، كما جاء في التقرير السابق،
وفيه:
(البند الثالث عشر: أن الخديوي كان قد اتخذ عدة وسائل قبل الطعن
بالفتاوى التي اعترضت عليها جريدة الظاهر لإيجاد نفوذ ديني في مصر، ولإسقاط
المفتي، ولم ينجح في شيء منها، لوقوف الحكومة على أنها مدبرة من قبله.
أهمها مسألة الحج فإن الحكومة في العام الماضي لم تكن تفتكر في منع
الحج حتى قابل سموه اللورد كرومر، وقال له إنه يمكنه أن يتخذ طريقة لمنع المصريين
من الحج بعد مشاورة العلماء!
فبلغ اللورد كرومر النظار ذلك، فسأل هؤلاء المفتي، فقال لا طريق لذلك
إلا أن يستفتي الخديوي بصفته أميرًا للبلاد، ويقول أنه قد تحقق عنده بأن الحجاج
المصريين إذا ذهبوا إلى الحجاز يكونون على خطر، وأنه يريد تأخير الحج إلى أن يزول
هذا الخطر المحقق عنده هو.
فإذا استفتي على هذه الصورة فإن المفتي والعلماء يفتونه بالجواز
والمسئولية عليه.
فقال النظار: وإذا طلبت
الحكومة هذه الفتوى بهذه الصورة فماذا تجاب؟
قال المفتي: إن العلماء لا يعرفون في مثل هذا الأمر إلا الأمير نائب
السلطان [عبدالحميد] على البلاد.
وبعد ذلك علم الخديوي بجواب
المفتي للحكومة، فغضب غضبا شديدًا، ثم انتهى الأمر باجتماع مجلس النظار تحت
رئاسته، وأقر على الضريبة التي ضربت على الحجاج في العام الماضي، وخففت في هذا
العام، وكان الخديوي أراد أن يكتب في المؤيد إن الحكومة كانت تريد منع الحج، وأن
الخديوي حامي حمى الدين هو الذي عارضها في ذلك! ولكن الذي منع من ذلك هو العلم بأن
الحكومة كانت عازمة على تكذيبهم في الجريدة الرسمية وبيان الحقيقة.
البند الرابع عشر: إن من جملة رسائله [أي الخديوي] للظهور عند العامة
بمظهر المحامي عن الدين مسألة صندوق التوفير في البوستة.
فهذا الصندوق جعلته الحكومة لحفظ ما يوفره الفقراء مما يزيد من
إيرادهم على مصاريفهم، ومصلحة البوستة تستغل هذه الدراهم التي تحفظ فيها.
وقد تبين لها أن نحو ثلاثة
آلاف فقير لم يقبلوا أن يأخذوا ما تقرر في الديكرتو [مرسوم] الخديوي من الربح، فسألت الحكومة المفتي: هل توجد طريقة شرعية؟ فأجاب
شفاهيا بإمكان ذلك بتطبيق استغلال النقود المودعة في الصندوق على أحكام شركة
المضاربة.
ثم ذاكر رئيس النظار الخديوي بتحرير الديكريتو الخديوي وتطبيق المشروع
على الشرع، فأظهر سموه الارتياح، ولما قال له رئيس النظار: إننا استشرنا المفتي
غضب غضبا شديدا، وقال: كيف يبيح المفتي الربا؟
لا بد أن أستشير غيره من
العلماء، ثم جمع جمعية من مشايخ الأزهر في سراي القبة، وكلفهم بأن يضعوا له طريقة
شرعية لصندوق التوفير ليظهر أمام العامة بأنه هو المحامي عن الدين والمطبق له على
الشريعة، وأن الحكومة كانت عازمة على إلزام المسلمين بأكل الربا، والمفتي مساعد
لها، ولكنه لم يتمكن من ذلك، فإن المشروع الذي وضعه العلماء وقدمته لنظارة المالية
فعرضته نظارة المالية على المفتي، فوجده المفتي هو عين الرأي الذي كان قاله شفاها).
وكذا جاء في خلاصة التقرير المرفوع للسلطان عبدالحميد:
(البند السادس عشر: إن النتيجة من كل ما تقدم أن سمو الخديوي يريد أن
يجعل لنفسه سلطة دينية آلتها الأزهر، وماليتها الأوقاف، وقد حدث بهذا كثيرين، وقال
إن أوربا تهاب البابا، والسلطان؛ لأجل السلطة الدينية، وهذه سهلة علينا، وأنه
مادام الشيخ محمد عبده مفتيا للديار المصرية، وعضوًا في الأزهر، وفي مجلس الأوقاف
الأعلى، وفي شورى القوانين، فلن يتم له في ذلك عمل إلا العمل الرسمي القانوني الظاهر لكل أحد.
وأن الشيخ توفيق البكري الذي
حسن له هذا الرأي لا نفوذ له، وقد ساءت الناس قصيدته التي كان زين للخديوي فيها
دعوى الخلافة، ورضي عليه هو وحده بسببها، واتخذه الآن ساعيا له في هذه البلاد فيما
بينه وبين مشايخ الأزهر، ولكن بدون ذكر لفظ "الخلافة"، فالمفتي هو
العقبة في طريق هذه السلطة وحزبه كبير جدًا).
وبسبب هذه المواقف التي وقفها الشيخ محمد عبده لتعزيز نفوذ الخلافة
العثمانية زادت الفجوة بينه وبين الخديوي عباس، الذي ظن أن المفتي سيتابع هواه،
ولم يدرك طبيعة البيعة التي التزم بها في جمعية العروة الوثقى، والعهد والقسم على
تعزيز "الجامعة الإسلامية"، و"الخلافة العثمانية".
قال رشيد عن أسباب كره الخديوي عباس للشيخ محمد عبده: (إن الأستاذ
الإمام كان مخلصا للخديوي عباس غيورًا عليه، يسره أن يكون على خير حال في نفسه وفي
منصبه، ويسوءه كل خذلان يحط من قدره، على ما عرض له من كراهة شخصه، وقد قال لي مرة
في محطة كوبري الليمون بمناسبة حادثة من الحوادث الخاذلة: إنه يظن أنني أُسر
لخذلانه! وكيف ذلك وهو رأس لنا؟ ولا يمكن أن يهبط الرأس ويكون ما دونه من الأعضاء
عاليا رفيعا، فأنا أشعر بأنه كلما سقط يسقطنا معه أو قال تحته، ولا سيما سقوطه تحت
الإنكليز! ولكن المشاكسات تولد كثيرًا من الحوادث والشبهات. وقد استغل بعض
المشتغلين بالسياسة بين الأستانة ومصر هذا الجفاء وكتبوا في ذلك من التقارير ما
سنلم ببعضه.
السبب الثالث: ما كان من حسن العلاقة بين الشيخ ولورد كرومر، فقد كان
اللورد يجله ويقدره قدره، ويستشيره في بعض المسائل الحكومية المهمة، ويتحامى أن
يهيج وجدانه ووجدان حزبه الراقي على الإنكليز، وكان الأستاذ يداريهم لعلمه أنه لا
يستطيع البقاء في مصر بدون ذلك، وكان المفسدون المحتالون النمامون يصورون هذه
العلاقة للخديو بأنها تأييد للاحتلال البريطاني على البلاد! أو على شخص سموه على
الأقل! وأظن أن الخديوي لم يكن يشك في وطنية الشيخ وإخلاصه لبلاده، ولا يرتاب في
ترفعه عن التقرب إلى اللورد بمساءته، فإن لم يكن هذا الترفع للإخلاص لأميره، فهو
لكرامة نفسه وإبائها، والدليل على هذا أن سموه كان يلجأ في المهمات إلى استشارته
حتى في المسائل التي تقع المادة والمشادة فيها بينه وبين سلطة الاحتلال، وإنما
تكون المصارعة فيها بينه وبين عميد الاحتلال لورد كرومر، وأهم هذه المهمات التي لم
يجد عند غيره المخرج من مأزقها مسألتان هما شاهدا عدل في القضية:
الأولى: ما كان قرره الإنكليز
من إكراه الخديوي على تعيين قاض مصري لرياسة المحكمة الشرعية العليا، وإخراج
القاضي التركي من البلاد..
عزم لورد كرومر على قطع أقوى
صلة دينية للسلطان عبدالحميد بمصر وهي اختصاصه بتعيين قاضي المحروسة عاصمة الديار
المصرية من علماء الترك، وهو يعتبر رئيس الأمور الشرعية الذي يولي سائر القضاة
الشرعيين في البلاد، و كان يلقب بقاضي القضاة ثم سمته الحكومة رئيس المحكمة
الشرعية العليا، ووضعت نظاما لاختيار القضاة الشرعيين يناط تنفيذه بلجنة يعينها
وزير الحقانية، ولكن القاضي التركي كان عضوا فيها وتعتبر موافقته على من يختار
للقضاء أذنا له فيه من قبل الخليفة.
عزم اللورد على قطع هذه الصلة بإكراه الخديوي على تعيين قاضي مصر
الأكبر من علماء الازهر..
عظم هذا الأمر على سمو الخديو لما فيه من قطع أقوى الصلات بينه وبين
الدولة العثمانية وشخص السلطان، وهي مستنده وملتحده الوحيد في مناهضة الاحتلال،
وبقطعها يكون للعميد البريطاني السيطرة على المحاكم الشرعية من طريق الحكومة، وهو
مما كان أنذره إياه الأستاذ الإمام، وما ذا يعمل سموه.. ).
وهكذا استطاع الشيخ محمد عبده عبر مناصبه الدينية أن يحقق أهداف جمعية
العروة الوثقى، وأهمها تعزيز الجامعة الإسلامية، وأن يمارس دورا سياسيا مهما، دون
أن يخل بالشرط الذي اشتُرط عليه للعفو عنه والسماح له بالرجوع إلى مصر!
مكانة الشيخ جمال الدين عند الشيخ محمد عبده:
وقد رأى الشيخ محمد بأن هذا الأسلوب السياسي الجديد وهو الإصلاح عبر
السلطة نفسها ورجالها قد آتى أكله، فكان يتمنى لو أخذ شيخه جمال بهذه السياسة في
إسطنبول مع حاشية السلطان عبدالحميد، فأرسل له رسالة بهذا المعنى.
حيث جاء في محاورة بين رشيد رضا وشيخه محمد عبده: (قلت: إن السيد جمال
الدين رأى أن طريق التعليم والتربية بعيد، والإصلاح الأقرب يكون بإصلاح الحاكم أو
الحكومة؟
قال: لو إنه تقرب من السلطان بمقدار يمكنه من حمله على إصلاح التربية
والتعليم من غير تعرض لفساد حاشيته، ولا تدخل في شؤونهم، بل مع مساعدتهم على
أغراضهم الخسيسة، لكان حسنا، ولقدر أن ينفذ مآربه مثلا يحسّن للسلطان أن يصدر
إرادته بإصلاح الوعظ في الجوامع والتعليم الديني في المدارس، ويقرن هذا السعي بإعطاء
أبي الهدى خمسمائة جنيه، وإعطاء نيشان لابنه أو لأخيه، وإذا رآه أبو الهدى يخدمه
فيما هو مهم عنده، فإما أن يواتيه، وإما أن لا يناويه، وهلم جرا.
لكنه تدخل في شؤون هؤلاء الفاسدي الطباع والأخلاق، وإصلاحهم من
المستحيلات، فأخفق مسعاه.
انتهى الحديث وقد نقلته كما
كتبته في ذلك اليوم.
كتاب الأستاذ الإمام إلى السيد:
أقول والشيء بالشيء يذكر أن الأستاذ الإمام كان كتب إلى السيد عقب
استقراره في الأستانة [إسطنبول] يدلي فيه بمثل هذا الرأي الذي ذكره لي من إحسان
مداراة أعدائه الكثيرين في الإصلاح، واختار فيه أسلوب الكناية والتعريض، والرمي
إلى الغرض من مكان بعيد، لعدم ثقته بأمانة البريد، ولا سيما المكتوبات التي ترسل
إلى السيد جمال الدين، ولم يضع إمضاءه في آخره، لأن السيد يعرف خطه دون مراقبي
البريد في الأستانة، فغضب السيد غضبًا شديدًا، وعاتب الأستاذ عتابا قاسيًا، بل
تثريبًا عاتيًا، لتوهمه أن الذي حمل الأستاذ على ذلك الخوف على نفسه، وفاته أن
المرء في مصر لا يخاف على نفسه إلا أن يكون من نفسه، وإنما حمله على الإبهام،
التعمية على مراقبي البريد اللئام، والأستاذ لا ينقص عنه في الشجاعة، ولكنه لا
يغلو فيها إلى طرف التهور).
وقال رشيد بأن الشيخ محمد عبده قد سأل في رسالته تلك عن: (الأميرة
نازلي هانم، وقد سأله الأستاذ عنها إذ كانت في الأستانة، وكان السيد جمال الدين
يريد أن يطلب لها من السلطان وسام الشفقة المرصع، واستشار في ذلك بعض زائريه من
المصريين فلم يعارض فيه إلا محمود بك سالم، قال له: يا مولاي السيد: إن هذا يسوء
افندينا الخديوي لأنه يراه من حقه).
فبلغ من مكانة جمال الدين في
إسطنبول في ضيافة السلطان عبد الحميد، أن الشيخ محمد عبده يقترح عليه أن يطلب من
السلطان منح أبي الهدى الصيادي مالا، ومنح ابنه نيشانا، وكذا منح الأميرة نازلي
وساما، مما يؤكد طبيعة العلاقة بين السلطان وجمال الدين، وبلوغه المحل الذي صار هو
من يقترح فيه على السلطان منح الأمراء ورجال الدولة الأوسمة والنياشين والهدايا،
مما ينفي تماما أكذوبة إقامته الجبرية، والتضييق عليه، وإساءة السلطان الظن به،
مما روجه عنهما أعداؤهما، وأعداء مشروعهما "الجامعة الإسلامية" التي هي
أهم أهداف جمعية "العروة الوثقى".
وقد صدق مثل هذه الإشاعات رشيد رضا نفسه حتى صدق بوجود عداء بين
السلطان وجمال، وتوهم ما لا حقيقة له بناء على روايات مجهولة!
حيث قال رشيد: (وكان السلطان يتساهل معه [أي جمال] ما لا يتساهل مع
أحد إذ يبلغه عنه من الأقوال الجارحة ما يبلغه، فلا يظهر له ولا لأحد ذلك.
وقد حدثني بعض من حضر مجلسه في الأستانة أنه سمعه يقول: "إن هذا
السلطان سل في رئة الدولة"، وكان هذا بعد إعجاب بالسلطان استمر مدة طويلة،
كاتب في غضونها علماء الفرس المجتهدين، وأقنعهم بأن يعترفوا له بأنه خليفة
المسلمين، فأجابوا وكتبوا إليه في ذلك، ويقال إن هذا كان ابتداء في دعوة المسلمين
كافة إلى الاعتصام بعروة الخلافة، والقيام بتدبير سياسي عظيم عرقله الشيخ أبو
الهدى عليه، واقنع السلطان بوجوب الانصراف عنه).
