بقلم :حاكم عبيسان المطيري
المقدمة
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين ... أما بعد،،،
فهذا بحث حديثي تفسيري تناولت فيه دراسة حديث أبى هريرة رضى الله عنه ( إن يأجوج ومأجوج يحفرون السد ) دراسة إسنادية ومتنية ، ولم آلو جهدا فى تحريره وتوضيح مشكله وكشف غامضه ، وبيان علله ، وإنما حداني إلى استفراغ الوسع في الاشتغال به ما نتج عن الحكم لهذا الحديث بالصحة من نتائج سيئة يمكن إيجازها بما يلى :
(1) اعتقاد كثير من المسلمين عقيدة باطلة مصادمة للأدلة النقلية والعقلية والحسية فى هذا الموضوع بناء على هذا الحديث .
(2) إبطال هذا الحديث للنبوءة التى أخبر بها النبى صلى الله عليه وسلم وثبتت بالأحاديث الصحيحة ( ويل للعرب من شر قد اقترب ) وقد وقعت هذه المعجزة الخبرية سنة (656هـ)على وفق ما أخبر به النبى صلى الله عليه وسلم ، وهى من دلائل النبوة مثل فتح القسطنطينيه ونحوها من الأخبار المستقبليه والتى اخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم فوقعت على وفق ما أخبر، وقد أفضى الحكم لهذا الحديث بالصحه إلى تفريغ حديث هذه النبوءة العظيمة من معناه ودلائله .
(3) طغيان مدلول هذا الحديث على أذهان كثير من علماء التفسير وشراح الحديث حتى صارت تفسيراتهم وشروحهم للآيات والأحاديث الواردة فى هذا الموضوع دائرة فى فلك هذا الحديث .
وهكذا صار هذا الحديث سبب شيوع عقائد إسطورية خرافية يُقدح بسببها فى الإسلام والسنة وتورث الشك والاضطراب فى قلوب أهل الإيمان أن يثبت فى دينهم ما تحيله الأدلة العقلية والآثار الحسية .
والله أسأل أن يوفق لبيان الحق ودفع الشبهة إنه ولى ذلك والقادر عليه والحمد الله رب العالمين .
حديث قتادة ، عن أبى رافع ، عن أبى هريرة ، مرفوعا : ( إن يأجوج ومأجوج يحفرون كل يوم ، حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس ، قال الذى عليهم : ارجعوا ! فسنحفره غدا ، فيعيده الله أشد ما كان ، حتى إذا بلغت مدتهم ، وأراد الله أن يبعثهم على الناس ، حفروا ، حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس ، قال الذى عليهم ارجعوا ! فستحفرونه غدا - إن شاء الله تعالــى - واستثنـوا ، فيعــودون إليـه وهـو كهيئته حيـن تركـوه فيحفـرونه ويخرجــون على الناس ) .
اولا :تخريج الحديث:
(1) الترمذي فى التفسير( 5 /293 ) حديث رقم ( 3153 ) عن محمد بن بشار ، عن هشام بن عبد الملك ، عن أبى عوانة ، عن قتادة به . وقال: ( حسن غريب وإنما نعرفه من هذا الوجه ) .
(2) ابــن مـاجه فــى الفتـن ( 2 / 1364 ) حديث رقم ( 4080 ) عـن أزهــر بـن مــروان ، عن عبد الأعلى ، عن سعيد ، عن قتاده ( ثنا ) أبو رافع به .
(3) أحمـد فى المسند (2 /510 ) عن روح بن عبادة ، عن سعيد ، عن قتادة ( ثنا ) أبو رافع به .
(4) الموصلى فى المسند ( 11 / 321 ) حديث رقم ( 6436 ) عن أحمد بن المقدام ، عن المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، عن قتادة ، أن أبا رافع ( حّدث ) عن أبى هريرة به .
(5) ابن جرير الطبرى فى تفسيره ( 8 / 283 ) حديث رقم (23331 ) عن بشر ، عن يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة به .
(6) ابن حبان فى صحيحه كما فى الإحسان ( 15 / 242 )حديث رقم ( 6829 ) عن أحمد بن يحي ، عـن أحمـد بـن المقـدام ، عــن المعتمـر ، عـن أبيـه ، عـن قتــادة ، عـن أبـى رافـع ( حّدثه ) به.
(7)الحاكم فى المستدرك ( 4 / 534 ) حديث رقم ( 8501 ) عن محمد بن صالح بن هانئ ، عن محمد بن يحي الذهلى ، عن أبى الوليد الطيالسى ، عن أبى عوانه ، عن قتادة ، عن أبى رافع به .
ثانيا : دراسة الحديث والحكم عليه:
الحديث رجال إسناده أئمة ثقات ، وقد حسنه الترمذى واستغر به ، وصححه ابن حبان ، والحاكم على شرط الشيخين ، ووافقه الذهبى ، ومن المعاصرين العّلامة المحقق محي السنة ناصر الدين الألبانى فى السلسلة الصحيحة ( 4 / 313 ) حديث رقم ( 1735 ) والحديث مع أن إسناده ظاهره الصحة ، غير أنه مسلسل بالعلل المانعة له من الحكم بذلك ، ومن هذه العلل :
(1) الانقطاع :
فالحديث بهذا اللفظ مداره على قتادة بن دعامة ، يرويه عن أبى رافع نفيع الصائغ ، وقد نص الآئمة على أن قتادة لم يسمع من أبى رافع شيئا ، بل لم يلقه .
وممن نص على ذلك :
(أ) شعبة بن الحجاج: فقد قال الإمام أحمد كما فى علل المّروذي ( ص /197 ) ( قال شعبة: لم يلق قتادة أبا رافع ، إنما كتب عن خلاس عنه ) .
ـ وكذا رواه عبد الله عن أبيه فى العلل (1 / 528 ) ، وعنه ابن أبى حاتم فى المراسيل ( ص /170 ) ، وقال ابن رجب فى شرح العلل ( 2 / 790 ) : ( وكان شعبة ينكر سماع قتادة من أبى رافع ) ، وفى جامع التحصيل للعلائي (ص /255) ( قال شعبة: لم يسمع قتادة من ابى رافع شيئا ) .
ــ وشعبة تلميذ قتادة ، واعلم الناس به فيما سمع وما لم يسمع ، وكان يوقفه على السماع .قال على بن المديني: ( أصحاب قتادة ثلاثة:، سعيد ، وهشام ، وشعبة ، فأما سعيد فأتقنهم ، وأما هشــام فأكثرهم ، وأما شعبة فأعلمهم بما سمع وما لم يسمع ) رواه المقدمى فى التاريخ ( ص/ 202 ) ، ورواه البسوي فى المعرفة والتاريخ ( 2 /141 ) عن محمد بن عبد الرحيم عنه واللفظ له وروى نحوه الحاكم فى معرفة علوم الحديث ( ص/ 104 ) ، ومن طريقه الخطيب فى تاريخ بغداد ( 9 / 265 ) .
ــ وقال البرديجي كما فى شرح ابن رجب لعلل الترمذي ( 2 / 696 ) : ( أصح الناس رواية عن قتادة شعبة ، كان يوقف قتادة على الحديث ) .
ــ وروى الطيالسي كما فى مقدمة الجرح والتعديل (1/128 ) عن شعبة قوله: ( كنت أعرف إذا جاء - يعنى إذا حّدث قتادة - ما سمع مما لم يسمع ) .
وشعبة أعلم أهل عصره بهذا الفنّ ، وهو الحكم فى معرفة متصل الأسانيد ومنقطعها ، وما سمع الرواه من شيوخهم وما لم يسمعوا. فهـذا الـدارقطنـي ينفـى كمـا فـى العـلل ( 8 / 249 ) سـماع الحسـن مـن أبى هريرة محتجا بقول شعبة ، فقيل: إن الحسن بن هارون يقول: سمع منه ، فقــــــال: ( شعبة أعلم ) . هذا مع أن الحسن من شيوخ شيوخه ، فما بالك بشيخه الذي اختص بمعرفة ما سمعه من الحديث وما دلسه .
(ب) الإمام أحمد بن حنبل : فقد روى البسوي فى المعرفة والتاريخ ( 2 / 141 ) عنه قوله فى قتادة: ( ولم يسمع من أبى رافع ) ، وكذا روى ابن أبى حاتم فى المراسيل ( ص /172 ) قـوله : ( لم يسمع قتــادة من أبـى رافع ) ، وروى عنه فى ( ص / 170 ) قوله: ( أدخل بينه وبين أبى رافع: خلاس ، والحسن ) ، وكذا هو فى العلل ومعرفة الرجال ، رواية عبد الله بن أحمد ( 1 / 528 ) ، وقال ابن رجب فى شــرح العلل ( 2 / 790 ) : ( وقـال أحمد : لم يسمع قتادة من أبى رافع ، نقله عنه الأثرم ) .
