السنن الاجتماعية الإلهية
في تغيير المجتمعات الإنسانية
بقلم د. حاكم المطيري
الأمين العام للحركة السلفية
موقع بوابة العرب بتاريخ 15-5-2003.
وصحيفة عالم اليوم صفحة المشكاة 12/8/2007
لله عز وجل سننه الاجتماعية في المجتمعات الإنسانية من حيث نشأتها وضعفها وقوتها التي لا تتخلف نتائجها عن مقدماتها ولا تنفك أسبابها عن مسبباتها كما قال سبحانه (سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا). ([1])
وقد جعل الله سبحانه الظلم سببا لخراب العمران وضعف الأمم وسقوط المجتمعات الإنسانية كما قال تعالى (وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون) ([2])
أي ـ كما قال المفسرون ــ ما كان الله ليهلك أهل القرى بسبب الظلم أي الشرك به ما داموا مصلحين بإقامة العدل والحقوق فيما بينهم والإصلاح في شئون حياتهم ولهذا لم يهلك الله سبحانه كل من أشرك به حتى يزيد على ذلك الفساد في الأرض بالظلم والطغيان كما أهلك فرعون وثمود وعاد بطغيانهم وعتوهم وقوم شعيب بتظالمهم في الميزان فيما بينهم وقوم لوط بفسادهم وانحلالهم... الخ.
وهذا معنى قول شيخ الإسلام ابن تيمية(إن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة ويخذل الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة).
وتاريخ الأمم والشعوب وحاضرها أصدق شاهد على صحة هذه السنة الاجتماعية واطرادها والقياس الصحيح قاض باعتبار هذه القاعدة واشتراطها فحيثما وجد العدل والإصلاح وجد الاستقرار والازدهار وحيثما وجد الظلم والفساد وجد التخلف والدمار.
ومن السنن الإلهية الاجتماعية أن جعل الله مناط ذلك كله بمن يملك القدرة على تحقيق الإصلاح وإقامة العدل أو ضدهما من الإفساد والظلم وهم الملأ و أهل الحل والعقد أي من بيده السلطة والدولة لا عامة الناس كما قال تعالى (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا)([3]) وفي قراءة (أمّرّنا) أي جعلناهم أمراء فيها فأفسدوا فيها([4]). ولم يظهر دين سماوي شرعي ولا مذهب أرضي وضعي إلا بقيام سلطة ودولة تتجلى فيها مبادئهما وتنفذ على أرضها شرائعهما ولا يتنكب عن ذلك أهل ملة و لا يتجنبه أهل نحلة فتقوم لمذهبهم دولة فما كان ذلك قط ولن يكون أبدا بل تظل الأديان والفلسفات نظريات ذات أثر فردي محدود قد يتحقق باعتناقها صلاح دنيوي أو أخروي لا يتجاوز نطاق الأفراد أبدا ولا يصل إلى دائرة المجتمع ومجالات حياته ليصوغها وفق قيمه وتشريعاته كما قال تعالى (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) ([5]).
ومن ينظر في تاريخ الأمم والشعوب يرى ذلك جليا واضحا فلم يصبح الإسلام واقعا يعيش المسلمون تحت عدل تشريعاته ورحمة أحكامه إلا بعد قيام دولته في المدينة وكذا استطاع الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب تحقيق مشروعه الإصلاحي بعد إقامة الدولة في الدرعية وهو ما لم يستطع تحقيقه المجدد شيخ الإسلام ابن تيمية الذي سبق إلى الدعوة إلى السلفية حتى استطاع الشيخ محمد إقامة دولة تؤمن بها وتذود عنها وتدعوا لها ولم يعرف الغرب النظم الديمقراطية وحقوق الإنسان التي طالما كانت حلما يراود المفكرين وفكرة تطوف بخيال المصلحين فلم تصبح واقعا تعيشه أوربا إلا بعد الثورة الفرنسية سنة1789م بعد أربعة قرون من التضحيات ذهب فيها آلاف من المفكرين ورجال الدين والأدباء والعلماء حتى تحقق حلمهم وقامت دولتهم وكذلك كان حال الاشتراكية قبل الثورة البلشفية سنة 1917م فقد ظلت نظرية منذ أن فلسفها ودعا لها ماركس في كتابه (رأس المال) وظن أنها ستقوم في ألمانيا حتى نجح لينين في تحويلها إلى مشروع ثورة ونظام دولة وقد استطاع الاشتراكيون والشيوعيون في كل دولة قاموا فيها من خلال الوصول إلى السلطة بتطبيق نظرياتهم لتصبح أكبر دول العالم وأعرقها في النظم الإقطاعية كروسيا والصين دولا ومجتمعات شيوعية اشتراكية.
