تعريف الشريف
بحقيقة الدين الحنيف
بقلم د/ حاكم المطيري
الأمين العام لحزب الأمة
الأستاذ بكلية الشريعة
قسم التفسير والحديث
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على رسوله الأمين وآله وصحبه أجمعين وبعد:
فقد اطلعت على المقابلة المنشورة في صحيفة الرأي العام يوم الاثنين 20/3/2006 مع الدكتور الفاضل محمد عبد الغفار الشريف ـ عميد كلية الشريعة سابقا ـ كما اطلعت على مضمون ما قاله في البرنامج التلفزيوني (الحياة عبادة) والذي قرر فيه بأن الطواف بالقبور ليس بالضرورة شركا ولا عبادة وأنه كالطواف بالبيت الحرام بدعوى أنه كما أن الطواف بالبيت ليس عبادة للبيت كذلك الطواف بالقبر ليس عبادة للقبر!
والجواب على هذه الشبهة من وجوه:
الوجه الأول : أن الطواف بالبيت عبادة بإجماع الأمة على اختلاف طوائفها كما في المبسوط للسرخسي الحنفي 4/43(الطواف عبادة مقصودة) وفي حاشية ابن عابدين(الطواف عبادة مستقلة في ذاته كما هو ركن للحج) وكذا نص عليه في مواهب الجليل على مختصر خليل في مذهب مالك 3/107(الطواف عبادة بدنية) وفي المجموع للنووي الشافعي 8/15 (ومن شرط الطواف الطهارة لقوله صلى الله عليه وسلم الطواف بالبيت صلاة) وفي مغني المحتاج 1/494(الطواف عبادة يتقرب بها وحدها) وفي كشاف القناع في فقه الحنابلة 2/482(الطواف عبادة).
بل الطواف نوع من أنواع الصلوات بنص الشارع كما في قوله تعالى (وما كانت صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية)(الأنفال 35) فسمى القرآن طوافهم بالبيت الحرام صلاة وقد جاء عن ابن عباس تفسير هذه الآية (كانت قريش تطوف بالبيت تصفق وتصفر)كما جاء في السنن عنه صلى الله عليه وسلم قوله(الطواف بالبيت صلاة) ولهذا جعل الطواف بالبيت تحية لمن دخله بدل ركعتي دخول المسجد مما يؤكد كون الطواف بالبيت صلاة وعبادة مستقلة.
وإذا ثبت كون الطواف بالبيت عبادة وصلاة شرعا فقد أمر الله عز وجل عباده بتوحيده وإفراده وحده لا شريك له بها كما قال تعالى (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين)(الأنعام 163).
قال ابن كثير نقلا عن السلف في تفسيرها (أي أخلص له صلاتك وذبيحتك) ومثله قوله تعالى(فصل لربك وانحر) أي أفرده وحده لا شريك له بالصلوات والذبائح كما قال ابن جرير الطبري في تفسيره(أي اجعل صلاتك كلها لربك خالصا دون ما سواه من الأنداد والآلهة وكذلك نحرك اجعله له دون الأوثان).
فيدخل في عموم قوله (إن صلاتي ونسكي) وفي قوله (صل لربك وانحر) كل ما يصدق عليه أنه صلاة ونسك شرعا ومن ذلك الطواف الذي سماه الشارع صلاة وكذا الدعاء كما في الحديث(الدعاء هو العبادة)كما قال تعالى(فادعوه مخلصين له الدين) أي ادعوا الله وحده لا شريك له حال كونكم مخلصين له في دعائكم وتوجهكم وتوسلكم إذ الدعاء هو المقصود من كل مظاهر العبادة البدنية والمالية فالغاية عند كل عابد في صلواته وحجه وذبحه وصدقته أن يدعو الله فيقبل الله دعاءه وتضرعه وتوسله.
ومما يؤكد ضرورة إخلاص الدعاء لله وحده قوله تعالى في شأن المشركين(فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين)(العنكبوت 65) وقال أيضا(وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين)(لقمان 32) أي مخلصين له الدعاء وقت الشدة فسمى دعاءهم لله وحده في تلك الحال إخلاصا للدين وجعل الدعاء هو الدين لأنه أبرز مظاهر العبودية بل هو المقصود من كل الصلوات والقربات والعبادات والطاعات ولهذا قال تعالى(وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين).