(ج) الامام يحي بن معين : فقد نقل العلائى فى جامع التحصيل (ص / 255 ) قوله : ( لم يسمع قتادة من أبى رافع ) .
(د) الامام أبو داود السجستانى : حيث روى له حديثـا واحدا فى الأدب ( 5 / 376 ) حديث رقم (5190 ) بهذا الإسناد ، ثم قال : ( قتادة لم يسمع من أبى رافع شيئا ) .
فهؤلاء أربعة من الأئمة فى هذا الفنّ - وهم الحكم فيه ، وإليهم المرجع - نصوا على عدم سماعه منه ، بل قال أعلم الناس فيه : شعبة : إنه لم يلقه أصلا ، وقد نقل أقوالهم العلائى وأقرَّهم على ذلك ، ولم يتعقبهم بشئ كما هى عادته ، وقال ابن رجب فى شـــــرح العلل (2 / 789 ) : ( ولم يسمع قتادة من أبى رافع شيئا ) ولم أجد من نص على سماعه منه .
اعتراض ونقضه :
فإن قيل : فقد روى البخاري فى صحيحه فى كتاب التوحيد ( 13/ 2745 ) حديث رقم (7115) قـــال : حدثني محمد بن أبى غالب ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا معتمر ، سمعت أبى يقول : حدثنا قتادة : أنّ أبا رافع ( حدثه ) : أنّه سمع أبا هريرة رضى الله عنه الحديث ( إن الله كتب كتابًا ) .
فالجواب من وجوه:
(1) أن شيخ شيخ البخاري فى هذا الحديث هو محمد بن إسماعيل بن أبى سَميْنَة ، لم يخرّج له البخارى شيئاً إلاّ فى هذا الموضع ، كما نص عليه الحافظ فى الفتح ( 13 / 644 ) ، وهو وإن كان ثقــــة إلاّ أنّه متكلّم فيه من قبل حفظه ، فقد قال عنه يحي بن معين كما فى سؤلات ابن الجنيــــــد ( ص/210 ) : ( ابن أبى سمينة البصري وشباب وعبيد الله بن معاذ ليسوا أصحاب حديث ليسوا بشئ ) ، وروى عنه أبو داود فى الصلاة باب ما يقطع الصلاة (1 / 453 ) حديث ( 704 ) حديثا منكرا ثم قال : ( فى نفسى من هذا الحديث شئ : كنت أذاكر به إبراهيم وغيره ، فلم أر أحداً جاء به عن هشام ولا يعرفه ، وأحسب الوهم من ابن أبى سمينة ) ، وقال أبو داود أيضاً : ( وأحسبه وهم ، لأنّه كان يحدثنا من حفظه ) .
(2) أنّ الموصلي روى هذا الحديث فى المسند ( 11 / 316 ) حديث رقم ( 6432 ) قال حدثنا محمد بن إسماعيل بن أبى سمينة ، حدثنا معتمر بن سليمان ، سمعت أبى يقول : حدثنا قتادة : أنّ أبا رافع (حّدث) : أنه سمع أبا هريرة ، فذكر حديث ( إن الله كتب كتاباً ) .
ــ فقد حفظه عنه الإمام الحافظ أحمد بن علي الموصلي بلفظ ( حدّث ) ، بينما رواه عنه البخاري بواسطة محمد بن أبى غالب بلفظ ( أن أبا رافع حدثه ) ، فإمّا أنه اضطرب فى روايته ، أو الوهم ممن دونه .
ــ ورواية الموصلي أشبه بالصواب لعلوها ولما سيأتى من بيان .
(3) وقد روى البخاري هذا الحديث عن خليفه بن خياط ، عن معتمر ، عن أبيه ، عن قتادة ، عن أبى رافع . بالعنعنه بين قتادة وأبى رافع ، ثم اتبعه بحديث ابن أبى سمينة .
ــ وكذا رواه أحمد فى المسند ( 2 / 381 ) عن علي بن بحر ، عن معتمر ، عن أبيه ، عن قتادة ، عن أبى رافع معنعنا .
وعليه فلا يفرح بتصريحه بالسماع فى هذا الحديث عند البخاري بين قتادة وأبى رافع ،إذ ثبت أنّه كان يحّدث من حفظه كما قال أبو داود عنه ، وليس هو بالحافظ ، كما قال يحي بن معين بل قال عنه : ( ليس بشئ ) ، وقد اضطرب فى روايته هذه فتارة يقول : ( حَّدثه )، وتارة يقول ( حدَّث ): وهو الصواب كما سيأتى تفصيله ، وقد خالفه أصحاب معتمر فرووه بالعنعنة بين قتادة وأبى رافع .
ــ وقد قـال يحـي بن معيـن كمـا فـى رواية ابـن محرز عنه فى معرفة الرجال (1 / 53) : (ليـس الحـافظ عندنـا إلاّ مـن كـان فـى كتـابه : ( حدثنـا ) ، فيقول : ( حدثنا ) فإذا لم يكن فى كتابه : ( حدثنا ) وقال : ( حدثنا ) فليس بشي ) .
ــ وقال ابن رجب فى شرح العلل ( 2 / 593 ) : ( وكان أحمد يستنكر دخول التحديث فى كثير من الأسانيد ، ويقول : هو خطأ يعنى : ذكر السماع )
(4) ثم إنّ سـليمان التيمي والـد المعتمر مع إمامته وجلالة قدره مُتكلَّم فــى روايته عن قتــادة ، فقد نقل ابـن رجب فـى شـرح العلل ( 2 / 788 ) قول أبــى بكرالأثرم فيه : (كان لا يقوم بحديث قتادة ، لم يكن من الحفاظ من أصحاب قتادة ) ، وذكر من أوهامه أنه روى عن قتادة أنّ أبا رافع حدثه ، وقتادة لم يسمع من أبى رافع شيئا ، وقد عرض الأثرم هذا القول على الإمام أحمد فأقرَّه عليه ، وهذا دليل على أنّ الإمام أحمد قد اطلع على ما وقع فى رواية التيمي من تصريح بالسماع بين قتادة وأبى رافع ولم يقنع به ، فلا يقال : إنّ البخاري اطلَّع وعلم ما لم يعلمه غيره .
- فإن قيل : وكيف يخرَّج البخاري هذا الإسناد مع انقطاعه ؟
فالجواب ما ذكره الحافظ ابن حجر فى الهدي ( ص/ 502 ) فى ردَّه على من انتقد إخراج البخــاري بعض الأســانيد المنقطعه ، حيـث قــال فيمــا كـان الانقطـاع فيـه ظــاهراً :(فمحصل الجواب عن صاحب الصحيح : أنه إنما أخرج مثل ذلك فى باب ماله متابع وعاضد ، أو ما حفته قرينة فى الجملة تقويه ، ويكون التصحيح وقع من حيث المجموع ) .
وهو كذلك فى هذا الحديث :
ـ فقد روى البخاري حديث أبى هريرة : ( إنّ الله كتب كتاباً ) ـ فى بدء الخلـــــــــــــــق ( 3 / 1166 ) حديث رقم ( 3022 ) من طريق أبى الزناد عن الأعرج عنه .
ـ وفى التوحيد ( 6 / 2694 ) حديث رقم ( 6969 ) من طريق الأعمش عن أبى صالح عنه
. ورواه مسلم فى التوبه ، باب فى سعة رحمة الله تعالى ،( 4 / 2107 )حديث رقم (2751 ) من طريق الأعرج وعطاء بن ميناء عن أبى هريرة به 0
فالحديـث ثـابت بلاشـك عـن أبـى هريــرة ، فأخرج البخاري رواية قتادة عن أبى رافع لجلالة وفخامة هذا الإسناد ــ مع ما فيه من انقطاع يسير ــ لوجود المتابعات والعواضد . ولم يعتمـد فـى ذلك علـى مـا وقـع مـن تصريح بالسماع فى رواية ابن أبى سمينة والدليل على ذلك :
(1) أنّه قدَّم رواية خليفة بن خياط المعنعنة على رواية ابن أبى سمينة المصرح فيها بالسماع . واتبعها بهذه استئناسا لا احتجاجا .
(2) أنّه تحايد عن هذا الإسناد مع جلالته ونبل رجاله فلم يخرج إلاّ هذا الحديث ، وآخر معلقا فى الاستئذان باب إذا دعى الرجل ( 5/ 2305) : ( قال سعيد، عن قتادة ، عن أبى رافع ، عن أبى هريرة ) .