وما كان مثل ذلك التحول الخطير والعميق ليحدث في تلك المجتمعات ولو دعا الاشتراكيون إلى هذه النظرية وبشروا بها ألف سنة لولا وصولهم إلى السلطة وقيادتهم للدولة وكذلك كان حال الثورة الأمريكية([6]) التي لم تر مبادؤها النور ولم تصبح واقعا يعيشه الشعب الأمريكي إلا بعد الثورة وقيام الدولة وهذا ما حصل لنظرية الفقيه الولي التي لم تصبح واقعا يعيشه الشيعة الجعفرية في إيران إلا بعد الثورة الشعبية الإيرانية سنة 1979 م لتقوم لهم أول دولة بعد قرون من انتظار المهدي وليبدأ الفقه الجعفري بتنظيم شؤون المجتمع وصياغة حياته وحل مشكلاته ونوازله التي لا عهد له بها وفق أحكامه وتصوراته وما كان ذلك ليتحقق لقادة تلك الثورة وأصحاب تلك النظرية الحديثة لولا إدراكهم للسنن الإلهية الاجتماعية في تغيير واقع المجتمعات وهذه قاعدة لا تتخلف أبدا ولا تحابي أحدا فلم يعرف تاريخ الأمم في ماضيها وحاضرها حركة اجتماعية سياسية استطاعت الوصول إلى تحقيق حلمها وإقامة مشروعها بغير هذا الطريق ومن هنا ندرك جانبا من جوانب المشكلة التي يعيشها المسلمون منذ سقوط الخلافة ودخول الاستعمار.
لقد ضل أكثر علمائهم ودعاة الإصلاح فيهم عن هذه السنن الإلهية الاجتماعية التي جاءت بها الهدايات القرآنية وأكدتها التجارب الإنسانية وظل أكثرهم بعيدا عن واقع الأمم المعاصرة ومعرفة أسباب نهضتها وقوتها وتطورها بينما يعيش العالم الإسلامي والعربي على وجه الخصوص تخلفا خطيرا حتى جاءت مجتمعاته ودوله في أدنى مستويات التنمية والحرية وحقوق الإنسان بل و في جميع مجالات الحياة كما جاء في آخر تقارير الأمم المتحدة عن التنمية في دول العالم العربي ومع ذلك لا يزال المصلحون يظنون أن بصلاح الأفراد يتحقق الإصلاح العام وأنه كما تكونون يولى عليكم وأن المستقبل لهذا الدين وما على الدعاة إلا الاستمرار بالدعوة إلى الله وتربية الأجيال ونشر العلم وإقامة المشاريع الخيرية وترقب النصر؟!
ولا شك في أهمية كل ذلك وأنه طريق إلى مرضاة الله وجنته إلا أنه لا يكون عادة و لن يكون أبدا طريقا إلى تحقق نصرته وإقامة دولته لمخالفة ذلك لسننه الاجتماعية وهدايته القرآنية في أسباب قيام الدول وأسباب سقوطها.
إن الحركة الإسلامية المعاصرة بجماعاتها وتجمعاتها وعلمائها ودعاتها تملك من الطاقات والإمكانات ما لم يتوفر للحركات الإنسانية الإصلاحية الأخرى كالثورة الفرنسية والثورة الأمريكية والثورة الروسية... الخ كما إنها بذلت من الجهد وقدمت من التضحيات منذ سبعين سنة إلى يومنا هذا ما لم تبذل مثله الحركات الأخرى ومع ذلك نجحت هذه في الوصول إلى تحقيق أهدافها وإقامة مشروعها بينما أخفقت الدعوة الإسلامية في الوصول إلى هدفها؟!