وكما ثبت كون الطواف صلاة يجب الإخلاص فيه كذلك يدخل الطواف في عموم النسك وكل ما يصدق عليه أنه نسك شرعا يجب الإخلاص فيه لله وحده ومن ذلك الحج والعمرة والطواف وسوق الهدي للذبح فكل ذلك يجب الإخلاص فيه لله وحده لا شريك له وعدم صرف شيء من تلك العبادات لغيره ففي لسان العرب(النسك العبادة والطاعة وكل ما يتقرب إلى الله به والمنسك في كلام العرب الموضع المعتاد الذي تعتاده ومنه سميت المناسك في الحج ثم سميت أمور الحج كلها مناسك).
وعليه فالطواف بالبيت كما أنه صلاة بنص الشارع فهو كذلك نسك من مناسك الحج والعمرة بل ركن لا يتم الحج والعمرة إلا به كما قال تعالى(وليطوفوا بالبيت العتيق) فإذا كان الطواف صلاة ونسك فهو يدخل دخولا قطعيا في عموم قوله تعالى(قل إن صلاتي ونسكي) الذي أوجب الله على عباده توحيده وإفراده وحده في التقرب إليه بهما وإخلاصه وعدم الإشراك معه غيره فيهما.
الوجه الثاني: أن الطواف عبادة محضة كالصلوات تماما فالنية فيه إنما تشترط فقط لتحديد طواف الفرض من طواف النفل لا للتفريق فيه بين العبادة والعادة وهذا بخلاف الغسل فإن الإنسان قد يغتسل للتبرد والنظافة وقد يغتسل للطهارة والعبادة، فالنية هنا شرط لتمييز العبادة من العادة، أما الطواف فليس كذلك إذ لا يوجد طواف عادة حتى يختلط بطواف العبادة، بل هو صلاة بنص القرآن والسنة، فلا يقال بأن الطواف بالقبر كالطواف بالبيت الحرام وأن النية هي التي تحدد الطواف المشروع من الطواف الممنوع، فهذا خطأ ظاهر فادح فليس هناك طواف يعتاده المسلمون في مكان ما إلا الطواف بالبيت الحرام والسعي بين الصفا والمروة.
الوجه الثالث : أن العبادة هي الطاعة لله التي يقوم بها العبد تقربا إلى الله تعالى وطلبا للزلفى إليه ورجاء للثواب الأخروي أو لدفع الضر وجلب النفع الدنيوي من الله عز وجل، والأصل في العبادة التوقيف عن الشارع فلا يعبد سبحانه وتعالى إلا بما شرع كما شرع، فلا تختلط العبادة بالعادة حتى في الصورة إذ للعبادات من الرسوم والحدود والشروط والهيئة ما تمتاز به عن العادات، فمن الخطأ الخلط بين من يطوف بحلقة المسابقة في الرياضة ومن يطوف بالقبور تقربا إلى الله وظنا أنها عبادة مشروعة يثاب عليها في الآخرة، فليست النية وحدها هي التي تفرق بين العبادة والعادة بل كذلك الصورة الخارجية للفعل فإن كل من يرى صورة فعل من يطوف بحلقة السباق وصورة فعل من يطوف بالقبور يدرك إدراكا قطعيا أن الأول يمارس رياضة ولعبا وعادة، والثاني يمارس قربة وتزلفا وعبادة دون حاجة لمعرفة نية كل منهما، أما اشتراط النية في كل عبادة فهو شرط لقبولها عند الله فمن صلى أو حج أو صام لا يقصد وجه الله لا يقبل الله عمله وإن كانت عبادة محضة وكذلك لا يقبل الله عبادة من عبده بما لم يشرعه الله من العبادات وإن نواها لله عز وجل.