وقــال الحــافظ المنـذري فــى مختصـر السـنن (8 /64 ) معللا تعليـق البخــاري له : ( ذكره تعليقا لأجل الانقطاع فى إسناده ) .
ولو ثبت عند البخاري صحة سماع قتادة من أبى رافع لخرَّج حديثه عنه ، فقد أخرج لقتادة ، وكذلك أخرج لأبى رافع ، فكلاهما من رجاله ، إلاّ أنه تحايد عنه كما تحايد مسلم والنسائى فلم يخرّجا بهذا الإسناد شيئا مع جلالته ، هذا مع عناية مسلم بجمع طرق الحديث الواحد حتى ينزل إلى روايات الضعفاء فى المتابعات ، وكذا لم يُخرِّج أبو داود بهذا الإسناد إلاّ حديثا واحداً، ونص على انقطاعه ، وخرَّج ابن ماجه بهذا الإسناد حديثا واحداً وهو الحديث الذى معنا ، وخرَّج الترمذي حديثين أحدهما هذا الحديث ، والثاني قال عنه : ( حسن صحيح ) وكـأنه لمتـابعاته وشـواهده .
فليس فيى الكتب السته سوى أربعة أحاديث بهذا الإسناد ، ثم على فرض أن البخاري والترمذي يصححان سماع قتادة من أبى رافع ، فليس قولهما بأولـى من قول شعبة وأحمد ويحي وأبى داود ، خاصة أنّ هؤلاء نصوا على عدم السماع ، بل قال شعبة ،: إنّه لم يلقه ، فتقليدهم - إن صح أنه تقليد - أولى من تقليد غيرهم .
قال الحافظ فى النكت ( 2/726 ) في نحو هذا ( وبهذا التقرير يتبين : عظم موقع كـلام الأئمة المتقدمين ، وشـدة فحصهم ، وقوة بحثهم ، وصحة نظـرهم ، وتقدمهم ، بما يوجب المصير إلى تقليدهم فى ذلك ، والتسليم لهم فيه ، وكل من حكـم بصحة الحـديث مـع ذلك ، إنما مشى فيه علـى ظاهر الإسـناد ، كالترمذي وكأبى حـاتم ابن حبان فإنه أخرجه فى صحيحه ، وهو معروف بالتساهل فى باب النقد ) .
(2) التدليس :
فعلى فرض أنّ قتادة سمع من أبى رافع فى الجملة ، فإنّه معروف بالتدليس ،فقد قـال عنه العلائـى فى جــامع التحصيل (ص/ 254) احد المشهورين بالتدليس ) فلا بد أن يصرح بالسماع من أبى رافع فى هذا الحديث ، وقد رواه عن قتادة :
( أ ) أبو عوانه ، عند الترمذي والحاكم معنعناً .
(ب) شيبان النحوي ، عند أحمد معنعناً .
(ج) حماد بن سلمه ، عند عبد بن حميد معنعنا ، كما يظهر من كلام الحافظ فى الفتح (13/135) . ورواه العقيلي في الضعفاء (2/ 285) باسناد صحيح عن حماد عن قتادة عن ابي رافع معنعا موقوفا .
(د) سعيد بن أبى عروبة ، ورواه عن سعيد :
(1) يزيد بن زريع ، عند ابن جرير الطبرى معنعناً .
(2) عبد الأعلى بن عبد الأعلى عند ابن ماجه وفيه : ( ثنا أبو رافع ) وهو تصحيـف ، فقـد ذكـر ابـن كثيـر فـى تفسيـره (3 /110 ) اسناد ابن ماجه وفيه : ( عن قتادة قال : حدَّث أبو رافع ) ، وذكره أيضا فى البداية ( 2/103) فقال : ( رواه ابــن ماجه من حديث سعيد عن قتادة إلاّ أنّه قال : حدَّث (1) أبو رافع ) ، وكذا نبّه الحافظ ابن حجر فى الفتح (13 /135) فى كتاب الفتن باب يأجوج ومأجوج فقال : ( وأخـرجه ابن ماجه مـن طريق سعيد بن أبـى عروبة عن قتادة قال : ( حدَّث أبو رافع )) وأشار إلى هذه الصيغة المزي فى تحفة الأشراف (10 /392 ) بعد رواية ابن ماجة . ثم وقفت على نسخة مصورة لسنن ابن ماجة في مركز البحث العلمي في جامعة ام القرى تحت رقم ( 625) عن الاصل المحفوظ بمكتبة جارالله بتركيا تحت رقم ( 290) وهى بخط الشيخ المحدث أحمد بن عبدالخالق القرشي الشافعي وتاريخ نسخها سنة ( 610) وفيها (حدث أبو رافع) وكذا وجدته في سنن ابن ماجة تحقيق الأعظمي فثبت يذلك أن ما في طبعة عبدالباقي وكذا ما وقع في سنن ابن ماجة بشرح السندي هو تصحيف وتحريف فليصحح .
(3) روح بن عبادة ، عند أحمد فى المسند ، وفيه تصريح قتادة بالسماع . ولاشك أنّ رواية سعيد بن ابى عرواية هى كما رواها حفاظ أصحابه بلفظ (عن) أو ( حدَّث ) ، وأما رواية روح عنه بلفظ ( ثنا ) فوهم أو تصحيف للأتي :
1- أن يزيد بـن زريع وعبد الأعلـى ممن سمع من سعيد قبل الاختـلاط بلا خـلاف ، كمـا فـى الكـواكـب النيــرات ( ص/ 195ــ 197)، وروح بن عباده مختلف فى سماعه منه ، فقد قال الطحاوي في مشكل الآثار : ( وسماع روح من سعيد انما كان بعد اختلاطه) ونص الحافظ ابن حجر فى هدي الساري ( ص /570 )على أنّه سمع منه بعد الاختلاط . واما قوله عن نفسه أنه سمع من سعيد قبل الهزيمة كما في سؤالات الآجري (ص/ 244) وقد اعقبه ابو داود بقوله ( كذا قال روح !) فكأنه لم يقنع بهذا من روح لاحتمال انه وهم في تحديد سماعه من سعيد ومثله قوله عن نفسه كما في تهذيب التهذيب ( 2/ 295) : ( سمعت من سعيد قبل الاختلاط ثم غبت ، وقدمت ، فقيل لي : انه اختلط ) .
فالجواب عنه :
اولا : انه بنى قوله هذا على ظنه ان سعيدا انما اختلط بعد الهزيمة وفي هذا اختلاف بل ذهب يزيد بن زريع وهو من اثبت الناس في سعيد الى انه اختلط في الطاعون سنة ( 133) هـ اي قبل الهزيمة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) وقع فى المطبوع ( حديث ) والصحيح ( حدَّث )
بعشر سنين او اكثر . وجمع الحافظ ابن حجر في التهذيب (4/ 66) بين القولين تبعا لأبي بكر البزار ان الاختلاط ابتدأ سنة (133) هـ ثم استمر ولم يستحكم الا سنة الهزيمة .
ثانيا : وقد كان روح من صغار اصحاب سعيد فلم يشعر بتغير سعيد وانما ادركه يزيد بن زريع وشعر به لمعرفته بحال سعيد وضبطه في اول امره وآخره وهو المقدم في اصحاب سعيد ولم يشعر روح في قدومه الثاني باختلاطه حتى اخبر بذلك ، وانما كان السبب في ذلك صغر سنه وانما يعرف تغير الشيخ من سمع منه في اول امره وآخره من كبار اصحابه .
2- أنه لاخلاف فى أنّ روحاً من صغار أصحاب سعيد بن أبى عروبة ، وأنّ سماعه منه كان بأخرة ، سواء كان قبل أو بعد الاختلاط .
- وقد قال ابن حبان فى ثقاته ( 6/360) : ( وأحب إلي أن لايحتج به إلاّ بما روى عنه القدماء قبل اختلاطه ، مثل : ابن المبارك ، ويزيد بن زريع ، وذويهما ، ويعتبر برواية المتأخرين عنه دون الاحتجاج ) .
- وقد اختلط سعيد سنة ( 133)هـ أو ( 145 ) هـ ، وتوفى سنة (156 ) هـ أو (157) هـ بينما توفى روح بن عباده سنة (205) هـ او (207) هـ ، فبين اختلاط سعيد ووفاة روح أكثر من ستين سنة على القول الثاني في الاختلاط او سبعين سنه على الأول .
- وإذا كان وكيع بن الجرَّاح وهو من كبار التاسعة وتوفى سنة ( 196 ) هـ وله سبعون سنة - كما فى التقريب ( ص /581 ) -ومع هذا فقد نص الأئمة على أن سماعه من سعيد بأخرة ، ومثله المعافى بن عمران - كما فى الكواكب النيرات ( ص/ 193) وشرح علل الترمذي ( ص /747 ) ــ فمن باب أولى روح بن عبادة .