لقد تنكبت الحركة الإسلامية المعاصرة عن السنن الإلهية الاجتماعية المؤدية إلى الهدف ولم تكتف بذلك بل دعت إلى مفاهيم وعقائد تحمل في طياتها بذور فنائها كحركة إصلاحية من حيث تظن أنها بذور حياتها ونمائها وفشلت حتى في معرفة أسباب إخفاقها فلجأت إلى تبريره تارة بدعوى أن هذا من الابتلاء الذي لا بد منه لكل دعوة وأنه لا بد من الاستمرار في الدعوة إلى لله والصبر على الأذى وترقب النصر؟! وتارة بتعليق النصر على شروط يستحيل عادة تحققها كضرورة عودة الأمة كلها إلى دينها وأنه كما تكون الأمة يولى عليها وهو ما يصادم حقائق التاريخ وشهادة الواقع بل ويصادم سنة الله في ظهور الإسلام نفسه الذي بدأ غريبا وسيعود كما بدأ فلم ينتظر النبي صلى الله عليه وسلم من أجل إقامة دينه ودولته إيمان أهل مكة كلهم به ولا اتباع العرب قاطبة له بل سعى إلى تحقيق هدفه وهو في مكة فكان يعرض نفسه على من ينصره كما في قصته مع بني شيبان الذين أدركوا هدفه وعرفوا مقصده فقالوا له (إن هذا الذي تدعونا إليه مما تكرهه الملوك وإن كسرى قد أخذ علينا عهدا أن لا نؤوي محدثا فإن أردت أن نمنعك مما يلي العرب فعلنا) فقال لهم (ما أسأتم بالرد إذ أفصحتم بالصدق إن هذا الدين لا يصلح إلا من أحاطه من جميع جوانبه) فقد أدرك بنو شيبان أنه يريد إقامة دولة تذود عن هذا الدين وتقاتل دونه وتقيم أحكامه فلما جاء الأنصار بايعهم البيعة الأولى على الإيمان بالدين وبايعهم الثانية على إقامة الدولة بالسمع والطاعة له والذود عنه فقاتل بمن أمنوا معه وهم عصابة قليلون من كفروا وأبوا إقامة العدل والقسط الذي جاءهم به وهم عامة العرب أخذا منه صلى الله عليه وسلم بالسنن الإلهية الاجتماعية في أسباب ظهور الأديان وقيام الدول.
لقد غابت كل هذه الحقائق عن عامة رجال الدعوة المعاصرة وما زال أكثرهم يظن أنه بالإمكان العيش في مثل هذا الزمان مع صحة الإيمان واستقامة الأديان دون حاجة إلى دولة أو أن هذا الواقع الذي نعيشه لم يبلغ في انحرافه حد اعتقاد جاهليته وأنه بالإمكان إصلاح الخلل وتدارك العطل بالدعوة والدعاء والموعظة الحسنة دون إدراك لما آلت إليه أمور العالم الإسلامي والعربي على وجه الخصوص منذ دخول الاستعمار الغربي الذي ما زال المؤثر الرئيس في مجريات شؤونه إلى يومنا هذا؟!
إن من الأسباب التي تحول دون الوصول إلى تحقيق الهدف ما له ارتباط بعقائد ومفاهيم استقرت منذ القرن الثاني كالموقف من السلطة وما لها وما عليها كما قال سفيان الثوري (تركوا لكم دينكم فاتركوا لهم دنياهم)؟!
وهذه المفاهيم على فرض صحتها ومشروعيتها قد تكون مقبولة بعد قيام الدولة واستقرارها كما قي صدر الإسلام لا بعد سقوطها وحال غيابها كما في العصر الحديث بعد زوال الخلافة وسقوط الأمة تحت الاستعمار ونفوذه ومخططاته.
ومن الأسباب التي تعيق الدعوة عن تحقيق هدفها فهم الدين ذاته ومعرفة أبعاده في الحياة السياسية والاجتماعية فما زال أكثر علماء الدعوة ودعاتها يخلطون بين مفهوم الدين ومفهوم التدين فهم يدعون في الواقع إلى التدين لا إلى الدين بشموليته ولهذا صاروا يولون كل اهتمامهم بتربية الأجيال وتعليمهم أمور دينهم دون وجود هدف أبعد من ذلك يسعون إلى تحقيقه في الوقت الذي تقوم الدول التي تحكمهم بهدم كل ما بنوه من تربية في نفوس أولئك الشباب من خلال مناهج التربية والتعليم والإعلام!
