كتاب
عودة الخلافة
الخلافة..
أحكامها ونظامها وأيامها
-الجزء
الأول-
أ.د.
حاكم المطيري
المقدمة:
بعثت
الثورة العربية المعاصرة اليوم -فيما بعثت من قضايا طالما كانت خارج دائرة البحث العام سياسيا
وإعلاميا وثقافيا- قضية (الخلافة)، وأعادتها أشد ما تكون جذعة من جديد، إذ أيقظت
الثورة العربية في ذاكرة الأمة ووعيها الجمعي -كما الخلافة- حلم القوة والوحدة
والاتحاد الذي تتطلع له الأمة وشعوبها، للخروج من حال الضعف والتشرذم والتبعية
للقوى الغربية الصليبية والدولية، في عالم لم يعد فيه مكان للضعفاء!
وأثار
بركان الثورة العربية في زلزاله -الذي ما يزال يهز جنبات العالم العربي ليبعثه إلى
الحياة من جديد بعد عقود من الموت في ظل الدويلات الوظيفية التي انتهت صلاحيتها-
الجدل السياسي والفكري حول الخلافة، أقوى ما تكون الإثارة شدة، والخصام حدة، كيوم
سقوط الخلافة أو أشد، ليدور حولها النقاش والبحث والأخذ والرد، ليس على مستوى
الداخل الإسلامي فحسب، بل والخارج الدولي، حتى غدت قضية (عودة الخلافة) الحدث
الأبرز اليوم، بعد أن كاد يطويها النسيان -كمشروع سياسي- عقودا طويلة، مع حضورها
الدائم في الوسط الفكري والفقهي الإسلامي!
وكما
أعادت الثورة العربية المعاصرة وبكل قوة قضية (الخلافة) من جديد إلى ساحة الفكر
والسياسة؛ فقد كشفت كذلك وبكل وضوح عن أزمة عميقة بين دعاتها في تصور حقيقة هذه
الخلافة التي يدعون إليها؛ ليثور الجدل في شأنها أشد ما يكون، داخل التيار
الإسلامي نفسه، وبكل ألوان طيفه، بين من لا يرى وجوبها أصلا، فموضوع الحكم والسلطة
عندهم موضوع مدني مصلحي تركه الشارع لتطور الزمان واختلاف الأحوال، ومن يرى أنه
أصل من أصول الإسلام، وفرض يجب على الأمة إقامته، ثم هؤلاء الذين يدعون إلى (عودة
الخلافة) لا يقدمون تصورا صحيحا لحقيقتها، وغايتها، وكيفية عودتها، حتى تصور بعضهم
أنه بإمكانهم عرض الخلافة على رئيس من الرؤساء الموجودين اليوم فإن وافق على
الإعلان عنها، وإقامة حكم إسلامي، صار خليفة، وعادت الخلافة!
وتصور
بعضهم أنه بالسيطرة على مساحة من الأرض وإعلان الخلافة فيها تقوم الخلافة من جديد!
ومنهم
من لا يرى للأمة رأيًا في إقامتها أصلا، ولا حق لها في الشورى واختيار الخليفة، بل
ويستخفون بها ويصادرون حقها الذي جعله الله لها بدعوى أن ذلك ديمقراطية وكفر!
فإذا
الطغيان الذي مارسه العرب القوميون في سوريا والعراق، والعسكريون الاشتراكيون في
مصر والجزائر وليبيا واليمن، والملكيون في الخليج والمغرب والأردن، والليبراليون
في تونس، والإسلاميون في السودان، يراد له أن يعود من جديد باسم السنة والخلافة
والإسلام، فالمهم ألا يتحرر العرب من ربقة الطغيان تحت أي نظام كان!
وقد
تجلت الإشكالية أوضح ما يكون في أربع قضايا رئيسية:
الأولى:
في تعريف الخلافة شرعا وفقها ومعرفة حقيقتها وتصورها في ذاتها وغايتها!
الثانية:
عدم الاعتراف بالأمة وحقوقها واستشكالهم أن يكون لها حق في اختيار السلطة الذي هو
عندهم من اختصاص أهل الحل والعقد فقط، والذين قد يكونون عبارة عن مجلس شورى سري
لفصيل من الفصائل لا يعرفهم أحد حتى أفراد تنظيمهم!
الثالثة:
استشكال طبيعة العلاقة بين الأمة والسلطة والتي يجب أن تخضع الأمة لسلطانها ولو
قهرا.
الرابعة:
في تعريف أهل الحل والعقد.
