بسم الله الرحمن الرحيم
توضيح وجهة نظر الباحثين حول ما ورد من ملحوظات
على بحث (أخبار المغازي والسير .. ومناهج الأئمة في الاحتجاج بها)
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على النبي الأمين وآله وأصحابه أجمعين وبعد:
فقد اطلعنا على الملحوظات القيمة للأستاذين المحكمين للبحث وهي بلا شك جديرة بالعناية وبالأخذ بها وتم تعديل بعض عبارات البحث على ضوئها فيما أمكن خاصة في النتائج إلا أننا نود الإشارة إلى ما يلي :
أولا : المقصود من البحث أصلا هو علم المغازي والسير والوقوف على مناهج الأئمة في الاحتجاج بأخبار السيرة على وجه الخصوص، إذ يصرح أئمة الحديث مثلا بأن ابن إسحاق حجة في المغازي إمام فيها مع أن بعضهم قد يضعفون حديثه!
ولهذا قال الذهبي عنه أيضا (كان أحد أوعية العلم حبرا في معرفة المغازي والسير...والذي تقرر عليه العمل أن ابن إسحاق إليه المرجع في المغازي والأيام النبوية).([1])
وقد صارت مغازيه حجة يشرحها الأئمة ويحتجون بقوله فيها، ابتداء من الشافعي فمن بعده مع أن أكثرها بلا إسناد، وما ذلك إلا لكون المغازي والسيرة النبوية لها خصوصية ليست لغيرها من الأخبار، فهي علم مستقل له أئمته وهم المرجع فيه دون غيرهم.
وقد جعل الشافعي نقل جمهور أهل المغازي والمشهور عندهم معادلا للإسناد الصحيح المتصل ـ وهو النص الذي استدركه المحكم الفاضل في ص 16 على الباحثين وأنه لا يصلح شاهدا ـ حيث قال الشافعي (وقد قيل: تذبح خيلهم وتعقر، ويحتج بأن جعفرا عقر عند الحرب، ولا أعلم ما روي عن جعفر من ذلك ثابتا لهم موجودا عند عامة أهل المغازي، ولا ثابتا بالإسناد المعروف الموتصل).([2])
وقال أيضا(فإن قال قائل: فقد روي أن جعفر بن أبي طالب عقر عند الحرب؟ فلا أحفظ ذلك من وجه يثبت على الانفراد، ولا أعلمه مشهورا عند عوام أهل العلم بالمغازي).([3])
فقد جعل الشافعي هنا عدم شهرة خبر العقر عند أهل المغازي يعادل عدم ثبوته بالإسناد المتصل على الانفراد من أخبار الآحاد، وهذا يدل على أنه يحتج إما بخبر آحاد متصل ثابت، أو بخبر مشهور عند أهل المغازي، وإن لم يتصل أو لم يكن له إسناد، فالشهرة عندهم كافية في نظر الشافعي، لأن هذا الفن فنهم وهم أعلم به من غيرهم.
وقد أوردنا في البحث ما يؤكد هذا المنهج عند الشافعي.
وكذا احتج الشافعي برواية بعض أهل العلم بالمغازي على جواز قتل الأسير صبرا حيث قال ـ كما نقله عنه البيهقي ـ (أنبأ عدد من أهل العلم من قريش وغيرهم من أهل العلم بالمغازي :أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أسر النضر بن الحارث العبدي يوم بدر وقتله بالبادية أو الأثيل صبرا، وأسر عقبة بن أبي معيط فقتله صبرا)، قال البيهقي(رويناه عن محمد بن إسحاق بن يسار صاحب المغازي).([4])
ومعلوم أن هذا في مغازي ابن إسحاق عن بعض شيوخه في سياقه لغزوة بدر كما عند ابن هشام 3/193 ولم يجد له البيهقي إسنادا فعزاه إلى مغازي ابن إسحاق واكتفى بذلك، لأن ابن إسحاق وكتابه المغازي حجة إمام في هذا الفن لا يرد قوله فيها إلا بما هو أرجح منه!
ثانيا : قول مالك أيضا ـ وهو مما استدركه المحكم في ص 4 ـ في توثيق مغازي موسى وتثبيتها (من كان في كتاب موسى بن عقبة قد شهد بدرا فقد شهد بدرا، ومن لم يكن في كتاب موسى بن عقبة فلم يشهد بدرا).([5])
وهو احتجاج صريح بمغازي موسى بن عقبة كمصدر للمغازي والسير بغض النظر عن الإسناد ـ إذ إن موسى بن عقبة قد ذكر أسماء من شهدوا بدرا سردا دون أسانيد كما عند ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني 1/172 رقم345 قال حدَّثَنا يعقوب بن حميد حدّثَنا محمد بن فليح عن موسى بن عقبة عن الزهري به. ثم قال ابن أبي عاصم: وهذه التسمية رواية موسى بن عقبة عن الزُّهْرِيّ وفي رواية بن إسحاق غير اسم قد خالف فيه ثم سرد الأسماء ..الخ
وكذا سردها محمد بن إسحاق في المغازي سردا بلا إسناد!