الوجه الرابع: أن قياس الطواف بالقبر على الطواف بالبيت الحرم ليس فقط قياسا مع الفارق بل هو عند الأصوليين قياس فاسد الاعتبار مصادم للنصوص والآثار في ثبوتها ودلالاتها للتالي:
أولا: أن الطواف بالبيت الحرام صلاة ونسك وواجب بل ركن في الحج والعمرة وعبادة من أفضل العبادات والقربات بنص الكتاب والسنة أما الطواف بالقبور فمن المحرمات بنص الكتاب والسنة ومن ذلك ما جاء في صحيح البخاري(1643) وصحيح مسلم(3081) أن الصحابة رضي الله عنهم تحرجوا من الطواف بين الصفا والمروة وقالوا (إنما الطواف بين هذين الحجرين من أمر الجاهلية وإنما أمرنا الله بالطواف بالبيت ولم نؤمر بالطواف بين الصفا والمروة)ففهموا من قوله تعالى (وليطوفوا بالبيت العتيق) الحصر والقصر حتى نزل قوله تعالى(إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما)(البقرة 158).
فقد فهموا من ظاهر القرآن أن الطواف لا يكون إلا بالبيت الحرام فقط لأنه عبادة وصلاة ونسك يجب فيه الإخلاص لله وحده، ولهذا تركوا كل ما كانوا عليه في الجاهلية من إهلال وطواف وحج لأوثانهم التي كانوا يهلون لها ويطوفون بها وقد كان للمشركين أصنام على الصفا والمروة في الجاهلية حتى ظهر الإسلام وهدم الأصنام وأمرهم الله بالطواف بالصفا والمروة والسعي بينهما لكونهما أيضا من شعائر الله ومناسكه التي شرعها لعباده ليتقربوا إليه بأدائها وحده لا شريك له.
فإذا كان الصحابة قد فهموا من ظاهر القرآن أنه لا يحل الطواف إلا بالبيت الحرام وحده حتى تحرجوا من الطواف بالصفا والمروة ظنا منهم حرمة ذلك حتى شرع الله لهم الطواف بهما فمن باب أولى عدم جواز الطواف بالقبور والأضرحة.
ثانيا: أن السنة قد تواترت تواترا معنويا في تحريم كل مظاهر العبادة عند القبور لقطع ذرائع الشرك والوثنية التي شاعت في الأمم السابقة وما زالت حتى صار لكل نبي وقديس عند أهل الكتاب والملل والنحل قبر يحجون إليه ويبنون عليه المعابد ويذبحون عنده وقد جاء في الصحيح (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه).
ومن أشهر مظاهر شركهم غلوهم في الأنبياء والقديسين فقد جاء في الصحيحين أن صلى الله عليه وسلم قال(لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا) وفي الصحيحين أيضا عن أم سلمة وأم حبيبة عندما رجعتا من الحبشة وأخبرتا النبي صلى الله عليه وسلم عن الصور التي في كنائسهم قال(إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا فصوروا فيه تلك الصور فأولئك شرار الخلق عند الله).
كما نهى صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في المقابر ففي الصحيحين قال(اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم ولا تتخذوها قبورا) وفي صحيح مسلم (لا تجعلوا بيوتكم مقابر) لكون القبور لا يصلى بها وليست مكانا للصلوات فلا تجعل البيوت كمثل القبور بل يجعل لها نصيب من الصلوات النافلة.
وجاء في سنن أبي داود عن أبي هريرة وفي مصنف عبد الرزاق والطبراني عن علي بن الحسين زين العابدين عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم (لا تتخذوا قبري عيدا ولا بيوتكم قبورا فإن تسليمكم علي يبلغني أينما كنتم).
والعيد إذا جعل اسما للمكان فالمراد به المكان الذي يقصد للاجتماع ويعوده الناس احتفالا به أو فيه أي لا تتخذونه عيدا تعتادونه للزيارة كما يزار البيت الحرام لقطع ذرائع الوثنية حيث غلت الأمم في أنبيائها حتى اتخذت قبورهم مكانا للعبادة وعيدا. وكذا جاء عن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب كما في مصنف عبد الرزاق عن النبي صلى الله عليه وسلم (لا تتخذوا بيتي عيدا ولا تتخذوا بيوتكم مقابر لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني).
كما ثبت في الصحيحين من حديث علي رضي الله عنه قال(بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمرني أن لا أدع قبرا مشرفا إلا ساويته) فهؤلاء أئمة آل البيت الطاهر يروون حظر البناء على القبور ووجوب تسويتها بالأرض وحظر اتخاذها مساجد وعيدا كما يفعل اليهود والنصارى.