- وقـد قـال الإمـام أحمـد عـن سمـاع بعض أصحاب سعيد بأنّه ( جيّـد ) ، وأنّ السهمـى فـوقهم ، ثــم سـئل عـن روح فقال : ( حديثه عنه صالح ) - كما فى شرح علل الترمذي ( (2/744) ثم سئل عن الخفاف فقال ( ما اقربه منه ، الا انه كان عالما بسعيد) ولايخفى ما فى هذه العبارة من غض لدرجة روح عن أولئك . مع ان هناك طبقة هي ارفع واجل شانا من هذه الطبقة التى فضلها على روح وهم كبار اصحاب سعيد مثل يزيد بن زريع وابن المبارك ولا شك ان في تقريب حال روح في سعيد من حال الخفاف ــ والذي قالوا عنه ان سماعه من سعيد بأخرة بل وتفضيل الخفاف عليه في سعيد بكونه عالما به راوية لكتبه ــ حطا من درجة روح في روايته عن سعيد .
3- ثم إن روح بن عبادة مع كونه ثقة ، متُكلّم فيه ، حتى قال فيه النسائى كما فى تاريخ بغداد ( 8/402 ) : ( أبو محمد روح بن عبادة القيسي ليس بالقوي ) ، وكذا نقل عنه الذهبي فى السـير ( 9/406 ) ، ونقـل أيضــا قول أبـى حـاتم الـرازي فيه : ( روح لايحتج به ) والصحيح أنّه ثقة غير أنّه ربما وهم .
4- أن الإمام أحمد روى هذه الرواية عن روح ، ومع ذلك لم يعتد بها ، بل نصّ على عدم سماع قتادة من أبى رافع ، فإمَّا أنّه عدَّها من أوهام روح أو سعيد بن أبى عروبة ، أو أنّ ما فى المسند تصحف وتحرَّف .
(هـ) سليمان التيمي عن قتادة : ورواها عن سليمان : ابنه المعتمر ، وعن المعتمر : أحمد بن المقدام ، وعن ابن المقــدام : الحافظ الموصلي فى المسند ، ولفظه : ( أنّ أبا رافع حدّث عن أبى هريرة ) .
ــ ورواه ابن حبان فى صحيحه ، عن أحمد بن يحي بن زهير ، عن ابن المقدام ، ولفظه : ( أنّ أبا رافع حدَّثه عن أبى هريرة ) .
والراجح رواية الموصلي للأتى :
1- أنّه يروي عن ابن المقدام مباشرة ، وهو شيخه ، بينما يرويه ابن حبان بواسطة ، والإسناد العالي أرجح من النازل ، إذ كلما نزل الإسناد ، زاد احتمال وقوع الوهم خاصة فى صيغ الأداء .
2- أنّ صيغة ( حدَّث ) لايضبطها إلاّ الحفاظ الأثبات ، بينما صيغة ( حدثنا ) أو ( حدَّثه ) جادة تسبق إليها الأوهام ، فلا يبعد على الثقة لزومها 0
فإذا ثبتت صيغة ( حدَّث ) فى هذا الإسناد ، كما فى رواية عبد الأعلى عن سعيد بن أبى عروبة - وهو من أعلم الناس بقتادة-عن قتادة ، وكما فى رواية سليمان التيمي ، عن قتادة 0
فهي صريحة فى عدم سماع قتادة من أبى رافع هذا الحديث على فرض أنّه سمع منه فى الجملة - فقد نص شعبة بن الحجاج على أنها من صيغ قتادة التى يستخدمها فيما لم يسمع من الحديث .
فقد روي ابـن مهــــــدى (كما فى معرفة الرجال رواية ابن محرز (1/ 210) وتاريخ الدارمي( ص/ 192) عن شعبة قـوله : (كنت أتفقـد فـم قتادة ، فإذا قال ( حدّثنا) و (سمعت) حفظته ، وإذا قـــال (حدّث) تركته) ، وكذا رواه ابن ابى حاتم فى مقدمة الجرح والتعديل (1/161 و 169 ) .
- وروى الطيالسي ( كما فى تاريخ أبى زرعة الدمشقي ( 1/456 ) عن شعبة نحوه ، وفيه : ( وإذا جاء مالم يسمع يقول : قال أبو قلابة ، وقال سعيد بن جبير ) ، وكذا رواه البسوي فى المعرفة ( 3 /209 ) من طريق الطيالسي ، والخطيـب فـى الكفـاية ( ص /401) مـن طـريق ابن مهدي والطيالسي عن شعبة نحوه .
- ورواه عبد الله بن أحمد فى العلل ( 3 /242 ) من طريق الطيالســي نحـوه ، وفـى آخـره : (وإذا حدّث مالم يسمع قال (حدّث) سليمان بن يسار (وحدَّث) أبو قلابة) .
- ولا خلاف بين اهل الفنَّ في أن صيغة (حدَّث) محمولة على الانقطاع فى عبارات المدلسين عامة 0 قال العلاّمة المحقق عبد الرحمن المعلمي رحمه الله تعالى فى خاتمة الجزء الرابع من سنن البيهقى ( ص / 43 ) عن هذه الصيغة : (مثل ذلك محمول على الانقطاع عند الخطيب ، واختاره الحافظ ابن حجر ، ومن خالف فيه ، فإنه موافق على أنّه محمول على الانقطاع فى عبارات المدلسين) .
- وقد روى أبو زرعه الدمشقي حديثا من طريق الزهري عن أبى سلمة معنعنا ، فأعجبه الحديث ، ثم وجد فى بعض أسانيده . قال الزهري : ( حدَّث أبو سلمة ) ،
- فقال أبو زرعة كما فى تاريخه ( 1/503) : ( علمت أنه لا أصل للحديث عن أبى سلمة إذ فيه هذه العلَّة ) . فجعل هذه الصيغة علة يقدح بسببها في صحة الحديث .
- وهكذا كشفـت رواية من روى هذا الحديث بلفظ : (حدّث) أبو رافع عن علَّة هذا الحديث على فرض أنّ قتادة سمع من أبى رافع فى الجملة ومن رواه بلفظ العنعنة سَلِمَ ، ومن رواه بلفظ التحديث وَهمَ .
ومما يقوي ذلك وهو ان قتادة لم يسمع هذا الحديث من ابي رافع على فرض أنه سمع منه في الجمله : قول الحافظ فى النكت الظراف ( 10/392 ) عن هذا الحديث ( قلت : أخرجه ابن مردويه ، عن أبى بكر الشافعي ، عن محمد بن يونس ، عن هشام بن عبد الملك ، عن أبى عوانة ، عن قتادة ، عن خلاس ، عن أبى رافع .أدخل بينهما رجلا .
وأخرجه من طريق سعيد بن بشير ، عن قتادة ، فقال : عن صاحب له ، عن أبى سعيد الخدري ) .
وسعيد بن يونس الكديمي ضعيف كما فى التقريب ( ص / 515 ) - وسعيد بن بشير من أصحاب قتادة ، قال عنه الذهبي فى الكاشف (1/432 ) ( سعيد بن بشير البصري الحافظ قال البخاري : يتكلمون فى حفظه ، وهو يحتمل ، وقال دحيم : ثقة كان مشيختنا يوثقونه ) .
وهذه الروايات تصلح قرينة على عدم سماع قتادة هذا الحديث من أبى رافع مع ما تقدم ، وإن كانت لاتنهض بمفردها فى إثبات ذلك ، وهذا كلّه على فرض أنه سمع منه ،
ولهذا قال الحافظ فى الفتح ( 13/135 ) ( إلاّ أن قتادة مدلس وقد رواه بعضهم عنه فأدخل بينهما واسطة ، أخرجه ابن مردويه ) ، ثم قال : ( لكن وقع التصريح فى رواية سليمان التيمي عند قتادة بأن أبا رافع حدَّثه ، وهو فى صحيح ابن حبان ) .
ولو أطلعّ -رحمه الله تعالى على رواية الموصلي والتى فيها ( حدَّث ) أيضاً ، لما استدرك على نفسه ، ولعلم أنّ ما وقع فى بعض الروايات إنما هو وهم أو تصحيف .
ويستفاد من عبارة الحافظ هذه : أنّه لم يقع تصريح بالسماع فى رواية عبد الأعلى عن سعيد عند ابن ماجه ، وروح عن سـعيد عنـد أحمد ، وإلاّ لاستدل بها ، إذ أنّ سـعيد بن أبى عروبة أثبت وأعلم بقتادة من سليمان التيمي ، بل الأخير متكلم فى روايته عن قتادة كما سبق ذكره وسنن ابن ماجه ومسند أحمد أقرب تناولا ، وأجلُّ شأناً من كتاب ابن حبان .
