معركة غزة
والمخرج من الفتنة
أ.د. حاكم المطيري
١٩/ ٥/ ١٤٤٥هـ
٣/ ١٢/ ٢٠٢٣م
قال النبي ﷺ: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق يقاتلون، لا يضرهم من خالفهم،
ولا من خذلهم) فدل هذا الحديث النبوي المتواتر على أن الجهاد في سبيل الله ماض إلى
يوم القيامة، وأن الطائفة المنصورة من أمته هي كل من قام به، وأنه لا يزال في الأمة
من يصد الناس عنهم، ويخالفهم، ويخذلهم، وأنه لا يضرهم!
وهذا ما حدث فعلا فما توقف الجهاد قط، وما زال في الأمة في كل بلدانها
من يقوم به، لا يضرهم من خالفهم، ولا من خذلهم من قومهم، وكان آخر ما رآه المسلمون
في هذا العصر -قبل غزة- ما جرى في أفغانستان بأوضح صوره، وكيف قام به المجاهدون مع
قلتهم وضعفهم وفقرهم ووقف معهم بعض شعبهم، وتخلت أكثر الأمة بدولها وجماعاتها عنهم،
بل وانحازت إلى العدو الكافر وحملته الصليبية إما خوفا منه، أو طمعا في السلطة التي
يمنحها لمن والاه منهم في بلده، أو موافقة له على كفره!
فما ضر ذلك الجهاد والمجاهدين، حين كان جهادهم في سبيل الله، ولإعلاء
كلمة الله.
وضل أصحاب المناهج في مناهجهم عن هدايات القرآن والسنة وهم يبحثون عن
سبيل النجاة تارة باسم سلف الأمة! وتارة باسم المصلحة والحكمة! وتارة باسم القرآن ومناهج
الأنبياء فيه!
وليس هناك سلف يجب اتباعه إلا النبي ﷺ وصحابته، ولا مناهج أنبياء يؤتسى بهم إلا ما جاء به النبي محمد ﷺ، ولو بُعث موسى لما وسعه إلا اتباعه، وإذا نزل عيسى بين يدي الساعة لم
يحكم إلا بشريعة محمد ﷺ، وقد قص الله قصص الأنبياء عبرة وعظة للنبي ﷺ فائتسى ﷺ بهم بمكة في صبره، وصفحه، وعفوه، وفي المدينة في جهاده، وحكمه، وعدله ﷺ، ونزل قوله تعالى: ﴿اليوم أكملت لكم دينكم﴾ فليس هناك منهج يتبع إلا منهجه
وشرعه وسنته ﷺ.
وقد بين النبي ﷺ الفتن بعده إلى يوم القيامة والمخرج من كل فتنة، ولم يدع لأحد بعده ليحدد
للأمة الطريق الذي به نجاتها شرعا وقدرا، فهذا ينافي عموم رسالته وكمالها، وإنما لما
غدت الجماعات في حالة انغلاق وانعزال عن الأمة وشعوبها؛ صارت تضع لأتباعها مناهج تتوافق
مع توجهات الجماعة في كل مرحلة، ولهذا ترى الأمة تخوض الصراع مع العدو الخارجي والداخلي،
والجماعات في عزلة عنها تربي أتباعها كما تزعم بعيدا عن أمتهم! وربما خاضت هذه الجماعات
الجهاد في ساحة وتخلت عنه في مثلها بحسب مصلحتها لا مصلحة الأمة!
وأزمة الأمة لا تخفى على أحد من عامتها فضلا عن خاصتها، وأنها اليوم غثاء
كغثاء السيل بعد سقوط خلافتها وانتزاع العدو منها سيادتها، والسبب تركها للجهاد، كما
قال ﷺ: (وليقذفن في قلوبكم الوهن ،حب الحياة وكراهية القتال).
ولا يتصور أن ملياري مسلم يهزمون من قلة وضعف، بل السبب ما ضربه الله
عليهم من الذل حين تركوا الجهاد في سبيله، والحكم بكتابه، ولعل فيما جرى في أفغانستان
ما يؤكد هذه الحقيقة، فقد تداعى عليها العالم كله فكان الجهاد وحده السبيل للنصر والظهور،
ولم يشغلوا أنفسهم بما أشغل العرب أنفسهم به من توليد المناهج والأفكار التي لم تزدهم
إلا ضعفا وهوانا وتشرذما!
وأزمة الأمة سياسية -وهي فقد الخلافة والسيادة- لها جذور فكرية وأخلاقية
وهو الإعراض عن دين الله وهداياته ودعوته، وأشد الناس إعراضا عنه هي الجماعات نفسها،
فقد تحولت مع الزمن إلى طوائف دينية لها أئمتها ومناهجها ولا تبحث عن مخرج لما هي فيه
إلا من خلالها! فما زادت مع طول العهد إلا بعدا عن الله وعن هداياته ونصره وانظر كيف
بدأت كبرى الجماعات بالدعوة إلى الخلافة وانتهت بالدعوة إلى الديمقراطية والدولة الوطنية
والمرجعية الدولية!
ولا يرى أتباعها ما هم فيه من انحراف وإعراض، والسبب ما يعرض للطوائف
الدينية عادة من حال انغلاق حتى يصبح لها عالم افتراضي خاص بها، لا تسمع ولا ترى إلا
من خلاله، كما قال علي رضي الله عن الخوارج: (قوم أصابتهم فتنة فعموا وصموا)!
ولهذا جعل النبي ﷺ عصمة هذه الأمة بمجموعها، لا بجماعاتها وأفرادها، والطائفة المنصورة فيها
هي كل من قام منها بالجهاد في سبيل الله، لا في سبيل الوطنية، أو الحزبية، فلا يجاهد
أتباعها إلا حين تقرر الجماعة المشاركة، فإن سالمت الجماعة سالموا وإن كان الجهاد فرض
عين على الأمة وشعوبها، كما جرى في أفغانستان والعراق وسوريا واعتزال كثير من أتباع
الجماعات الجهاد؛ لأن جماعاتهم لا ترى القتال! فانعزلوا عن أمتهم وشعوبهم وهي تواجه
الحملات الصليبية بسبب رؤى خاص بهم ومناهج ابتدعوها لأنفسهم، تتعارض مع قطعيات الكتاب
والسنة والإجماع!
وسبق أن حدث ذلك كثيرا في تاريخ الأمة كما حدث حين اجتاحها المغول، فاعتزلت
بعض الطوائف والطرق الصوفية لرؤى خاصة ومناهج ابتدعوها، بينما قام بالجهاد الأمراء
والزعماء ومن معهم من العلماء والأمة من وراء الجميع ولو لم يقوموا به لخرج من صفوفها
من يقودها ولم تنتظر أحدا يبتكر لها حلا، أو يضع منهجا، إلا الجهاد بعد إعداد العدة،
والأخذ بالأسباب، ثم يجري الله سننه عليها، ويمحصها، ثم ينصرها.