وسيأتي
تفصيل القول في تعريف الخلافة في الخطاب القرآني والنبوي والراشدي، وأن حقيقتها هي
تحقق الاستخلاف للأمة كلها، أولا بالسيادة والظهور والتمكين في الأرض، ثم اختيار
الأمة للخليفة -ثانيا- بالشورى والرضا، وكيلا عنها ينوب عن النبي ﷺ في تولي الإمامة والخلافة؛ ليقيم أحكام الله فيها، والعدل والقسط الذي أوجبه الله عليها.
-
فما المراد بالخلافة؟
-
وما حقيقتها؟
-
ومتى تكون خلافة ومتى لا تكون؟
-
وهل الخلافة هي الخليفة توجد بوجوده وتزول بفقده؟
-
وهل تقوم الخلافة ببيعة أي رجل كان باسم الخليفة؟ أم هي نظام سياسي له أصوله
وقواعده وأحكامه وشروطه؟
-
وما الفرق بين الخلافة الراشدة والخلافة العامة؟
-
وكيف ظلت الخلافة كنظام سياسي يحكم العالم الإسلامي مع تعاقب الدول واختلافها مدة ١٣٠٠
عام؟
-
وما معنى الدولة في ظل الخلافة؟
- ما
المراد بالدولة السلجوقية في ظل الخلافة العباسية؟
-
وكيف كانت دولة في ظل دولة؟
-
وكيف كانت بغداد عاصمة واحدة للدولة والخلافة معا؟
-
كيف تداخلت المفاهيم الحديثة لمصطلح (الدولة)، بالمفاهيم القديمة لها والتي تعني
(الفترة والنوبة)، حتى اختلط أمر (الخلافة) و(الدولة) على المؤرخين فضلا عن
المثقفين، حتى توهموا كثرة الدول في تاريخ الخلافة الواحدة؟
-كيف
واكبت الخلافة كنظام سياسي تطور المجتمع الإسلامي مع تغير ظروفه السياسية
والاقتصادية والاجتماعية؟
- ما
الفرق بين الخلافة المركزية والخلافة غير المركزية؟
- ما
هي مؤسسات الخلافة التي كانت تدير شئون الدولة وتحافظ على سلطانها في ظل نظامها
غير المركزي؟
-كيف
عبرت الخلافة عن وحدة الأمة مع تنوعها القومي، ووحدة الأرض والوطن مع اتساعه
الجغرافي، ووحدة السلطة مع تفاوت قوتها وضعفها، في ظل تعدد الدول ووحدة الخلافة؟
- ما
الفرق بين الخليفة والوزير والسلطان والأمير؟
-
وما صلاحية كل منهم؟
- ما
الذي حمل السلطان يوسف بن تاشفين الذي حرر المغرب ووحده، ثم السلطان يوسف صلاح
الدين الذي حرر المشرق ووحده، ليبعثا ببيعتهما للخلافة ببغداد مع قوة سلطانهما
وضعف مركزها؟
- ما
الذي كانت تمثله الخلافة سياسيا مع تراجع مركزها أمام نفوذ الأمراء في الأقاليم؟
- ما
سر قوة الخلافة سياسيا مع طروء الضعف عليها عسكريا؟
- ما
أسباب سقوط الخلافة؟
-
ومن الذي أسقطها؟
-
وما دور بريطانيا وأوربا في سقوطها؟
-
كيف استغلت بريطانيا قضية (الخلافة) لمواجهة الدولة العثمانية وتقسيمها من جهة،
وتوظيف الثورة العربية الأولى التي قادها الشريف حسين بن علي من جهة أخرى، وتقسيم
المنطقة العربية بعد ذلك لدويلات وظيفية تحت نفوذها؟
-
وكيف نجحت بريطانيا في حشد العرب خلف ثورة الشريف حسين على الدولة العثمانية،
ووعده بعودة (الخلافة) للعرب والمحافظة على وحدتهم في (الجزيرة العربية والعراق
والشام)، ثم دعم ابن سعود وتنظيم الإخوان في نجد للقضاء على تلك الوحدة وتقسيم
المنطقة وفق مشروع سايكس بيكو تحت شعار (التوحيد) و(الجهاد)؟
- ما
الأدوات التي استخدمتها بريطانيا في توظيف حركة الإحياء الديني في نجد (أخوان من
طاع الله)، ورعايتها ودعمها خلال عشرين سنة (١٩١٠-١٩٣٠م) لفرض خرائطها للمنطقة
بقوة الخطاب الديني، حتى إذا انتهى دورهم الذي قاموا به بكل إخلاص وصدق، تم إعلان
الحرب عليهم في معركة (السبلة) كخوارج على نظام ابن سعود، والقضاء عليهم بتحالف
بريطاني سعودي بعد مؤتمر جدة سنة ١٩٢٨م؟
-
وكيف توظف أمريكا اليوم قضية (الخلافة) و(تنظيم الدولة) لمواجهة الثورة العربية
المعاصرة؟ لتفرض خريطتها للشرق الأوسط الجديد (خريطة الدم) على أسس طائفية، وتحت
شعار (الخلافة) وعلى أنقاض خريطة سايكس بيكو البريطانية الفرنسية الروسية؟
- لم
بدأ الحديث الأمريكي منذ الثورة العربية عن انتهاء مرحلة سايكس بيكو؟
-
وما البديل الجديد التي تحضر له أمريكا وخرائطها؟
-
وكيف تستغل واشنطن حلم (عودة الخلافة) لتنفيذ مشروعها لتقسيم المنطقة العربية أكثر
فأكثر تحت شعار إسقاط مشروع سايكس بيكو البريطاني، ليحل محله مشروع الشرق الأوسط
الأمريكي الجديد؟!
