(نهضة أمة)
- الجزء الأول -
المقاومة والمسالمة
المقدمة:
اللهم إنا نسألك الثبات على الحق، والعزيمة على الرشد، والصواب في
الرأي، والعدل في القول..
اللهم آتِ أنفسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها مولاها..
فهذا كتاب فريد في بابه، جاءت فكرته قدرا، والكتابة فيه أثرا، بعد
أربعين عاما من القراءة الواسعة، والدراسة العميقة لواقع الأمة منذ سقوطها أمام
الحملات الصليبية المعاصرة، لمعرفة كيف تشكل هذا الواقع سياسيا وفكريا، ودور الغرب
وحملته الصليبية في تشكيله ورعايته ابتداءً من الدول والحكومات، وانتهاء بالأحزاب
والجماعات والهيئات، إذا لا يمكن تفسير هذا العجز الكامل لملياري مسلم –كما كشفته
حرب غزة وحصار العدو لها هذه الأيام بجلاء- عن التحرر من نفوذ الغرب بالتخلف أو
الضعف، إذ واقع الأمم عادة هو انعكاس لما يسود فيها من أفكار ورؤى سياسية، سواء
كانت أصيلة تعبر عن قيمها ودينها وهويتها، أو دخيلة تعبر عن رؤى العدو الذي يحتلها
ويتحكم في شئونها ليجعل من إيمانها بهذه الرؤى عونا له على إدامة حكمه لها،
وسيطرته عليها!
وقد تتابع على الأمة أحداث كبرى وعيتها وعشتها وتأثرت بها منذ معاهدة
كامب ديفيد ١٩٧٨م -حين خرجت وأنا شاب في المدرسة المتوسطة في أول مشاركة لي في
مظاهرة ضد التطبيع مع المحتل الصهيوني- حتى اليوم، لم يتغير من واقعها شيء! وقد
جعلت تلك القراءة والدراسة والمعايشة للأحداث ذهنيا ونفسيا الأمور تبدو لي أكثر
وضوحا حتى أصبحت أعرف عند كل حدث سياسي عام كيف ستتعامل معه الحكومات والجماعات،
حتى لا يكاد يخطئ حدسي فيما ستفعل، وكيف ستتصرف، إذ هي منظومة واحدة تشتغل بنظام
واحد يمتد من مؤسسات الدول، إلى مؤسسات النظام الدولي، حيث تحكم العالم حكومة
عالمية واحدة، وزن كل دولة فيه هو بحسب وزنها العسكري والسياسي والاقتصادي في
العالم، تسوده الدول الخمس في مجلس الأمن، وتقوده الولايات المتحدة!
وكنت قد ألقيت محاضرة في إبريل ٢٠١١ وهي منشورة في اليوتيوب تحدثت عما سيحدث
للربيع العربي في مصر، وكيف سيتم وأده في مهده، والدور الأمريكي الخليجي، والتفاهم
في مصر بين الجيش والحركة الإسلامية -كما فعلا سنة ١٩٥٢ برعاية أمريكا، والصراع
بين الطرفين لاحقا- وهو ما حدث فعلا في ٢٠١٣! لا لأني أعلم الغيب، وأحسن استشراف
المستقبل؛ بل لأن الواقع هو هو لم تتغير الرؤى التي تحكمه وتتحكم فيه، فتجري
الأحداث فيه على سنن واحد، لا فرق فيه بين الأمس واليوم والغد، وبالجينات السياسية
نفسها التي تتوارثها النخب والقوى على اختلاف توجهاتها الفكرية، لتعيد إنتاج
المنظومة الوظيفية نفسها!
لقد جاء هذا الكتاب بجزأيه، ليرصد تاريخ التحولات السياسية والفكرية من
مشروع الخلافة والجامعة الإسلامية، إلى مشروع الدولة القومية والوطنية الوظيفية
برعاية الحملة الصليبية، فهذا الكتاب يكمل كتاب (عودة الخلافة.. أحكامها ونظامها
وأيامها) بأجزائه الأربعة، ويبين بالأدلة التاريخية كيف حاول علماء الأمة وقادتها
النهوض بها، وتوحيد شملها، وتحرير أرضها، وتعزيز خلافتها، وكيف فرض المحتل الغربي
عليها منظومته الوظيفية؛ لينتظم الجميع طوعا وكرها، علما وجهلا، تحت سطوتها
وسلطانها حتى غدا أقصى أماني النخب السياسية والفكرية والدينية العربية أن تعيش
شعوبها في سجون دولها الوظيفية، تحت نفوذ الحملة الصليبية، بلا سيادة ولا حرية،
ولا دين ولا هوية!
