أين
مصادر البخاري!
بقلم أ. د. حاكم
المطيري
11/4/ 1442هـ
26 /11 /2020م
السلام عليكم ورحمة الله ..
س - كتب أحدهم مقالا يدّعي فيه بأن البخاري
ومسلم وباقي أصحاب الكتب الستة بينهم وبين النبي ﷺ أكثر من ٢٠٠ سنة فمن أين جاءوا بالأحاديث؟
وكيف حُفظت؟ ويسأل أين خطب النبي ﷺ التي خطبها مدة عشر سنين أيام الجمعة في
المدينة والتي تبلغ ٥٠٠ خطبة؟
فنرجو الإجابة بالتفصيل مشكورا..
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ..
ج - الكتب الستة وغيرها من كتب السنة المشهورة
ليست سوى موسوعات حديثية ضمت بين دفتيها مصادر كثيرة قبلها مشهورة معروفة بين أهل العلم
قاطبة، وكثير منها مطبوع اليوم يمكن الرجوع إليه ومقارنة الأحاديث التي في الكتب الستة
مع مصادرها الأصلية، فلا يوجد حديث واحد في هذه الكتب الستة غير موجود في الكتب التي
سبقتها بأكثر من قرن، وسأضرب لهذا مثلا :
فالبخاري ومسلم وباقي الستة يروون أحاديث
(صحيفة همام) عن أبي هريرة، وهي صحيفة صحيحة مشهورة، مطبوعة، كتبها همام الصنعاني في
حدود سنة ٥٠ للهجرة من فم أبي هريرة مباشرة، مما كان يمليه أبو هريرة عليهم من الحديث
في المسجد النبوي وبحضور الصحابة الآخرين..
وظلت هذه الصحيفة ينسخها العلماء ويقرأونها على همام،
ثم على تلاميذه، ومنهم معمر بن راشد الذي بدوره ألّف كتابه (الجامع) في حدود سنة
١١٠ للهجرة، وهو كتاب مشهور مرتب على الأبواب، يرويه أئمة الحديث إلى مؤلفه، حتى طبع
الجزء الموجود منه في مجلدين، فأخذ معمر الصحيفة وبثها في كتابه بحسب الموضوعات الفقهية،
بعد أن كانت صحيفة واحدة غير مرتبة الأحاديث، ثم جاء تلميذ معمر وهو عبد الرزاق الصنعاني
فألف (المصنف) في حدود ١٦٠ للهجرة، وجمع فيه كل الصحف والكتب التي قرأها على شيوخه
كموطأ مالك، وجامع معمر، وجامع الثوري، وجامع ابن جريج، وغيرها من المصادر المشهورة
آنذاك، وبلغت أحاديث مصنف عبدالرزاق المطبوع نحو ٢٠ ألف حديث بالمكرر والمرفوع إلى
النبي ﷺ وأقوال الصحابة والتابعين وأقوال شيوخه
من أتباع التابعين، وقد انتقلت مادة كتاب شيخه معمر إليه، وصارت جزءا من مصنفه بما
في ذلك صحيفة همام، ومصنف عبدالرزاق مطبوع مشهور، يمكن الرجوع إليه، والتحقق من تطابق
الروايات بينه وبين موطأ مالك، أو صحيفة همام، التي بثها في مصنفه وفرقها بحسب الأبواب
الفقهية كما هو ترتيبه لكتابه المصنف الكبير، وكان أئمة الحديث والفقهاء يرحلون إلى
اليمن لسماع مصنفات عبدالرزاق منه، ومنهم يحيى بن معين وأحمد بن حنبل وابن المديني
والذهلي ومئات العلماء، ثم صنف تلميذه الإمام أحمد كتابه (المسند) الذي اقتصر فيه فقط
على الحديث النبوي المتصل الإسناد المقبول في الاحتجاج، واستخرج مادته من كل الكتب
والمصنفات الحديثية المشهور آنذاك، سواء من كتب شيوخه كمصنف عبدالرزاق، وجامع وكيع
بن الجراح، وجامع ابن عيينة، أو كتب شيوخ شيوخه كموطأ مالك، وجامع معمر، وجامع الثوري،
أو كتب شيوخهم ككتاب الزهري، ومغازي عروة بن الزبير، وصحيفة همام، وصحيفة عمرو بن شعيب...إلخ
وبلغت عدد أحاديث مسند أحمد بالمكرر نحو
٣٠ ألف حديث، لأن الحديث الواحد قد يرويه أحمد من عدة مصادر كموطأ مالك، وجامع معمر،
وجامع الثوري، ومصنف حماد، فيصبح في المسند أربعة أحاديث أو أكثر، كما هي طريقة أئمة
الحديث، وقد أخرج أحمد مسنده سنة ٢٠٠ للهجرة وقرأه الناس عليه، ووجدناه قد أودع في
كتابه المسند صحيفة همام كاملة وفق ترتيبها الأصلي كما كتبها همام، لا كما فرقها وبثها
في كتابه تلميذه معمر في (الجامع)، أو تلميذ تلميذه عبدالرزاق في (المصنف)، لأن طريقة
تأليف المسند تختلف عن طريقة تأليف الجوامع والمصنفات والموطآت، فهي مرتبة على اسم
الصحابي لا الموضوعات، فيورد مثلا مسند حديث أبي هريرة، ثم يرتبه على أسماء من روى
عنه كحديث همام عنه، ثم ما رواه معمر عن همام، فأصبحت صحيفة همام بكاملها موجودة في
مسند أحمد (نسخة طبق الأصل) ابتداء من رقم
٨١١٥ - في طبعة الرسالة - إلى حديث رقم ٨٢٥٢، وهي مطابقة للنسخة المفردة المطبوعة
لصحيفة همام، كما أنها مطابقة للأحاديث التي في مصنف عبد الرزاق وجامع معمر عنها.