كما جاء في موطأ مالك أنه صلى الله عليه وسلم دعا وهو على فراش الموت فقال(اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد) وفي رواية البزار (اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد لعن الله قوما اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) وهذا دليل على أن القبر قد يصبح وثنا بالطواف حوله كما قال الأعشى الشاعر
تطوف العفاة بأبوابه كطوف النصارى ببيت الوثن
والعفاة هم السائلون وأصحاب الحاجات والوثن هو ما كان من معبوداتهم غير مصور كالصليب والقبر والشجر والحجر بخلاف الأصنام التي على شكل صور.
وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال(لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها) وروى أهل السنن والمسانيد بإسناد حسن أنه صلى الله عليه وسلم (لعن المتخذين عليها المساجد والسرج).
ففي هذه الأحاديث قطع لكل ذرائع الشرك بالله فحظر الشارع البناء على القبور وحظر اتخاذها مساجد وحظر الصلاة إليها أو عليها أو إيقاد السرج عليها وكل ما من شأنه أن يجعل منها مكانا للعبادة والتقرب قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الاختيارات الفقهية 88 (يحرم الإسراج على القبور واتخاذ المساجد عليها وبينها ويتعين إزالتها ولا أعلم فيه خلافا بين العلماء).
وقد نقل الشافعي في كتابه الأم 1/316 أن الأمراء في مكة كانوا يهدمون ما يبنى على القبور من البناء قال الشافعي(ولم أر الفقهاء يعيبون عليهم ذلك الهدم) ولهذا نص في كفاية الأخيار 164 (فلو بنى على القبر قبة أو محوطا ونحوه فإن كان في مقبرة مسبلة هدم لأن البناء في هذه الحالة حرام قال النووي هذا بلا خلاف).
ثالثا: أن الشارع حرم ابتداء زيارة القبور كلها سدا لذرائع الشرك ثم نسخ هذا الحكم كما في الحديث الصحيح(كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكر الآخرة) وجاء في السنن (لعن الله زوارات القبور) وإنما أذن الشارع في زيارتها لغرض واحد وهو أنها تذكر بالآخرة وذلك لبيان أنها لا تزار لأي غرض آخر مما كان يفعله المشركون عند قبور من يعظمونهم من سؤالهم الحاجات وتفريج الكربات فكيف بالحج إليها والطواف بها والاستغاثة بأهلها والتقرب والعبادة عندها وتقديم النذور إليها مما يضاهي مضاهاة تامة ما كان عليه أهل الجاهلية المشركون!
والحاصل أن قياس الطواف بالقبور على الطواف بالبيت الحرام قياس فاسد الاعتبار لمخافته النصوص والآثار.
الوجه الخامس : أن قول الدكتور الفاضل بأن الطواف بالبيت الحرام ليس عبادة للبيت وبناء على ذلك فالطواف بالقبر ليس عبادة للقبر قول باطل وتخليط ظاهر، إذ أن البيت الحرام هو أول مسجد وبيت وضع في الأرض لعبادة الله وحده لا شريك له كما قال تعالى(إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا هدى للعالمين) وأول الناس هو آدم وذريته فالبيت الحرام كان منذ عهد آدم مكانا لعبادة الله تعالى، والطواف به صلاة من الصلوات كالسجود والركوع كما قال تعالى لنبيه إبراهيم(أن طهر بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود) فقد قدم ذكر الطائفين على ذكر من سواهم من الساجدين والعاكفين فكما أنهم يستقبلون البيت في الركوع والسجود عبادة لله وحده لا شريك له لا عبادة للقبلة والبيت ذاته، فكذلك يطوفون به عبادة لله لا للبيت ذاته وإنما البيت مكانا ومثابة للعبادة فهو ظرف مكاني للعبادة فقط يعبد الناس فيه الله وحده لا شريك له فالعبادة إنما هي لرب البيت الحرام وهو الله جل وعلا، وكذلك الطواف بالقبور ليس لذات القبور بل لأرباب القبور وأصحابها المقبورين فيها فلا أحد يحج إلى قبر من القبور ويتمسح به ويتوسل إليه ويطوف به ويذبح عنده من أجل حجارة القبر ذاتها، بل من أجل صاحب القبر ظنا منهم أنه يضر وينفع أو أنه يقرب إلى الله زلفى كما كانت فتنة المشركين في كل زمان (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) ولولا ذلك لما كانت هناك قبور مخصوصة هي المحجوج إليها والمقصودة وحدها دون غيرها من القبور بهذه المظاهر الشركية كقبر السيد البدوي والعباس والحسين والجيلاني فدل ذلك على أن المقصود هم الموتى الذين في القبور ولو فرض أن أحدا حج وشد الرحال إلى حجر من الأحجار وطاف به على سبيل العبادة والقربى تعظيما لهذا الحجر لكان مشركا بهذا الفعل ولصار الحجر وثنا من الأوثان وقد مر النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح على شجرة يتبرك بها المشركون ويضعون عليها أسلحتهم طلبا للبركة فقال الصحابة رضي الله عنهم للنبي صلى الله عليه وسلم اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال صلى الله عليه وسلم(لا إله إلا الله إنها السنن قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى اجعل لنا آلهة كما لهم آلهة) فقد جعل الشارع اتخاذ شجرة للتبرك بها كاتخاذها إلها من دون الله!