لقد بادرت بريطانيا مبكرا حين احتلت الهند، وأسقطت آخر مملكة إسلامية
فيها، في توظيف الحالة الدينية لدى مسلمي الهند لتكريس وجودها وعدم مقاومتها،
لتبدأ فيها حركة المسالمة، التي تطورت شيئا فشيئا، وبرز دعاتها، وفتحت لهم المدارس
والجامعات، لتخريج جيل إسلامي جديد، يؤمن بالانفتاح على الحضارة الغربية،
والاستفادة منها، والتعاون معها، فتصدى لها دعاة المقاومة، ليبدأ الصراع بين
الحركتين في كل الساحات منذ تلك الحقبة حتى هذا اليوم!
وقد احتجت في رصد هاتين الحركتين إلى مراجعة كل ما كتب عن زعمائها
وقادتها، فوجدت ركاما ضخما من التاريخ لهم، تكاد تغيب فيه الحقيقة مع تجلي حضورها،
وتختفي مع شدة ظهورها، إذ كانت الفترة فترة صراع مع عدو تاريخي استباح بجيوشه
العالم الإسلامي بلا رحمة، حتى غدا العمل السري لمواجهته أمرا حتميا، وقد واجه
العدو هذا العمل بحرب إعلامية كبرى، لا تقل في خطورتها عن حروبه العسكرية، واستخدم
سياسة التشهير والتضليل للرأي العام العربي والإسلامي تجاه كل من قاومه، والإبراز
والتسويق لمن تعاون معه، فلم تمض مدة حتى طمست الحقائق شيئا فشيئا، وراجت
الأكاذيب، وخفت وهج حركة المقاومة وزعمائها، حتى طواهم النسيان، وسطع نجم قادة حركة
المسالمة برعاية محلية ودولية حتى غدو في كل بلد هم من يمثل الدول والشعوب والإسلام
وأحزابه وحركاته ومؤسساته الدينية الحكومية والشعبية حتى خاطبوا العالم من منبر
الأمم المتحدة نفسه!
ونحن نعلم من حال فضلاء هذا العصر وخيارهم، وحال من قبلهم، مدى
الإكراه الذي وقعوا جميعا تحته، وحاولوا الاحتيال للخروج مما هم فيه بكل وسيلة، في
ظل اجتياح الحملة الصليبية العالمَ الإسلامي كله، وفقد المسلمين لأول مرة في
تاريخهم للخلافة والقوة والسلطة، فإذا الخلفاء والأمراء والزعماء والعلماء
والشعراء والأدباء في السجون والمنافي في أقاصي الأرض على حد سواء، كالأمير عبد
القادر الجزائري، والقائد أحمد عرابي الحسني، والوزير الشاعر سامي البارودي،
والشيخ محمد عبده، وأمير الشعراء أحمد شوقي، ومن جاء بعدهم في كل قطر ومصر إسلامي،
حتى نُفي السلطان عبدالمجيد آخر خليفة عثماني، ونفي الشريف حسين إلى قبرص بعد أن
اعترض على سياسة بريطانيا التي انحاز إليها، وقاتل تحت لوائها!
ولا يكاد يوجد زعيم مسلم في هذا العصر ثار على المحتل الأوربي والحملة
الصليبية، أو اعترض على سياستها لم يقتل، أو يسجن، أو ينفى من الأرض، فمنهم من قضى
نحبه فيها، ومنهم من عاد، وقد أشفى على الموت، وأشرف على القبر، فاضطروا كما يضطر
كل مكره إلى مداراته، واعتزلوا الحياة السياسية حفاظا على شرفهم ودينهم، ومنهم من
شاركوا فيها تربصا بالعدو، واقتناصا للفرص السانحة للانقضاض عليه، يُعرف هذا من
حالهم، ويشهد لهم به مقالهم، وليس كذلك من انحاز إليهم، وقاتل معهم، ومكّن لهم!