فجاء أصحاب الكتب الستة وأخذوا من هذه الصحيفة
ما يحتاجونه من مادة حديثية، بحسب ترتيب كتبهم.
وسأضرب لذلك مثالا:
فقد روى البخاري حديث رقم ٧٠٧٢ النهي عن الإشارة بالسلاح فقال في كتابه:
(حدثنا محمد، أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر،
عن همام، سمعت أبا هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: لا يشير أحدكم على أخيه
بالسلاح، فإنه لا يدري، لعل الشيطان ينزع في يده، فيقع في حفرة من النار).
فالبخاري يروي هذا الحديث بواسطة شيخه محمد
بن يحيى الذهلي، عن مصنف عبدالرزاق، وهذا الحديث موجود في مصنف عبد الرزاق المطبوع
برقم ١٨٦٧٩ قال الدبري (قرأنا - يعني المصنف - على عبد الرزاق، عن معمر ، عن همام بن
منبه، قال: سمعت أبا هريرة، يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يشيرن أحدكم على
أخيه بسلاح، فإنه لا يدري لعل الشيطان ينزع في يده، فيضعه في حفرة من نار).
وكذا رواه مسلم في صحيحه برقم ٢٦١٧ فقال:
(حدثنا محمد بن رافع، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن همام بن منبه، قال: هذا ما
حدثنا أبو هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر أحاديث منها: وقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: لا يشير أحدكم إلى أخيه بالسلاح، فإنه لا يدري أحدكم لعل الشيطان
ينزع في يده فيقع في حفرة من النار).
وهو في مسند أحمد برقم ٨٢١٢ قال: (حدثنا
عبدالرزاق بن همام، حدثنا معمر، عن همام بن منبه، قال: هذا ما حدثنا به أبو هريرة،
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يمشين أحدكم إلى أخيه بالسلاح، فإنه لا يدري
أحدكم لعل الشيطان ينزع في يده، فيقع في حفرة من نار).
وهذا الحديث موجود في النسخة المطبوعة لصحيفة
همام برقم ٩٩ كما رواه البخاري ومسلم نصا.
وهذه الصحيفة مشهورة عند أهل الحديث ونرويها
بأسانيدنا عن شيوخنا عن شيوخهم إلى الحافظ ابن حجر إلى همام بن منبه، فقد أوردها ابن
حجر في المعجم المفهرس له برقم ١٣١٦ فقال:
(صحيفة همام: قرأتها على عبد الرحمن بن
عمر بن عبد الحافظ الوراق بصالحية دمشق، وأنبأنا أبو الخير بن أبي سعيد العلائي في
كتابه، قالا أنبأنا الشرف عبد الله بن الحسن بن الحافظ، وقال الأول قراءة عليه وأنا
حاضر وإجازة، وقال الثاني سماعا أنبأنا محمد بن سعد الكاتب.
وأخبرنا أبو هريرة ابن الذهبي إجازة أنبأنا
يحيى بن محمد بن سعد أنبأنا أبي.
قال أبو هريرة وأنبأنا أبو الحسن علي بن
أحمد بن عسكر، أنبأنا محمد بن سعد، أنبأنا يحيى بن محمود، أنبأنا أبو علي الحداد، أنبأنا
أبو نعيم -وهو الحافظ الأصبهاني- والذي جمعها من حديثه بعلو ونزول).