وما ذكره الشيخ رشيد هنا خلاف الحقائق التاريخية التي تؤكد بأن تأسيس
جمعية "العروة الوثقى" التي من أهم أهدافها الجامعة الإسلامية، وتعزيز
مركزها "الخلافة العثمانية"، والبيعة والطاعة للسلطان عبدالحميد والدعوة
إلى ذلك كله كان قبل استدعاء السلطان له إلى إسطنبول سنة ١٨٩٢م بخمس عشرة سنة، وهو
ما تؤكده كل أنشطة جمال الدين في مصر، ثم في باريس، ثم في لندن!
وكل ما سبق من رسائل بين محمد عبده وشيخه يؤكد بأن العلاقة بينهما لم
تنقطع - ولا العمل المشترك في الدعوة إلى "الجامعة الإسلامية" كعضوين في
جمعية "العروة الوثقى" - كما توهمه الرافعي، وكما ظنه رشيد رضا حتى
قال:(ثم تفارقا فاشتغل كل منها بما خلق ميسرًا له، فكان رأيه تبعًا لميله
واستعداده، وكل منها ضروري لا بد منه، الإصلاح والتجديد من طريق السياسة، والإصلاح
والتجديد من طريق التعليم والتربية، وإن شئت قلت تجديد الأمة بإصلاح الدولة،
وتجديد الدولة بإصلاح الأمة، لا بد من كل منها، وكل منها يفضي إلى الآخر، ولكن
الأول أدنى وأسرع، والثاني أثبت وأدوم، وقد تقدم شرح عملهما المشترك).
فالأدلة تؤكد أنهما لم يفترقا، وإن اختلفت طبيعة عمل كل منهما السري،
ومهمته في مكانه الذي انتدب إليه، وطبيعة العلاقة بينهما السرية التي قامت على
العهد والقسم حتى الموت، لخدمة الجمعية وأهدافها، وهو الذي تجاهله الرافعي، ورشيد
رضا، بينما نطقت به رسائلهما ومقالاتهما، وإن كان لا يدرك ذلك من لم يخض تجربتهما،
ولم يعان ما عانياه في مشروعهما، بل مشروع أعضاء الجمعية كلهم، الذي عرف منهم
الأمير عبدالقادر الجزائري، وابنه محيي الدين، والأمير شكيب أرسلان، والشريف أحمد
السنوسي، ويكاد موت أحد أعضائها يهز الشيخ محمد عبده، وتكاد تذهب عليه نفسه، كما
عبر بذلك في تعزيته بعضهم، ما يؤكد عمق العلاقة بين أعضائها، والمحبة التي تغمر
قلوبهم تجاه بعضهم، بحيث لا يمكن تجاهلها في دراسة حياتهم، وما طرأ عليها من أحداث
وتحولات، وهو ما أغفله المؤرخون لحياتهما، بالنظر لحياة غيرهما في عصرهما ممن
تجمعهم الأفكار، وتفرق بينهم الظروف والمصالح، دون وقوف عند العقد الذي بينهما،
والعهد الذي تعاهداه، والتصوف الذي اشتهرا به، وفوق ذلك وقبله حب المريد لشيخه،
حتى كتب له بعد نفيه من مصر إلى بيروت رسالة قال عنها رشيد: (وهو أغرب كتبه، بل هو
الشاذ فيما يصف به أستاذه السيد مما يشبه كلام صوفية الحقائق، والمائلين بوحدة
الوجود التي كان ينكرها عليهم بالمعنى المشهور عنهم، وفيه من الإغراق، والغلو في
السيد ما يستغرب صدوره عنه، وإن كان من قبيل الشعريات، وكذا ما يصف به نفسه بالتبع
لأستاذه من الدعوى التي لم تعهد منه البتة
قال: ليتني كنت أعلم ماذا أكتب إليك، وأنت تعلم ما في نفسي كما أعلم ما في
نفسك، صنعتنا بيديك، وأفضت على موادنا صورها الكمالية، فبك عرفنا أنفسنا، وبك
عرفناك، وبك عرفنا العالم أجمعين، أوتيت من لدنك حكمة أقلب بها القلوب، وأعقل
العقول، وأذل بها شوامخ المصاعب، وأتصرف بها في خواطر النفوس، ومنحت من لدنك
عزمة..).
وهي رسالة تدل على شدة المحبة على طريقة الصوفية بين محمد عبده وشيخه
جمال، ولا يفهم عباراتها ويفهم مقاصدها إلا من كان من أهل هذا العلم، كما قال رشيد
نفسه عن هذه الرسالة: (فللصوفية كلام في أنفسهم، وفي شيوخهم، يشبه كلام الباطنية
في أئمتهم، ومن ذلك قول الأستاذ الإمام في خطاب السيد رحمها الله تعالى: أوتيت من
لدنك حكمة أقلب بها القلوب، وأعقل العقول..إلخ
فإن كنت لا تعرف مذهب الباطنية حق العلم، ومذهب الصوفية حق العلم، ولا
تدري ما يريدون بالظهور، والبطون، والتجليات، والتنزلات، والمنازلات، فاربأ بنفسك
أن تكون من أهل الدث والرجم، وأن تقفو ما ليس لك به علم..).
ولوضوح هذه الرابطة بينهما، وشدة العلاقة التي تربطهما، صار كل عدو
لأحدهما عدوا للآخر منهما، إلى آخر حياتهما، بل وبعد وفاتهما، وقد أوذيا في
حياتهما، وبعد موتهما بالأكاذيب والافتراءات، والوشي بهما، حسدا وبغيا، كما فعل
أبو الهدى الصيادي في إسطنبول، والشيخ يوسف النبهاني في مصر الذي هجاهم بقصيدة
تزلفا للخديوي، كما ذكر رشد رضا عنه: (الشيخ يوسف النبهاني الخرافي الشاعر، فإنه
تقرب إلى سموه بهجو الأستاذ الإمام الذي كان يجله (ولدي كتاب بخطه يثبت ذلك)
وأستاذه السيد جمال الدين، وتلميذه محمد رشيد رضا، في قصيدة طويلة غلا في البهتان
والافتراء عليهم فيها، والاحتجاج على ذلك بأحلامه المنامية!
فمنحه سموه راتبا شهريا من الأوقاف، ولم يكن لهجوه وافترائه أدنى رواج
في مصر؛ لأن أقل المتعلمين فيها فهما وعلما أرقى من الدجال النبهاني عقلا وأدبا،
ويعدون الشيخ محمد عبده أعظم رجل أنجبته بلادهم في هذا العصر، إن لم أقل في كل
عصر.
وقد ثبت ذلك بإجلالهم له في حياته ومماته، بما لم يتفق لغيره، وقد
تولى بعض تلاميذه مشيخة الأزهر، وإفتاء الديار المصرية، ومما ذمه هذا الدجال ونهى
المسلمين عنه تفسير المنار الذي كنا نقتبس فيه أنوار حكمته، وما امتاز بفهمه، ويا ليته
يسأل عن مكانة هذا التفسير عند أرقى علماء الأزهر وسورية وغيرهم (كفضيلة مفتي بلده
بيروت) وما قرظوه به مفضلين له على تفاسير الأولين والآخرين…).
مشروع جمعية العروة الوثقى في إيران وروسيا:
وكما توجه الشيخ محمد عبده سنة ١٨٨٩م إلى مصر للقيام بمهمته الموكل
بها في تحقيق الإصلاح وتعزيز العلاقة مع الخلافة العثمانية؛ سيتوجه جمال الدين
أيضا لمهمة أشد خطرا، وأبلغ أثرا، بانتداب من جمعية "العروة الوثقى" وهو
إحداث التغيير في إيران التي بدأ يتنامى فيها النفوذ البريطاني، على حدود الخلافة
العثمانية، والذي يرى السلطان وجمال الدين أنه خطر مباشر يهدد الخلافة نفسها
مباشرة، فكان لا بد من الحد من نفوذه من خلال الأسلوب نفسه والسياسة التي اتبعها،
وقام بها جمال والعروة الوثقى في مصر، بتأسيس حركة إصلاحية تدعو للشورى والمشروطية
والدستور، ليحد الشعب الإيراني من صلاحية الشاه ومن ثم يحد من النفوذ البريطاني
فيها، وهو السبب الذي طالما علل به جمال الدين سقوط ممالك الهند الإسلامية، وهو
ارتباط شعوبها بالملوك وطاعتهم طاعة مطلقة، فلا يحتاج المحتل إلا إلى السيطرة على
هؤلاء الملوك فإذا بلدانهم وشعوبهم وثرواتهم كلها تحت تصرف الاحتلال الأجنبي!
كما قال في العروة الوثقى: (ينصبون قبل سوق الجيوش وقواد الجنود على
قلوب الأمراء وأرباب السيادة في الأمة التي يريدون التغلب عليها فيخلعونها
بالتهديد والتخويف، أو يملكونها بالخدعة وتزيين الأماني، فينالون بغيتهم ويأخذون
أراضي الأمم، وهذا الطريق هو الذي سلكه الإنجليز مع السلطان التيموري في الهند، ولولا
ما كان للهنديين من عقدة الارتباط بسلطانهم التيموري، وقبض الإنجليز أول الأمر على
تلك العقدة، لما تيسر للبريطانيين أن يخضعوا الأمم الهندية في أحقاب طويلة!
هذه قبائل الأفغان عندما انحلت ثقتها بأميرها، وصار الأمر إلى الأمة
قامت كل عشيرة، بل كل فرد للدفاع عن نفسه، بعدما تمكنت عساكر الإنجليز في قلاعهم
وحصونهم، واستولت على قاعدة ملكهم، وفتكوا بالعساكر الإنجليزية، وهزموا قواتها
وأجلوها عن بلادهم، وهي ستون ألفا من الجيوش المنتظمة، المسلحة بأحدث الأسلحة،
واضطر الإنجليز أن يتركوا تلك البلاد لأهلها).
إن ميثاق جمعية "العروة الوثقى" السرية لا يسمح لأي عضو أن
يتخذ موقفا دون شورى والتزام بالشورى ورأي الأغلبية، ولا يمكن لجمال الدين أن يذهب
إلى إيران والشاه دون قرار من الجمعية نفسها، فكما انتدبته إلى الذهاب إلى باريس
لإصدار مجلة العروة الوثقى، ومعرفة خبايا السياسة الأوربية من باريس حيث الصحافة
الحرة، فكذلك هي التي انتدبته للذهاب إلى إيران، ثم لروسيا، كما انتدبت محمد عبده
للذهاب إلى بيروت، ثم مصر.
وقد وجدت مقالات مجلة "العروة الوثقى" قبولا عاما، وأحدثت
صدى كبيرا في إيران، وتداولها العلماء والزعماء، وسمعوا خطابا لم يكن لهم به عهد
من قبل، يدعو إلى الوحدة بين شعوب الأمة وطوائفها، وإلى الجامعة الإسلامية، وألا
تحول المذاهب دون أصل الدين والاعتصام بحبل الله جميعا، لمواجهة الغزو الأوربي
للعالم الإسلامي، ولعل أهم ما ورد فيها هو دعوتها الإيرانيين للاتحاد مع الأفغان،
لمواجهة الخطر البريطاني، ولدعم المسلمين في الهند، وهي الدعوة التي وجدت تفاعلا
كبيرا من الشاه وحكومته في طهران، لتحقيق حلمه الذي طالما سعى له وهو ضم أفغانستان
وبلوشستان، والسند، التي غزاها ثم انسحب منها، وهذه الدعوة هي التي ستفتح لجمال
الدين أبواب إيران، حيث دعاه الشاه؛ رغبة في الاستفادة من دعوته إلى الوحدة في
تأليف السنة في بلوشستان وأفغانستان وإيران مع الشيعة تحت سلطانه، كما تتآلف رعايا
الخلافة العثمانية على اختلاف مذاهبها؛ ليحقق بمشروع الجامعة الإسلامية ودعوة جمال
الدين والعروة الوثقى، ما فشل عن تحقيقه عسكريا لضم أفغانستان إلى إيران، وقد ركزت
مجلة العروة الوثقى في باريس سنة ١٨٨٤م على هذه القضايا في مقالات كثيرة، ومنها:
ما جاء في المجلة: (مضى زمان فرط فيه الهنديون عند تداخل الإنجليز في
شئونهم فتدابروا، وحول كل وجهه عن الآخر، ولم يصغوا لدعوة الله في طلب الاعتصام
بحبله، فذاقوا وبال أمرهم، وسقطوا جميعا تحت سلطة الدولة الإنجليزية، وسادت عليهم،
واتخذت السادات منهم خدما لرجالها وخولا! بعد أن كانت تدعي أنها خادمة لهم، أمينة
في الخدمة!
ولم يهن لها أن تكون سيدة عادلة، بل تجاوزت فيهم حد العدل، واستبدت
عليهم ظالمة جائرة، فلما لفحتهم نيران القسوة، أقبل بعضهم على بعض، ونهضوا جميعا
للتملص من أغلال ظالميهم، من نحو أربع وعشرين سنة [ثورة الهند ١٨٥٧]، إلا أن
إخوانهم الأفغانيين والبلوجيين والإيرانيين كانوا في غفوة عما نهضوا إليه، ولم
يمدوا لهم يد المساعدة، بل كان الإيرانيون في حرب مع الإنجليز، ولكن لم يواصلهم
الهنديون، ولم يرتبطوا بهم في التعاون على شأنهم، كما أنهم لم يرتبطوا في ذلك مع
العثمانيين، فإهمال جيرانهم، ورسوخ أقدام العدو بينهم، كان سببا في تغلب الظلمة
الأغراب عليهم، ولو عقل المهملون لعلموا أن العدو إذا تمكن في الهند قويت شوكته ثم
كر عليهم، وأوقع بهم ما أوقع بإخوانهم.
بعد هذا زحف العدو الغريب علي بلوچستان واشتغل معها بالمنازلة، وفرط
الأفغانيون والإيرانيون في تعضيدهم، فتم له بذلك أن يسود في جزء عظيم من أراضيهم
ثم انقلب على الأفغانيين، وكانت بينه وبينهم حرب هائلة، امتد زمنها نحو سنتين وما
نبض في الهنديين عرق، ولا امتد من الإيرانيين ساعد، ولا كانت بينهم وبين
العثمانيين وصلة!
ولو كان لجميعهم بصر بالعاقبة لأدركوا أن حياة كل منهم معقودة بحياة
الآخرين، بالغ الخصم في تطاوله حتى اعتدى على الممالك العثمانية بسوق جيوشه إلى
الأقطار المصرية التي هي أعظم أيالة من إيالات العثمانيين، بل أهم أقطار
المسلمين، وهو الآن في محاولة الاستيلاء على تلك البلاد، والاستبداد بالحكم فيها
غير مبال بحقوق الدولة العثمانية، ولا محترم ولايتها الشرعية، وكان المسلمون
لبداية الأمر على مثل تفريطهم السابق غير ملتفتين إلى ما حل بهذا القطر الإسلامي
العثماني، ظنا منهم أن العدو يصدق مرة في وعده أو يخشى عاقبة السوء من طمعه، فلما
رأوه غريقا في غيه، متغلغلا في سيره، مغرورا بقوته، ناصبا لحبالته، اهتزت رواسيهم،
وتحركت ثوابتهم، وتنبهوا من سباتهم، وندموا على ما سلف من سابق التفريط، وأحسوا أن
ما أصاب اليوم بعضهم فلا بد أن يمس يوما جميعهم، فصارت المسألة المصرية سببا في
إحياء الإخوة الدينية، كما بشرتنا به الرسائل الواردة إلينا من فارس، والهند،
وأفغانستان، فلو تمادى الإنجليز في حرصهم، وحملهم الشره على غمط حقوق العثمانيين،
وثبتت الدولة العثمانية في المدافعة والمطالبة، لوجد لها من المسلمين القادرين على
نكاية الإنجليز من يقوم بنصرها أداء لما أوجب الله عليه).