(3) الاختلاف فى رفعه ووقفه:
فقد روى عبد بن حميد ــ كما فى الفتح ( 13/135 ) من طريق عاصم ، عن أبى صالح ، عن أبى هريرة ، نحوه موقوفا .
وذكر الحافظ فى المطالب العالية (4/362 ) عن أبى هريرة قال ( يأجوج ومأجوج يحفرون كلَّ يوم ) وعزاه لمسند أبى يعلى ، وقال البوصيري كما فى الحاشية ( رواه أبو يعلى موقوفاً ) .وهو في المسنده الكبير كما في المطالب المسندة ( 193/ا المحمودية) قال انبأنا عبدالله بن معاوية انبأنا حماد بن سلمة أنا عاصم عن ابي صالح عن ابي هريرة موقوفا .
ــ ومن طريق ابي يعلى الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق ( 1/ق52/ ا) .
ــ ورواه العقيلي في الضعفاء (2/285) قال : ثنا علي بن عبدالعزيز ، قال ثنا حجاج (هو ابن منهال ) قال ثنا حماد ، عن عاصم . عن ابي صالح ، عن ابي هريرة قال : ( يأجوج ومأجوج يحفرون كل يوم السد) وقال: ( حديث حجاج اولى) .
قلت : وهذا اسناد صحيح رجاله أئمة ثقات .
وبهذه الرواية الموقوفة استدل العقيلي على ضعف من روى هذا الحديث عن حماد عن عاصم مرفوعا .
ولاشك أنّ أبا صالح ذكوان السمَّان أعلم بأبى هريرة ، وأحفظ لحديثه من أبى رافع الصائغ ، والذى ليس له فى المسند عن أبى هريرة سوى أحاديث معدودة لاتتجاوز الأربعين حديثا . بينما يروي عنه ابو صالح مئات الأحاديث .
فإذا اختلفا على أبى هريرة فى رفع أوقف حديث ، كان القول فيه قول أبى صالح السَّمَّان ، لمزيد اختصاصه بأبى هريرة ، وعلمه بحديثه .
هــذا على فـرض أن رواية أبى رافع صحيحة إليه ، وإلاّ فالصحيح أنّ الطريق إليه ليست تصفو ، كما سبق تفصيله. بينما رواية ابي صالح الموقوفة صحيحة عنه .
(4) أنه أشبه بحديث كعب الأحبار :
فهذا الحديث الذى يرويه أبو هريرة يرويه أيضا كعب الأحبار بألفاظه وحروفه من قصصه واسرائيلياته ، لم يخرم منه حرفا واحدا مع طوله .
ــ فقـد رواه عبد الـرزاق فـى تفسـيره ( 2/ ) عن معمـر ، عـن أيـوب ، عن أبى ،الضيف عنه به .
ــ وعنه : نعيم بن حماد فى الفتن ( 2/589 ) .
ــ ورواه الطبـري فـى تفسـيره ( 9/85 ) من طـريق حميد بن هـلال ، عن أبى الضيف ، عنه به .
ــ وأبو نعيم فى الحلية ( 6/23 ) من طريق سليمان بن المغيرة ، عن حميد ، به نحوه .
ــ وقـد قـال الحـافظ ابـن كثير فـى تفسـيره ( 3/111 ) عـن حـديث قتـادة ، عن أبـى رافع : (ولكن هذا قد روى عن كعب الأحبار ، ولعل أبا هريرة تلقاه من كعب ، فإنه كان كثيرا ما يجالسه ، ويحدثه ، فحدَّث به أبو هريرة ، فتوهم بعض الرواة عنه أنه مرفوع ، فرفعه ، والله أعلم )
ــ وقال أيضا (ص /110 ) عن حديث قتادة : ( إسناده جيد قوي ، ولكن متنه فى رفعه نكارة )
وهذا القول من ابن كثير مبنى على صحة رواية الرفع والتى ثبت بنص الأئمة انقطاعها وضعفها ـ كما سبق ذكره ـ، فلم يبق سوى رواية أبى هريرة الموقوفة ، ورواية كعب الموقوفة عليه من قصصه واسرائيلياته .
ويظهر أن قتادة قد سمعه من بعض الضعفاء يحدث به عن أبى رافع ، عن أبى هريرة ، مرفوعاً فدلسه .
أو يكون أبو رافع على فرض ثبوته عنه ، سمعه من أبى هريرة ، فظنَّ أنّه مرفوع إلى النبى صلى الله عليه وسلم .
وقد روى مسلم فى التمييز( ص /175 ) عن بسر بن سعيد قوله : (اتقوا الله ، وتحفظوا من الحديث ، فوالله ! لقد رأيتنا نجالس أبا هريرة ، فيحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويحدثنا عن كعب الأحبار ثم يقوم ، فأسمع بعض من كان معنا يجعل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كعب ، وحديث كعب عن رسول الله صلىالله عليه وسلم) .
وقد وجدت له نظيراً فقد روى أبو داود فى الحج باب فى الجراد للمحرم (2 /429 )
حديث رقم (1853) من طريق ميمون بـن جـابان ، عـن أبـى رافـع ، عـن أبـى هريــرة مـرفوعـا : ( الجراد من صيد البحر ) .
ــ و(ص/430 ) حديث رقم ( 1855 ) من طريق ميمون ، عن أبى رافع ، عن كعب ، قال ( الجراد من صيد البحر ) .
فكل ما سبق ذكره يرجح كون الحديث من قصص كعب الأحبار ، وأن أبا هريرة إنما يرويه موقوفا ، كما حفظه عنه أبو صالح ، وأنّ رواية أبى رافع لا تصح عنه ، وعلى فرض صحتها عنه ، فقد وهم هو أو الراوي عنه فى رفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنما هو موقوف على أبى هريرة من قصصه التى يستفيدها من كعب الأحبار ، كما أشار إليه الحافظ ابن كثير احتمالا ، وثبت بما تقدم يقيناً .
وكـان كعب الأحبـار كثيرا ما يحـدث عن الفتن وأشراط الساعة كما فى الحلية (6/23 )، ومصدره فى ذلك كتب بنى إسرائيل .
وقد روى أبو زرعه الدمشقي فى تاريخه ( 2 / 545 ) بسند صحيح عن معاويه رضى الله عنه قوله فى كعب : ( إن كان لمن أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب ، وإن كنّا لنبلو عليه الكذب ) أي الخطأ كما هى لغة قريش.
خامسا : مصادمة للأدلة النقلية :
( أ ) فالحديث بهذا اللفظ يعارض ماثبت فى الصحيحين من حديث أبى هريرة نفسه رضى الله عنه مـرفوعا : (فُتِحَ اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه) وعقد بيده تسعين )
ـ رواه البخارى فى الأنبياء ، باب قصة يأجوج ومأجوج ، (3 /1221 ) حديث رقم (3169)
ولفظه : ( فتح الله من ردم ) .
ـ ومسـلم فـى الفتن ، بـاب اقتراب الفتن (4 /2207 ) حديث رقم ( 2881 ) واللفظ له .
ـ ومـن حديث زينب بنت جحـش رضـى الله عنها مرفوعا : ( ويل للعرب من شر قد اقترب ، فُتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه ) وحلَّق بإصبعه الإبهام والتى تليها )
ـ رواه البخـاري فـى البـاب (3168)، ومسلم فى الباب (2880 ) .
ـ ففي هذين الحديثين إخبار عن انفتاح الردم فى عصر النبى صلى الله عليه وسلم.
فإن كان على قول من يقول : ( أن هذا إشارة إلى فتح أبواب الشر والفتن ، وأن هذه استعارة محضة ، وضـرب مثـل فلا إشـكال ) كما قاله ابن كثير فى البداية (2/102 ) .
وإن كان ذلك عن أمر حسي واقعي ، فهو مصـادم لظاهر الحديث الذي معنا ، إذ فيه أنهم يحفـرون ، حتـى إذا كـادوا يـرون شعاع الشمس تركوه فعاد أشد ما كان .
ففيه نفي أن يكون الردم قد انفتح ، بل إنه يعود كل يوم بعد حفرهم أشد ما كان قبل الحفر ، حتى أنهم لايرون شعاع الشمس .