وليس أيضا كل من اضطر للعمل مع العدو، ووظّفه في خدمته، على حال
واحدة، فمنهم من أهل الشرف والمروءة من كان أميرا أو وزيرا قبل أن تُحتل بلده،
فواجه واقعا جديدا يعجز عن دفعه أو تغييره، فجعل همّه خدمة شعبه ودينه، والدفع عن
أمته بحسب قدرته، والتخفيف من كربتها، وفك أسيرها، وإغاثة ملهوفها، يُعرف هذا من
تاريخهم، ومواقفهم وسيرتهم، وما شاع من ذكرٍ حسنٍ عنهم، ومنهم من جعل غايته عرشه
وشهوته، فاستباح مع العدو دماءها وأموالها، أو وصل أصلا للحكم والسلطة بإعانة
العدو المحتل إياه، ومساعدته له، وعلى ظهر دبابته، ليقوم بخدمته!
فإذا كان الأول مضطرا معذورا، وقد يكون مشكورا مأجورا بحسب حاله،
فالثاني بلا خلاف مجرم مرتد خائن لله ورسوله ودينه!
وليس كل ما كان يريده المصلحون من تغيير الواقع، أو خططوا له ونووه،
صرحوا به أو كتبوه، بل أسروا أكثره وكتموه، فقد كانت تلك الفترة -وما زالت- من أشد
الفترات في تاريخ الأمة قسوة وفتنة، حتى أخفى كثير منهم ما في نفسه، وطوى على ذلك
سره، مع ما قاموا به من خدمة الأمة ودينها حسب استطاعتهم، ولقد أدركنا من علماء
الأمة ومصلحيها من كانوا يبثون لنا في حال الاختلاء بهم من شجونهم وآرائهم الخاصة
في الواقع ما لا يصرحون فيه أمام الملأ، بل لا يعرفه حتى أخصّ خاصتهم، خشية حدوث
الضرر، أو إثارة الفتن!
كما ليس كل من تصدى لشأن الأمة العام وابتلي به من أهل التقوى والفتوى
أحاط علما بواقعها وخطط أعدائها، فلا يُحتج بكل آرائه، ولا يُتخذ قدوة فيها، ولا
يُغض من مكانته، ولا يُبخس حقه!
وقد عبّر عن هذه المحنة التي يعيشها المصلحون المفكر مالك بن نبي في
مقدمة كتابه (وجهة العالم الإسلامي) الذي ألفه سنة ١٩٥١م! واحتفظ به وأوصى ألا
ينشر إلا بعد وفاته، فلم ينشر إلا سنة ٢٠١٢م!
وكشف فيه، بعض ما كان يعانيه، وما زال أكثر مصلحي الأمة يداريه، حيث
يقول: (ولدت في بلد وفي عصر يدرك بوضوح نصف الذي يقال، لكن الذي يقول كلمة حول
النصف الثاني سوف يحاكم بكل قساوة. فأنا هنا أكتب لإخوتي القابلين للاستعمار
والمستعمرين في الجزائر، لكن إخوتي لم يفهموا أفكاري حين عرضتها بفاعلية، وهكذا
سببت لهم نوعًا من الشعور بالإهانة والرفض ضد مصطلح القابلية للاستعمار وحده.
بكل أسف الاستعماريون فهموني بالنصف الآخر من كلمتي، ونلت منهم ما
أستحق؛ فأنا في أعينهم لا أسب استعمارهم بل أقتله، وهو داخل البيضة، أخنقه في
جذوره التي تمتد في مساحة القابلية للاستعمار.
في بداية مهمتي منذ عشرين سنة لم يكن في حسابي بكل تأكيد أن تمنحني
الإدارة الاستعمارية المساعدة لأحاربها، لذا لم أضع في الحساب سوى هؤلاء الذين هم
إخوتي، أولئك الذين اتخذوا في محاربة الاستعمار مهنتهم أمام الجمهور. هؤلاء رفضوا
كل مساعدة لي، بل على العكس حاربوني بالأسلحة نفسها التي تحاربني بها الإدارة الاستعمارية،
وهذه ليست سوى إشارة لها دلالتها، ومع ذلك فالحكم على فكرتي وجهدي وعملي موقع
علنًا بمئة من مواطنيَّ، ومئة من العلماء، ومئة من منقذي البلاد.