فكان هذا الخطاب السياسي الديني للمجلة في تلك الفترة شيئا جديدا غير
معهود سماعه، فاستنارت العقول، واستيقظت الهمم، وجاشت النفوس، وشكل خطابها تيارا
واسعا مؤمنا بمشروعها ودعوتها لتحرير العالم الإسلامي، الذي سقط أمام العدو
الخارجي بسبب تشرذمه وتفرقه.
وجاء فيها أيضا تحريضا للأمة
وشعوبها على المقاومة والاتحاد والجهاد: (إلا إن وقت التدارك ما فات، فالأرواح في
الأجساد، والعقول في الرؤوس، والهمم في النفوس، وإقدام العدو في زلل، وشئونه في
خلل، فاثبتوا ولا تهنوا، ولا تحزنوا وأنتم الأعلون، إن كنتم مؤمنين، لا ترضوا
بالدنية، خوفا من المنية، واعلموا أن ثباتا قليلًا، وإقداما خفيفا في هذا الوقت
يفعل ما لا يفعله الجيش العرمرم، نعم فإن الدول متفقة على معاكسة الإنجليز،
والإنجليز في شغل شاغل بالمسألة السودانية، وقلوب رعاياهم في الشرق [الهند] خصوصا
المسلمين، منحرفة عنهم، وكوامن الأحقاد متهيئة للوثبة عليهم، فعمل صغير في
مناوأتهم من أهلها يوجب بعون الله سقوطهم وتنكيس أعلامهم، ورجوعهم بالخيبة خاسرين،
فالثبات الثبات! وحذار حذار من التواني والتقاعد! هذا وقت يقرب فيه المؤمنين إلى
ربهم بأفضل عمل شرعي، هذا وقت تنال فيه سعادة الدارين، للعامل فيه خير الدنيا وله
في الآخرة الحسنى وزيادة، هذا وقت تظهر فيه ثقة المؤمن بوعد ربه، هذا وقت يشكر فيه
العامل على بسيط الأرض، ويحمد له عمله فوق سبع سموات، إلا أن الشيطان يخوف
أولياءه، فلا تخافوا أعداءكم ولا تكونوا كالذين استحبوا الدنيا على الآخرة، إن
الله تعالى قد جعل من علامات الإيمان حب الموت اختيارا لرضاه وإعلاء لكلمته، كونوا
مع الله في نصره ينصركم ويثبت أقدامكم، ثقوا بوعد الله فلن يخلف الله وعده، إن
أخلصتم له في العمل سلوا قلوبكم، وامتحنوا إيمانكم، ولا ترتابوا في وعود ربكم، فلن
يرتاب فيها إلا القوم الكافرون).
وكذا حرضت على بريطانيا في مصر والسودان والهند، فجاء فيها: (ضياع
القطر المصري هو ضياع الكل كما أشرنا إليه مرارا، وكما يشهد به موقع البلاد
المصرية من سائر بلاد المسلمين، وإن خاب الإنجليز في منازلة الثائرين [في السودان]
فليس يخفى على عقل عاقل ما يترتب على هذه الخيبة وما ينشأ عن غلبة محمد أحمد
[المهدي] وأتباعه وانهزام العساكر الإنجليزية، وربما كان هذا الأمر الثاني سببا
لمداخلات أجنبية في جميع أقطارنا.
ليس من الصعب على الدولة العثمانية، ولا على الحكومة المصرية أن تظهرا
شيئا من الشدة، وتأخذا بجانب من القوة، وتقفا على قدم الثبات، ودولة إنجلترا في
تخبط مع الدول وارتباط بالسودان، والمسلمون من جميع الأقطار في هياج شديد، لو
قامتا بما يسهل عليهما لحفظ لهما الموجود ورد المفقود، وسدت أبواب المطامع، وأخذت
الدولة العثمانية مكانا من القوة تخشع له قلوب الجبارين، ولازدادت بذلك ثقة
المسلمين، وانبعثت آمالهم.
سلكت جريدتنا مذهب الصدق في
بيان حال الإنجليز مع الدولة العثمانية، وأثبتت عن بصيرة وكمال خبرة أن الإنجليز
يهابون منافرة الدولة، ويخشون سوء مغبتها.
جريدتنا تنادي بذلك من يوم صدورها بينا أن للدولة سلطة معنوية في
الهند لم تبلغها حكومة الإنجليز بعد إفراغ جهدها. هذه حقيقة الأمر ومع ذلك لا ندري
سر هذه السياسة اللينة التي لا نرى لها أثرا إلا في الأوراق، وتحت أسنة الأقلام،
والإنجليز يقاتلون ويتملكون وتزداد أقدامهم رسوخا يوما بعد يوم! وانطلق بهم الغي
إلى أن أطالوا أيديهم إلى الأوقاف المصرية يطلبون التصرف في خزينتها والقيام على
إدارتها!
نعيد الكلام مرة أخرى ونقول: إن جميع المسلمين في الأقطار الهندية وما
يتاخمها قائمون على قدم وساق متهيئون لمواثبة أعدائهم، وسالبي حقوقهم، فبثبات ما
من الدولة العثمانية يظهر له أثر عظيم يضطر الحكومة الإنجليزية إلى ترك مصر، وليس
للدولة أن تضيع هذه الفرصة فقلما يأتي الزمان بمثلها، الدول متألبة على الإنجليز
وروسيا مشرفة على الهند، والهنديون في هياج، وخطب السودان غير يسير، فإن لم تأخذ
الدولة حقها من الإنجليز في هذا الوقت، فمتى؟!).
وقد وجدت مجلة العروة الوثقى رواجا في الهند وإيران وتداولت أخبارها
كثير من المجلات، نقلا عنها، وترجمة لمقالاتها، كما ورد فيها: (جاءت إلينا الجرائد
الهندية فسرنا اعتدال سيرها في خدمة أوطانها، وزادنا سرورًا عنايتها بترجمة
مقالاتنا المتعلقة بأحوال الشرقيين عموما، والمسلمين خصوصا، ونقلها من اللسان
العربي إلى اللسان الهندي، فلله شكرها على ما صنعت ونخص من بينها جريدة (أخبار دار
السلطنة) التي تطبع في كلكته وجريدة (مشير قيصر) التي تطبع في لكهنو. وهذا كان
أملنا في أرباب تلك الجرائد وليس بغريب على غيرتهم الدينية والوطنية.
هذا ما كان من مسلمي الهند وهم في قبضة الإنجليز من مدة تزيد على قرن.
وإننا نأسف غاية الأسف مما بلغنا عن بعض المصريين من أنهم يمتنعون عن
استلام ما يرسل بأسمائهم من أعداد هذه الجريدة خوفا ورهبة، مع أنهم أحق الناس
بالإقدام على أمور عظام في هذه الأوقات، فإن الآمال في خلاصهم قوية والوسائل إليه
قريبة فكيف يصل ببعضهم الخوف إلى الامتناع عن استلام جريدة هم أولى بها من غيرهم،
إذ أهم ما فيها الدفاع عنهم).
وقد استثارت المجلة العاطفة والحمية الدينية، والغيرة الإسلامية، بنشر
ما تقوم به بريطانيا من اضطهاد لعلماء المسلمين، وحملهم على الفتوى بخلاف عقيدتهم،
أو حبسهم ونفيهم، فصارت مصدرا لمتابعة أخبار العالم الإسلامي كله، وقد جاء فيها:
(الرزايا التي أصيبت بها الديار المصرية من حلولهم، لأنهم الإنجليز
الذين ما إن أحسوا بشهرة عالم من علماء المسلمين في الهند، وإقبال الناس
عليه بالاعتبار أسرعوا بجلبه إلى ديوان الشرطة (الضبطية) فعند وصوله إليها يفتح
له الضابط مصحف قرآن، أو كتاب حديث من الكتب المشهورة، ثم يشير إلى آية من آيات
الجهاد، أو حديث مما يدعو إليه ويسأله: هل أنت معتقد بهذه الآية أو الحديث؟ فإذا
قال نعم قال له فبناء على ذلك يكون من رأيك وجوب الجهاد فينا؟ فإذا أجابه: إنني
درويش ملازم العزلة عن الناس وليس اعتقادي بهذا إلا لأنه كتاب ديني، ضرب له الضابط
أجل أربعة أيام أو أقل يبين فيها رأيه في الآية أو الحديث، فإن مضى الأجل ولم يحرف
العالم دينه، ولم يبدل عقيدته، ولم يبادر بإرسال تحريفه وتبديله وخروجه عن دينه
إلى مطبعة من المطابع ليطبع وينشر، بعثت به الحكومة إلى جزيرة أندومان نفيا مؤبدا.
ولو رأيت تلك الجزيرة لرأيتها غاصة بأمثال هؤلاء المظلومين!
فدولة الإنجليز التي تحاسب رعاياها المسلمين على خطرات قلوبهم، وما
يمكن أن يهجس في حديث نفوسهم لا ريب أنها تعد وجود لفظ الإسلام في جريدة كافيًا
لمنعها عن الدخول إلى بلاد لها فيها قدم ثابت، أو تسعى في تثبيته، بل تحسب أن من
ألد أعدائها شخصا علق هذا الاسم من أي جنس كان.
فلا غرابة في صدور مثل هذه
الجور منها، غير أننا نعلن لها أن همم الرجال لا تقعدها أمثال هذه المظالم، وليس
يعجزنا إدخال هذه الجريدة في كل بقعة تحوطها السلطة الإنجليزية الظالمة، ذلك
بعزائم أولي العزم الذين قاموا بإنشاء العروة الوثقى).
وحذرت المجلة من ممارسات المحتل البريطاني وغدره، وعدم الوثوق به،
فكانت تنشر كل حركاته العسكرية، وما يتعرض له المسلمون في كل بلد احتلها، وأنه لا
يتورع عن قتل المدنيين وحرق قراهم، كما في قولها: (وما أشبه فعلة الإنجليز هذه
بفعلتهم من نحو عشرين سنة عندما كان يحارب في حدود الهند سرايا الأمير عبد الله الوهابي
وخوند سوات، فإنه بعدما انهزم في جبال "سوات وبنير" شر هزيمة وترك
مدافعه وذخائره، رجع ثانية ودخل قرية صغيرة من قرى تلك الجبال، وفاجأها ليلا على
غفلة وأحرقها فقتل أهلها جميعا، وانقلب راجعا إلى بلاده في الهند من ليلته، وأعلن
بأنه قتل وسلب ونهب وظفر وانتصر، فليعتبر المعتبرون).
وكذا حذرت المجلة الخلافة العثمانية من تكرار أخطائها بوثوقها بالعهود
البريطانية في شأن ثورة المهدي في السودان، كما وثقت بها حين تخلت عن ثورة أحمد
عرابي في مصر، والحكم بعصيانه، فقالت: (ربما يختلج بخواطر الوزراء البريطانيين أن
يخدعوا الدولة العثمانية ويحملوها على الحكم بعصيان محمد أحمد [المهدي بالسودان]
وتضليله ليحولوا القلوب عنه ثم يجنوا الثمرة كما جنوها من الحكم بعصيان أحمد
عرابي، ولكن قد تبين الرشد من الغي، وظهر للدولة العثمانية سوء طوية الإنجليز
وعدوانهم على حقوقها، فليس من المحتمل أن تنخدع لهم مرة ثانية، ولا يلدغ المؤمن من
جحر مرتين، كما أنه يشبه المحال أن عثمانيا يجوز سوق الجيوش العثمانية إلى السودان
لتذليله وعساكر الإنجليز في القاهرة!
ينتظر العثمانيون بعد انقضاء الفتنة نهاية المراوغات الإنجليزية حتى تؤول
مسألة مصر إلى مثل ما آلت مسألة بوسنة وهرسك مع دولة النمسا.
فعلى العثمانيين وأصحاب العزيمة من المصريين أن يجمعوا أمرهم على كشف
هذه النازلة صونا لأوطانهم ولاتقاء شر ربما يحدث في جهات أخرى، فإن قضى حرص دولة
الإنجليز بصد أرباب الحقوق الشرعية عن أداء المفروض عليهم جهلا منها بمصلحة نفسها،
وبمصالح تلك البلاد، فعلى العثمانيين أن يقيموا الحجة بسيوفهم وجيوشهم لا بالرقائم
والأوراق، فإن هذا فساد لو أهمل لعم وعمت رزاياه، ولا نظن أن دولة بريطانيا تثبت
على نفختها هذه فإنها ستشتغل بداخل البيت عن خارجه بعد قليل.
لسنا نقول ما نقول جزافا، ولكن دعوة القائم السوداني أشربت قلوب
الأكثرين في الهند وبلوچستان وأفغانستان، وقد علق شرر الثورة بأهداب الخواطر فلا
تلبث أن تلتهب، فللدولة العثمانية أن تمد نظرها إلى أعماق المسألة، وتقدر قوة
الإنجليز وأهبتهم العسكرية مع ملاحظة ارتباكاتهم في ممالكهم، وظهور عجزهم وضعفهم
في الحوادث الأخيرة، ومراعاة آراء الغالب من الدول العظيمة، وبعد الإحاطة بهذا كله
وهي أسهل من كل سهل تظهر عزما ثابتا وبأسا قويا يليق بدولة عظيمة كدولة آل عثمان
طالما ظهرت على يديها خوارق العادات، ولله الأمر من قبل ومن بعد).
وقد ضربت المجلة المثل بروسيا ووحدتها ونهضتها، حيث كتب جمال في مقال
"الوحدة الإسلامية": (ألم تر أمة الروس هل تجد فيها ما يزيد على هذه
الاصول الثلاثة: هي أمة متأخرة في الفنون والصنائع عن سائر أمم أوربا، وليس في
ممالكها ينابيع للثروة، ولئن كانت فليس هناك ما يستفيضها من الأعمال الصناعية، فهي
مصابة بالحاجة والإعواز، غير أن تنبه أفكار آحادها لما به يكون الدفاع عن أمتهم
واتفاقهم في النهوض به وارتباط قلوبهم صير لها دولة تميد لسطوتها رواسي أوربا.