الوجه السادس: أنه على فرض أن الحج إلى القبور والطواف بها والتوسل عندها واتخاذها مساجد ومكانا للعبادة ومنسكا لتقريب القرابين والذبائح لها ليس شركا بأصحاب القبور فهذا لا يعني أنها ليست كفرا حتى لو فرض أنهم إنما يقومون بهذه الشعائر والمناسك عبادة لله وحده لا شريك له إذ فعلهم هذا يدخل في قوله تعالى(أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله) وفي قوله تعالى(وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطنا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون)(الأعراف 33) فجعل سبحانه وتعالى القول عليه بلا علم عنه وتشريع دين بلا إذن منه كالشرك به سبحانه وتعالى فمن ادعى أن مثل تلك المظاهر مشروعة في دين الله أو من القربات إليه فقد افترى على الله عز وجل (ومن أظلم ممن افترى على الله) وقد نقل أبو الوفاء ابن عقيل الإجماع على أن من ادعى أن الرقص قربة إلى الله تعالى كفر لأن القرب لا تعرف إلا بالشرع فالعبادات موقوفة على إذن الشارع وحده، فالحكم والتشريع والتحليل والتحريم إليه وحده لا شريك له وقد قال تعالى في شأن الأحبار والرهبان(اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) أي بالتحليل والتحريم والتشريع والطاعة فصاروا أربابا يشرعون للناس ما لم يأذن به الله فكيف إذا شرعوا ما يصادم حكم الله ويضاده كاتخاذ القبور مساجد وشد الرحال إليها والبناء عليها والطواف بها والذبح عندها مما ثبت تحريمه تحريما قطعيا في دين الإسلام؟!
ثم لو فرض أن أحدا جعل مسجدا من مساجد المسلمين مكانا للحج قياسا على البيت الحرام وأفتى بأن الحج إليه والاعتكاف فيه والطواف داخله والذبح عنده مشروع أو ليس محرما ما دامت العبادة خالصة لله أو قال بأن الوقوف على أي جبل من الجبال لذكر الله في الحج مشروع قياسا على الوقوف بعرفة لكانت هذه الأقوال والآراء في حد ذاته كفرا بواحا وتشريعا لم يأذن الله به ومحادة لحكم الله ورسوله فكيف إذا كان ذلك المكان قبرا لا مسجدا فالحكم فيه أشد؟
والمقصود أن الدكتور الفاضل تصور أن القضية قضية شرك فقط وبما أنه توصل إلى أن الطواف بالقبور ليس شركا فالأمر يدور بين الجواز والكراهة والتحريم فقط ولم يلتفت إلى مأخذ آخر وهو القول على الله بلا علم وتشريع ما لم يأذن به الله الذي هو كفر بالله ولهذا أجمع المسلمون على أن من استحل ما أجمعت الأمة على تحريمه فقد كفر وإن لم يقع منه شرك كمن يصلي لغير القبلة ويرى بأنه جائز له أن يصلى لله دون أن يستقبل القبلة فلا شك بأن مثل هذا القول كفر صريح وإن لم يكن شركا.