فالاستعمار كثير الحذر من الأفكار، ويعرف مدى قوة الفكرة حينما يواجه
خططه بالقوة، لكن القلق لا يعتريه ما دامت القابلية للاستعمار هي نفسها تعمل في
ظروف مماثلة،
فمع ظهور كتاب (شروط النهضة) لم تقم الإدارة بمصادرة الكتاب، بل منعت كتابًا آخر
ظهر في الوقت نفسه وكان للناشر نفسه الذي نشر كتابي. لقد كان ذلك تفريقًا في
المعاملة بين الكتابين له دلالته؛ لأن جمعية الطلبة في الجزائر تولت هي المهمة حين
حكمت على كتابي وطنيًا عبر بيان منفصل نشر في الصحافة التقدمية، أما جمعية العلماء
في الجزائر فقامت من جهتها بالتقليل من قيمة الكتاب.
وهكذا أصبحت الإدارة تربح الجولة بغير تعب، ومن جهة أخرى فالكاتب خسر
المعركة بغير سلاح، ولكن...
هكذا في بضع كلمات حيث أنا في هذا العام ١٩٥١م، وبالرغم مما ألحقت
بعائلتي من مأساة، أراني أضع حلًا للمأساة العالمية التي سوف تظهر عقب الحرب
العالمية الثالثة القادمة إذ بين المأساتين علاقة أكيدة..
فالله يعلم كم لهذه الكلمات البسيطة من دلالة في الحقيقة. وأنا حينما أخط
هذه السطور أضرع إلى الله؛ أن يوفقني لقول الحقيقة كاملة دون تورية ولا تلميح.
وهنا فالشيء الذي أستطيع أن أؤكده ولا أخاف أن يكذبني أحد هنا أمام الناس وأمام
الله؛ أنني المسلم الوحيد في هذه اللحظة الذي يحاول أن يترك للجيل الذي سيأتي
مفتاح ما يخفي الغرب من استبطان طبع عالمنا هذا الذي من حولنا، وغير عابئ بما يثقل
كاهله من عائلة فيها عجوز وطفل.
وحينما أستعمل عبارة الاستبطانوية هذه لمسيرة الغرب؛ فلست أعني هنا المعتقد
الديني الغيبي الملازم للأشياء التي صنعت العالم الحالي، بل هو ذلك السر الخفي
نفسه الذي يظهر ظلًا لبعض الرؤى، إنما لا يشف عن حقيقته، ومن المؤسف أن غبش رؤية
ما سوف أشرحه في هذا القسم الثاني يتجلى خيالًا في حالات معينة أو يمنحها في حالات
أخرى تفسيرًا)
انتهى!
وقال أيضا وهو ينعي على النخب العربية ما هي فيه: (فنخبتنا إذن تعيش
في عالم لا تعرف منه غير المظاهر)!
وكيف لو رأى مالك بن نبي كيف تحولت النخبة الجاهلة في عصره إلى نخبة
وظيفية جاهلية أشد خطرا على الأمة من عدوها الخارجي!
ولم تشهد الأمة في تاريخها كله أزمة وخطرا وجوديا كمثل هذه الأزمة
التاريخية التي تعيشها منذ سقوط بلدانها تحت نفوذ الدول الأوربية الغربية وحملاتها
الصليبية التي توجت نصرها بالحرب العالمية الأولى وإسقاط الخلافة العثمانية،
وتقاسم أقاليمها، وإعادة إنتاج منظوماتها السياسية والفكرية والقانونية وفق
شروطها، لتكون أشبه بها وبحضارتها وقيمها من الماء بالماء!
وهو ما لم يحدث مثله في تاريخ الإسلام من قبل! إذ ظلت الأمة حتى في
أحلك الظروف تواجه كل الأخطار الخارجية بالإسلام وبالخلافة، حتى جاء الاستعمار
الغربي الذي احتلها واستغلها فما انفصل عنها إلا وقد صبغها بصبغته، وطبعها بطابعه،
وأعادها خلقا آخر، لا علاقة للإسلام به!
وقد تصدت الأمة وشعوبها ومصلحوها له في كل ساحات الصراع عسكريا
وسياسيا وفكريا، فكان كل نصر تحققه في صراعها معه يستلب من دينها وروحها وهويتها
أضعافه!