لم يكن للروسيا مصانع لمعظم
الآلات الحربية، ولكن لم يمنعها ذلك عن اقتنائها، ولم يرتق فيها الفن العسكري إلى
حد ما عليه جيرانها، إلا أن هذا لم يقعدها عن جلب ضباط من الأمم الأخرى لتعليم
عساكرها، حتى صار لجيشها صولة تخيف، وحملة تخشاها دول أوربا فما الذي أقعدنا عن
مشاكلة غيرنا، فيها هو أيسر الأشياء علينا ونحن أشد الناس ميلا اليه: من رعاية شرف
الملة، والتألم بما يحط منه، والتعاون على صون الوحدة الجامعة لنا عن كل ما
يثلمها؟ ما رد الأفكار عن الحركة، وما أقعد الهمم عن النهوض، إلا أولئك المترفون،
يحرصون على طيب في المطعم، ولين في المضجع، وتطاول في البنيان، وتفاخر بالخدم
والخول، ولا يراءون في حرصهم ما بعد يومهم، ويحافظون على لقب موضوع، ورسم متبوع،
يقنعون منه بالاحتفال لهم في المواسم والأعياد، وهز الرءوس، وثني الأعطاف، تعظيما
وتبجيلا، ثم تذييل الأوراق الرسمية بأسماء ليس لها مسميات!
هؤلاء الساقطون يرضون لتخيل هذه الموائل (جمع ماثل من الرسوم ما ذهب
أثره) بكل دنيئة، هؤلاء يقبلون من تصرف أعدائهم في بيوتهم ما لا يقبله واحد من
آحاد الناس دون موته، أولئك صاروا في أعناق المسلمين سلاسل وأغلالا، يحبسون هذه
الأسود [المجاهدين] عن فريستها، بل يجعلونها طعمة للثعالب، لا حول ولا قوة إلا
بالله!
أيا بقية الرجال، ويا خلف الأبطال، ويا نسل الأقيال! هل ولى بكم
الزمان! هل مضى وقت التدارك؟ هل آن أوان اليأس؟ لا. لا. معاذ الله أن ينقطع أمل
الزمان منكم، إن من أدرنه [في البلقان] إلى بيشاور [باكستان] دولا إسلامية،
متصلة الأراضي، متحدة العقيدة، يجمعهم القرآن، لا ينقص عددهم عن خمسين مليونا، وهم
ممتازون بين أجيال الناس بالشجاعة والبسالة، أليس لهم أن يتفقوا على الذب والاقدام
كما اتفق عليه سائر الأمم؟ ولو اتفقوا فليس ذلك ببدع منهم، فالاتفاق من أصول
دينهم، هل أصاب الخدر مشاعرهم فلا يحسون بحاجات بعض البعض).
وقد انعكس هذا الخطاب الإعلامي الذي طرحته العروة الوثقى على الداخل
الإيراني، حيث بدأ الحراك الشعبي للحد من استبداد الشاه، كما انعكس لاحقا على
المراجع في إيران وتوطدت علاقتهم بجمال الدين، حتى أرسلوا ببيعتهم للسلطان
عبدالحميد!
وقد قال المؤرخ الرافعي عن ذهاب جمال لإيران ثم روسيا بعد إغلاق
المجلة بباريس سنة ١٨٨٤م: (أخذ جمال الدين ينتقل بين باريس ولندن إلى أوائل فبراير
سنة ١٨٨٦م (جمادى الأولى سنة ١٣٠٣هـ).
ثم استدعاه ناصر الدين شاه فارس، فلبى الدعوة، وقصد إلى طهران
فاستقبله الشاه بصدر رحب، وأثنى على فضله، وجعله مستشاره الخاص في إصلاح شئون
بلاده، فكان له نعم المرشد الأمين، وكانت لهجته صريحة كعادته في نصح الشاه، وأشار
عليه بتغيير كل شأن معيب من شئون الحكومة، وقال بضرورة اشتراك الأمة في الحكم،
على أن الشاه لم تألف نفسه إقامة الشورى في بلاده، فتنكر لجمال الدين إذ رآه ميالا
إلى إقامة النظم الدستورية.
ولما أدرك جمال الدين تغير الشاه استأذنه في السفر فأذن له.
فذهب إلى روسيا، وزار عواصمها فاستقبله الخاصة بالتجلة والاحترام لما
كان سمعوه من مكانته، وكتب عدة مقالات في الصحف الروسية، وكانت لهجته معبرة في
إظهار دسائس السياسة الانجليزية.
وقد دعاه القيصر لمقابلته، واحتفى به كثيرا، على أن القيصر في خلال
حديثه معه سأله عن سبب اختلافه مع الشاه، فذكر له رأيه في الحكومة الشورية، وأن
الشاه لا يشاطره رأيه فيها، وينفر منها، ولم يكن القيصر أيضا يقبل هذا النوع من
الحكم فقال: إني أرى الحق في جانب الشاه، كيف يرضى ملك من الملوك أن يتحكم فيه
فلاحو مملكته؟
فلم يسكت جمال الدين على كلام القيصر، وأجابه في جرأة وفصاحة: أعتقد
يا جلالة القيصر أنه خير للملك أن تكون الملايين من رعيته وأصدقائه من أن يكونوا
أعداء يترقبون الفرص ويكتمون في الصدور سموم الحقد والانتقام.
فبهت القيصر من هذا الرد، وعلت وجهه علامة الغضب، وقطب حاجبيه، ولم
يطل الحديث بعد ذلك، بل قام من مجلسه إيذانا بانتهاء المقابلة، وودع جمال الدين
بغير الشكل الذي استقبله به إذ كان وداعا فاترا، ثم أوعز إلى كبار رجال حاشيته أن
يسرعوا متلطفين لإخراجه من روسيا.
ترك جمال الدين روسيا، وأخذ يتجول في أوروبا، ولما كان معرض باريس
العام سنة ١٨٨٩م رجع جمال الدين إليها، وفي عودته منها التقى بالشاه في ميونخ
عاصمة بافاريا، فاعتذر له عما فرط منه ودعاه إلى صحبته إذ كان يرغب في الانتفاع
بعلمه وتجاريبه، فأجاب الدعوة، وسار معه الى فارس، وأقام في طهران، فحفه علماء
فارس، وأمراؤها، وأعيانها بالرعاية والإجلال.
واستعان به الشاه على إصلاح أحوال المملكة، وسن لها القوانين الكفيلة
بإصلاح شئونها، فعمل بجد فيما عهد إليه، ووضع مشروع دستور لفارس يجعلها ملكية
دستورية، ولكنه استهدف لسخط أصحاب النفوذ في الحكومة، وخاصة الصدر الأعظم، فوشوا
به عند الشاه، وأسر إليه الصدر الأعظم أن هذه القوانين وخاصة الدستور تؤول إلى
انتزاع السلطة من يده، فأثرت الوشايات في نفس الشاه، وبدأ يتنكر للسيد، ولما اطلع
على مشروع الدستور هاله الأمر حين رأى أن حكمه سيكون مقيدا، وأن المجلس النيابي
الذي يفرضه الدستور سيجعل الأمة أوسع سلطانا منه.
فقال لجمال الدين: أيصح أن أكون يا حضرة السيد وأنا ملك ملوك الفرس
شاهنشاه، كأحد أفراد الفلاحين؟
فقال جمال: اعلم يا حضرة
الشاه أن تاجك، وعظمة سلطانك، وقوائم عرشك، ستكون بالحكم الدستوري أعظم وأنفذ
وأثبت مما هي الآن، واسمح لإخلاصي أن أؤديه صريحا قبل فوات وقته، لا شك يا عظمة
الشاه أنك رأيت وقرأت عن أمة استطاعت أن تعيش بدون أن يكون على رأسها ملك، ولكن هل
رأيت ملكا عاش بدون أمة ورعية؟
جاء هذا الحديث مصدقا لما وشى به الصدر الأعظم لدى الشاه، فنفر من
جمال الدين نفورا شديدا، وأحس بهذا التعبير في موقف الشاه حياله، فاستأذن في
المسير إلى المقام المعروف بشاه عبدالعظيم على بعد عشرين كيلومترا من طهران، فأذن
له، فوافاه به جم غفير من العلماء والوجهاء من أنصاره في دعوة الإصلاح، فازدادت
مكانته في البلاد، وتخوف الشاه عاقبة ذلك على سلطانه، فاعتزم الإساءة إليه، ووجه
إلى شاه عبد العظيم خمسمائة فارس قبضوا عليه، وكان مريضا، فانتزعوه من فراشه،
واعتقلوه، وساقه خمسون منهم إلى حدود المملكة العثمانية، فنزل بالبصرة، فعظم ذلك
على مريديه، واشتدت ثورة السخط على الشاه.
أقام السيد بالبصرة زمنا حتى أبل من مرضه، ثم أرسل كتابا إلى كبير
المجتهدين في فارس ميرزا محمد حسن الشيرازي، عدد فيه مساوئ الشاه، وخص بالذكر
تخويله إحدى الشركات الإنجليزية حق احتكار التنباك [التبغ] في بلاد فارس، وما يفضي
إليه من استئثار الأجانب بأهم حاصلات البلاد، وكان هذا النداء من أعظم الأسباب
التي جعلت كبير المجتهدين يفتى بحرمة استعمال التنباك).
وما ذكره الرافعي هنا لا خلاف فيه بين المؤرخين من حيث الجملة، إلا
أنهم لم يضعوه في سياقه الصحيح، وهو أن حركة جمال مرتبطة ارتباطا وثيقا بأمرين في
غاية الأهمية لا يمكن فهمها بدونهما:
الأول: الجامعة الإسلامية ووحدة الأمة وهي هدفه الأسمى، والالتفاف حول
الخلافة العثمانية.
الثاني: جمعية العروة الوثقى التي شارك في تأسيسها وحملت على عاتقها
عبء تحقيق هذه المهمة.
وكل تجاوز لهذين العاملين الرئيسين في تفسير حركته يجعلها ضربا من
الفوضى والاضطراب الذي يتنافى مع أبرز صفاته التي أجمع عليها المؤرخون من المسلمين
وغير المسلمين ألا وهي الحكمة وأنه حكيم الشرق!
وستثبت الأدلة كلها بأنه كان في كل ما يأتي ويذر كان ينفذ مشروعا
انتدبته إليه جمعية العروة الوثقى السرية.
ويلاحظ هنا تاريخان في غاية الأهمية:
الأول: سنة ١٨٨٦م، حيث خرج
جمال في مطلعها من باريس إلى إيران ثم روسيا، بعد أشهر من خروج محمد عبده من باريس
إلى بيروت للقيام بالمهمة التي أوكلت إليه فيها.
والثاني: سنة ١٨٨٩م التي سافر
فيها جمال مرة أخرى إلى إيران، وهي السنة نفسها التي عاد فيها محمد عبده إلى مصر!
وقد حاول المهووسون برمي جمال ومحمد عبده بالماسونية تفسير كل حركتهم
هذه من أجل تحقيق أهداف الماسونية! في الوقت الذي لا نرى في كل مقالاتهم في باريس
في العروة الوثقى، ثم بعد ثمان سنين في لندن في مجلة "ضياء الخافقين"
إلا الدعوة إلى الجامعة الإسلامية، ووحدة الأمة، وتعزيز الخلافة العثمانية،
والبيعة للسلطان عبدالحميد خصوصا، وجهاد المحتل الأوربي، وتحقيق النهضة وتحرير
الشعوب من الاستبداد!
ولا خلاف بين كل من أرخ لهما
أنهما تركا المحفل الماسوني في مصر بعد مدة قصيرة من دخوله سنة ١٨٧٨م، سواء من قال
بأنهما دخلا قبل معرفتهما بحقيقته دعوته إلى الحرية والمساواة، حيث لم تظهر
الماسونية على حقيقتها آنذاك كما بعد عصرهما، ولم تكن محظورة، بل كانت مرخصة
كجمعية رسمية، فلما عرفا حقيقة دعوتها تركاها، بل حارباها وحرضا على إغلاق محافلها
كما فعل محمد عبده في بيروت، الذي حاربته الماسونية بعد ذلك حين عاد إلى مصر
واعترضت على درسه في التفسير الذي تكلم فيه عن اليهود.
وقد نعى جمال الدين على المحافل الماسونية ما هي فيه من فساد وجبن،
واعترض على احتفالهم في مصر بولي عهد بريطانيا، لأن بريطانيا تحتل شعوبا كثيرة،
مما يتناقض مع دعوة المحفل إلى الحرية والمساواة.
أو من قال بل دخلاها مع جماعة من أنصارهما ليكونوا في مأمن من السلطة
ورقابتها، وللاتصال بنخبة المجتمع المصري، ومعرفة كيف تدار شئون مصر، وما يدور في
دهاليزها.
فأي ذلك كان فقد ثبت تركهما للمحفل بإجماع المؤرخين، وبقي من تجربتهما
فيه ما استفاداه من وسائله في التنظيم، والعمل السري، والاستقطاب، الذي كما يبدو
أخذا بها في عملهم في جمعية العروة الوثقى السرية!
تأسيس صحيفة ضياء الخافقين في لندن:
وقد سافر جمال بعد خروجه من
إيران إلى لندن، ونشر مقالاته في مجلة جديدة باسم "ضياء الخافقين"، وكما
خصص مجلة العروة الوثقى بعد خروجه من مصر ضد بريطانيا وسياساتها في مصر والسودان،
فقد جعل "ضياء الخافقين" لفضح سياساتها في إيران!
وبقي الثابت في دعوته الذي لم يتغير مع تغير الظروف والبلدان والأحداث
خلال كل هذه السنوات ما بين تأسيس مجلة العروة الوثقى، وتأسيس ضياء الخافقين، هو
الدعوة إلى "الجامعة الإسلامية"، و"الخلافة العثمانية"،
وتمجيد السلطان عبد الحميد، والدعوة إلى جهاد بريطانيا والاستعمار وتحرير شعوب
الأمة!
وذلك دليل واضح على أن جمعية العروة الوثقى التي كلفته بتأسيس مجلة
العروة بباريس، هي التي كلفته بعد ثمان سنوات بتأسيس الضياء بلندن، وكانت المقالات
بالأسلوب نفسه، حتى لا يكاد يوجد فرق بين المجلتين، وكأنما الشيخ محمد عبده نفسه
هو من كان يحرر أهم المقالات فيها مع كونه في مصر!
وكما ضاقت حرية الصحافة في باريس على العروة الوثقى حتى قامت فرنسا
بضغط بريطاني بإغلاقها قبل أن يمضي عليها ستة أشهر؛ كذلك ضاقت حرية الصحافة في
لندن على ضياء الخافقين، ولم يصدر منها سوى بضعة أعداد، ثم جرى إيقافها واعتذر
صاحب المطبعة عن طباعتها!
وقد كتب جمال في "مجلة الضياء" ثناء على كتاب شارل ميسمر
"تذكار العالم الإسلامي" وصف فيه السلطان عبدالحميد بأنه (آية الإيمان،
وسياج القرآن)، قال فيه: (شموس الحقائق تشرق على النفوس كافة، ولا تحاكيها إلا
القرائح الصافية عن أكدار الأهواء.
إن العلامة ميسمر ذاك الموحد الكامل قد ألف في معالم الديانة
الإسلامية، وشعائر الشريعة المحمدية، كتابا جليلًا، بين فيه بفصيح عباراته، وبليغ
معانيه، حكما بالغة تبهر بصائر أرباب الوجدان، وتبتهج بها قلوب ذوي العرفان، ويذعن
الجاحد بسمو مقامها، وحسن نظامها، قسرا عما فطرت عليه من الجحود والنكران.