الوجه السابع: أن الطواف بالقبور والحج إليها ليس بدعة فقط إذ البدعة هي ما لا أصل له في الدين بل تلك الممارسات عند القبور محادة ظاهرة لله ورسوله ومضادة لحكمه وأمره فالأمر فيها أشد من البدع التي لا أصل لها ولا مضادة فيها فلو فرضنا أن الشارع لم يحرم اتخاذ القبور مساجد وأماكن للعبادة ولم يحظر شد الرحال والحج إليها ولم يأمر بتسويتها بالأرض ولم يحظر اتخاذ قبره عيدا لكان يصدق على من فعل شيئا من ذلك بأنه مبتدع يدخل في عموم الوعيد الوارد في الحديث الصحيح (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) وعموم حديث(وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار)أما وقد حرم الشارع تحريما قطعيا بالنصوص المتواترة تواترا معنويا معلوما من دين الإسلام بالضرورة القطعية اتخاذ القبور مساجد أي مكانا للعبادة وحرم شد الرحال إليها وحرم إيقاد السرج عليها وحرم البناء عليها وحرم الصلاة عندها أو إليها وأمر بتسويتها بالأرض حتى لا تكون مساجد وأمر بأن تكون المساجد له وحده كما قال تعالى(وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحد)فإن المخالف لأمره ونهيه هذا لا يكون مبتدعا فقط بل هو معارض لحكمه معارضة ظاهرة مستحل لما حرم الله فليس حاله كحال من فعل شيئا لا أصل له في الدين فبين الحالين فرق ظاهر لا يخفى.
الوجه الثامن: أن ما نسبه الدكتور الشريف إلى شيخ الإسلام ابن تيمية غير صحيح ويفتقد للنقل الدقيق لأقواله الصريحة في الموضوع بل نصوص ابن تيمية في بيان هذه القضية أكثر من أن تحصر ومن ذلك قوله في الفتاوى 26/249(الطواف لا يشرع إلا بالبيت العتيق باتفاق المسلمين ولهذا اتفقوا على تضليل من يطوف بغير ذلك مثل من يطوف بالصخرة أو بحجرة النبي أو بالمساجد المبنية بعرفة أو منى أو غير ذلك أو بقبر بعض المشايخ أو بعض أهل البيت كما يفعله كثير من جهال المسلمين فان الطواف بغير البيت العتيق لا يجوز باتفاق المسلمين بل من اعتقد ذلك دينا وقربة عرف أن ذلك ليس بدين باتفاق المسلمين وان ذلك معلوم بالضرورة من دين الإسلام فإن أصر على اتخاذه دينا قتل)انتهى كلامه.
وقال أيضا في مجموع الفتاوى ج2/ص308( فإن الطواف بالبيت العتيق مما أمر الله به ورسوله وأما الطواف بالأنبياء والصالحين فحرام بإجماع المسلمين ومن اعتقد ذلك دينا فهو كافر سواء طاف ببدنه أو بقبره).
فقد حكم شيخ الإسلام بردة من يعتقد مشروعية الطواف بغير البيت الحرام بل ونقل إجماع المسلمين على كفره بعد إقامة الحجة عليه وتعريفه بأنه ليس من دين الإسلام بل نص على أن من يطوف بغير البيت أشد ممن يصلي لغير القبلة أو يستقبل بيت المقدس لأن بيت المقدس كان قبلة للمسلمين في بداية الإسلام ثم نسخت وجعل الله القبلة البيت الحرام بخلاف الطواف فإنه لم يشرع لغير البيت الحرام مطلقا لا في شريعتنا ولا في شرائع الأنبياء قبلنا فقال في مجموع الفتاوى ج27/ص10(والعبادات المشروعة في المسجد الأقصى هي من جنس العبادات المشروعة في مسجد النبي وغيره من سائر المساجد إلا المسجد الحرام فإنه يشرع فيه زيادة على سائر المساجد بالطواف بالكعبة واستلام الركنين اليمانيين وتقبيل الحجر الأسود وأما مسجد النبي والمسجد الأقصى وسائر المساجد فليس فيها ما يطاف به ولا فيها ما يتمسح به ولا ما يقبل فلا يجوز لأحد أن يطوف بحجرة النبي ولا بغير ذلك من مقابر الأنبياء