(ب) وفى حديث زينب أنه سيلحق العرب خاصة من هذا البلاء العظيم ما قد اقترب أوانه ، ولا شك أن فى تخصيص العرب بالذكر دون غيرهم ، وتقريب ماسيقع لهم ، دليل على أنه سيلحقهم من شرَّهم بلاء مخصوص قبل بعثهم على الأمم كافة ، إذا أن خـروجهم الأخير سيكون دمـاراً للانسانية كلَّها ، لاينجو منه إلاّ عيســي ومن معه من المؤمنين ، كما جـاء فى صحيح مسلم فى الفتن (4/ 2250 )حديث رقم ( 2137 ) من حديث النواس بن سمعان رضى الله عنه . وغيره كما عند ابن ماجة .
ولاشك أن ذلك يعارض ماجاء فى الحديث الذى معنا والذى فيه أنهم لايفتحون الردم إلاّ عندما يريد الله بعثهم على الأمم كافة .
ففي حديث زينب تحذير للعرب من شرَّ قد اقترب ، وعندما سألته زينب: أنهلك وفينا الصالحون ؟ يا رسول الله ! قال : ( نعم ، إذا كثر الخبث ) .
فأخبـر صلى الله عليه وسلم أن ماسيصيب العرب منهم سـيهلك فيه الصالحون ، بينما فى خروجهم وبعثهم الأخير على أهل الأرض يأمر الله رسـوله عيسى عليه السلام أن يحرَّز المؤمنين إلى الطور والى حصونهم فيسلم الصالحون ، كما في حديث النواس بن سمعان رضى الله عنه وغيره .
(ج) كمـا أن لفظ حـديث قتادة هـذا مصادم لظاهر القرآن وقد ذكر ابن كثير فى تفسيره (3/110 ) بعض مافيه من مشكل يعارض ظاهر القرآن وقال إنّ ( فى رفعه نكارة ) .
ولعلَّ أشكل مافيه قوله : ( يحفرون كل يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس فيعيده الله أشد ما كان ) .
ففيه أنهم لايرون شــعاع الشمس بسبب هـذا السد وظاهر القرآن : أنّ ذا القرنين إنما جعل بين الجبلين سداً يحجز هؤلاء المفسدين عمن دون السدَّ من المستضعفين ، ولو فعل ذو القرنين ماهو أعظم شأنا من ذلك ، لنزل القرآن به ، إذ القصة ونزول الآيات انما كان بسبب سؤال اليهود أو المشركين النبى صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فلو فات ذكر أهـم مافيها ، وأعظم أخبارها ، لاستدركوه على النبى صلى الله عليه وسلم ، فلما لم يذكر من أفعال ذى القرنين إلاّ بناء السد،عُلم أنه لم يقع منه ما هو أخطر شأناً منه .
وبناء السد لايقتضى حجب شعاع الشمس عنهم كماهو ظاهر حديث قتادة .
(د) وكذلك يشكل على حديث قتادة :
ـ مارواه الإمام أحمد فى المسند (5 / 271 ) .
ـ وابن أبى عاصم فى الآحاد والمثاني (6 / 190 ) عن أبى بكر بن أبى شيبة .
ـ كلاهما: أحمد وأبن أبى شيبة عن محمد بن بشير ، عن محمد بن عمرو بن علقمة ، عن خالد بن عبد الله بن حرملة ، عن خالته قالت : ( خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ( إنكم تقولون لا عدو ! ولاتزالون تقاتلون عدواً حتى تقاتلون يأجوج ومأجوج ، عراض الوجوه ، صغار العيون ، صهب الشعاف ، من كل حدب ينسلون ، كأن وجوههم المجان المطرقة ) .
ــ قــال الهيثمي فـى المجمع ( 8/6 ) : ( رواه أحمد والطبرانى ورجالهما رجال الصحيح) . وهو كما قال فمحمد بن بشر العبدي ، ثقة حافظ ، روى له الجماعة - كما فى التقريب ( ص 469 ) و محمد بن عمرو ، عن خالد بن حرملة . إسناد على شرط مسلم .
ـ وروى البخاري فى صحيحه فى الجهاد ، باب قتال الترك ( 3 / 1070 ) حديث رقم ( 2769 ) عن عمرو بن تغلب رضى الله عنه مرفوعا : ( إن من أشراط الساعة : أن تقاتلوا قوما ينتعلون نعال الشعر ، وإن من أشراط الساعة : أن تقاتلوا قوما عراض الوجوه ، كأن وجوههم المجان المطرقة ) .
ـ وروى البخاري بعده ( 3/1071) حديث رقم ( 2770 ) عن أبى هريرة رضى الله عنه مرفوعا : ( لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا الترك ، صغار الأعين حمر الوجوه ، ذُْلف الأنوف ، كأن وجوههم المجانُّ المطرقة ، ولا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوما نعالهم الشعر ) .
ـ ورواه مسلم فى الفتن ( 4 / 2233 ) حديث رقم ( 2912 ) من طرق عن أبى هريرة رضى الله عنه نحوه .
ففي هذه الأحاديث الصحيحة : أن المسلمين يقاتلون يأجوج ومأجوج ، وهم طـائفة مـن الترك كما قـال ابن كثير فـى البـداية ( 2/101 ) والملاحــم ( ص /200 ـ 201 ) وكما جاء فى بعض الروايات ، ووصفهم النبى صلى الله عليه وسـلم أنهم : عـراض الوجوه ، صغار العيون، ذلف الأنوف ( أى فطس الأنـوف ) صهب الشـعاف ( أى الشعور ) ، حمر الوجوه ، كأن وجوههم المجانّ المطرقة ( وهى التروس التى تطوق بالجلود ) .
يلبسون الشعر ، وينتعلون الشعر . قال القرطبي فى تفسيره ( 11/58 ) : ( نعت النبـى صلى الله عليه وسـلم الترك كما نعت يأجوج ومأجوج ) وكل هذه الأوصاف تنطبق تماما على الجنس التتاري والصيني .
وقد تحقق ما أخبر به النبى صلى الله عليه وسلم ، وهذه من معجزاته ونبواته التى أخبر عنها ، فوقعت كما أخبر صلى الله عليه وسلم .
حيث تحركت القبائل التتارية من موطنها ، واكتسحت العالم المعمور كلّه تقريبا شرقا وغربا وجنوباً ، ودمَّروا الحضارة الانسانية فترة من الزمن ، وارتكبوا من الجرائم والإفساد فى الأرض ما لا تعرفه البشرية فى تاريخها من قبل ، وقد قاتلوا المسلمين ، ودخلوا بغداد ، وسقطت سنة ( 656) هـ وقتلوا الخليفة العباسي والعلماء والصلحاء وأسرفوا فى القتل حتى بلغ القتلى مليونى نفس ، كما ذكر ابن كثير فى البداية ( 13/215 ) .
وهذا ما لايعرف المسلمون والعرب مثله من قبل ، ولم يحلَّ بهم من الذلَّ والهوان والقتل مثل ما حلَّ بهم على أيدي التتار .
وقـد قـال القرطبـى فـى تفسيـره ( 11 / 58 ) وهـو معاصـر لهذه الأحداث : ( وقد خرج منهم فى هذا الوقت أمم لايحصيهم إلاّ الله تعالى ، ولايرّدهم عن المسلمين إلاّ الله تعالى ، حتى كأنهم يأجوج ومأجوج ، أو مقدمتهم ) .
ويظهر أن هذه الأحداث هى التى قال فيها النبى صلى الله عليه وسلم : ( ويل للعرب من شر قد اقترب : فتح من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه ) وعقد بيده تسعين .
وكلُّ هذه الأحاديث تصادم حديث قتادة ، والذى فيه أنهم لايخرجون ولا ينفتح السد إلاّ عندما يبعثهم الله عز وجل على الناس فى آخر الزمان ، وقد ثبت فى حديث النواس بن سمعان رضى الله عنه فى صحيح مسلم أن الله يأمر عيسى ومن معه من المؤمنين عند ذلك أن ينحازوا إلى الطور والى حصونهم كما عند ابن ماجة ، فلا يقع بينهم وبين المسلمين قتال ،وإنما قتالهم مع باقي أهل الأرض .
بينما أخبر النبى صلى الله عليه وسلم كما فى الأحاديث الصحيحة السابقة : أن المسلمين يقاتلون يأجوج ومأجوج ، وهذا إنما هو فى خروجهم الأول والذى قال عنه النبى صلى الله عليه وسلم ( شر قد اقترب ) ، وأخبر أنه يهلك فيه الصالحون ،إذا كثر الخبث . والظاهر أن ذلك ما حلَّ بالمسلمين سنة ( 656) هـ على يد التتار .