وأسهبت الجرائد في الثناء عليه بما يليق به ويحق له، وكانت الجرائد
الإسلامية أولى بهذا وأحرى؛ لأن هذا الموحد الكامل هو الذي قام وحده أمام الأمم
الإفرنجية منذ عهد قديم، وهو يدافع عن الديانة الإسلامية بحجج قويمة، ويعرض
محاسنها الفائقة، وحكمها البالغة، على فلاسفة الغرب ببيانات شافية، مسامرات
الأستانة على ما أقوله برهان قاطع، وتذكار العالم الإسلامي لدفع ظلمات الشبه نور
ساطع.
ولا ريب أن آية الإيمان، وسياج القرآن، خليفة عصرنا الأعظم، سيشكر هذا
الفاضل قياما بواجب الحق، وقضاء لفريضة الدفاع عن الإسلام وأهله جميعا، وشكره على
الله تعالى.
جمال الدين الحسيني الأفغاني).
فهذا القائد الإسلامي الثائر ضد الاستبداد، والداعي إلى الثورة عليه
من أجل الحرية، لا يكاد يخط مقالة إلا ويذكر فيها تمجيدا للسلطان عبدالحميد،
وتنويها بخلافته، أو دفاعا عن دولته!
وقد كتب هذا في لندن، كما كتب مثله بل أكثر منه في باريس في الإشادة
بالسلطان، والخلافة العثمانية، ولم يعرف جمال الدين بالجبن أو المداهنة أو طلب
المال، بل عرضت عليه بريطانيا أن يكون سلطانا على السودان ليوقف ثورة المهدي،
فاستخف بعرضها، وقال بأن الأولى بالقيام بذلك هو صاحب الحق الخليفة العثماني!
فإذا كان جمال مع دعوته إلى الحرية في كل بلد دخله، والثورة من أجلها،
ومع شجاعته ورباطة جأشه، واستخفافه بالمال والسلطة، فما الذي جعل السلطان عبد
الحميد استثناء عنده من تلك الدعوة إلى الثورة من أجل الحرية، حتى لا يكون له هم
إلا تأكيد سلطته وأخذ البيعة له حتى من مراجع الشيعة؟
وليس لهذ جواب إلا أن هذا هو مشروع جمعية العروة الوثقى، كما نصت في
أول أهدافها على النظر في شأن الخلافة، والقائم بها، وقد تولي السلطان عبدالحميد
نفسه سنة ١٨٧٦م وهو تقريبا الوقت نفسه الذي تأسست فيه الجمعية!
وتذكر هذا الأمر واستحضاره في غاية الأهمية لفهم دور جمال في إيران،
وروسيا، التي زارها ولبث فيها أربع سنوات حاول خلالها معرفة كل شيء عنها، فهي
نموذج على الأمة والدولة التي توحدت بعد تشرذم، ونهضت بعد تخلف، وقويت بعد ضعف،
ويمكن الاستفادة من تجاربها للنهضة بالخلافة العثمانية، وتعزيز علاقة المسلمين
الروس فيها بالخلافة، ودعوتهم إلى مشروع "الجامعة الإسلامية"، وقد أشرف
خلال تلك المدة على طباعة المصحف.
وقد جاء في خبر في "مجلة الضياء" عن صدور فرمان بتولية
الخديوي عباس: (كثرت مظنات الجرائد، وتنوعت أفكارها في تأخر الفرمان السلطاني
[العثماني] الآذن بتسمية صاحب السمو عباس باشا خديويا على مصر، على أنه صدر بعد
تلك الفترة، وقطعت جهينة قول كل خطيب..
على أن العهد بجلالته [أي السلطان عبدالحميد] أنه ذو أذن لا تصغي إلا
إلى ما كان منه نفع للبلاد والعباد، ودليل ذلك ترقي البلاد العثمانية في زمن
خلافته إلى درجة لم تكن فيها من قبل، مع ما يلوح من المصاعب التي هي عقبة في وجه
الفلاح).
فهنا تمجد المجلة السلطان عبدالحميد، في الوقت الذي تدعو فيه إلى
إسقاط شاه إيران لاستبداده، ولارتباطه ببريطانيا، وكأنما الهدف أبعد من تغيير
الشاه، بل هو مد نفوذ السلطان عبدالحميد على إيران تحقيقا لمشروع "الجامعة
الإسلامية"، ولهذا مهد جمال بعد ذلك بأخذ البيعة من علماء إيران ومراجعها
للسلطان عبدالحميد!
وجاء في ضياء الخافقين أيضا
مقال بعنوان: (السلطان عبدالحميد الثاني وولايات البلقان) عن شعوب البلقان ورأيهم
في الخلافة العثمانية والترك والسلطان عبدالحميد: (وقد ثبت لهم بالاختبار أن
التركي إنما هو محب للوطن، عفيف الذيل، مستقيم المشرب، حافظ للعهد، وقد كانوا
ينظرون إليه أيام توليه عليهم كعدو عاد، أما الآن فقد شاهدوا فيه جارا ودودا،
وصديقا مخلصا، وقد عرفوا تمام المعرفة أن بقاء حريتهم موقوف على بقاء سلطان
الأتراك في الأستانة، فإذا فقد هذا؛ هلكت تلك.
وهذا القول يعم كل الأقسام البلقانية غير محصور في واحد منها، ويثبت
ذلك ما يجيء في الجرائد الصربية من تحببها إلى الأتراك وتشببها بأيامهم الغابرة،
وإذا نظرنا إلى الجبل الأسود أيام كان أهله تحت الرعاية العثمانية رأيناهم إذ ذاك
يتعوذون بالله من الأتراك ويرجمونهم بكل عيب ومظنة، فبعد إبرام المؤتمر البرليني
بمدة توجه أمير الجبل الأسود نيقيطا إلى زيارة الأستانة محييا جنود الأتراك على
بسالتهم، شاكرا من همة ودراية جلالة السلطان، حتي إنه تطرق إلى عرض رئاسة التحالف
البلقاني على جلالته عندما يحين وقت الإذن بانعقاد هذا التحالف.
فهلا في ذلك دليل على تقدير هذا
الأمير سلامة طوية الأتراك حق قدرها.
ومن تطلع إلى بلغاريا رأى أن
روسيا قد بذلت ما في الوسع لتشق هذه الولاية والروملي عن حماية تركيا فبعد أن تسنى
لها ذلك حسبت أن عملها هذا يوجب لها حق السيادة على بلغاريا، ولأمر عريق في
الغرابة أن نرى قوما سعوا في تخليص قوم من يد عدوهم كما زعموا فنزعوا ثمة إلى
استرقاق ذلك القوم وجعله تحت نير مشيئتهم، ولهذا السبب نرى بلغاريا مجدة في تخليص
حريتها من مخالب الروس.
إنما إذا رأينا بلغاريا حتى الآن لا تزال في استقلالها عن روسيا فليس
هذا بناتج عن مدافعة التحالف الثلاثي أو إنجلترا عنها، بل هو ناتج عن دراية وهمة
السلطان عبدالحميد الثاني الناظر بعين الرأفة والعدل إلى هؤلاء القوم، وقد علم أهل
البلقان قاطبة أن في دوام عرشه وسلطانه دوام حريتهم، وهو الناظر إلى تأييد
استقلالهم، وتثبيت راحتهم، وما نسب إليه وإلى رجاله من الظلم والاعتساف إنما كان
اختلاقا وتزويرا إذ قد تأكد بعد الاختيار الآن أن غايته تعميم السلام وتوطيد
الحرية في ولايات البلقان.
أما الآن وقد باشرت ولايات
البلقان تأليف تحالفها وأخذت تخوض في جمع شتيتها وضم قواتها إلى بعضها فقد مد هذا
السلطان إليها يد العون والمساعدة وغاية مراده وجل سياسته مبني على تحرير البلقان،
ولو كره المخالفون، والمستقبل يشف عما يطويه الحاضر بعون الله ومن حسب أن عدم
مجاهرة تركيا الآن في استهجان أعمال روسيا برهان على تهاونها عن البلقان كان وحرمة
الحق جاهلًا ما يحف بتركيا من المصاعب، وغير عالم أن التحالف الثلاثي مع ما هو
عليه من القوة لا يجسر على مفاتحة روسيا بهذا الشأن إلا بما يشف عن تساؤل محض دون
تهويل وترهيب. عن القسم الإنجليزي بتصرف، بقلم شادوميل مجاكوفتش).
فالسلطان عبدالحميد -كما كتب جمال هنا أو محمد عبده- هو الناظر بعين
الرحمة والرأفة لشعوب البلقان مع مسيحيتهم، والحافظ لحريتهم، حتى بلغ الحال
بملوكهم أن دعوه لرئاسة تحالف عليهم، فالشعب الإيراني المسلم أولى بالارتباط به،
والدعوة إلى رئاسته عليه، سواء بوجود الشاه إن وافق على ذلك، فيكون كخديوي مصر، أو
بدونه وجوده إن أبى إلا الارتباط ببريطانيا لاحتلال إيران!
وكما خُلع الخديوي إسماعيل لخروجه عن سياسة الخلافة العثمانية، وميله
إلى بريطانيا، وكان لجمعية العروة الوثقى وجمال دور رئيس في خلعه، وجيء بابنه
توفيق الذي كان على توافق مع الجمعية في أول أمره؛ سيخلع الشاه من عرشه سنة ١٨٩٦م،
وسيكون لجمال الدين دور رئيس في ذلك، وسيؤتى بابنه مظفر الدين الذي سيزور السلطان
عبدالحميد ويقبل يده، اعترافا منه بأنه خليفة المسلمين الأعلى، وهي أول مرة تحدث
في تاريخ الدولتين!
لقد أخذ جمال في مجلة الضياء يحذر الخلافة من الخطر الذي يجري في
إيران، ويدعو إلى التدخل قبل فوات الأوان!
وقد كتب فيها: (ها بلاد فارس قد اضطربت اضطرابا لا مزيد عليه، قام
علماؤها على سلطانها، وأوقدت نار الحقد على الحكومة، وانتصب دعاة الدين فيها
يطالبون بحقوقهم، ونحن هنا لم ننظر إلى هذه الأمور إلا بعين التغاضي، وقد شغلنا
بحوادث خير منها عدم سماعها وإغفالها!
ولا يظن رجال سياستنا [بإسطنبول] أن مسألة العجم ليست ذات شأن، فإن في
نقض معاهدة التنباك خسارة على المساهمين في شركته، وفي حل المعاهدة حل عروة من
العرى المثبطة لصولة إنجلترا في الشرق.
كل يعلم أن ظاهر هذه المسألة هو دخول شاه العجم في معاهدة مؤداها حصر
تجارة التنباك في أيدي شركة محتكرة، فخالف ذلك رجال الدين في بلاده وألجأوه
بالتهويل والتهديد إلى نقض تلك المعاهدة، ولا يخفى ما في باطن هذه العملة من غل يد
الأجانب وتقهقر صوالحهم،
فهلا يا ترى عرف رجال الحكومة قبل الدخول في هذه المعاهدة ما ينجم
عنها وهي لم تكن سرية ولم يكن أساسها الرشوة بل كان للسياسة فيها يد قوية؟! ومن
المعلوم ما لروسيا من الأغراض في بلاد فارس، وكلها أعين شاخصة، ساعية وراء واسطة
للدخول في تلك البلاد، وعندما تبين لها أن الشاه في حاجة إلى الدراهم عرضت عليه
قرضا تمده به فتدخلت حينئذ إنجلترا، ووعدته بسد احتياجه داعية إياه إلى التنحي عن
روسيا على أنه لم يكن من الواجب التغافل إلى حد وقوع الخلل؛ لأن قطع سبب العلة خير
من مداواتها، وإن ثبت شفاؤها، وها قد أصبح الشرق ينظر إلينا شزرا، وكل يود الوقوف
على ما يكون من حركاتنا هناك ومن الواجب التيقن أنه كلما قويت شوكة سفير إنجلترا
لدى جلالة الشاه تمكنت شوكتها في الهند وتوطدت دعائمها، وفيما مضى أكبر دليل وأصدق
رشيد).
كما كتب جمال في مجلة الضياء تحذيرا للمسلمين من عاقبة معاهدات الشاه
مع إنجلترا قال فيه: (إن الدولة الإنجليزية قد أنشبت بهذه المعاهدة الجديدة
أظفارها في سواحل البحر وإيالة الفارس وبلاد الأهواز، وستُلزم الشاه بعد آونة
بغرامة باهظة عن عقود باطلة أخرى يتعذر قيام المسلمين بها وتجبره أن يترك لها
جباية تلك الأقطار وضرائبها عوضا عنها فتستملكها بلا جدال كما فعلت بالهند من قبل.
وإن روسيا قد حنقت من إعطاء المكوس للإنجليز مجازفة وثارت، وهي الآن
تقيم الحجة على الشاه في فعاله وتطالبه بحقوق سبقت وعهود تجددت، وتبتغي ببطشها أن
تكون حصتها أجزل وأوفى؛ لأنها أشد وأقوى وأمامها الخراسان والأذربيجان
والمازندران.
هذه هي الأسباب التي قد عجلت بالبلاد الإيرانية وأغرت الدول على
مقاسمتها.
هذه هي الدواهي التي قد جلبها الجنون والزندقة على الإسلام (وا
محمداه).
كيف بنا نحن المسلمين إذا نظرنا بأعيننا، أن أراذل الإفرنج تهتك
أعراضنا، وتنتهب أموالنا، وتغتصب حقوقنا، تهين ديننا، وتزدري بشريعتنا، كل هذا
واقع لا محالة إن لم تدفع حماة الدين سريعا هذه الداهية التي قد أحدقت بحوزة
الإسلام، ولم تنزع البلاد بقوة الشرع من براثن الجنون ومخالب الزندقة..).
فهنا تحكم مجلة الضياء على شاه إيران بالزندقة والإلحاد والجنون،
وتدعو الشعب الإيراني إلى الثورة عليه، وفي الوقت نفسه تصف السلطان عبدالحميد
بالقيام بالشريعة، وتنشر مقالا بعنوان "إبطال عادة الثأر في بلاد
الأرنؤوط" بتاريخ ١٢ فبراير ١٨٩٢م والذي أبطله السلطان عبدالحميد، فقالت: (ولا
ريب أن هذا العمل الذي قصر في تداركه من مضى مما يشهد لجلالة السلطان عبدالحميد
بشدة المحافظة على أحكام الشريعة، وزيادة العناية في إصلاح العباد والبلاد، وبغاية
التحري والتنقيب عن الأحوال، ولا نشك أن جمعية الصلح الإريادية تقدر هذا العمل
-الذي تمادى لهذا الوقت وما تكلم فيه أحد ولا نبه عليه منبه- أحسن تقدير، وتشكر
جلالة السلطان عليه أبلغ شكر).
وقال في الدفاع عن حق الخلافة العثمانية في مصر:(إن الدولة العلية هي
صاحبة الحق المقدس في مصر..).
وقال يثني على ذكاء السلطان عبدالحميد: (جلالة السلطان عبدالحميد يعلم
أن هذا التزلف لم يكن إلا بقصد الاستظهار بقوة دولته العلية..).