-
وهل ستنجح واشنطن لتحقيق مشروعها الجديد من خلال توظيف الحالة الجهادية السلفية في
العراق والشام، لمواجهة الثورة العربية المعاصرة، كما نجحت بريطانيا في توظيف
الحالة نفسها قبل مائة عام في جزيرة العرب مع عبد العزيز بن سعود وتنظيم (إخوان من
طاع الله)، وتحت شعارات (الجهاد) و(التوحيد) نفسها، لمواجهة استحقاقات الثورة
العربية الأولى التي قادها الشريف حسين طمعا بإقامة خلافة عربية موحدة! لينتهي
المشهد بإقامة دول وظيفية مقسمة ما تزال تحت الاحتلال الغربي إلى اليوم؟!
-
وهل ستعود الخلافة يوما ما من جديد؟
-
وما شروط عودتها؟
-
ومن سيعيدها؟
كل
هذه الأسئلة وغيرها حاولت الإجابة عنها في هذا الكتاب الذي لم أقف على من صنف في
موضوعه مع شدة الحاجة إليه، حيث لا يكاد يوجد كتاب يعالج موضوع الخلافة كنظام
سياسي له مؤسساته وأصوله وقواعده الراسخة التي جعلت منه أطول الأنظمة السياسية
عمرا في تاريخ الأمم؟
فقد
ظل الحديث عن الخلافة منذ سقوطها حديثا معرفيا يُختزل في أمرين:
الأول:
كتب (الأحكام السلطانية) وأحكام الإمامة العامة وشروطها ووظائفها.
والثاني:
تاريخ (الخلفاء)، والدول التي تعاقبت على إدارة شئون الخلافة.
ولم
يتصد أحد لدراسة الخلافة كنظام سياسي ومجتمعي له مؤسساته التي واكبت تطور المجتمع
الإسلامي، وحافظت على وحدته وتنوعه في آن واحد، حتى اشتركت كل القوميات في العالم
الإسلامي من جهة، وكل المدارس الفقهية، والقوى السياسية من جهة أخرى، في صناعة
حضارة مشتركة، من خلال إدارة مشتركة للخلافة ودولها في ظل تعددية سياسية لم يعرف
العالم لها نظيرا، حتى طال على الأمة الأمد، فصار ما كان من تاريخها ونظامها
السياسي بدهيا بالأمس، مشكلا معقدا اليوم، وما كان واضحا جليا، بات غامضا خفيا،
حتى قيل بأن الإسلام لم يأت أصلا بنظام سياسي للحكم! بل جاء بمبادئ عامة فقط!
وحتى
شاع بين العلماء فضلا عن العامة بأن الأمة لم تجتمع في دولة واحدة منذ القرن
الأول؟
وكأنه
لم تقم للإسلام دولة قارية مدة ثلاثة عشر قرنا تحت ظل نظام سياسي إسلامي هو نظام
الخلافة!
وكأنما
هذه الأمة طارئة على الأمم لم تسدها يوما ما حتى كادت حضارتها تتفرد بقيادة العالم
ألف سنة!
وبلغ
الأمر اليوم بسبب الاختلاف في شأن الخلافة ومكانتها في الإسلام أن استخف بها
فريقان:
-
فريق يرى بأن الحديث عنها ضرب من الأوهام، وأضغاث الأحلام، فالماضي لا يعود،
والخلافة جزء من التاريخ، ولكل عصر دوله ونظمه، فكان قولهم اليوم صدى لما قاله علي
عبد الرازق بالأمس في كتابه (الإسلام وأصول الحكم)!
