كتاب
عودة الخلافة
الخلافة .. أحكامها ونظامها وأيامها
- الجزء الثالث -
قيام الخلافة في القاهرة حتى إسقاطها في إسطنبول 1342هـ / 1924م
بين يدي الجزء:
الحمد الله وكفى، وصل اللهم على نبيك المصطفى، وعلى آله وأصحابه الخلفا،
وبعد:
فهذا هو الجزء الثالث من أجزاء كتابنا "عودة الخلافة" وهو دراسة
في موضوع "الخلافة وأيامها وأحكامها ونظامها"، وقد تضمن هذا الجزء تاريخها
منذ إقامتها في القاهرة سنة ٦٥٨ ه- بعد سقوطها في بغداد ٦٥٦هـ - مدة ثلاثة قرون، ثم
تحولها إلى إسطنبول حتى سقوطها وإلغائها في ٢٦ رجب ١٣٤٢هـ الموافق ٣ مارس ١٩٢٤ تنفيذا
لشروط الحملة الصليبية في مؤتمر لوزان ١٩٢٣م، بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى سنة
١٩١٨م.
لقد كان ظهور الإسلام مرتبطا بالدولة والخلافة، منذ قيامها في المدينة
النبوية، وكانت تحقيقا لوعد الله للمؤمنين بالاستخلاف في الأرض، كما قال تعالى: ﴿وَعَدَ
اللَّهُ الَّذينَ آمَنوا مِنكُم وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ لَيَستَخلِفَنَّهُم فِي الأَرضِ
كَمَا استَخلَفَ الَّذينَ مِن قَبلِهِم وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُم دينَهُمُ الَّذِي ارتَضى
لَهُم وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِن بَعدِ خَوفِهِم أَمنًا يَعبُدونَني لا يُشرِكونَ بي
شَيئًا وَمَن كَفَرَ بَعدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الفاسِقونَ﴾[النور: ٥٥].
وكذلك كان سقوط الخلافة في بغداد وفق سنن الله ووعيده بالاستبدال، لمن
أعرض عن ذكره، وترك الجهاد في سبيله، كما قال تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا
مَن يَرتَدَّ مِنكُم عَن دينِهِ فَسَوفَ يَأتِي اللَّهُ بِقَومٍ يُحِبُّهُم وَيُحِبّونَهُ
أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤمِنينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكافِرينَ يُجاهِدونَ في سَبيلِ اللَّهِ
وَلا يَخافونَ لَومَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضلُ اللَّهِ يُؤتيهِ مَن يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ
عَليمٌ﴾ [المائدة:٥٤].
وقال: ﴿إِلّا تَنفِروا يُعَذِّبكُم عَذابًا أَليمًا وَيَستَبدِل قَومًا
غَيرَكُم وَلا تَضُرّوهُ شَيئًا وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ﴾[التوبة:٣٩].
كما كانت عودتها وقيامها في القاهرة بعد سقوطها في بغداد وفق سنن الله
ووعده للمؤمنين بالنصر إن نصروه ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ
يَنصُركُم وَيُثَبِّت أَقدامَكُم﴾[محمد:٧].
فلما قام المسلمون في مصر والشام بما أمرهم الله من نصرة دينه وجهاد عدوه
نصرهم الله، وتحقق لهم الاستخلاف مرة أخرى، بعدما ظن المسلمون أنه لا تقوم لهم قائمة
بعد اجتياح المغول للمشرق الإسلامي كله!
فلما ضعف أهل مصر بعد ذلك عن القيام بأعباء الخلافة وشروط الاستخلاف والجهاد
في سبيل الله؛ استبدل الترك بهم، وشرفهم بالخلافة أربعة قرون لا ينازعهم فيها أحد،
وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله أعلم حيث يجعل خلافته!
وما زال وعد الله للمؤمنين اليوم بالاستخلاف في الأرض قائما كما كان من
قبل، إن تحقق منهم الوفاء بما شرط عليهم، بعد أن حل بهم وعيده، وسلب منهم ما آتاهم
حين أعرضوا عن شرفهم وذكرهم، وهو هذا القرآن وهذا الإسلام الذي ما ساد العرب والترك
والكرد وأمم الإسلام إلا به، ولا ذلوا وهانوا إلا بالإعراض عنه، وصدق الله ﴿سَنُريهِم
آياتِنا فِي الآفاقِ وَفي أَنفُسِهِم حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهُم أَنَّهُ الحَقُّ أَوَلَم
يَكفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيءٍ شَهيدٌ﴾[فصلت:٥٣].
وقد أراهم الله في أنفسهم وفي الآفاق صدق وعده ووعيده، وأراهم سننه وآياته
﴿سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذينَ خَلَوا مِن قَبلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبديلًا﴾[الأحزاب:٦٢]
.
إن معرفة الخلافة وأيامها ضرورة لمن أراد معرفة سنن الله في المجتمعات
الإنسانية، وفي الأمة الإسلامية الإيمانية، فليست أحداثه تاريخا يُقرأ، ويتلى وينسى،
بل هي سنن تنطق، وتُصدَّق وتَصْدُق، بأن سنن الله لا تحابي أحدا، ولا تتخلف عن أسبابها
أبدا، وليس الإيمان وشروطه بالأماني، بل بالعمل الصالح الدائم، والجهاد الخالص الدائب،
كما قال الله: ﴿لَيسَ بِأَمانِيِّكُم وَلا أَمانِيِّ أَهلِ الكِتابِ مَن يَعمَل سوءًا
يُجزَ بِهِ وَلا يَجِد لَهُ مِن دونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصيرًا﴾[النساء:١٢٣].