فهذا الحديث الواحد في النهي عن الإشارة
بالسلاح وجدناه في:
١- صحيفة همام وهي مطبوعة .
٢- ومصنف عبدالرزاق وهو مطبوع.
٣- ومسند أحمد وهو مطبوع .
٤- وصحيح البخاري وهو مطبوع.
٥- وصحيح مسلم وهو مطبوع.
٦- كما أخرجه أبو عوانة في صحيحه برقم
١١٤٢٤ عن السلمي عن عبدالرزاق.
٧- وكذا ابن حبان في صحيحه برقم ٥٩٤٨ قال (أخبرنا محمد بن الحسن بن قتيبة، قال:
حدثنا ابن أبي السري قال: حدثنا عبد الرزاق).
٨- والبيهقي في السنن برقم ١٥٨٧٢ قال( أخبرنا
أبو طاهر الفقيه، أنبأ أبو بكر محمد بن الحسين القطان، ثنا أحمد بن يوسف السلمي، ثنا
عبد الرزاق، أنبأ معمر، عن همام بن منبه، قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة، قال: وقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: لا يشير أحدكم إلى أخيه بالسلاح، فإنه لا يدري أحدكم لعل
الشيطان أن ينزع في يده فيقع في حفرة من النار . رواه البخاري في الصحيح عن محمد، ورواه
مسلم عن محمد بن رافع، كلاهما عن عبد الرزاق).
فقد روى كل هؤلاء الأئمة (أحمد بن حنبل،
ومحمد بن رافع، ومحمد الذهلي، والسلمي، وابن السري) المصنف عن شيخهم عبدالرزاق، وعنهم
روى الناس هذا الحديث منه.
وخذ مثالا ثانيا:
فأول حديث في صحيح البخاري (إنما الأعمال
بالنية) يرويه عن شيخه الحميدي صاحب المسند، عن شيخه سفيان بن عيينة صاحب الجامع، عن
كتاب شيخه يحيى بن سعيد الأنصاري:
فقال البخاري (حدثنا الحميدي عبد الله بن
الزبير، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري، قال: أخبرني محمد بن
إبراهيم التيمي، أنه سمع علقمة بن وقاص الليثي، يقول: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله
عنه على المنبر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنما الأعمال بالنيات،
وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو إلى امرأة ينكحها، فهجرته
إلى ما هاجر إليه).
وهو موجود في مسند الحميدي المطبوع برقم
٢٨ قال الحميدي (ثنا سفيان، ثنا يحيى بن سعيد، أخبرني محمد بن إبراهيم التيمي أنه سمع
علقمة بن وقاص الليثي يقول: سمعت عمر بن الخطاب على المنبر يخبر بذلك عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنما الأعمال بالنيات،
وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن
كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه).
وكذا رواه عن سفيان بن عيينة تلميذه أحمد
بن حنبل في المسند برقم ١٦٨ قال (حدثنا سفيان، عن يحيى، عن محمد بن إبراهيم التيمي،
عن علقمة بن وقاص، قال: سمعت عمر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنما
الأعمال بالنية، ولكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله عز وجل، فهجرته إلى ما
هاجر إليه، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه).
ورواه أحمد أيضا عن شيخه يزيد بن هارون
كما في مسنده برقم ٣٠٠ قال (حدثنا يزيد، أخبرنا يحيى بن سعيد، أن محمد بن إبراهيم أخبره،
أنه سمع علقمة بن وقاص الليثي، يقول إنه سمع عمر بن الخطاب وهو يخطب الناس، وهو يقول:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول:
إنما العمل بالنية، وإنما لامرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله وإلى رسوله،
فهجرته إلى الله وإلى رسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها، فهجرته
إلى ما هاجر إليه).
وكذا رواه مسلم برقم ١٩٠٧ وقد ذكر مسلم
٨ مصادر من أصح وأشهر الكتب التي أخذ الحديث منها فقال بعد أن رواه عن القعنبي عن مالك،
كما رواه البخاري، فقال:
١- حدثنا محمد بن رمح بن المهاجر، أخبرنا
الليث.
٢-ح وحدثنا أبو الربيع العتكي، حدثنا حماد
ابن زيد.
٣-ح وحدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عبد الوهاب
يعني الثقفي.
٤- ح وحدثنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا أبو
خالد الأحمر سليمان بن حيان.
٥- ح وحدثنا محمد بن عبد الله بن نمير،
حدثنا حفص يعني ابن غياث.
٦- ويزيد بن هارون .