وقد تنازعها في ظل هذا الصراع التاريخي الذي امتد نحو قرنين تياران سياسيان
متضادان، ومدرستان فكريتان متباينتان، وحركتان إصلاحيتان لكل منهما رؤاه وفلسفته
في طبيعة الصراع وأسلوبه وغاياته، وما زالت كلا الحركتين تتنازعان الأمة وشعوبها
إلى هذا اليوم!
لقد كانت حركة المقاومة للمحتل الغربي أسبق وجودا، وأرسخ عودا، وأوسع
امتدادا، من حركة المسالمة، فقد كانت المقاومة تعبر عن الأمة ودينها وتاريخها الذي
لم يتوقف فيه الجهاد في سبيل الله فتحا أو دفعا، حتى دخل الاستعمار الغربي فما زال
يبايعها ويصارفها الدرهم بالدينار، حتى غدت مدرسة المسالمة اليوم هي الممثل الرسمي
للإسلام وللأمة!
لقد كانت الدعوة إلى المسالمة والعمل الإصلاحي السلمي والتعاون مع
السلطة التي تخضع للمحتل الأجنبي وعدم مقاومتها أو مقاومته إبان ضعف الخلافة وبعد إسقاطها
هي الدعوة التي عمت العالم الإسلامي بعد أن تبناها المصلحون تحت ضغط الواقع ظنا
منهم أنها الطريق الأمثل لاستعادة نهضة الأمة.
وقد فتح الاستعمار الباب لهذه الدعوة لتحقيق مصالحه وقطع الطريق على
من يقاومه، كما سالمته هي لتحقيق مصالح الأمة بحسب اجتهادها، وهي في النهاية حركة
دينية دعوية ليست مسئولة عن الانهيار السياسي الذي انتهى إليه العالم الإسلامي قبل
ظهورها، وإنما حاولت في ظل الانهيار بعث جيل جديد يؤمن بالإسلام ويستفيد من العلوم
التي وصل إليها الغرب من خلال الاتصال به ومسالمته وهو الرأي الذي اختطه السلطان
العثماني عبدالعزيز ووالده محمود الثاني بعد هزائمهم العسكرية في أوربا.
وهو الذي اختارته اليابان بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى، لا
عن خيانة لشعبها بل عن سياسة ترى أنها الأجدى لها ولشعبها بالدرجة الأولى أكثر من
مصلحة المحتل الأمريكي.
وكذا فعلت ألمانيا بعد هزيمتها في الحربين العالميتين الأولى والثانية
حتى نهضت.
فكان هذا الرأي خيرا في نظرهما (أي اليابان وألمانيا) من مقاومة عدمية
تفني شعبيهما؟
وهو ما حدث لتركيا في الحرب العالمية الأولى واستسلام السلطان محمد
السادس بعد الهزيمة.
والقصد أن ما أراده هؤلاء المصلحون هو نهضة الأمة بالعلم والاستفادة
من العلوم المادية التي أدت إلى تفوق عدوهم وهزيمة الأمة في كل بلد أمام المحتل
الغربي، وعجز كل حركات الجهاد عن دفع عدوانه، بحيث لم يبق إلا الخلافة العثمانية
التي ما لبثت أن انهارت هي أيضا.
وكان هؤلاء المصلحون يراهنون
على التعليم في تحقيق النهضة ثم التحرر، وهذا ما كتبه محمد عبده إلى الأستانة في
خطته التعليمية التي كتبها للسلطان عبدالحميد لتدارك الخلل.
وهذا الرأي الإصلاحي مهما قيل عنه لا يمكن أن يشنع على أصحابه الذين
لم يكن أمامهم أصلا خيار غيره! وهو ما جعل ابن باديس يستخرج إذنًا بتأسيس "جمعية
علماء الجزائر" من السلطة الفرنسية مع اشتراطها عليه عدم خوض الجمعية في
السياسة ووافق على هذا الشرط، فقد كان يرى بأن إحياء الإسلام في نفوس النشء هو رأس
المال الذي يجب المحافظة عليه، وهو كفيل بتحرير الجزائر ولو بعد حين، وهو ما حدث
فعلا بعد ذلك بالثورة الجزائرية التي تخرج أكثر قادتها ورجالها من محاضن الجمعية،
وكان رئيسها آنذاك العلامة البشير الإبراهيمي أول من أفتى بوجوب نصر الثورة
والمشاركة فيها.
