الثقافة المحظورة!
بقلم أ.د. حاكم المطيري
١٠/ ٦/ ١٤٤٥هـ
٢٣/ ١٢/ ٢٠٢٣م
هناك ثقافة عربية حديثة بدأت مفاهيمها تتشكل بعد غزو نابليون لمصر وما
طرأ بعد حكم محمد علي وتحدث عن ذلك المعاصرون لأحداثها وكيف تخادم المحتل الأوربي والاستبداد
المحلي -وما يزال- في ترسيخ هذه المفاهيم الدخيلة على المجتمعات العربية وقد أشار إلى
ذلك الشيخ محمد عبده، وكيف أن الشعب المصري الذي ثار وحرر مصر من جيش نابليون خلال
٣ سنوات استسلم للمحتل البريطاني ربع قرن -بل ٧٠ سنة- بسبب ثقافة دخيلة لا علاقة لها
إطلاقا بالتراث، وقد اعترف الخديوي عباس حلمي الثاني بجذور هذه الثقافة كما في مذكراته
ص ١١٠ بقوله: (والواقع أن العقلية المصرية الحديثة هي من أصل فرنسي بنوع خاص، رغم أن
فرنسا قد تخلت عنا للاحتلال الإنجليزي، باعترافها لإنجلترا بكل الحقوق على مصر وكان
تأثير الثقافة الفرنسية، الذي كان يمارس منذ قرن، هو الذي انتصر على إخضاعها لإدارة
لم يكن في وسع مصر أن تتخلص منها، ولا تزال تخضع لها).
وقال عن وسائل إنجلترا في تشكيل هذه الثقافة ص ١١١: (وفي شهر أكتوبر ۱۹۰۷ ظهر حزب، لا شك في
أنه كان يستوحي من لورد كرومر، ومن الممكن جدا بأوامره، ووقف في وجه الحزب الوطني.
وهذا الحزب هو حزب الشعب، أي حزب الأمة، وأسسه والد محمد محمود، سليمان
باشا، وكانت له صحيفة، تسمى الجريدة، وكان رئيس تحريرها هو الأستاذ لطفي بك السيد.
أما الروح المحركة لهذا الحزب، ولهذه الجريدة في بدايتها، فكان سعد باشا
زغلول.
وكان قد بدأ تدريبه في السياسة تحت إشراف الأميرة الخديوية نازلي، سليلة
محمد على، وإن كانت من أنصار إنجلترا).
وقد كتب محمد عبده وهو مفتي مصر آنذاك في مجلة المنار ١٣٢٠هـ/ ١٩٠٢م باسم
مستعار عن محمد علي بمناسبة احتفال مصر بمئويته، وكشف كيف أعاد تشكيل الشخصية المصرية
حيث قال فيه: (ما الذي صنع محمد علي؟ لم يستطع أن يحيي ولكن استطاع أن يميت! كان معظم
قوة الجيش معه، وكان صاحب حيلة بمقتضى الفطرة، فأخذ يستعين بالجيش، وبمن يستميله من
الأحزاب على إعدام كل رأس من خصومه، ثم يعود بقوة الجيش وبحزب آخر على من كان معه أولا
وأعانه على الخصم الزائل فيمحقه، وهكذا حتى إذا سحقت الأحزاب القوية، وجه عنايته إلى
رؤساء البيوت الرفيعة، فلم يدع منها رأسا يستتر فيه ضمير (أنا)! واتخذ من المحافظة
على الأمن سبيلا لجمع السلاح من الأهلين، وتكرر ذلك منه مرارًا حتى فسد بأس الأهالي،
وزالت ملكة الشجاعة منهم، وأجهز على ما بقي في البلاد من حياة في أنفس بعض أفرادها،
فلم يبق في البلاد رأسا يعرف نفسه حتى خلعه من بدنه، أو نفاه مع بقية بلده إلى السودان
فهلك فيه.
أخذ يرفع الأسافل ويعليهم في البلاد والقرى، كأنه كان يحن لشبه فيه ورثه
عن أصله الكريم! حتى انحط الكرام، وساد اللئام، ولم يبق في البلاد إلا آلات له يستعملها
في جباية الأموال، وجمع العساكر بأية طريقة، وعلى أي وجه، فمحق بذلك جميع عناصر الحياة
الطيبة من رأي وعزيمة واستقلال نفس، ليصير البلاد المصرية جميعها إقطاعا واحدًا له
ولأولاده، على أثر إقطاعات كثيرة كانت لأمراء عدة ماذا صنع بعد ذلك؟ اشرأبت نفسه لأن
يكون ملكا غير تابع للسلطان العثماني، فجعل من العدة لذلك أن يستعين بالأجانب من الاوربيين،
فأوسع لهم في المجاملة، وزاد لهم في الامتياز خارجًا عن حدود المعاهدات المنعقدة بينهم
وبين الدولة العثمانية، حتى صار كل صعلوك منهم لا يملك قوت يومه ملكا من الملوك في
بلادنا يفعل ما يشاء ولا يُسأل عما يفعل! وصغرت نفوس الأهالي بين أيدي الأجانب بقوة
الحاكم، وتمتع الأجنبي بحقوق الوطني التي حرم منها، وانقلب الوطني غريبًا في داره،
غير مطمئن في قراره، فاجتمع على سكان البلاد المصرية ذلان: ذل ضربته الحكومة الاستبدادية
المطلقة، وذل سامهم الأجنبي إياه ليصل إلى ما يريده منهم، غير واقف عند حد، أو مردود
إلى شريعة!
ظهر الأثر العظيم عند ما جاء الإنكليز لإخماد ثورة عرابي، دخل الإنكليز
بأسهل ما يدخل به دامر [الذي يهجم بلا استئذان] على قوم، ثم استقروا ولم توجد في البلاد
نخوة في رأس تثبت لهم أن في البلاد من يحامي عن استقلالها! وهو ضد ما رأيناه عند دخول
الفرنساويين إلى مصر، وبهذا رأينا الفرق بين الحياة الأولى والموت الأخير!). (انظر تاريخ الإمام محمد عبده لرشيد رضا ٢/٣٨٥)
ولهذا فإعادة تشكيل ثقافة المجتمعات العربية على قيم إسلامية وإنسانية
وحضارية صحيحة يقتضي تحرير شعوبها أولا ممن يتحكم أصلا بتشكل هذه الثقافة الممسوخة
ويعبث في جيناتها وفق ما يكرس طغيانه واستبداده وفساده، وكل المجتمعات الحرة التي تسود
العالم اليوم هي بشكل أو بآخر نتاج حركات ثورية أعادت صياغة وعي مجتمعاتها وثقافتها
بعد تغيير المنظومات السياسية التي كانت تتحكم بها فضلا عن تحرير بلدانها من المحتل
الأجنبي الذي لا يمكن أن يسمح بتشكل ثقافة تهدد وجوده كما فعلت الولايات المتحدة وأوربا
بثورات الربيع العربي!