٧- ح وحدثنا محمد بن العلاء الهمداني، حدثنا
ابن المبارك.
٨- ح وحدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان.
كلهم عن يحيى بن سعيد، بإسناد مالك ومعنى حديثه،
وفي حديث سفيان: سمعت عمر بن الخطاب على المنبر يخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم).
فالإمام مسلم يذكر مصادره هنا التي أخذ
منها الحديث سماعا لها من شيوخه عن مؤلفيها، فذكر (موطأ مالك المدني، ثم كتاب الليث
بن سعد المصري، ثم كتاب حماد بن زيد البصري، ثم كتاب عبد الوهاب الثقفي البصري، وابن
حيان الكوفي، وحفص بن غياث الكوفي القاضي، ويزيد بن هارون الواسطي، وابن المبارك المروزي،
ثم جامع سفيان بن عيينة المكي).
وهؤلاء هم أئمة الأمصار في عصرهم وكتبهم
من أشهر المصنفات وأصحها.
وقد روى هذا الحديث مالك في الموطأ - الذي
صنفه سنة ١٤٣ للهجرة - وهو موجود في الموطأ من رواية محمد بن الحسن الشيباني المطبوع
برقم ٩٨٣ قال (أخبرنا مالك، أخبرنا يحيى بن سعيد، أخبرني محمد بن إبراهيم التيمي، قال:
سمعت علقمة بن أبي وقاص، يقول: سمعت عمر بن الخطاب، يقول: سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم، يقول: إنما الأعمال بالنية، وإنما لامرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله
ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها
فهجرته إلى ما هاجر إليه هاجر إليه).
وكذا رواه البخاري في صحيحة - عن موطأ مالك
من نسخة عبدالله بن مسلمة القعنبي - برقم ٥٤ فقال البخاري (حدثنا عبد الله بن مسلمة،
قال: أخبرنا مالك، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم، عن علقمة بن وقاص، عن عمر
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الأعمال بالنية، ولكل امرئ ما نوى، فمن كانت
هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة
يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه).
وكذلك رواه مسلم في صحيحه برقم ١٩٠٧ عن
القعنبي عن مالك كما رواه البخاري نصا.
وكذا رواه البخاري من نسخة أخرى للموطأ
برقم ٥٠٧٠ - فقال (حدثنا يحيى بن قزعة، حدثنا
مالك، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث، عن علقمة بن وقاص، عن عمر بن
الخطاب رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: العمل بالنية، وإنما لامرئ
ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم،
ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه).
وكذلك وجد هذا الحديث أيضا في مسند أبي
داود الطيالسي، وهو من شيوخ شيوخ البخاري، كما في مسند الطيالسي المطبوع برقم ٣٧ قال
: (حدثنا حماد بن زيد، وزهير بن محمد التميمي، كلاهما عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن
محمد بن إبراهيم التيمي، قال: سمعت علقمة بن وقاص الليثي، يقول: سمعت عمر بن الخطاب،
رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يا أيها الناس إنما الأعمال
بالنية وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله
ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه).
فثبت أن هذا الحديث (إنما الأعمال بالنيات)
موجود في كل هذه المصادر، وكلها قبل كتاب البخاري، وهي موطأ مالك، ومسند الطيالسي،
ومسند الحميدي، ومسند أحمد وكلها مطبوعة، وجامع ابن عيينة، وجامع الثوري، وكتاب يزيد
بن هارون، وكتاب حماد بن زيد، وكتاب الليث بن سعد، وكتاب عبدالوهاب الثقفي، وغيرهم
من الأئمة الكبار، قبل أن يصنف البخاري كتابه بنحو قرن كامل!
فقد قال ابن المديني كما أورده عنه الخطيب
البغدادي في تاريخ بغداد ١٢/ ٢٧١ (ليس في الدنيا كتاب عن يحيى - بن سعيد الأنصاري
- أصح من كتاب عبد الوهاب، وكل كتاب عن يحيى هو عليه كَل، يعني كتاب عبد الوهاب).
وقد توفي يحيى بن سعيد الأنصاري المدني
سنة ١٤٣ للهجرة، وقد قرأ عليه عبدالوهاب الثقفي كتبه ونسخها قبل ذلك بسنين، فقد ولد
عبدالوهاب سنة ١٠٨ وتوفي ١٩٤، وله ست وثمانون سنة، وقد طلب العلم شابا صغيرا، فيكون
قد قرأ كتب يحيى عليه ونسخها في حدود ١٢٨ على أقل تقدير، بينما ولد البخاري سنة
١٩٤ وتوفي سنة ٢٥٦ للهجرة، وصنف كتابه الصحيح - الذي استغرق تأليفه نحو ١٦ سنة - في
حدود سنة ٢٣٦ للهجرة، على أبعد تقدير إن لم يكن بعد ذلك، فيكون بينه وبين كتاب عبد
الوهاب الذي هو أصح كتاب عن يحيى بن سعيد نحو مئة سنة!