وقال فيها أيضا: (ولهذا ترى دائما من أوامر جلالة السلطان وإرادته
ومنهجه السياسي الميل والركون إلى الحياد، والوقوف موقف التأمل والتبصر؛ لاقتطاف
ثمرات المنافع والفوائد لممالكه، وبسياسته هذه الحكيمة قد حفظ في يده مفاتيح
السلام الأوروبي، ولولا حكمته وتبصره وعدم جنوحه إلى رأي أي دولة؛ لانصدع باب
السلم مرارا عديدة في المدة الأخيرة، لأن إمكان انفصام عرى السلم تكرر وقوعه.
ومع كل هذه المشكلات التي حدثت في عالم السياسة قد أبان بأفكاره
الذاتية وتدابيره الخاصة عن اتصافه بالحكمة البالغة والسياسة الدقيقة، وأن
الواقفين على حقائق الأحوال هنا يرون أن الدول مهما بذلوا الجهد في ترويج مقاصدهم
ووضعوها في ظروف محكمة الإتقان وسحروا بها أعين الناس في مسرح سياستهم، فإن جلالة
السلطان يراها على حقيقتها ولا تلفته تلك الظواهر عن منهجه في المحافظة على السلم
وانتهاز الفرصة لمنافع ممالكه والحيادة للسلامة من هذه الأخطار..).
وجاء فيها: (قال العلامة الشهير الأستاذ فاميري في مقالته: إن العلوم
في قاطبة العالم الإسلامي قد تقدمت تقدما عظيما عما كانت عليه سابقا، وقد علم
أبناء الشرق ضرورة اكتساب العلوم والفنون التي هي بغية الإنسان، وقد جدوا لاسترجاع
ما فاتهم من المجد في الزمن القديم حين كانت بلاد الشرق محور التقدم ومهد سعادة
الجنس البشري ومنبت أرباب القلم، وقد خلصت الأمم الشرقية أنفسها من ظلمات التعصب
وسطع ضياء العلم في أرجاء البلاد العثمانية خصوصا في أيام جلالة السلطان عبد
الحميد، وشيدت المدارس، وأنشئت الجرائد، وترجمت الكتب الإفرنجية.
وأما الفارسيون فإنهم وإن كانوا فطرة يرغبون إلى اكتساب العلوم
والمعارف ولكن الشاه لشدة حرصه على جمع المال لا يساعدهم على مرغوبهم؛ ولذا لا
يسود في أقطارهم إلا الجهل والناس يئنون تحت هذا الغل القميء. وقد حان للغربي أن
يعامل الشرقيين بعد ترقياتهم العظيمة هذه في غالب الأقطار ويكلمهم بالقلم والقرطاس
بدلًا من السيف والترس، ويجب عليه أن يعاونهم على اكتساب وسائل المدنية ونشر
الفنون كما هو اللائق بالكمل من أهل الخير في القرن التاسع عشر. ولما كان الشعب
الإنجليزي أول من جد لسعادة الشرق فيسرنا جميعا أن قد بزغ في مدينة لندن ضياء
لإنارة الخافقين ونرجو له الفوز والنجاح).
فلا يكاد يوجد مقال في مجلة الضياء سياسي أو تاريخي أو ثقافي إلا
ويأتي فيه ذكر السلطان عبدالحميد، والخلافة العثمانية!
فإن لم يكن السلطان عبدالحميد نفسه هو الذي يقف وراء مجلة الضياء في
لندن بشكل مباشر، وإلا فهو وراء الجهة التي تديرها، وهي جمعية العروة الوثقى، التي
انتدبت جمال الدين للكتابة فيها، كما انتدبته لإصدار العروة الوثقى، وإن حاولت
تغيير أسلوب النشر، بإظهار الضياء كمجلة متنوعة متعددة المشارب، فيها كتاب غير
جمال الدين، وتطرق موضوعات متنوعة، لصرف الأنظار عنها حتى لا يجري لها ما جرى
للعروة الوثقى بباريس من منع وإغلاق!
وقد جاء في الضياء: (قد حضر إلى مدينة لندن منذ أربعة أشهر العلامة
الشهير، والسيد النبيل، والفاضل الجليل: الشيخ جمال الدين الحسيني الأفغاني، وكان
حصل له من الشاه إهانات تأنف الأسماع من ذكرها، وألقي القبض عليه وأرسل من بلاد
فارس مقيد اليدين والرجلين إلى بغداد، فمنها ذهب إلى البصرة، ثم أتى إلى هذا
الطرف، فرحب به الشعب الإنجليزي وأكرموا مثواه، وكتبت عنه كل الجرائد، وألقى خطبا
في المحافل العظيمة بخصوص أحوال العجم الحاضرة).
وقد كتب جمال خطابا وجهه إلى علماء إيران، ثم نشره في المجلة، وفيه
إلى: (سائر هداة الأمة، ونواب الأئمة، من الأحبار العظام، والعلماء الكرام، أعز
الله بهم الإسلام والمسلمين، وأرغم أنوف الزنادقة المتجبرين آمين.
طالما تاقت الأمم الإفرنجية إلى الاستيلاء على البلاد الإيرانية حرصا
منها وشرَها.
ولكم سولت لها أمانيها خدعا
تمكنها من الولوج في أرجائها، وتمهد فيها سلطانها على غرة من أهلها، تحاشيا من
المقارعة التي تورث الضغائن، فتبعث النفوس على الثورة كلما سنحت لها الفرص، وقضت
بها الفترات، ولكنها علمت أن بلوغ الأرب والعلماء في عز سلطانهم ضرب من المحال؛
لأن القلوب تهوي إليهم طرا، والناس جميعا طوع يدهم يأتمرون كيفما أمروا، ويقومون
حيثما قاموا، لا مرد لقضائهم، ولا دافع لحكمهم، وأنهم لا يزالون يدأبون في حفظ
حوزة الإسلام، لا تأخذهم فيه غفلة، ولا تعروهم غرة، ولا تميد بهم شهوة، فخنست وهي
تتربص بهم الدوائر، وتترقب الحوادث.
أيم الله إنها قد أصابت فيما رأت؛ لأن العامة لولا العلماء وعظيم
مكانتهم في النفوس لالتجأت بطيب النفس إلى الكفر، واستظلت بلوائه خلاصا من هذه
الدول الذليلة الجائرة الخرقى، التي قد عدمت القوة، وفقدت النصفة، وأنفت المجاملة
فلا حازت منها شرفا، ولا صانت بها لنفسها حقا، ولا انشرح منها صدرها فرحا.
وإذا كلما ضعفت قوة العلماء في دولة من الدول الإسلامية وثبت عليها
طائفة من الإفرنج، ومحت اسمها، وطمست رسمها.
إن سلاطين الهند وأمراء ما
وراء النهر جدت في إذلال علماء الدين، فعاد الوبال عليهم سنة الله في خلقه.
وإنّ الأفغانيين ما صانوا بلادهم عن أطماع الأجانب وما دفعوا هجمات الإنجليز
مرة بعد أخرى إلا بقوة العلماء وقد كانت في نصابها.
ولما تولى هذا الشاه الحارية الطاغية الملك طفق يستلب حقوق العلماء
تدريجا، ويخفض شأنهم، ويقلل نفوذ كلمتهم، حبا بالاستبداد بباطل أوامره ونواهيه،
وحرصا على توسيع دائرة ظلمه وجوره، فطرد جمعا من البلاد بهوان، ونهنه فرقة عن
إقامة الشرع بصغار، وجلب طائفة من أوطانها إلى دار الجور والخرق (طهران) وقهرها
على الإقامة فيها بذل، فخلا له الجو، فقهر العباد، وأباد البلاد، وتقلب في أطوار
الفظائع، وتجاهر بأنواع الشنائع، وصرف في أهوائه الدنية، وملاذه البهيمية، ما مصه
من دماء الفقراء والمساكين عصرا، ونزح من دموع الأرامل والأيتام قهرا يا للإسلام!
فإذا اشتد جنونه، بجميع فنونه، فاستوزر وغدا خسيسا ليس له دين يردعه،
ولا عقل يزجره، ولا شرف نفس يمنعه!
وهذا المارق ما قعد على دسته
إلا وقام بإبادة الدين، ومعاداة المسلمين، وساقته دناءة الأرومة، ونذالة الجرثومة
إلى بيع البلاد الإسلامية بقيم زهيده!
فحسبت الإفرنج أن الوقت قد حان لاستملاك الأقطار الإيرانية بلا كفاح
ولا قتال، زعمت أن العلماء الذين كانوا يذبون عن حوزة الإسلام قد زالت شوكتهم،
ونفد نفوذهم، فهرع كل فاغرا فاه يبغي أن يسرق قطعة من تلك المملكة!
فغار الحق، وغضب على الباطل فدمغه، فخاب مسعاه، وذل كل جبار عنيد.
أقول الحق: إنكم يا أيها القادة قد عظمتم الإسلام بعزيمتكم، وأعليتم
كلمته، وملأتم القلوب من الرهبة والهيبة، وعلمت الأجانب طرا أن لكم سلطانا لا
يقاوم، وقوة لا تدفع، وكلمة لا ترد، وأنكم سياج البلاد، وبيدكم أزمة العباد، ولكن
قد عظم الخطب الآن، وجلت الرزية؛ لأن الشياطين قد تألبت جبرا للكسر، وحرصا على
الوصول إلى الغاية، وأزمعت على إغراء ذلك المارد الأثيم على طرد العلماء كافة من
البلاد.
وأبانت له أن إنفاذ الأوامر إنما هو بانقياد قواد الجيوش، وأن القواد
لا يعصون للعلماء أمرا، ولا يرضون بهم شرا، فيجب لاستتباب الحكومة استبدالهم بقواد
الإفرنج.
وأرت لذلك البليد الخائن رئاسة الشرطة، وقيادة فوج الغزاق نموذجا. وأن
ذاك الزنديق وزملاءه في الإلحاد يجدون الآن في جلب قواد من الأجانب، والشاه بجنونه
المطبق قد استحسن هذا واهتز به طربا.
لعمر الله لقد تحالف الجنون والزندقة، وتعاهد العته والشره على محق
الدين، واضمحلال الشريعة، وتسليم دار الإسلام إلى الأجانب بلا مقارعة ولا مناقرة.
يا هداة الأمة إنكم لو أهملتم هذا الفرعون الذليل ونفسه، وأمهلتموه
على سرير جنونه، وما أسرعتم بخلعه عن كرسي غيه، لقضي الأمر، فعسر العلاج، وتعذر
التدارك..).
ويلاحظ على هذا
الخطاب الذي كتبه جمال أنه لم يتضمن شيئا البتة من المأثور في الفقه الجعفري، والموروث
الشيعي؛ ما يؤكد أنه لا علاقة لكاتبه بالتشيع حيث لم يعول عليه، أحوج ما كان إليه،
ليؤثر في مراجع الشيعة! كما لم ينسب نفسه في كل مقالاته في مجلة الضياء التي خصصها
لمخاطبة الشعب الإيراني لغير نسبته ونسبه المشهور به الحسيني الأفغاني، ولكان -لو كان
يعرف التقية- خاطبهم بنسبة تجعل لقوله عندهم من الحظوة والتأثير في نفوسهم ما ليس لهذه
النسبة!
لقد سرى هذا الخطاب الذي أرسله جمال سرا لكل علماء إيران سنة وشيعة،
ثم نشره في الضياء، كالنار في الهشيم، فزلزل الأرض من تحت أقدام الشاه، وفجر بركان
الثورة، وألهب الحماسة في قلوب الأحرار، مما اضطر حكومة الشاه لمخاطبة الحكومة
البريطانية بشأن المجلة، وبشأن جمال الدين، كما قال سيد خسرو في مقدمته لكتاب مجلة
الضياء، الذي جاء فيه:
(ردود الفعل تجاه صدور ضياء الخافقين:
الحقيقة أن السيد بعد أن خرج من العراق وأقام في لندن، بادر بإلقاء
المحاضرات في لندن، والتقى ببعض رؤساء تحرير الصحف البريطانية، ثم اشترك في مجلة
"ضياء الخافقين" التي كانت تصدر في نسختين باللغتين الإنجليزية
والعربية، وتنشر مقالا واحدا على الأقل حول مفاسد الحكم وخراب أوضاع إيران بتوقيع
"السيد" أو "السيد الحسيني" وقد صدر أول عدد من هذه المجلة في
شباط (فبراير) ۱۸۹۲م.
حيث نشر السيد الخطاب الذي كان قد أرسله من البصرة إلى الميرزا
الشيرازي في العدد الثاني، بينما أدرج الرسالة الثانية في العدد الثالث.
كانت خطابات السيد إلى الميرزا الشيرازي والعلماء المعروفين الآخرين،
التي أخذت طريقها إلى النشر، تطبع بصورة خطابات مستقلة وترسل إلى شخصيات طهران
ورموز سائر المدن الإيرانية وبعض الدول.
بعيد نشر رسالة الميرزا الشيرازي؛ بعث سفير بريطانيا في طهران التقرير
التالي إلى وزير الشئون الخارجية البريطاني، الرسالة رقم ١٤ بتاريخ ١٩ من كانون
الثاني (يناير) ۱۸۹۲ من فرانك راسل
سفير بريطانيا في طهران إلى الماركيزاف ساليسبوري وزير الشئون الخارجية البريطاني.
معالي الوزير..
يسعدني أن أرفق لكم طيا الخطاب العجيب جدا المرسل إلى الحاج الميرزا
حسن الشيرازي رئيس وممثل الطائفة الشيعية في سامراء، وقام حسن علي خان نواب
بترجمته إلى الإنجليزية.
يبدو أن هذا الخطاب قد كتب في الشهر المنصرم بعد نفي جمال الدين من
إيران، وقد وصلت في الآونة الأخيرة نسخ منه من لندن حيث يقيم الشيخ الآن إلى طهران
وتم توزيعها على بعض الأشخاص. ا.هـ
وقد نوه أمين السلطان في عدة مناسبات بالإجراءات والنشاطات التي يقوم
بها جمال الدين وأشار مرارًا إلى موضوع الحركات السياسية الأخيرة في إيران، إذ
يعتقد المومأ إليه أن هذه الاستفزازات تتم بمساعدة وأموال روسيا، وأغلب الظن أن
البرقية التي أرسلها الحاج الميرزا حسن الشيرازي إلى الشاه والتي طلب فيها من
الشاه إنقاذ البلاد من هيمنة الأجانب كانت نتيجة تحريض جمال الدين الذي أثار في
خطابه العواطف الدينية للمجتهد المذكور.
إن أمين السلطان يقول: مع أن نفي جمال الدين من إيران كان بسبب عدائه
لبريطانيا، لا أدري كيف يسمح له بالإقامة فيها والعيش هناك بطمأنينة لكي يواصل
هجماته المناوئة لإيران؟!
وقد شرحت لأمين السلطان أنه يكاد يكون من غير الممكن أن تقوم حكومة
بريطانيا باتخاذ إجراء ما ضد شخص يقيم فيها إلا بموجب القانون.