-
وفريق آخر يرى الخلافة بيعة رجل على أي حال كان، فإذا ادعاها وتم الإعلان عنها
عادت الخلافة من جديد، حتى وإن كانت صورية، كخلافة الشريف حسين بن علي، تحت
الاحتلال البريطاني!
وبلغ
الاستخفاف بالخلافة وشأنها -وهي قطب رحى الإسلام، وحجر الأساس لنظامه السياسي،
والذي شن العدو من أجل إسقاطها حربا كونية كبرى مهد لها طيلة نصف قرن- أن اجترأت
عليها جماعات تصورت أنها بادعائها للخلافة أو الإعلان عنها تقيم الخلافة في الأرض
بمعزل عن الأمة، التي لا وجود أصلا للخلافة قبل وحدتها وقوتها واستخلاف الله لها!
ولم
يدرك هؤلاء بأن للخلافة حقيقة سياسية شرعية أدرك أعداؤها من مضامينها ما لم يدركه
أدعياؤها؟
وظنوا
-والظنون كواذب- أنه قد تقوم خلافة بلا أمة، أو تقوم خلافة والأمة في حال استضعاف
لا حال استخلاف، في الوقت الذي يحتل العدو أرضها، ويسوس أمرها!
وفاتهم
أن حقيقة الخلافة لا تكون إلا باستخلاف الله الأمة في الأرض، وبعد تحقق سيادتها،
كما قال تعالى: ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ ءامَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن
قَبْلِهِمْ﴾، فالأمة هي التي تختار الخليفة وكيلا عنها، كنتيجة لتحقق الاستخلاف
لها هي كأمة، قبل وجوده هو كخليفة!
لقد
جاء هذا الكتاب ليحكي بين دفتيه -مع ما فُصِّل من أحكام الخلافة ونظامها- ظهور أمة
هي عجب في الأمم، وسيادتها العالم، ونهايتها الأعجب! وقيام دولتها على نحو غريب في
تاريخ نهوض الدول وتمددها، وأفولها الأغرب! فهو ملحمة تاريخية، وإلياذة نثرية،
تحكي قصة ظهور دولة الإسلام، واستخلاف الله لهذه الأمة في الأرض، وقيام الخلافة
بعد النبوة، التي كانت كالقرآن نفسه نبأ عظيمًا غيّر وجه التاريخ الإنساني، وكيف
سادت هذه الدولة الفريدة والأمة الوليدة العالم وأممه وحضاراته المتنوعة في فترة
وجيزة لا تتجاوز نصف قرن؟
وكيف تطورت نظم هذه الخلافة التي نشأت في
الصحراء لترث الإمبراطوريتين العالميتين آنذاك الفارسية والرومانية، وتسوس شعوبهما
في القارتين الآسيوية والأفريقية ثم القارة الأوربية، حيث امتدت حدودها في أواخر
القرن الأول، من حدود الصين شرقا، إلى أقصى الأندلس وحدود فرنسا غربا، وتدير
شئونهما في آن واحد على نحو غير معهود من قبل في تاريخ الأمم؟
وكيف
تجاوزت هذه الخلافة -التي تختلف عن كل أشكال أنظمة الحكم التي عرفها العالم في
نشأتها وطبيعتها ورسالتها وطريقتها- الأخطار التي حاقت بها مدة ١٣٠٠ عام من عمرها؟
وكيف حشد الغرب الحملات الصليبية تلو الحملات
للقضاء عليها، وكيف كان إلغاؤها سنة ١٩٢٤ كما ظهورها نبأ عظيما، وجللا جسيما، حيث
غاب بغيابها الإسلام وأمته وحضارته وحضوره وشهوده الحضاري مئة عام!
ولقد
تأخر صدور هذا الكتاب إلى عالم النشر نحو عشر سنوات، فقد كان جاهزا منذ سنة ٢٠٠٩م،
مع بذلي قصارى جهدي للاستعجال بنشره، فأبى الله ذلك لحكمة أرادها سبحانه ولكل شيء
وقته ﴿لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَاب﴾، إذ لم تكن -حين شرعت في تأليفه، وأشرفت على الفراغ
منه- قد حدثت الثورة العربية أواخر سنة ٢٠١٠م، ولم يعد آنذاك الجدل في موضوع
الخلافة كما بدأ يوم إلغائها ١٩٢٤م، ثم خروج كتاب علي عبدالرزاق (الإسلام وأصول
الحكم) ١٩٢٥م!