وفى تلك الحقبة من تاريخ المسلمين كثر الخبث ، فتسلط عليهم عدوهم ، وهلك بسبب ذلك كثير من العلماء والصالحين . وما منع أكثر العلماء من اعتقاد ان ما جري سنة ( 656) هـ هو المقصود بحديث ( ويل للعرب) الا حديث أبي رافع هذا اذ فيه أنهم لا يخرجون الا في آخر الزمان قبل قيام الساعة .
(هـ) أن ظاهر القرآن وصريح الأحاديث الصحيحة : أنهم من ذرية آدم ومن ذرية نوح ، كما عليه عامة العلماء ، ولاينبغى الخلاف فى ذلك كما نبه عليه الحافظ ابن كثير فى تفسيره ( 3/109 ) وفى البدايه ( 2/101 ) وكذا الحافظ ابن حجر فى الفتح ( 13/131 ) فهم بشر مكلَّفون ، يعيشون على هذه الأرض ، كما يعيش ســائر ذرية آدم ، وقد كانوا قبـل ذى القرنين يفسدون فى الأرض بالقتل والسلب .
والثابت تاريخيا وجغرافيا أنهم فى شمال شرقى الأرض ، والأقرب أنهم التتار ومن وراءهم من شعوب الشرق ، وقد شكى الناس شرّهم إلى ذى القرنين ، فعمل سداً بين جبلين يكون حاجزا طبيعيا يمنعهم من الشعوب التى دون السدّ ، فقضيتهم ليست قضية غيبية كما هو ظاهر الأدلة النقلية وكما نص عليه السعدى رحمه الله تعالى بل قضية تاريخية مشاهدة لمن عاصرها وشاهد آثارها ، وإنما بَعْثُهم وخروجهم على اهل الأرض قبل قيام الساعة هو القضية الغيبية التى لايعلم متى يحين وقتها إلا الله عز وجل .
(و) أن بعثهم وخروجهم لا يفهم منه أنهم محجوزون عن العالم ، أو فى مكان لا يعلمه أحد، إذ لا دلالة فى هذه الألفاظ على ذلك ، بل بعثهم وتحريكهم هو أزُّهم ، كما فى قصة بني اسرائيـل ( بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد ) ( الاسراء / 5) . كما قال العلامة السعدي .وكذا ما جاء فى الأحاديث الصحيحة : ( يخرج يأجوج ومأجوج ) ليس فيه أنهم فــى معزل عن العـالم ، وإنما مثله مثل قوله تعالى : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس ) " آل عمران 110 " مع أنّ العرب موجودون قبل خروجهم وحملهم رسالة الإسلام للعالمين .
(ز) كما لايوجد نص صريح فى أن السد سيكون حاجزا يمنعهم عن أمم الأرض إلى وقت بعثهم وخروجهم ، وإنما ظاهرها أنّ هذاً السدّ سيمنعهم من الإفساد فى الأرض فى تلك الفترة ، وقوله تعالى : ( فما استطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا ) [ الكهف/97 ] قال ابن كثير فى البداية ( 2/102 ) : ( أي فى ذلك الزمان لأن هذه صيغة خبر ماض فلا ينفى وقوعه فيما يستقبل ) ، ويؤيد ذلك ما جاء فى الصحيحين : ( فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج) .
وأما الآيات بعدها : ( فإذا جاء وعد ربى جعلّه دكاء وكان وعد ربى حقا * وتركنا بعضهم يومئذ يموج فى بعض ونفخ فى الصور فجمعناهم جمعاً * وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا ) [ الكهف/98-100 ] .
* فقد اختلف المفسرون فى تأويلها :
قال القرطبي فى تفسيره (11/63 ) : ( فإذا جاء وعد ربى ) أي يوم القيامة ، وقيل : وقت خروجهم ) .
وكذا ذكر القولين البيضاوي فى تفسيره ( ص/ 401 ) ، والشـوكانى فى فتح القدير (3/313 ) .
وكذا اختلفوا فى تأويل قوله تعالى : ( وتركنا بعضهم يومئذ يموج فى بعض ) على ثلاثة أقوال :
(1) أى تركنا الخلائق يوم القيامة يموج بعضهم فى بعض .
(2) وقيل : تركنا يأجوج ومأجوج يموج بعضهم فى بعض بعد بناء السد .
(3) وقيل : تركنا يأجوج ومأجوج يموجون فى الدنيا بعد فتح السد .
قال القرطبي فى تفسيره ( 11/95 ) : ( فهذه ثلاثة أقوال ، أظهرها أوسطها ، وأبعدها أخـرها ، وحَسُنَ الأول لأنه تقدَّم ذكـر القيـامة فـى تأويـل قوله تعالــى ( فإذا جاء وعد ربى )) .
وقد ذكر ابن جرير فى تفسيره ( 8/289) القول الأول ، وذكر ابن كثير فى تفســـــــــــيره ( 3/111 ) القول الأول والثالث ، وذكر الشوكاني ( 3/315 ) الأقوال الثلاثة ، وقـــال السـعدي فـى تفسـيره ( 5/79 ) عـن الضمير فـى ( وتـركنا بعضهـم ) : ( يحتمل أن الضمير يعود إلى يأجوج ومأجوج ، وأنهم إذا خرجوا على الناس من كثرتهم واستيعابهم للأرض كلها يموج بعضهم ببعض ويحتمل أن الضمير يعود إلــى الخلاق يوم القيامة من الأهوال والـزلازل العظام بدليل قوله [ وتركنا بعضهم ] إلى [ لايستطيعون سمعا ] ) .
وعليه فليس فى نصوص القرآن والسنة مايدل دلالة صريحة على أنّ السد سيكون مانعا لهم من الخروج إلى يوم بعثهم ، وإنما سيكون مانعا لهم فى تلك الفترة الزمنية ، ثم يقدر الله عز وجل بعد ذلك من الأسباب والموانع الصارفة لهم من الخروج على الناس حتى يأتى ذلك اليوم الموعود حيث يبعثهم الله عز وجل على أهل الأرض قبل قيام الساعة .
ويؤكد هذا الفهم وهو أن السد لن يكون حاجزا لهم إلا فى تلك الفترة ما ثبت بالحـس والمشـاهدة حيث تم اكتشاف الأرض كلها ، وأصبحت الكرة الأرضية كقرية صغيرة لايخفى من أمرها شئ ، ولم تعد الجبال تمنع من التنقل والارتحال ، فدل ذلك على أن المعنى فى قوله تعالى : ( فما استطاعوا أن يظهره وما استطاعوا له نقبا ) أى أولئك القوم فى ذلك الزمان كما قال ابن كثير .
قال العلامة السعدي فى رسالته فى الموضوع ( فلو فرض على وجه المحال وجود أمة عظيمة جداً أكثر من المعروفين الأن على وجه الأرض من أمم الأدميين بأضعاف مضاعفة وأنهم الآن على وجه الأرض ، ولم يطلع الناس عليهم - مع أن الأرض التى يمكن الأدميون السكن فيها قد اكتشفت شبراً وذراعاً لكان هذا ما تحيله العقول ، وتنكره الحواس ، فينزه الشرع أن يخبر بمثل هذه الأمور ) .
ويؤكده من الأدلة النقلية حديث خالد بن حرملة ( تقاتلون يأجوج ومأجوج ) وحديث ( ويل للعرب من شر قد اقترب ) فثبت بهذه الأحاديث الصحيحة أن المسلمين سيقاتلون يأجوج ومأجوج ، وأنه سيحلُّ بالمسلمين والعرب منهم خــاصة شرُ عظيم ، يهلك فيه الصــالحون وهو والله أعلم ما وقع لهم سنة (656 ) هـ على يد التتار .
ولاشــك أن هذا غير خروجهم فى آخر الزمان ، إذ يتحصن المؤمنون فى حصونهم ولايحصل بينهم وبين يأجوج ومأجوج قتال أصلا .
فثبت بذلك ان خروجهم ، وانفتاحهم ، وانبعاثهم على أهل الأرض قبل قيـام الساعة ليس بسبب انهدام السدّ ، إذ ثبت بالأدلة النقلية ، والعقلية ، والحسية ، الأنفة الذكر بطلان هذا التصور ، وثبت انهم سيخرجون خروجا جزئيا قبل ذلك الخروج الأخير والذى هو من علامات الساعة ، وإنما يكون خروجهم ذلك بأسباب قدرية كونية يهيؤها الله عز وجل ، تكون الباعث على خروجهم وانفتاحهم على أهل الأرض فيحلُّ بأهل الأرض ما أخبر به النى صلى الله عليه وسلم كما ثبت بالأحاديث الصحيحة .