وهكذا المدة بين تأليف البخاري لصحيحه،
وبين صدور موطأ مالك، الذي شرع مالك في تصنيفه بحدود ١٣٥ للهجرة، وفرغ منه وقرأه الناس
عليه في حدود سنة ١٤٠ للهجرة، وظل أربعين سنة يتوافد الناس عليه من كل الأمصار للقراءة
عليه، قبل أن بصنف البخاري كتابه بنحو مئة عام!
وعلى ما ذكرته هنا فقس، فالحديث الثاني
في البخاري يرويه بواسطة موطأ مالك فقال (حدثنا عبدالله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك،
عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، أن الحارث بن هشام
رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، كيف يأتيك الوحي..).
وهو موجود في موطأ مالك برقم ٢٢٢
ومالك يرويه عن هشام بن عروة وهو رواية
كتب أبيه عروة بن الزبير وهو أول من صنف المغازي والسير.
فالبخاري يرويه بواسطة موطأ مالك، عن نسخة
هشام، عن كتاب عروة، عن خالته عائشة رضي الله عنها.
وكل هذه مصادر كتابية، وقد وجدنا هذا الحديث
في المصادر التي قبل البخاري غير موطأ مالك، فقد أورده شيخه الحميدي في مسنده برقم
٢٥٨ فقال (ثنا سفيان بن عيينة قال: ثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت سأل الحارث
بن هشام رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يأتيك الوحي..).
وكذا رواه شيخ البخاري إسحاق بن راهويه
في مسنده برقم ٧٥٤ فقال (أخبرنا سفيان بن عيينة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة،
قالت: سأل الحارث بن هشام رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يأتيك الوحي..).
وبرقم ٧٥٥ ( أخبرنا أبو معاوية، نا هشام،
عن أبيه، عن عائشة، أن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يأتيك
الوحي).
وكذا رواه شيخه أحمد بن حنبل في المسند
برقم ٢٥٢٥٢ فقال (حدثنا محمد بن بشر، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، أن الحارث
بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف يأتيك الوحي).
وبرقم ٢٥٣٠٢ (حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا
معمر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: سأل النبي صلى الله عليه وسلم رجل،
فقال: كيف يأتيك الوحي يا نبي الله).
وبرقم ٢٦١٩٨ فقال (قرأت على عبد الرحمن
بن مهدي: مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: أن الحارث بن هشام سأل رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله كيف يأتيك الوحي).
وشيخه عبد بن حميد في مسنده برقم ١٤٩٠ فقال
(أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: سأل الحارث
بن هشام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، كيف يأتيك الوحي).
فهذه خمسة مصادر قبل البخاري (موطأ مالك،
ومسند الحميدي، ومسند إسحاق بن راهويه، ومسند أحمد، ومسند عبد بن حميد) وكلها مطبوعة
أوردت الحديث من كتاب هشام عن كتاب أبيه عروة، وقد رواه أحمد في مسنده عن عدة مصادر
قبله منها موطأ مالك، ومصنف عبدالرزاق، ومحمد بن بشر، وكلها ترويه بلفظ واحد!
وهكذا كل أحاديث البخاري استخرجها من كتب
السنة المشهورة قبلة، ورتبها على طريقته، واقتصر منها على ما أجمعوا على صحته، دون
ما اختلفوا فيه.
وأما خطب النبي ﷺ فهي كثيرة مبثوثة في كتب السنة، فأكثر
الأحاديث النبوية هي مما سمعه الصحابة من النبي ﷺ في خطبه، وقد جمع هذه الخطب الشيخ الأزهري
محمد الخليل الخطيب في كتابه (خطب رسول الله ﷺ) وطبع سنة ١٣٧٣ وقد بلغ ما جمعه من كتب
الحديث والمغازي ٥٧٠ خطبة!
وقد فاته رحمه الله كثير من الخطب في الكتب
الستة!
……
موضوعات ذات صلة:
محاضرة "مراحل كتابة السنة ودور علماء الحديث في حفظها رواية"
محاضرة "كتابة السنة النبوية وشبهات المعاصرين"
كتاب تاريخ تدوين السنة النبوية وشبهات المسشرقين
مكتبة الشيخ أ.د. حاكم المطيري