ولا
ادّعى آنذاك (تنظيم الدولة) خلافته الموهومة بالموصل سنة ٢٠١٤م؛ وهي ما تزال تحت
الاحتلال الأمريكي! وهو ما كشف عن خطورة توظيف فكرة الخلافة من جديد في الحرب على
الأمة وشعوبها، كما فعلت بريطانيا مع الشريف حسين! وعن خطورة الافتئات على الأمة
في أخصّ قضاياها وأشدها خطرا وهي الخلافة، وعن خطورة التصورات الدينية المختزلة
السطحية لتصبح الأمة وشعوبها هي الضحية!
ولم
يكن قد بعث خطاب علي عبدالرازق من جديد بثوب إسلامي حركي، وعلى منابر أكبر
الاتحادات العلمائية، في ظل التنافس المحموم بين (مجلس حكماء المسلمين) برئاسة
الشيخ ابن بيه برعاية الإمارات، و(اتحاد علماء المسلمين) برئاسة د.الريسوني برعاية
قطر، وتوظيف كلا الدولتين الخطاب الديني خدمة لواشنطن ومشروعها التغريبي في جزيرة
العرب، ولقيادة الرأي العام الإسلامي به نحو ما يحقق أهداف الحملة الصليبية
الغربية لمواجهة ثورات الشعوب العربية؛ كما جاء صريحا في توصيات تقرير مؤسسة راند
٢٠٠٤م بعد احتلال العراق وبدء المقاومة الشعبية ضد المحتل الغربي!
لقد أعيد
بعد الثورة العربية ٢٠١١ إنتاج خطاب علي عبد الرازق من جديد، الذي قرره في كتابه
(الإسلام وأصول الحكم) المنشور ١٩٢٤م -وهو في الحقيقة كتاب طه حسين نفسه، كتبه
بأسلوبه ونفَسه؛ كما في كتابه (الشعر الجاهلي)، الذي صدر ١٩٢٦م، وقد نحله للشيخ
الأزهري علي عبدالرازق ليروج بين الفقهاء بوحي المحتل البريطاني- وقد تصدى لكتاب
علي عبدالرازق أئمة عصره، ونقضوا شبهه، كالطاهر بن عاشور في (نقد علمي)، ومحمد
رشيد رضا في مقالاته في مجلة المنار، ومحمد الخضر حسين في (نقض كتاب الإسلام وأصول
الحكم)، ومفتي الديار المصرية العلامة محمد بخيت المطيعي في كتابه (حقيقة الإسلام
وأصول الحكم)، وكان من أشد شبه الكتاب خطورة: نفي وجوب الخلافة والوحدة السياسية
بين شعوب العالم الإسلامي، والذي هو الهدف من تأليف الكتاب، والغاية من نشره
وترويجه؛ لتبوئة الحملة الصليبية في العالم الإسلامي فكريا وعسكريا، وتكريس
مشروعها الذي أسقط الخلافة واحتل المنطقة وقسمها فيما بينه لدول وطنية وظيفية تحت
نفوذه، بخطاب ديني يجعل من كل ذلك أمرا مشروعا، تحرم مقاومته شرعا، بنفي وجوب
إعادة وحدة الأمة من جديد؛ لأن الإسلام إنما جاء بالوحدة الدينية كما يزعمون، لا
بالوحدة والأمة السياسية كما فعل الخلفاء الراشدون! ولأنه كما يدعي الريسوني لا
يوجد أصلا نظام حكم محدد في الإسلام وهو الخلافة؛ فكل ذلك قضايا اجتهادية تتغير
بتغير الزمان والمكان؛ فيحرم لذلك القتال من أجل وحدة الأمة وتحريرها، بل الإسلام
على العكس من ذلك جاء بالوحدة العالمية بين شعوب الأرض ليصبح المسلمون والصليبيون
المحتلون لأرضهم إخوة في ظل وحدة إنسانية! كما قال ابن بيه كما في حسابه بالتويتر
نقلا لكلمته في مؤتمر الوحدة الإسلامية بمكة بتاريخ ١٣/١٢/ ٢٠١٨م: (مفهوم الوحدة
لا يعني بالضرورة أن يكون المسلمون في كيان واحد، ولا يجوز إعلان الحروب وإلحاق
الضرر بالناس من أجل ذلك، فالخلافة مثلًا هي أمر مصلحي وليس تعبديًا).
وقال
أيضا: (الوحدة مفهوم إسلامي عظيم، يشمل جميع دوائر الوجود الإنساني، ويغطي جميع
العلاقات الفردية والجماعية والدولية، فالإسلام هو دين التوحيد، ودين الوحدة، وحدة
الشعور والشعائر)!