كما صار أكثرهم يدعو إلى العودة إلى الدين وتنفيذ أحكامه وإقامة شرائعه دون اهتمام بحقوق الإنسان والمجتمع فلا يجد لدعوته صدى اجتماعيا كبيرا بعد أن أسقطوا الإنسان وحقوقه وحريته من خطابهم أو همشوا دوره إذ لم يعد الإنسان في خطابهم هو الهدف والغاية بل الهدف عندهم هو الدين ذاته بينما الهدايات القرآنية والتجارب الإنسانية تؤكد أن نجاح أي حركة اجتماعية إصلاحية مرتبط أشد الارتباط بمدى عنايتها بالإنسان نفسه واهتمامها به وهذا السبب ذاته الذي أدى إلى دخول الناس في دين الله أفواجا فقد كان النبي رحمة للعالمين كافة مسلمهم وكافرهم كما قال تعالى (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)([7]) فقد دعاهم وهو في مكة بعد توحيد الله إلى المساواة بين الأغنياء والفقراء والشرفاء والضعفاء والسادة والعبيد وأنهم جميعا في الإنسانية سواء كأسنان المشط لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى وهذا ما كان الإنسان في حاجته في مجتمع جاهلي قائم على الطبقية والعصبية وهذا ما أنف منه كبراء مكة حتى طلبوا منه صلى الله عليه وسلم أن يخصص لهم مجلسا خاصا بهم يحدثهم فيه! كما دعاهم إلى العدل والقسط وهو الغاية من إرسال الرسل وإنزال الكتب كما قال تعالى (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) ([8]) كما دعاهم إلى تحرير العبيد ومؤاخاتهم... الخ وكل أحكام الشريعة إنما جاءت من أجل هذا الإنسان وبما فيه صلاح دنياه وأخراه غير أن هذه المعاني التي أدت إلى سرعة ظهور الإسلام وسرعة قبول الأمم له لم تعد من أولويات الدعوة المعاصرة ولهذا غلب على خطابها الوعظ والإرشاد والتعليم والتثقيف مما لا يستثير اهتمام العامة ولا يخاطب نفوسهم البشرية التي تتوق إلى العيش الكريم في هذه الحياة الدنيا قبل الآخرة ولهذا كان النبي يعد أصحابه ويبشرهم بالنصر والظهور والحياة العزيزة وهو في مكة ولم تنجح الحركات الاجتماعية الإنسانية في الوصول إلى أهدافها إلا بعد أن جعلت الإنسان وتطلعاته محور اهتمامها فقد كانت حقوق الإنسان وحكم الشعب الأساس الذي قامت من أجله الثورة الفرنسية الديمقراطية وكان الاستقلال والحرية الهدف الذي من أجله قامت الثورة الأمريكية الليبرالية وكانت الاشتراكية والعدالة الاجتماعية شعار الثورة الروسية الشيوعية وكان رفع الظلم ونصرة المستضعفين وإنهاء عهد الاستبداد شعار الثورة الإيرانية ولهذا نجحت كل هذه الثورات الإنسانية في تحريك الشعوب والوصول إلى إقامة دولها وفق تصوراتها وأهدافها وتطلعاتها بل تجاوزت في أثرها حدودها الإقليمية إلى الدائرة العالمية حيث صارت نماذج تتطلع شعوب كثيرة إلى تحقيقها كما في الثورات الاشتراكية التي اكتسحت العالم بعد الثورة الروسية وحركات التحرر والاستقلال بعد الثورة الأمريكية والثورات الديمقراطية بعد الثورة الفرنسية... الخ بينما لم يحدث شيء من ذلك في العالم الإسلامي خصوصا السني الذين يمثلون أكثر الأمة مع كثرة جماعاتهم وحركاتهم ودعاتهم؟
إن الأسباب التي تعيق الدعوة الإسلامية المعاصرة عن الوصول إلى مرحلة التمكين كثيرة غير أنه يمكن حصرها في:
1) العقائد والمفاهيم التي تحول دون العمل من أجل تغيير الواقع كالخشية من المستقبل استدلالا بأحاديث (لا يأتي على الناس زمان إلا والذي بعده شر منه) ([9]) دون فهمها على الوجه الصحيح مما يدفع إلى المحافظة على الواقع بل وترسيخه والدفاع عنه خشية من المستقبل حتى صار الشعار هو ما يعبر عنه العامة وكثير من أهل العلم بقولهم (الله لا يغير علينا)!