لقد كانت تلك المرحلة مضطربة غاية الاضطراب فهي من أزمان الفتن والملاحم،
ووقعت الفتنة بين علماء الأمة نفسها بين عالم داع للنهوض بترك الجمود، وعالم رافض للتجديد،
حتى كفر بعضهم بعضا!
وانظر ما كتبه القاضي أحمد شاكر في رسالته (الكتاب والسنة يجب أن يكونا
مصدر التشريع في مصر) وكيف كان ينعى على العلماء ويحملهم مسئولية عجزهم عن مواكبة تطور
الحياة وحاجة الأمة ودولها إلى الاجتهاد والتجديد، وما كتبه مصطفى صبري عن هذه الدعوة
والتشنيع على دعاتها لشدة عصبيته للمذهب!
وكيف توارث تلاميذ كل مدرسة وكل شيخ رأي شيخهم في مخالفيه!
وقد كانت السلطة في كل بلد إسلامي تقف مع هذا الفريق أو ذاك بحسب مصالحها
حتى لا يكاد يسلم أحد من استدعاء السلطة وتحريضها على مخالفيه وتشويه سمعتهم بالأكاذيب
لصرف الأمة عنهم كما نراه اليوم رأي العين!
وانظر إلى تحامل محمد محمد حسين في كتبه -مع نفاستها في رصد ظاهرة الاستغراب-
على مخالفيه حتى رماهم بكل نقيصة! وحتى طعن في أنسابهم! بينما كان يدافع من طرفي خفي
عن قصور الحكم التي تواجه المذاهب الهدامة!
وكأنما الغاية من كُتبه -مع أهميتها- الدفاع عن الحكومات الوظيفية، والرد
على دعاة التغيير برميهم بالماسونية تارة وربطهم بالمذاهب الهدامة تارة أخرى!
وقد كان للاستخبارات البريطانية نفسها دور كبير في ترويج الاتهامات ضد
كل من يدعو إلى الثورة عليها كما فعلت حين سربت تقريرا مزورا عن علاقة جمال الدين بها
وتعاونه معها! فوصل التقرير للاستخبارات العثمانية التي أوصلته للسلطان عبدالحميد لإثارة
الشك بجمال الذي كان أبرز من دعا إلى الثورة على بريطانيا في كل بلد!
وهذه الفتنة بين علماء المسلمين آنذاك لم تقتصر على أهل العلم بل عمت
أهل السياسة، فكان السلطان عبدالحميد يتنازعه طرفان: جمال الدين الأفغاني من جهة، وأبو
الهدى الصيادي من جهة أخرى الذي كان خصومه يتهمونه بأنه جاسوس يكتب التقارير عن العلماء
المخالفين لمذهبه!
وكذا كان حال أهل مصر في تلك الفترة، فقد كان التداخل بين الوجود العسكري
البريطاني والوجود العثماني السياسي والقانوني والعلاقة بينهما أشد تعقيدا مما حدث
بعد سقوط الخلافة وتحول الوجود البريطاني إلى احتلال مباشر يجعل التعاون معه شبهة وخيانة
للأمة وانحيازا لعدوها!
وقد كانت مصر آنذاك تتبع الخلافة العثمانية سياسيا وقانونيا، وإن كانت
تحت الحماية البريطانية، وكانت إسطنبول قد قطعت شوطا في التحديث والاستفادة من الدول
الأوربية -خاصة ألمانيا- ومعاهدها ومناهجها وخبرائها في كل المجالات الذين استعان بهم
السلطان عبد الحميد لتطوير الدولة.
وكان المصريون يحذون حذوهم مع البريطانيين الذين كانوا يصرحون بأنهم أصدقاء
للخلافة وحلفاء للسلطان عبدالحميد، وهي علاقة امتدت أكثر من مئة عام بين بريطانيا كقوة
عالمية بحرية والخلافة العثمانية كقوة عالمية برية، والتعاون بينهما، وكانت بريطانيا
تدخل المناطق التابعة للخلافة لتأمين طرق التجارة البحرية مع اعترافها بتبعية هذه المناطق
للخلافة العثمانية سياسيا وقانونيا كما جرى في مصر والخليج العربي، فلم يكن الاتصال
بين المسئولين البريطانيين في مصر والزعماء السياسيين والعلماء المسلمين شبهة كما حدث
بعد ذلك حين غدرت بريطانيا بالخلافة العثمانية وانحازت لفرنسا وروسيا في الحرب العالمية
الأولى، بل ظلت بريطانيا تتعهد لمسلمي الهند ومصر بأنها لن تدخل في حرب ضد الخلافة
العثمانية، باعتبار أن وجودها في العالم الإسلامي لا يشكل تهديدا للخلافة ولا خطرا
عليها بل هي حليفة لها تتعاون معها لدفع خطر روسيا وفرنسا!