لقد كان الأهم في هذا الكتاب هو أن يعرف المسلمون طبيعة الخلافة التي ليس
للإسلام ظهور إلا بها، وأنها نظام شامل لكل شئون الحياة العقائدية والتشريعية والسياسية
والاقتصادية والاجتماعية، تعبيرا عن استخلاف الله للمؤمنين في الأرض وفق أحكامه الشرعية
والكونية، وليست الخلافة هو الخليفة والخلفاء وتاريخهم، كما اختزلت اليوم في الثقافة
الاستشراقية الصليبية المعاصرة، التي تأثرها المسلمون المثقفون الإسلاميون منهم والعلمانيون
على حد سواء!
وحتى قال قائلهم بأن الأمة تعيش أزمة دستورية منذ الفتنة الأولى وقتل عثمان،
أو منذ السقيفة حتى اليوم، كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا!
ولم يفرق هؤلاء بين نظام الخلافة نفسه وهو نظام سياسي دستوري مكتمل الأركان
كانت الأمة والدولة والمرجعية التشريعية هي الأسس فيه، وظاهرة الاستبداد والانحراف
والفساد التي قد تطرأ على بعض ولاته، كما تطرأ على ولاة كل نظام سياسي بما فيها الأنظمة
الديمقراطية التي جاءوا يبشرون الأمة بها!
وأصبح التاريخ الإسلامي كله -الذي تحقق فيه وعد الله للمؤمنين بالاستخلاف
في الأرض مدة ألف وثلاثمئة عام- انحرافا عن الإسلام وهداياته التي عرفها أبناء المستشرقين
اليوم الذين وجدوا حل أزمتهم الدستورية في الديمقراطية الغربية والدولة الوطنية والشرعية
الدولية!
لقد حاول هذا الكتاب بكل أجزائه كشف حقيقة نظام الخلافة وأنه منظومة واسعة
من الأصول والمبادئ والقواعد والأحكام، لا يمكن ظهور الإسلام إلا بها، ولا حقيقة للدولة
الإسلامية بدونها، مهما حاول المستغربون اليوم طرح مفهوم "نظام الحكم الإسلامي"
أو "الدولة الإسلامية" بدلا منها، لتجنب الحديث عن الخلافة التي لا يمكن
إقامتها في ظل الحملة الصليبية ونظامها الدولي الذي إنما قام على أنقاض الخلافة نفسها
إعلانا عن ظهور الجاهلية العالمية مرة أخرى، كما كان الحال قبل ظهور الإسلام!
لقد طرح المستغربون الإسلاميون فكرة "نظام الحكم الإسلامي" بديلا
عن "نظام الخلافة" ليجد له موطئ قدم في النظام الغربي العالمي، ودوله الوطنية
والقومية، تحت سقف المرجعية الدولية الجاهلية!
فالإسلاميون اليوم يرفضون "نظام الخلافة" ويريدون الإسلام الذي
لم يظهر في التاريخ إلا بالخلافة، وغاب بغيابها، واقعا وشرعا، فهم كمن يريد بعث الحياة
في جسد بلا روح، أو يريد إيجاد الضياء بلا نور، ﴿أَفَلَم يَسيروا فِي الأَرضِ فَتَكونَ
لَهُم قُلوبٌ يَعقِلونَ بِها أَو آذانٌ يَسمَعونَ بِها فَإِنَّها لا تَعمَى الأَبصارُ
وَلكِن تَعمَى القُلوبُ الَّتي فِي الصُّدورِ﴾[الحج:٤٦].
لقد كثر الجدل الفقهي، والصخب الفكري، منذ سقوط الخلافة في البحث عن نظام
الحكم الإسلامي، وكأنما الأزمة فكرية نظرية وليست أزمة سياسية تتمثل في اجتياح الحملة
الصليبية للعالم الإسلامي وإسقاط الخلافة بالقوة، وفرض واقع جديد يعبر عن هذا النصر
التاريخي للحملات الصليبية التي لم تتوقف منذ معركة مؤتة حتى اليوم!
إن السعي لإقامة دولة الإسلام أو الحكم الإسلامي في ظل نفوذ هذه الحملة
الصليبية ونظامها العالمي الحاكم اليوم ضرب من الجنون لا يعيشه إلا الإسلاميون الجدد
الذين لم يعرفوا حقيقة الإسلام بعد! على أن للحملة الصليبية نفسها الدور الأبرز في
صناعة هذا الهوس منذ ظهوره فكرة في كتاب علي عبدالرازق "الإسلام وأصول الحكم"
حتى ظهوره حركة وأحزابا فيما يسمى "الإسلام السياسي" الذي يرفض الخلافة ويؤمن
بالديمقراطية والدولة الوطنية والقومية والمرجعية الدولية الجاهلية!
فعسى أن يسهم هذا الجزء في كشف حقيقة نظام الخلافة في فترته الثانية في
القاهرة ثم في إسطنبول، وتطوره ومواكبته لكل الظروف التي مرت بها الأمة، وقدرته على
الاستفادة من إنتاج الحضارة الإنسانية، مع المحافظة على أصوله ومبادئه وأحكامه، فلم
تجد الأمة قط مشكلة في نظام الخلافة، ولم تتخل عنه قط، بل قاتلت دونه حتى هزمت عسكريا،
وفرض عليها العدو شروطه ونظامه، وما تزال تخضع حتى اليوم له، وما هو إلا أن تتحرر من
سطوته وتستعيد حريتها وسيادتها ووحدتها حتى تعود خلافتها، كما هو قدرها، ووعد الله
لكل من اتخذ إليه سبيلا، وكفى بالله وكيلا ﴿وَعدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَن أَصدَقُ مِنَ
اللَّهِ قيلًا﴾[النساء:١٢٢].
الجمعة 11 /8/
1444هـ
3 /3/ 2023م
قونيا - تركيا
للتنزيل