والصالحين ولا بصخرة بيت المقدس ولا بغير هؤلاء كالقبة التي فوق جبل عرفات وأمثالها بل ليس في الأرض مكان يطاف به كما يطاف بالكعبة ومن اعتقد أن الطواف بغيرها مشروع فهو شر ممن يعتقد جواز الصلاة إلى غير الكعبة فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر من مكة إلى المدينة صلى بالمسلمين ثمانية عشر شهرا إلى بيت المقدس فكانت قبلة المسلمين هذه المدة ثم إن الله حول القبلة إلى الكعبة وأنزل الله في ذلك القرآن كما ذكر في سورة البقرة وصلى النبي والمسلمون إلى الكعبة وصارت هي القبلة وهى قبلة إبراهيم وغيره من الأنبياء فمن اتخذ الصخرة اليوم قبلة يصلى إليها فهو كافر مرتد يستتاب فإن تاب وإلا قتل مع أنها كانت قبلة لكن نسخ ذلك فكيف بمن يتخذها مكانا يطاف به كما يطاف بالكعبة والطواف بغير الكعبة لم يشرعه الله بحال وكذلك من قصد أن يسوق إليها غنما أو بقرا ليذبحها هناك ويعتقد أن الأضحية فيها أفضل وأن يحلق فيها شعره في العيد أو أن يسافر إليها ليعرف بها عشية عرفة فهذه الأمور التي يشبه بها بيت المقدس في الوقوف والطواف والذبح والحلق من البدع والضلالات ومن فعل شيئا من ذلك معتقدا أن هذا قربة إلى الله فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل كما لو صلى إلى الصخرة معتقدا أن استقبالها في الصلاة قربة كاستقبال الكعبة)انتهى كلامه.
الوجه الثامن: أن القضية ليست خاصة بمذهب معين كما حاول الدكتور الشريف ترويجه بل ما من طائفة ولا مذهب فقهي إلا ومن علمائه من نص على حرمة مثل هذه الممارسات التي تقع عند القبور وعدوها شركا ووثنية وكفرا وبدعة محرمة وقد أفتى الإمام محمد عبده مفتي الديار المصرية بأن هذه الأعمال من الوثنية التي تصطدم بدين الإسلام فقد جاء في الأعمال الكاملة له 3/ 555 عن زيارة قبر السيدة زينب (إن هذا العمل من أعمال الوثنيين وإن الإسلام يأباه وكل آيات القرآن في التوحيد تنهى عن هذا وتذمه إن الفاتحة التي تقرأونها كل يوم في صلاتكم مرارا تنهاكم عن هذا العمل تخاطبون الله تعالى بقوله(إياك نعبد وإياك نستعين) كذبا فإنكم تستعينون بغيره وتعبدون غيره...)
الوجه العاشر:أن ما يفعله المسلمون اليوم عند القبور وإن كان شركا ظاهرا فإن ذلك لا يقتضي الحكم عليهم بالردة والكفر حتى يقوم الدكتور الفاضل بتخفيف الأمر إذ المسلم قد يقع في الشرك والكفر ولا يحكم عليه بالردة فقد يعذر بعدم العلم أو التأويل حتى تقام عليه الحجة الرسالية التي تقطع العذر إذ لا بد من توفر الشروط وارتفاع الموانع للحكم على المسلم بالردة والفرق بينه وبين المشرك أن المسلم يشهد بكلمة التوحيد وإن خالفها ببعض أفعاله فلا يحكم عليه بالكفر كما يحكم على مشركي العرب والأمم الأخرى الذين لم يشهدوا شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وهذا لا ينفي كون ما يقع عند القبور اليوم وثنية وشركا ظاهرا لا يحل للعلماء السكوت عنه محاباة للعامة أو مراعاة لهم فهذا ينافي أمانة العلم والنصيحة للأمة.
فالواجب على أهل العلم من كل الطوائف الإسلامية والمذاهب الفقهية تحذير العامة من الوقوع في الشرك بكل مظاهره وصوره التي شاعت في العالم الإسلامي والتي هي مظهر من مظاهر تخلفه وضعفه فتحذيرهم من الشرك والبدع والخرافات وتعليمهم أحكام دينهم من النصيحة لهم والعطف عليهم والرفق بهم والله الهادي إلى سواء السبيل.