ولشدة تشابك العلاقة بين الخلافة العثمانية وبريطانيا في مصر استصدرت
لندن فرمانا عثمانيا بعصيان أحمد عرابي وخروجه عن طاعة الخديوي توفيق؛ لمواجهة ثورته
والقضاء عليها باعتبارها تهديدا لمصالح بريطانيا الاقتصادية والبحرية، بينما اعتبرتها
الخلافة خروجا على السلطة العثمانية المتمثلة في الخديوي في مصر مع تعاطفها مع عرابي
في بداية الثورة وتراجعها عن تأييده بعد فشل الثورة خشية من إعلان بريطانيا احتلال
مصر وإنهاء تبعيتها السياسية والقانونية للخلافة العثمانية!
والحكم على رجال هذه المرحلة -بل كل عصر- يحتاج إلى عدل وعلم وبصيرة بالعصر
وظروفه، وحياة المصلحين لا يمكن تقييمها بالحوادث الجزئية.
وليست المشكلة في الرأي السياسي المسالم –الذي يرى مسالمة العدو
المحتل إلى حين تحقق النهضة والتحرر منه وفق سنن التطور الاجتماعية كما يصرح رشيد
في مقاله عن رأي كرومر
بالشيخ محمد عبده- سواء اتخذه قائد سياسي أو مصلح ديني، بل المشكلة غياب الدولة
نفسها التي تستثمر هذا الإصلاح لتنهض بالأمة -ولو كانت تحت الاحتلال- فقد كان تفوق
المحتل نفسه في إعادة إنتاج الدولة وتوظيف السلطة وعلمائها في العالم الإسلامي
أكبر من قدرتها وقدرة الأمة على المحافظة على هويتها وخصوصيتها كما فعل الشعب
الياباني الذي كان قد قطع شوطا كبيرا في النهضة العلمية والصناعية في ظل سيادته
واستقلاله قبل هزيمته، فلم يفقد ثقته بنفسه وقدرته على النهضة بعد الهزيمة كما
فقدتها النخب السياسية في العالم الإسلامي التي كانت مبتوتة عن أمتها وفاقدة الثقة
بدينها ومبهورة بعدوها وهو ما نراه جليا اليوم في خطاب وممارسات أحزاب (الإسلام
السياسي) التي ذهبت بعيدا في التعاون مع النظام الدولي ودوله الوظيفية أكثر مما
كان عليه محمد عبده ورشيد رضا وحسن البنا حتى شاركته في احتلال بلدانها كما حدث في
العراق وأفغانستان باسم الديمقراطية مهما اعتذر عنهم بالواقعية السياسية!
والأجدى من دراسة مواقف هؤلاء المصلحين للحكم عليهم؛ دراسة هذه الرؤى
نفسها التي رأوها ودعوا إليها لتحقيق النهضة وتحرر الأمة، وأين انتهت، وفيما نجحت،
وفيما فشلت، والرؤى البديلة عنها التي كان يمكن أن تكون أولى منها لتستفيد الأمة
من تجربتها خلال قرن، لا يمكن تجاهل ما تحقق للعالم الإسلامي فيه من نهضة ويقظة في
كثير من دوله؛ كان لهؤلاء المصلحين دور كبير فيها إلا أنها نهضة لم تصل بالأمة إلى
الغاية المنشودة بعد؛ وهو استعادتها سيادتها ووحدتها وخلافتها وما هي منها ببعيد.
ورحم الله الذهبي إمام المؤرخين حين قال: (والإنصاف عزيز).
وكتبه أ.د. حاكم المطيري
يوم الجمعة ١٤رجب ١٤٤٥هـ
الموافق ٢٦ يناير ٢٠٢٤م
تنزيل الكتاب
نهضة أمة - الجزء الأول - المقاومة والمسالمة.pdf