وقال
أيضا لشرعنة هذا الواقع الجاهلي ودويلاته الوطنية الوظيفية التي أقامتها الحملة
الصليبية على أنقاض الخلافة العثمانية في ظل ضعف الأمة وعجزها: (دلت الممارسة
التاريخية للأمة، حيث تعددت دول الإسلام وتعدد أئمتهم ولم يثبت أن أحدًا سعى إلى
توحيد الأقطار تحت راية واحدة بدافع عقدي يستبطن مبدأ وجوب الخلافة ووحدة الإمام.
فأفق الوحدة المنشود لا يمكن أن يكون مبررا لسلب
الدولة الوطنية حقها في الشرع والشرعية والمشروعية. فالدول الوطنية في عالمنا
الإسلامي اليوم مع اختلاف أشكالها وصورها، هي نظم شرعية لها من المشروعية ما كان
للإمبراطوريات الكبرى التي كانت قائمة في التاريخ بناء على قانون المصالح والمفاسد
الذي تدور حوله أحكام الشرع).
وهذا
الادعاء العريض من الشيخ ابن بيه ونفيه لوجوب الوحدة والخلافة -مع كونه معارضا
للنصوص القطعية التي توجب الاجتماع وتحرم الافتراق- ينافي حقائق التاريخ الإسلامي
القطعية، التي قام المسلمون فيها بهذا الأصل العظيم من أصول الإسلام، وعليه قاتل
الخليفة الراشد علي رضي الله عنه، لجمع كلمة الأمة، وعلى هذا أجمع المسلمون، وكلما
افترقت الأمة وضعف أمرها؛ هيأ الله لها من يلم شعثها، كالشهيد عماد الدين زنكي،
وابنه السلطان نور الدين زنكي، ثم السلطان صلاح الدين الأيوبي، بقيامهم بتوحيد
الموصل والشام ومصر، وإزالة الإمارات الضعيفة -التي كانت تحول دون الوحدة، وتتحالف
مع العدو- وضمها، وإعلان تبعيتها للخلافة في بغداد، وكذا فعل السلطان يوسف بن تاشفين
الذي وحد المغرب والأندلس، وأرسل بالبيعة إلى الخليفة في بغداد، وقد عدّ المسلمون
ذلك من أكبر حسناتهما، وكذا فعل السلطان سليم الأول الذي وحد دول العالم الإسلامي،
أمام الحملات الصليبية البرتغالية والأسبانية، مما لا يخفى على كل من عرف شيئا من
تاريخ الإسلام، وهو ما ينقض دعوى ابن بيه هذه من أصلها التي تنفي ممارسة المسلمين
لهذا الواجب الشرعي بناء على إيمانهم بوجوب إقامة الخلافة الواحدة!
وهي
عينها شبهة علي عبدالرازق يعاد إنتاجها من جديد إلا أنه في هذه المرة باسم أكبر
الاتحادات الإسلامية الحركية برعاية قطر، والصوفية برعاية الإمارات، والسلفية
برعاية السعودية التي قطعت شوطا بعيدا في خطابها الديني في تكريس المشروع الغربي
التغريبي في جزيرة العرب بعد إعلان ترامب!
وإذا
الأمة تفتن في دينها كما فتنت في دنياها!
وإذا
العلمانية الجاهلية بإلحادها وإباحيتها تلبس لبوس الإسلام، فإذا هي تعود من الشباك
بعد أن أخرجها فقهاء الأمة من الباب! وإذا الردة -كما حكم عليها به مفتي مصر الشيخ
بخيت المطيعي، وشيخ الإسلام في الدولة العثمانية مصطفى صبري، ومحمد الخضر حسين شيخ
الأزهر- تصبح مقصدا من مقاصد الإسلام في الخطاب الديني الجديد!
ولم
يكن كذلك قد خرج كتاب وائل حلاق (الدولة المستحيلة) الذي كان أكثر عمقا، وأدق
فهما، وأكثر صوابا من كل ما كتبه الإسلاميون الحركيون والمفكرون العروبيون في فهم
الفرق بين نظام الحكم الإسلامي في ظل الخلافة والدولة القومية المعاصرة بطبيعتها
العلمانية التي لا يمكن أسلمتها! وإنما ساعد حلاق على الاقتراب من الحقيقة العلمية
تحرره إلى حد كبير من سطوة الثقافة الاستشراقية، التي أشربت قلوب النخب الفكرية
والسياسية في العالم الإسلامي حتى نضحت بها أقلامهم: وكل إناء بالذي فيه ينضح! ولم
يجد مفكر كبير كالجابري -في كتابه (نقد العقل العربي)- في الخلافة ونظام الحكم
الإسلامي إلا عودة القبيلة والغنيمة والصراع على الزعامة تأثرا بالنظرة
الاستشراقية لتاريخ الإسلام! حتى لا تكاد توجد شبهة استشراقية إلا وقد وجدت صداها
في جنبات كتاباته، بذريعة عقلنة العقل العربي وعلمنته! وربما أعان وائل حلاق -ومن
قبله إدوارد سعيد- على الاقتراب من تاريخهم العربي الإسلامي الحقيقي، والثورة على
الثقافة الاستشراقية إلى حد كبير، والتحرر من سطوتها: روحهما الثورية الفلسطينية
التي عاشت أزمة الشتات والمهجر وأزمة الهوية، وأخذت تبحث في تاريخها عن أمتها
المفقودة!