سادسا مصادمته للأدلة الحسية والعقلية :
وقد كان للعلاَّمة المحقق السلفي عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمة الله تعالى بحث فى هذه القضية فى رسالة خاصة (1) من المناسب نقلها كاملة لما فيها من فوائد جليلة تزيد الموضوع جلاءً ووضوحا ، وهذا نصها :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) نقلتها من كتاب ( الصين) للشيخ/ عبد العزيز المسند ط 1 سنة 1410 هـ وقد ضَّمن كتابه هذا فوائد علمية تاريخية وجغرافية مهمة . عن مكان سد ذي القرنين والشعوب التي وراءه الى غير ذلك من الفوائد العلمية .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) وهذا توسع منه رحمة الله تعالى والصحيح أنهم أمم وشعوب شمال وشرق آسيا وقد وصفهم النبى صلى الله عليه وسلم بأوصاف تطابق تماما الصفات الخلقية لهذا الجنس البشري كما ثبت فى الصحيحين كما تقدم ثم أكثر هذه الشعوب التى ذكرها هى فى الغرب ومن ذرية سام بنى نوح بينما كالمتفق عليه بين علماء التفسير والتاريخ والأنساب أن يأجوج ومأجوج فى الشرق وهم من ذرية يافث بن نوح وهذا ماسينقله المؤلف عنهم بعد قليل 0
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(2) وفى كونهم الإفرنج نظر كما سبق ذكره .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(3) وهذا مبنى على أن السد سيكون حاجزا لهم عن الخلق إلى وقت خروجهم وهذا القول لا دليل صريحاعليه وإنما هو مانع لهم فى تلك الفترة وإنما يهيئ الله الأسباب المانعة لهم عن الخروج إلى أن يأذن الله لهم بذلك بتهيئ الأسباب الدافعة لهم على الخروج ، بدليل أنه ثبت فى الأحاديث الصحيحة أنهم سيقاتلون المسلمين عامة والعرب خاصة وهذه الحوادث قبل خروجهم الأخير على الخلق كافة فيعلم منه أن السد لم يعد مانعا لهم منذ تلك الحوادث وقد سبق تفصيل القول فيه أنفا 0
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(4) الصحيح ترك تأويل ماجاء فى حديث النواس بن سمعان رضى الله عنه فى صحيح مسلم وغيره من الأحاديث الصحيحة بل تحمل على ظاهرها إذ لامانع من ذلك ولاقرينة صارفة عن الحقيقة 0
والذى دفع المؤلف رحمة الله تعالى إلى ذلك أمران وهما :
(أ) اعتقاده أن هذا الخروج الذى حصل من هذه الأمم هو المقصود فى قوله تعالى ( حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون ) ، وكذا هو المقصود فى الأحاديث الصحيحة ومادام ذلك قد تحقق فى هذا العصر فيلزم تأويل هذه النصوص لتكون مطابقة للواقع ، والصحيح أن خروجهم وانبعاثهم وانفتاحهم الأخير على أهل الأرض لم يقع بعد بل وقوعه قبل قيام الساعة وهو من علاماتها ولن يكون حينئذ حضارة مادية كما هو حاصل فى هذا العصر بل سيكون حالهم كما وصفه النبى صلى الله عليه وسلم فى الأحاديث الصحيحة0
(ب) اعتقـاده أن السبب المانع لهم عن الخروج هو السد ومادام قد ثبت بالحس والمشاهدة أن السدود والجبال لم تعد مانعة وحاجزة بين الأمم والشعوب فى هذا العصر فيعلم منه أن السد قد انهدم ومن ثم حصل الخروج وعليه تأول النصوص لتطابق الواقع والصحيح أنه لا تلازم بين انهدام السد وخروجهم الأخير بل ثبت فى الصحيح أنهم يقاتلون المسلمين قبل ذلك كما سبق تفصيله0
وبناء على ماتقدم ذكره من :
(1) عدم سماع قتادة من أبى رافع ، بل وعدم لقياه له ، كما نص عليه شعبة ، ومِنْ نصَ الأئمة على انقطاع هذا الإسناد وهم الإمام أحمد ويحي بن معين وأبو داود وأبو بكر الأثرم من المتقدمين ، والمنذري والعلائي وابن رجب من المتأخرين 0
(2) وأنّ من صحح هذا الإسناد إمّا أنّه مشى على ظاهر ماوقع له من أسانيد فيها تصريح بالسماع ، وتساهل فى قبولها ، كما فعل الترمذي وابن حبان ، أو أخرج هذا الإسناد لوجود المتابعات والقرائن ، واحتمل مافيه من انقطاع لذلك كما فعل البخاري 0
(3) وقد ثبت أن ماوقع من تصريح بالسماع بين قتادة وأبى رافع ماهى إلاّ أوهام أو تصحيفات كما سبق تفصيله 0
(4) وأن قتـادة مدلـس ، وقـد رواه بالعنعنة ، وضبـط عنـه بعـض الحفـاظ صيغة ( حدّث أبو رافع ) 0
(5) وهذه الصيغة نص شعبة على أنّ قتادة يستخدمها فيما لم يسمع من الحديث ، وإن كان عن شيوخه الذين سمع منهم ، واتفق أهل الفنّ على أن هذه الصيغة محمولة على الانقطاع فى روايات المدلسين ، وقتادة من مشاهيرهم 0
(6) وقد خولف أبو رافع فى إسناده فرواه من هو احفظ وأعلم وأثبت فى أبى هريرة منه ، فرواه موقوفا من قول أبى هريرة رضى الله عنه 0
(7) وقد جاء هذا الحديث عن كعب الأحبار من قصصه وإسرائيلياته كما رواه أبو هريرة ، لم يخرم منه حرفاً مع طوله 0
(8) وثبت أن كعب الأحبار كان يحدث بالقصص عن كتب بنى إسرائيل فى عصر الصحابة ، وكان بعض الصحابة يأخذ عنه هذه القصص يحدَّث بها الناس ، لما علم من إذن النبى صلى الله عليه وسلم فى ذلك حيث قال : (وحدَّثوا عن بنى اسرائيل ولاحرج)0
(9) كمـا ثبت أن أبـا هريـرة كـان يـأخذ عـن كعب الأحبـار بعض هــذه القصص فيحدث بها الناس 0
(10) وكذلك ثبت أن بعض الرواة عن أبى هريرة يهم فى حديث أبى هريرة فيجعل حديثه عن كعب مرفوعاً إلى النبى صلى الله عليه وسلم 0
(11) وأن هذا الحديث بهذا اللفظ مصادم لظاهر القرآن والأحاديث الصحيحة 0
(12) كما أنه مصادم للأدلة الحسية والأدلة العقلية 0
كل ذلك يجعل من الحكم لهذا الحديث بالصحة حكما غير صحيح ، بل هو حديث باطل لا أصل له مرفوعا ، وإنما هو موقوف على أبى هريرة رضى الله عنه أخذه عن كعب الأحبار مما يقصه من اسرائيلياته التى اشتهر بها . بل ان بعض هذه العلل كاف واحدة للحكم على هذا الحديث بهذا الحكم فما بالك اذا اجتمعت كلها في حديث واحد وانظر ما كتبه العلامة المعلمي في مقدمة تحقيقة للفوائد المجموعة (ص/ 11)
وهذا الحكم إنما هو مأخوذ من نص الأئمة ، والذين نصوا على انقطاع هذا الإسناد ، وهم الحكم فى معرفة صحيح الحديث من سقيمه ، ومأخوذ من قواعدهم التى أصَّلوها ، وأصولهم التى قعدوها ، لمعرفة الأحاديث الصحيحة من الموضوعة والضعيفة 0
وقد سبق الترمذي إلى استغراب هذا الحديث من هذا الوجه ، وأنكر رفعه الحافظ ابن كثير ، ونقل فى البداية ( 2/103 ) عن بعضهم أنّ رفعه غير محفوظ 0
فلم ابتدع هذا الحكم غير أنّ ما أجمله هؤلاء الأئمة ، اجتهدت فى تفصيله وتوضيحه ليعلم القارئ الكريم أن أئمتنا الحفاظ رحمهم الله تعالى لم يتركوا لقائل أن يقول فى هذا العلم بهواه ، بل سبق منهم الحكم على أفراد كثيرة ، وما لم يحكموا عليه : وضعوا القواعد لمن بعدهم ليتوصلوا إلى الحكم الصحيح فيه ، فما لم يكن لهم فيه نص ، قيس ما كان مثله عليه ، وليس للأهواء مدخل فى هذا العلم الشريف ، وإنما هى الأدلة والبراهين ، فمن أقامها ، لزم قبول قوله ، وإلا ردَّت إليه بضاعته ، وكان اتباع من مضى أولى من متابعتة .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه وسلم .