2) ومن تلك المفاهيم ربط تحقيق الإصلاح بظهور المهدي وانتظار خلافة على منهاج النبوة استدلالا بأحاديث المهدي والفتن التي حددت سلفا ما الذي سيحصل مستقبلا وما علينا إلا الانتظار بينما استطاع الشيعة الجعفرية الذي يقوم مذهبهم أصلا على هذه النظرية أن يتجاوزوا هذه الإشكالية ـ بعد أن انتظروا المهدي ألف سنة وطال عليهم الأمد ـ وأن يقيموا دولتهم ومشروعهم الإصلاحي ليصبح يوم الشعب الإيراني خيرا من أمسه ومازال يتطلع إلى مستقبل خير من يومه بينما ابتلي أهل السنة بآثار هذه المفاهيم والعقائد التي تحمل في طياتها بذور فناء أي حضارة إنسانية تؤمن بها وتحول دون تقدم أي أمة ومجتمع يتقبلها.
3) ومن تلك العقائد التي تحول دون حدوث الإصلاح الموقف من السلطة وما لها وما عليها هذا الموقف الذي لم يعرفه الصحابة في صدر الإسلام كما تؤكده مواقف طلحة والزبير وعائشة وابن الزبير والحسين... الخ وقد أدى استقرار مثل هذه العقائد عند أهل السنة جميعا أهل الحديث ومتكلميهم من الأشعرية على حد سواء إلى شيوع ورسوخ ظاهرة الاستبداد السياسي في العالم الإسلامي قرنا طويلة من تاريخ الإسلام؟ بل لقد تم استصحاب هذه العقيدة حتى في ظل سيطرة الاستعمار الأجنبي و في عصر دويلات الطوائف التي صنعها العدو الصليبي على عينه لتصبح هذه العقيدة حجر عثرة وعقبة كؤود تحول دون تغيير الواقع وإصلاحه حيث تم توظيف الدين ذاته في خدمة الاستعمار من جهة والاستبداد من جهة أخرى!
4) العقلية السطحية الاختزالية التي ابتلي بها أكثر العلماء والدعاة كتصورهم إمكانية تحقق الإصلاح دون السعي إلى تغيير هذا الواقع وفق سنن المدافعة والمغالبة التي لا يحصل التمكين إلا بها ومن خلالها كما هي السنن الإلهية الاجتماعية في حصول التغيير ولهذا لم يمكن الله عز وجل لنبي ولا لغيره إلا وفق هذه السنن وهو معنى حديث القوم الذين استهموا على السفينة فأراد من بأسفلها خرقها ليشربوا فإن تركوهم هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا جميعا ولهذا أمر النبي بالأخذ على يد الظالم وأطره على الحق أطرا لما قد يجره ظلمه من هلاك الجميع.
5) وكتصور أن الصبر على الظلم خير من مقاومته استشهادا بحوادث تاريخية جزئية دون إدراك خطورة الظلم ذاته وأن ما يترتب عليه من نتائج أشد على المدى البعيد من الآثار السلبية التي تنتج عن مقاومته ومن ينظر في تاريخ الأمم يجد ذلك جليا واضحا وكل الأمم اليوم التي تنعم بالحرية والعدالة الاجتماعية وحماية حقوق الإنسان لم يتحقق لها ذلك إلا بعد الثورة على الظلم ومقاومته ورفضها له وعلى العكس من ذلك حال الشعوب التي لم تتصد له إذ ما تزال ترسف في أغلال العبودية للأنظمة الاستبدادية ولا يمكن للشعوب المستعبدة أن تحقق نهضة أو تحمل رسالة ولهذا أنزل الله هذا الدين على بني إسماعيل خاصة لكونهم لم يعرفوا الخضوع للملوك من قبل بل ظلت مكة أم القرى مدة ألف عام قبل الإسلام تدار شئونها دون وجود سلطة ولهذا أقام أهلها دار الندوة للشورى وإدارة شؤونها بصورة جماعية وكذا كان حال الطائف وحال المدينة والحجاز عامة فكانوا أقدر الأمم على حمل رسالة الإسلام للناس جميعا وهو ما عبر عنه ربعي بن عامر بقوله (إن الله أخرجنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة) وهذا ما يستفاد من قصة موسى مع فرعون وإصراره على تحرير بني إسرائيل من العبودية كما في قوله (وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل)([10]) فلا يمكن تحقيق نهضة إصلاحية قبل تحرير الشعوب من الظلم والاستبداد.