لقد
كان حلاق في كتابه -وهو المفكر العربي الفلسطيني في المهجر- مهموما في البحث عن
الحقيقة التاريخية الموضوعية كما هي لا كما يراها المستشرقون، حيث أصبحت الثقافة
الغربية الغالبة هي من يملي على نخب العالم الإسلامي الفكرية حقيقة واقعه وكيف كان
بالأمس، وما ينبغي عليه أن يكون في المستقبل!
لقد
نظر حلاق وإدوارد سعيد من خارج ثقافتهما العربية المهزومة المأسورة -كأثر من آثار
هجرتهما والانتماء لمجتمعاتهم الغربية الجديدة وبحكم انتمائهما الديني المسيحي فلم
يعيشا عقدة النقص التي يعيشها المفكرون العرب المسلمون على اختلاف توجهاتهم الذين
أرادوا حجز مقاعد لهم في ساحة الفكر الغربي عبر أنسنة الفكر الإسلامي- فكان تحرر
حلاق وسعيد، من سطوة رؤى المستشرقين، هو ما أحدث الفرق بين كتاباتهم التي حاكمت
الاستشراق نفسه، وجعلت التاريخ الإسلامي نفسه حكما لاستنطاق الحقيقة، وكتابات
غيرهما الذين وقعوا في شرَك الاستشراق، وحاكموا التاريخ الإسلامي لرؤى المستشرقين،
وقواعدهم المعرفية المعاصرة، مهما تظاهروا بالموضوعية والعلمية، فكانت كتاباتهم
مسخا مشوها عبّرت عن الهزيمة النفسية والمعرفية للنخب العربية أكثر من تعبيرها عن
الحقيقة التاريخية!
لولا
ما اعترى كتاب (الدولة المستحيلة) من وهن بتعسف المؤلف في تعريف الدولة نفسها،
وقصره المفهوم على الدولة الحديثة فقط -وهي مكابرة في حقائق التاريخ، ووقوع في أسر
المصطلحات اللغوية والعرفية، وتحكّم في فرض تعريف خاص للدولة، وهو ما يتعارض مع كل
النظريات السياسية التي عرفت الدولة تعريفا علميا يصدق على كل دولة توفرت لها
أركان الدولة وشروطها سواء قديمة أو حديثة وهي: الأرض والشعب والسلطة- ونفيه وصف
الدولة عن الخلافة التي سماها الحكم الإسلامي، وجعل ركنيه الأمة والشريعة فقط،
ليخرج الخلافة كنظام سياسي من أركانه، ولتسلم له النظرية التي يريد تقريرها وهي
استحالة عودة الدولة الإسلامية، لعدم وجودها أصلا في التاريخ الإسلامي، ولأنه لا
وجود للدولة خارج مفهومها المعاصر!
وقد
اضطر بعد ذلك إلى الاعتراف للخلافة العثمانية بوصف الدولة على مضض! وهو ينقض
الأساس الذي بنى عليه كتابه كله في تعريف الدولة!
وبالطبع
لم تنتظر أوربا ودولها الحديثة وهي توقع اتفاقياتها مع الخلافة والدولة العثمانية
-في فرساي بباريس ١٩١٩م، ثم اتفاقية سيفر ١٩٢٠م، ثم اتفاقية لوزان بسويسرا ١٩٢٣م -هذه
الاتفاقيات التي ورثتها تركيا المعاصرة وما تزال ملزمة بها- تعريف حلاق لمفهوم
الدولة التي لا وجود لها قبل وجود الدول الحديثة!
كل
ذلك لم يكن قد حدث حين فرغت من تأليف هذا الكتاب سنة ٢٠٠٩م! ولو ولد آنذاك لخرج
جسدا ميتا لا روح فيه ولا جديد، ولكان خبرا عن تاريخ جميل لن يعود!