ويجب أن أقول إني لم أفلح في إقناعه؛ لأنه يعتقد لو كانت الحكومة البريطانية
تمتلك نوايا حسنة وطيبة تجاه إيران، يمكنها طبعا أن تتخذ إجراءات لمنع أعداء إيران
من اتخاذ لندن قاعدة للهجوم ضد الحكومة الإيرانية.
وقد وعدت أمين السلطان بتقديم خطاب جمال الدين الموجه للمجتهد المعروف
إلى سعادتكم.
إن النص الأصلي للخطاب بالعربية، وقد ترجم إلى الفارسية ثم إلى
الإنجليزية.
قرأت في إحدى الصحف نبأ استقبال جمال الدين في النادي الوطني
الليبرالي في لندن حيث ألقى المومأ إليه محاضرة تحت عنوان: "الأزمة الراهنة
في إيران"، بيد أن السيد في محاضرته استخدم عقله إذ لم يمس بريطانيا
وسياستها الخارجية بسوء، في حين أنه حمل بشدة، في خطابه الموجه للحاج الميرزا حسن
الشيرازي، على السياسة البريطانية.
طبعا إني على يقين أنكم على علم بالشيخ جمال الدين، وذلك الخطاب عندما
كان لي شرف التمثيل الرسمي لحكومة بريطانيا في القاهرة خلال العامين ۱۸۷۸ و۱۸۷۹ بعثت إلى معاليكم شرحا حول السيد مبينا أنه قد يتلقى أموالًا من
روسيا ليقوم بنشاطات مناوئة لبريطانيا، كما أن السيد كندي قدم تقريرا، عما يقوم به
السيد، إلى معاليكم في الخطاب رقم ۱۱
بتاريخ ۲۰ كانون الثاني
(يناير) ۱۸۹۱ شارحا تفاصيل
نفيه إلى خارج إيران.
تقبلوا فائق الاحترام- فرانك راسل.
لم ينزعج الشاه كثيرًا من الخطاب الذي وجهه السيد للميرزا الشيرازي
والذي كان هاجم فيه شخص ناصر الدين شاه، ووصلت ترجمته إلى الشاه عن طريق اعتماد
السلطنة، ولكن خطاب السيد الموجه إلى علماء إيران أثار حنقه بشدة.
عندما قرأ الشاه الخطاب عاتب الحكومة البريطانية وحملها القصور في
الأمر طالبا من سفيره في لندن، وسفير بريطانيا في طهران، وضع حد لنشاطات السيد،
ومعاقبته إذ بعث بخطابين إلى أمين السلطان، ترجمتهما كالآتي:
حضرة أمين السلطان..
إننا أبلغنا مرارا احتجاجنا كتابة وشفاهة سواء بواسطة سفيرنا في لندن
أو سفير بريطانيا في طهران ضد الأباطيل والمقالات المغرضة لميرزا ملكم وطلبنا طرد
المومأ إليه من لندن ومن كافة البلدان التابعة للإمبراطورية البريطانية، أو أن
يأخذوا منه التزاما بالكف عن هذه التصرفات الاستفزازية وامتهان عرش السلطان، ولكن
لم نصل إلى أية نتيجة، ثم قمنا بنفي الشيخ جمال الدين وهو واحد من أسوأ الخلق على
وجه البسيطة، وكان يقوم بالإخلال وتعكير الأجواء، حيث ذهب إلى لندن والتحق بملكم
خان وبدأ استفزازاته بواسطة إصدار صحيفة بالعربية ووزع أعدادا منها في القفقاز
وإيران.
وها قد أرسل أخيرا نسخا من العدد الأخير الذي صدر بالعربية ليوزع بين
الناس في إيران، وإليكم نسخة منه لمتابعة الأمر. إنه هذه المرة بدأ بالاستفزازات
السافرة مشجعا وداعيا العلماء والناس في إيران للقيام بالشغب والإخلال حتى أنه
هاجمنا نحن شخصيا.
وهكذا كشف عن نفسه كجان، وطبقا لقانون أي بلد فإن شخصا كهذا يسيء إلى
العرش مباشرة، ويخون السلطان علنا محكوم عليه بالإعدام وجزاؤه الموت الزؤام، أو
على الأقل يجب أن يحكم عليه بالسجن المؤبد في إحدى المناطق النائية. يجب أن تطلبوا
من سفير بريطانيا الحضور وتبلغوه رسميا بآرائنا وأن تعطوه كتابنا هذا ليقرأه،
وتسلموه نسخة منه بالإضافة إلى الترجمة العربية لرسالة جمال الدين ليبعثها جميعا
إلى وزراء بريطانيا، بل يرسلها إلى نواب البرلمان أيضا، فإذا ظهر لهم أن الحق معنا
عليهم أن يحكموا عليه بالسجن المؤبد، وإلا كيف يمكننا أن نصدق أن حكومة بريطانيا
تدافع عن عرشنا ووجود شخصنا في حين أن شخصا مفسدا وأحمق كهذا يمرح ويسرح في
بريطانيا ويقوم بنشر أمور كهذه؟!
أرسل سفير بريطانيا خطاب الشاه (الذي أرسل بتاريخ ٢٨ إبريل ١٨٩٢ إلى
سفارة بريطانيا) مرفق بخطاب سري إلى وزير الشئون الخارجية البريطاني.
الخطاب السري رقم ۸۲
بتاريخ ۱۱ مايو ۱۸۹۲
من السير لاسل سفير بريطانيا في طهران إلى الماركيزاف ساليسبوري إشارة
إلى كتابكم رقم ١٤ المؤرخ ١٩ كانون الثاني نرسل لكم طيا نسخة من خطاب شاه إيران
الموجه إلى أمين السلطان، هذا ونعلمكم بأن السيد جمال الدين أرسل خطابا إلى علماء
إيران حمل فيه بشدة على الشاه، كما نرسل لكم ترجمة خطاب جمال الدين الذي أثار حنق
واحتجاج الشاه، إذ إن الشاه يعتقد أن كاتب هذا الخطاب يستحق الموت أو السجن المؤبد
كحد أدنى.
إني أخبرت أمين السلطان بإرسال هذه الخطابات إلى معاليكم لتطلعوا
عليها؛ ولكن في نفس الوقت نوهت بأنه سيكون من المستحيل لحكومة الإمبراطورية
البريطانية أن تتخذ أي إجراء ضد شخص يقيم في لندن إلا بموجب القانون.
مع احتراماتي السير. ف. لاسل).
وقال سيد خسرو: (على أثر إصرار ناصر الدين شاه على منع نشر مقالات
السيد في ضياء الخافقين وإلقاء المحاضرات في لندن التي كانت وجهت ضربة لمكانة
الشاه، سارع سفير إيران إلى لقائه طالبا منه المساعدة.
يتحدث إدوارد براون في كتابه عن هذا الموضوع فيقول: كان السيد في
مقالاته حول إيران لا يتوانى عن سب الشاه وحكومته إلى الحد الذي سارع فيه سفير
الحكومة الإيرانية في لندن إلى لقائه محاولًا تهدئته عارضا عليه مبلغا كبيرا من
المال إن هو كف عن الكتابة والمحاضرة حول هذا الموضوع، لكن السيد أجاب بالنفي وقال:
لا، لن أرضى إلا إذا قتل الشاه وبقرت بطنه ودفنت جثته في القبر.
هذا الكلام الذي أدلى به يجعلنا نعتقد أن قاتل الشاه كان من أتباع
السيد..).
عودة جمال الدين إلى إسطنبول:
لقد عاد جمال الدين إلى إسطنبول سنة ١٨٩٢م، بطلب من السلطان عبدالحميد
-بعد أن أرسل إليه شاه إيران سفيره في لندن يسترضيه ويعرض عليه ما شاء من الأموال،
فأبى، فأرسل إلى السلطان يرغب إليه وقف هجوم جمال الدين عليه في مجلة ضياء
الخافقين ودعوته عنده إلى اسطنبول- وقد استقبله السلطان وأكرمه غاية الإكرام، إلا
أن دعوته السرية لإسقاط الشاه لم تتوقف، فقد أوكل بها من ينفذها قبل أن يسافر من
لندن إلى إسطنبول، إن لم يكن بصورة مباشرة، فبالتأثير النفسي الذي أحدثه في قاتله!
اغتيال الشاه ودور جمال الدين:
لقد اغتال ميرزا رضا الكرماني الشاه ناصر الدين، وجاء ذلك بعد تحريض
جمال الدين على خلعه، والدعوة إلى قتله، والحكم بردته وزندقته، فكانت نتيجة هذا
التحريض قتل الشاه سنة ١٨٩٦م، وقد جاء في محاضر التحقيق الرسمية مع القاتل ما يكشف
أبعاد المشهد السياسي كله، ودور الخلافة العثمانية نفسها في إسقاط نظام الشاه الذي
بات بفتح الباب لبريطانيا في إيران خطرا على إسطنبول نفسها!
وهذا ما قاله القاتل في الاستجواب والتحقيق معه:
(س: لماذا قتلت الشاه وأردت التخلص منه؟
ج: عم الظلم أنحاء البلاد، وانتشر الفساد، حتى أصبحت الثورة على حكمه
كامنة في النفوس، وأوشكت أن تقضي على عرشه، لقد منح الأجانب كثيرًا من الامتيازات،
فكاد امتياز الطباق يجر البلاد إلى الخراب، كما منحهم حق احتكار الكروم، وامتياز
البنك، وأعطاهم حق البحث عن المعادن، واحتكار السكر، والكبريت، ولن يمضي إلا قليل
حتى نصبح نحن -معشر المسلمين- في أيدى الأجانب، وقليلا قليلا سيتلاشي الإيمان من
النفوس..
إني حينها قتلت الشاه لم أكن أبغي سوى الإصلاح.
س: ولنفرض أنك كنت تهدف إلى الإصلاح ألم يكن هناك سبيل آخر للإصلاح
سوى إراقة الدماء؟
ومن هم أعوانك والذين يعتنقون
مذهبك في الإصلاح حتى نستطيع أن نأخذ بنصيحتهم ونحقق لهم الإصلاح الذي يريدونه لبلادهم؟
ج: إن الذين يشتركون معي في الرأى كثيرون، فهم منتشرون في كل مدينة،
وفي كل قرية، ومن مختلف الطبقات، تراهم بين العلماء، والوزراء، والنبلاء، والتجار،
والصناع.
لقد وفد السيد جمال الدين إلى طهران فاستقبله الشعب بمختلف
طبقاته كما تعلمون استقبالا يليق بمقامه،
وما حدث في طهران، حدث في بلدة الشاه عبد العظيم، إذ وفد عليه عدد كبير وكانوا
يأملون زيارته والتمتع بحديثه، وكان يخطب فيهم، عاملا لخيرهم، وللخير العام،
فاستفاد الجميع، وتأثروا بآرائه، إنه وضع بذور الإصلاح بآرائه القيمة، غرسها في
قلوب الناس أجمعين، والآن تراهم وقد تنبهوا، وآمنوا بنفس المبادئ التي أومن بها،
إنني أقسم بالله العلي القوي الذي خلق السيد جمال الدين وخلقني وخلق العالم أجمع
أنه لم يكن أحد يعلم بنياتي الخفية سواي والسيد جمال الدين.
وإنه الآن في القسطنطينية فاعملوا ما تشاءون ضده، ولو كنت أخبرت أحدًا
بنواياي لافتضح الأمر، وكشف السر، ومعظم الناس يتعلقون بالمراكز والحياة، وهؤلاء
السادة نصير الملك ومشير الدولة وغيرهم، الذين كانوا يعلنون في كل وقت استعدادهم
لتنفيذ رغبات الشاه، وموافقتها على كل أعماله ما كادوا يرون عملي حتى تراجعوا جميعًا.
أما عن مقابلتي السيد جمال الدين فأظن أن ذلك حدث في خريف سنة ١٨٩١م
حينما زار إنجلترا بعد خروجه من إيران وطرده منها، وكانت مقابلتنا في منزل مليكم
خان، ولقد كان تأثير هذه الشخصية قويًا في نفسي، فتحدثنا عن البابية. وفي مجرى
الحديث سألته عن حكومة إيران فقال على قدر ما أذكر: إنه لن يرجى للبلاد صلاح إلا
بعد قتل ستة أو سبعة رؤوس أولها الشاه ناصر الدين وثانيها الصدر الأعظم، ولقد قتل
الاثنان كما أراد السيد جمال الدين.
س: لماذا قتلت الشاه ناصر الدين؟
ج: وماذا فعل السيد جمال الدين -من نسل الأنبياء [آل البيت] - ذلكم
الرجل الحر القدير، حتى يجر إلى بلاد العراق بطريقة وحشية من الشاه عبد العظيم،
حتى إن ملابسه الداخلية تمزقت؟
وماذا قال السيد جمال الدين سوى أنه أعلن الحقيقة ولا شيء سواها؟
السيد جمال الدين من أعظم الرجال الذين ظهروا في عصرنا هذا، ويرى أن حقائق العصر
كلها واضحة أمام ناظريه، ورقاب الفلاسفة، والكتاب الأوروبيين تنحى له إجلالا
وتكريمًا، وكل العالم يذكره بالفضل.
ألا إن الشيخ جمال الدين من أعظم العلماء، ولكن الحكومة الإيرانية لا
تود أن تستفيد منه، وتعترف بفضله!
اذهبوا إلى تركيا لتروا كيف
يقدره جلالة السلطان.
إن السيد جمال الدين حين ذهب
إلى لندن بعد خروجه من إيران بعث إليه السلطان عدة برقيات. وكان يقول له فيها:
تعال هنا إلى تركيا مركز الإسلام، واجعل المسلمين يستمعون إلى صوتك القوي، فإنك لو
بقيت كما أنت فلن يفيد منك المسلمون شيئًا، ولكن جمال الدين كان يرفض الذهاب حتى
ألح عليه مليكي خان لتلبية دعوة السلطان، ولذا ذهب السيد إلى القسطنطينية، فأكرم
السلطان وفادته، ويعطيه مرتبًا شهريًا لنفقاته، ويرسل إليه الطعام من مطبخه الملكي
الخاص. وحين دعاه السلطان إلى قصر يلدز قبل رأسه وجلسا سويا في اليخت الملكي الذي
كان في حديقة القصر، وتناقشا سويًا، وأخذ جمال الدين على عاتقه عمدًا بضرورة
توحيد الأمم الإسلامية، وجعلها كلها تحت لواء الخليفة الأكبر، وسيكون الخليفة
سلطانًا روحيًا على جميع المسلمين.
ولذا بعث السيد إلى أنحاء إيران، وكان يبين للناس جميعًا أن الأمم
الإسلامية إذا اتحدت فلن تستطيع أية دولة على ظهر الأرض أن تعتدى عليها، فيجب أن
يطرحوا الخلافات الحزبية جانبًا، ولا يتنازعوا بشأن علي وعمر، بل يجب أن يتجهوا
جميعًا إلى الخلافة،
ولما كان السلطان العثماني يرى أن شاه إيران يقف عقبة في سبيل توحيد العالم
الإسلامي، فقد طلب من جمال الدين أن يفعل ما يشاء للتخلص من هذا الشاه دون أن يخشى
شيئًا.