6) الخشية من تغيير الواقع بالمدافعة والمغالبة بدعوى الخشية من وقوع الفتن والاستدلال بفشل بعض الحركات الثورية على عدم صحة هذا الأسلوب في تغيير الواقع دون إدراك السنة الاجتماعية التي تؤكد أنه لم تنجح حركة تغييريه إصلاحية بغير هذا الطريق وليس كل حركة تغييريه نجحت به بل الثورة الفرنسية سبقها عدة ثورات كلها فشلت غير أنها أخيرا نجحت وكذا الثورة الأمريكية والثورة الروسية... الخ وقد نجح العباسيون بعد أن فشل العلويون في ثوراتهم ضد بني أمية. ومن الخطأ الاقتصار على التجارب الفاشلة والوقوف عندها والاستدلال بها ولو فعلت شعوب العالم ذلك ما استطاعت أن تصل إلى ما وصلت إليه من حرية سياسية وعدالة اجتماعية تفقدها شعوب العالم العربي والإسلامي اليوم بسبب هذه التصورات التي تفتقد للعلمية والموضوعية. لقد استطاعت شعوب كثيرة تحقيق الإصلاح عن طريق الضغط السياسي السلمي والمطالبة بحقها في المشاركة في الحكم لتدير شئونها بنفسها وهذا ما حصل في إنجلترا كما استطاع بعض الملوك المبادرة إلى الإصلاح السياسي وإشراك الشعب في الحكم كما حصل في اليابان غير أن ذلك كله إنما تحقق بعد المدافعة والمغالبة والمطالبة السلمية من تلك الشعوب فتحقق لها ما تريد قبل أن تضطر إلى الثورة الشعبية.
7) الفوضوية والفردية في العمل وهي ظاهرة تتميز بها الشعوب العربية على وجه الخصوص التي مازالت تعاني من العقلية والثقافة القبلية ومن ينظر في تاريخ الحركات التغييرية يجد أنها وبلا استثناء لم تقم بها إلا مجموعات وأحزاب منظمة تسعى إلى تحقيق أهداف واضحة وشيوع الروح الجماعية هي السبب في تطور المجتمعات الغربية في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمهنية عن طريق الأحزاب السياسية والشركات الصناعية والتجارية والجمعيات الخيرية والنقابات المهنية والتي يزيد عمر بعضها على قرن بينما لا تزال الروح الفردية تسيطر على الشعوب العربية وما زالت ظاهرة الذرية والفوضوية والتشرذم تحول دون تطورها! وفي الوقت الذي نجد القوى الدولية تتظافر من أجل تنفيذ مخططاتها في العالم العربي والإسلامي بشكل دولي جماعي منظم كالمنظمات الصهيونية العالمية والمنظمات التبشيرية والماسونية والشيوعية والاشتراكية التي لها منظماتها الدولية التي تربط بين جميع أحزابا على اختلاف بلدانها وشعوبها وقومياتها ولها اجتماعاتها الدورية للتباحث في شؤونها والتنسيق فيما بينها نجد الحركات الإسلامية على النقيض من ذلك تماما ومع أن اجتماعها ووحدتها من أصول دينها إلا أنها لا تزل تعمل بشكل فردي فوضوي قائم على ردود الأفعال دون أهداف واضحة وبرامج عمل مشتركة ودون منظمات عالمية تكون عمقا استراتيجيا لجميع فصائلها يجعلها قوة مؤثرة على الساحة السياسية في بلدانها ولو لم تصل إلى السلطة.
[4]- أنظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، ج10، ص204.
[6]- الثورة الأمريكية (1775 - 1783)، وهي الحرب التي نشبت بين المستعمرات البريطانية والحكومة البريطانية والتي بموجبها انتزعت المستعمرات حريتها من الحكومة.
[7]- الأنبياء، آية (107).
[9]- صحيح البخاري كتاب الفتن، حديث 7155.