وشاء
الله أن يتأخر صدوره عشر سنوات -لتكتمل مئة عام منذ نهاية الحرب العالمية الثانية
١٩١٨م التي أسقطت الخلافة فعليا- اختزلت واختصرت مئة عام من تاريخ الأمة بثوراتها
وحروبها وفتنها، فمن عاش هذه العشر ٢٠١٠م – ٢٠٢٠م فكأنما عاش المئة عام منذ سقوط
الخلافة حتى يومنا هذا!
وكأنما
أراد الله أن يتأخر صدور هذا الكتاب كل هذه المدة حتى يكتمل المشهد السياسي بكل
أبعاده، ويصل الانهيار فيها إلى نهاياته، ولتستتم مدة الهدم التي تسبق التجديد كل
قرن؛ كما قال ﷺ: (إن الله يبعث على رأس كل مئة سنة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها)،
وليعيش الجيل الإسلامي الجديد الأزمة التاريخية بكل تفاصيلها ويشاهد بأم عينيه
المأساة -التي تجلت بأوضح صورها بإعلان ترامب في مؤتمر الرياض ٢٠١٧م عن (صفقة
القرن) وتأهيل دولة إسرائيل لقيادة المنطقة، والاعتراف بالقدس عاصمة أبدية لها،
ووصم الإسلام بالإرهاب في جزيرة العرب، التي تحتفي دولها بزيارة بابا روما لأول
مرة في تاريخها- ويدرك هذا الجيل حقيقة واقع أمته، بعد أن صار ما كان تاريخا يُحكى
بالأمس؛ واقعا يُرى اليوم!
كما
لم أكن أعلم يوم فرغت من تأليف هذا الكتاب سنة ٢٠٠٩م أنه لن يرى النور إلا بعد عشر
سنين، وبعد صدور الحكم الجائر على مؤلفه سنة ٢٠٢١م بالسجن المؤبد، لأنه قام -كما
جاء في لائحة اتهامات النيابة له- (بالدعوة عبر الوسائل العلنية لاعتناق مذهب يرمي
إلى هدم النظم الأساسية بطريقة غير مشروعة حيث تم رصد مقطع فيديو في موقع التواصل
الاجتماعي "يوتيوب" مدته (٤٧:٣٧) دقيقة يتضمن مؤتمر أقيم في (جمهورية
تركيا) بتاريخ ٠٤/٠٢/٢٠١٧م تحت اسم "واقع الأمة بين الربيع العربي والمشروع
الغربي" يقوم من خلاله المذكور أعلاه بالدعوة بشكل واضح وصريح للقيام بثورة
جديدة مشابهة لثورات الربيع العربي بشكل أقوى وأكبر عبر التنسيق بين قوى الثورات
العربية بهدف إسقاط أنظمة الحكم القائمة في تلك الدول وتحقيق قيام الخلافة
الإسلامية "الدولة الراشدة"..)، ولأنه يفتي بحرمة إغلاق المساجد تحت
ذريعة وباء كورنا!
فصارت
الدعوة لقيام الدولة الراشدة، والتبشير بعودة "الخلافة الراشدة" التي
بشر بها النبي ﷺ بعد الغربة الثانية بقوله: (ثم تكون خلافة على منهاج النبوة) تهمة يُحكم على من دعا إليها، وبشر بها، ولو بالوسائل
السلمية بالسجن المؤبد كما تريد الحملة الصليبية!
ولقد
عادت قضية الخلافة من جديد -لأمر أراده الله، وهيأ أسبابه من وراء حجب الغيب، بعد
اشتداد المحن، وشدة الفتن- حلما يراود خيال المصلحين، ومشروعا سياسيا يؤمن به
الأحرار المخلصون، ويقاتل من أجله الثوار المجاهدون، بعد مئة عام من الاغتراب
السياسي في ظل الحملة الصليبية!
لتبدأ
تباشير عودتها من جديد، تلوح في الأفق القريب لا البعيد، على يد البطل الفاتح
السعيد، الذي ادخر الله له هذا الفتح العظيم ليعيدها على يديه، ولتتحقق البشارة
النبوية فيه، كما بشر النبي ﷺ بعودتها بعد سقوطها بقوله: (ثم تكون خلافة على منهاج النبوة)، وإنه لنبأ لو يعلمون عظيم،
وليعلمن نبأه بعد حين!
﴿رَبَّنَا افتَح بَينَنا وَبَينَ قَومِنا بِالحَقِّ
وَأَنتَ خَيرُ الفاتِحينَ﴾ [الأعراف: ٨٩]
الاثنين
غرة محرم ١٤٤٣ه
٩
أغسطس ٢٠٢١ م
مدينة
إسطنبول - بشاك شهير
تنزيل الكتاب