س: إنك لم تحضر هذا الاجتماع، فكيف عرفت حقيقة ما دار بين السلطان
وجمال الدين؟
ج: إنني كنت مخلصًا جدًا للسيد جمال الدين، وكان من ناحيته يقدرني
تقديرًا كبيرًا، ويؤثرني بكل شيء عن بقية الناس، ولقد أخبرني تفصيل ما دار بينه
وبين السلطان وأسر إلى بكل شيء في محادثات كثيرة، ما كان يريده، ولكني لست أتذكر
الآن كل ما قاله لي).
نسبة جمال الدين لإيران والشيعة:
لقد كان تأثير جمال في إيران كبيرا كتأثيره في مصر أو أشد، وكان لإجادته
اللغتين العربية والفارسية بحكم أنها لغة العلم والأدب في أفغانستان، أكبر عون على
تحقيق أهدافه، ومخاطبة العرب والفرس بأبلغ لسان، وأفصح بيان، فكان تأثير خطابه في
نفوسهم كالسحر، وكان دوره الكبير في النهضة الإيرانية سببا في نسبته إلى إيران،
وإلى الشيعة، وهو ما نفاه الأفغاني نفسه عن نفسه، كما أخبر بذلك تلميذه عبدالقادر
المغربي، وقد سأله عن سبب استدعاء الشاه له إلى إيران مع أنك مشهور بتشييد عقيدة
أهل السنة؟!
فأجاب الأفغاني (جنون منه وهوس)!
وقد سأله والي البصرة العثماني هدايت باشا -حين طرده الشاه من إيران
إليها وذلك بمحضر القاضي عبد الحميد الرافعي- عن سبب نسبته إلى إيران؟
فأجاب جمال بأن الشاه كان يشيع ذلك عنه لاجتراره إلى إيران والانتقام
منه بدعوى أنه من رعاياه!
وأخبره بأنه كان عضوا في مجلس المعارف في إسطنبول وبالإمكان التحقق من
ذلك.
إلا أن النسبة التي نفاها عن نفسه في حياته -ونفاها عنه كل تلاميذه
وأعرف الناس به كالشيخ محمد عبده، ومحمد المخزومي، وعبدالقادر المغربي، وشكيب
أرسلان، والعنجوري، وتنفيها عنه كل كتاباته ومقالاته ودعوته إلى الخلافة الراشدة،
والعودة إلى فهم الإسلام كما فهمه الصحابة والخلفاء الراشدون، وتأسيسه جمعية سنية
وهي العروة الوثقى، وشرحه في دروسه كتب العقائد والفقه السنية- ستصبح تهمة يصمه به
خصومه من الصوفية، كما كان يرميه بها أبو الهدى الصيادي!
وقد قال تلميذه عبدالقادر المغربي: (نشأ جمال الدين في مدينة كابل
عاصمة الأفغان، فهو إذن أفغاني، والإيرانيون يقولون إنه إيراني، وهذا الخلاف في
نسبة جمال الدين من أعجب الأمور وأدعاها للاستغراب! كما أن الرجل عاش في عصرنا،
وبلادنا، وأعماله ومساعيه تقع تحت مواقع أبصارنا، والأدلة متوفرة لمعرفة حقيقة
نسبه، فالشك في أفغانيته يورثنا الشك في كثير من أخبار رجال التاريخ الأقدمين
ونسبتهم ومناشئهم، مناقبهم، ومثالبهم، وقد كنت كتبت مقالا نيرًا في (جمال الدين
أهو أفغاني أم إيراني) نشر في المؤيد سنة ١٣٢٧ هـ / ۱۹۰۹م).
والخلاف في نسبه ومذهبه كالخلاف في نسبة الفقه الإسلامي إلى التراث
الروماني، وقد كتب جمال باسمه مقالا في مجلة "الضياء" -التي خصصها
لمخاطبة الشعب الإيراني ويدعوه للثورة على الشاه- عن الشريعة والفقه الإسلامي، صرح
فيها بمذهبه الحنفي وفيها تمجيد لمذهب الحنفية والسلطان عبدالحميد، قال فيه،
وكأنما يتحدث عن الخلاف في نسبه، فمع أنه من أوضح الواضحات جعله الإيرانيون الشيعة
بالسفسطة من المشكلات، فقال: (كشف الحقائق صعب، والحكم بالحق عسر، تغر الإنسان
نظرته الأولى، ويحيد به عن محجة البرهان اتباع الهوى، يعارض الحقيقة القارة
بمسلماته، ويحسب أوهامه الزائفة من بديهياته، لا تثقفه الحكمة، ولا يعصمه المنطق
من الزلة؛ ولذا استحكم الحجاج، وأزمن اللجاج بين العلماء والحكماء.
فما من موضوع إلا وترى فيه أراء متباينة، وأقوالا متخالفة، وحججا
متضاربة، حتى في الوجدانيات والمحسوسات، فالتبست الفلسفة بالسفسطة، وقامت
المشاغبات مقام البينات، إن حكماء الإفرنج مع سعة العلم قد ضلوا عن الرشد وحسبوا
أن الشريعة الإسلامية بما لها من الأحكام المتقنة، والإحاطة التامة بالوقائع التي
بها تستقر روابط أبناء البشر في معاملاتهم وعليها يفصلون الدعاوي في منازعاتهم لا
يمكن أن تكون نتيجة جادت بها القرائح التي رئمت البداوة منذ قرون عديدة، فذهب بعض
إلى أنها نسخة من قانون الروم الأولى! وتوهم الآخرون أن الإيرانيين حينما قلبوا
عرش أمية وأقاموا أبناء عباس على كرسي الخلافة؛ صاغوا هذه الصيغة وأبدعوا هذه
الطريقة! وأيدوا هذه الأوهام بظنون توارثتها النفوس حبا بالعصبية جيلًا بعد جيل
وهي أن الحكمة بجميع فنونها من خاصة (يافث) (آري). ولا حظ لـ(سام) فيها إلا قبسات
يستمنحها منه، ويمن بها عليه!
ولما نظروا إلى المسائل التي سردها الفقهاء في كتبهم ازدادوا تصلبا
وحكموا جهلا منهم بأن لها أدلة تبتني عليها وأصولًا ترجع إليها بأنها عوار تلقفها
أئمة الإسلام من الأمم العريقة في الحضارة! ولا يمكنها لضيق نطاقها أن تنطبق على
الوقائع التي يقضي بها الزمان وتتجدد في كل آن.
هذه هي زلة النظرة الأولى وهفوة اتباع الهوى.
فلو استكنهوا مباني الشريعة الإسلامية ورأوا كيفية تفرعات المسائل
منها، وأحاطوا علما بنظريات الفقه وأصوله؛ لعصموا أنفسهم من الزلة في الأفكار،
والحيف في الأحكام، ولكن لا ملام لأن الجهل باللغة، وصعوبة اصطلاحات العلوم قد
أقامت لهم عذرا.
ولولا كتاب أتى بآيات بينات أبان بها الحق وأظهر الصدق وأزاح الأوهام
التي كانت فلاسفة الغرب تتشبث بها في أحكامها لحل بنا نحن المسلمين اللوم ولا عذر؛
لأن عرض الشريعة على الأمم، وإقامة البرهان عليها، ورفع الشبه عنها فريضة.
كتاب ألفه ساواس باشا وبين فيه مباني الفقه الإسلامي، وكيفية استنباط
مسائله، من أصول صحيحة استخرجها العلماء من الكتاب والسنة.
ساواس باشا هذا الحاذق البارع قد خاض في أعماق الشريعة الإسلامية،
وتوغل في لجج الديانة المحمدية، وعرف أصولها وفروعها، ومبادئها ومقاصدها،
ونظرياتها والأحكام الناتجة منها، فألف كتابا باللغة الفرنساوية خدمة للعلم، وغيرة
على الحق، وأنه بعد أن قدر فيه الشارع الأعظم وأصحابه حق قدرهم، قد أقام أدلة
واضحة دفعا للشبه، على أن أحكام الفقه كلها مبنية على الوحي والإلهام، ولا مأخذ
لها سوى كلام الله وسنة نبيه، وأن العلماء العظام من أبناء (سام)[العرب] قد
استنبطوها بأصول متقنة، أرشدتهم إليها عقولهم الصافية منها، من غير امتنان من يافث
(أري) وأولاده!
واستشهد على هذا بتأليفات الإمام محمد رضي الله عنه [ابن الحسن
الشيباني صاحب أبي حنيفة]، ثم إنه بين بحكمة أنيقة تطورات الشريعة من الإجمال إلى
تفصيلها، في أزمان الخلفاء الراشدين، ومن اقتفى أثرهم من آل عباس، وبسط القول في
الأصول الأربعة التي يبتني عليها المسائل الفقهية: القرآن والسنة والإجماع
والقياس.
وشرح أن الشريعة الإسلامية بهذا الركن الرابع القياس المبني على الحسن
والقبح سواء نشأ من ذات الشيء، أو اعتريا عليه لغيره، منضما إلى أحكام الضرورات
التي اتفقت الأمة على وجوب اتباعها، تسع كل حادثة، وتنطبق على كل واقعة مهما كانت،
وأنى وجدت، وفي أي زمان حدثت.
وأزاح توهم ضيق نطاق الشريعة
بشرحه هذا متأسفا على سد باب الاجتهاد.
وذكر هذا الرجل الفاضل طي كتابه مناقب أئمة الدين، وفضائل المحدثين،
وأوصاف الفقهاء المتأخرين، ونعت الإمام الأعظم [أبا حنيفة] رضي الله عنه بما خصه
الله به من القريحة العالية، والغريزة السامية، وفصل ما أبدعه الإمام من الفلسفة
الدينية مقابلة لحكمة اليونان، وأنه كيف قسم موضوعات الأحكام إلى جواهر (أصول)،
وأعراض (لواحق) جعلها أساسا لكل الأوامر الإلهية ونواهيها.
أقول الحق إن ساواس قد ألف كتابا جمع فيه كل محاسن الإسلام، وجد في
ردع المنكرين بالبراهين القوية، والأدلة الثابتة.
وكنا في حاجة إلى مثل هذا الكتاب في هذه الأزمان.
ولا شك أنه من أعظم حسنات خليفة العصر [السلطان عبدالحميد].
وأحب أن يدرس هذا الكتاب بعد تصحيح بعض من مواده التاريخية في مدارس
المسلمين).
وقد قرر جمال في تعليقاته على العضدية عقيدة متكلمي أهل السنة في
إثبات الصفات -التي كان يمليها جمال على تلاميذه في مصر وكتبها عنه محمد عبده كما
حققه د. محمد عمارة وهو الحق وأنها ليست لمحمد عبده- فقال:
(.. "متصف بجميع صفات...إلخ.
أقول: واتفق أهل الحق على أن الواجب لذاته متصف بجميع الصفات
الكمالية، التي لو سلب شيء منها عن شيء لكان الشيء بسلبها ناقصا في الجهات
الحقيقية لوجوده، منزه عن جميع سمات وعلامات النقص.
وذلك لأن وجوب الوجود، قاض بأن لا يكون الواجب احتاج فيما به كمال
الوجود إلى الغير، فلو كان ناقصا لاحتاج في كماله الذاتي إلى غيره، فلا يكون واجب
الوجود. وهو خلف.
فإذن هو متحقق بجميع صفات الكمال، منزه عن سمات النقص، نقل عن ابن
تيمية أنه قال في بعض تصانيفه: إن هذه المقدمة أي القضية القائلة: إن الواجب متصف
بجميع صفات الكمال... إلخ مما أجمع عليه العقلاء كافة، من حكماء ومتكلمين، وغيرهم.
وسماها مقدمة، لأنها كثيرا ما تجعل جزءا للبراهين).
وقال عن التأويل للصفات: (التنزه عن النقائص:
وهذا ما به أقول من أن الواجب على كل ذي عقل: أن يذهب إلى النظر في
الحقائق، ويسبرها على وجه أدق، بحسب طاقته، ويقيم البراهين القطعية، على النفي
والإثبات، ثم يأخذ ألفاظ الشارع مسلمة مقبولة، قائلا: {آمنا به كل من عند ربنا}،
ولا يتعسف طريق التأويل، فإن هذا حال شرحه طويل، فإنا لا ندري ماذا أراد بما قال،
فربما ذهب اشتغالنا هباء منثورا، فالحق أن لا يهمل النظر، وأن يكون من التأويل على
خطر، وهذه رتبة الراسخين في العلم، الذين قد وقفوا على الحقائق بصفاء عقولهم، ثم
يقبلون ما جاءهم من ربهم، مع عدم الاستطلاع لما هو دفين تحت حجب أستاره).
وقال في إثبات الرؤية: (أقول: قد ورد في القرآن العزيز ما يكاد أن
يكون محكما في أنه تعالى يُرى يوم القيامة، ومثله في أنه تعالى لا يصح أن يدركه
البصر، أي لا يرى بحاسة البصر، الأول قوله: {إلى ربها ناظرة}، والثاني: {لا تدركه
الأبصار يدرك الأبصار}، وقد ورد الثاني مع برهانه، في قوله: {وهو اللطيف}، فهو في
قوة التعليل، أي لأنه اللطيف، ومن أحكام اللطيف أنه لا يرى، وقوله: {الخبير} برهان
على أنه يدرك الأبصار، وكون الإدراك وهو بمعنى الإحاطة غير مقبول، على أنه لو كان،
لكان في النظر ما يقاومه، وتأيدت آية الإثبات بأحاديث صحيحة، ثم استمر الأمر في
السلف على إجماله.. وليس التكلم مع الفريقين إلا تضييع الوقت فيما لا يفيد. بل
الواجب علينا هو الإيمان بأن الله يُرى كما أخبر على وجه منزه عما هو من خواص
الحوادث، وليكن بأية قوة من قوانا، أو بقوة جديدة يخلقها الله في ذلك الوقت، في أي
عضو من أعضائنا، وإن كان القلب.).
ورد القول بنفي تعليل أفعال الله، وتأويل النصوص الواردة فيه، كما ذهب
إليه المتكلمون، فقال: (بانضمام هذه التأويلات إلى التأويلات التي ذكرها في الوعد
والوعيد، وتأويلات الاستحقاق، وغير ذلك مما هو معلوم لديك، يكون القرآن كله إلا ما
ندر، مما يفيد حكما، أو قصصا مؤولًا، لم يقصد معناه، وكل ذلك بدون ضرورة، إذ لم
يستحكم الدليل في هذه المواطن على خلاف ما يكاد أن يكون محكما، وليس ما أبدوه ههنا
إلا مقدمات خطابية، بل قياسات شعرية، لا يعدل عن النصوص الصريحة إليها).
لقد بقي جمال في إسطنبول حتى توفاه الله سنة ١٨٩٧م،
وستفقد حركة المقاومة بوفاته رائدها الفكري، وسيخلع بعده السلطان عبدالحميد سنة
١٩٠٩م، وستفقد الحركة قائدها السياسي، وبسقوط الخلافة العثمانية دخلت جمعية
"العروة الوثقى" طورا جديدا من السرية، في فترة كمون وغيبة، تنتظر
الفرصة السانحة لتعود، في اليوم المنتظر الموعود!