فالإمام مالك حين اطلع على مغازي موسى بن عقبة رأى أنها أصح المغازي التي صنفت، ورأى الاحتجاج بقول موسى بن عقبة فيها ونص على أسماء أهل بدر مع أنه ليس هناك أسانيد في اسم كل رجل منهم اللهم ما ذكره أئمة المغازي والسير وهم أعلم بفنهم.
وقال مالك أيضا (عليكم بمغازي موسى بن عقبة فإنه ثقة ـ وفي رواية أخرى عنه ـ عليكم بمغازي الرجل الصالح موسى بن عقبة فإنها أصح المغازي...وكان ابن معين يقول كتاب موسى بن عقبة عن الزهري من أصح هذه الكتب).([6])
قال الحاكم (وقد ذكر جماعة من الأئمة أن أصح المغازي كتاب موسى بن عقبة عن ابن شهاب).([7])
وإنما قصد ابن معين أن مغازي عقبة عن الزهري أصح من مغازي ابن إسحاق عن الزهري، لأنه لا يكاد يزيد على ما في كتاب الزهري وهو الأصل إلا الشيء اليسير، بخلاف ابن إسحاق الذي توسع في الزيادة على مغازي الزهري التي كان يحفظها عن ظهر قلب كما قال ابن عيينة (كنت عند ابن شهاب وسئل عن مغازيه فقال هذا أعلم الناس بها يعني بن إسحاق، وقال حرملة بن يحيى عن الشافعي من أراد أن يتبحر في المغازي فهو عيال على محمد بن إسحاق).([8])
ومعلوم أن كتاب مغازي الزهري ـ سواء رواية ابن إسحاق عنه أو رواية ابن عقبة عنه ـ أكثره مراسيل يحكيها الزهري كخبر واحد في سياق واحد من كلامه أو كلام شيوخه، ومع ذلك لا خلاف بين أهل العلم على الاحتجاج بمغازي الزهري هذه التي يرويها عنه ابن إسحاق وموسى بن عقبة، بخلاف مراسيله خارج كتابه المغازي والسير فقد ردها كثير من أئمة الحديث كما قال العلائي (وكذلك أيضا اختلف في مراسيل الزهري لكن الأكثر على تضعيفها قال أحمد بن أبي شريح سمعت الشافعي يقول يقولون نحابي ولو حابينا أحدا لحابينا الزهري وإرسال الزهري ليس بشيء، ذلك أن نجده يروي عن سليمان بن أرقم، وقال أبو قدامة عبيد الله بن سعيد سمعت يحيى بن سعيد يعني القطان يقول مرسل الزهري شر من مرسل غيره، لأنه حافظ وكلما قدر أن يسمي سمى وإنما يترك من لا يستجيز أن يسميه. وقال ابن أبي حاتم ثنا أحمد بن سنان قال كان يحيى بن سعيد لا يرى إرسال الزهري وقتادة شيئا، ويقول هو بمنزلة الريح ويقول هؤلاء قوم حفاظ كانوا إذا سمعوا الشيء علقوه، وروى عباس الدوري عن يحيى بن معين قال مراسيل الزهري ليست بشيء).([9])
فجاءت هذه الدراسة الجديدة في بابها لتجيب عن هذا الإشكال وهو كيف تكون مغازي الزهري ـ وأكثرها مرسل ـ حجة ومرجعا وفي نفس الوقت تكون مراسيله شبه الريح ولا شيء؟!
فأكد هذا البحث أن الأئمة يفرقون بين ما يرويه الزهري في كتابه المغازي والسير مرسلا فهذا مقبول محتج به لأن الزهري أعلم الناس بالمغازي في عصره، وقد ألف فيها كتابا هو المرجع فيها، بخلاف ما يرويه مرسلا خارج المغازي والسير فهذه أخبار تحتاج إلى اتصال السند وصحته.
وليس مقصود البحث تهميش الإسناد أو التقليل من شأنه في باب الأخبار عموما بل أردنا تفسير الاختلاف في أقوال أئمة الحديث وأحكامهم على ابن إسحاق، وتفريقهم بين كونه محدثا كغيره من أهل الحديث، وكونه إماما في المغازي يحتج بقوله فيما ساقه من أخبار المغازي.
وكذا التفريق بين أحكامهم على مراسيل الزهري محدثا ومراسيله في المغازي والسير.
وكذا التفريق بين ما يورده موسى بن عقبة في مغازيه بلا إسناد، وما يرويه من الحديث والأخبار التي يشترط لها ما يشترط في رواية كل محدث.
ثالثا : استدرك المحكم الفاضل في ص 5 و6 على الباحثين ما قرراه من أن الاحتجاج بهؤلاء الأئمة في المغازي يشمل الاحتجاج حتى بما أرسلوه فقال المحكم (من الذي قال ذلك بل ضعفوا إرساله ـ أي الزهري ـ فلم يقبلوا رواياته المرسلة).
وهذا هو عينه السبب الذي دفع الباحثين إلى دراسة هذا الموضوع وهو معرفة مناهج الأئمة في تعاملهم مع أخبار المغازي والسير ولماذا يحكمون على روايات الزهري المرسلة بالضعف ويحتجون بها في المغازي؟ ولماذا يختلفون في ابن إسحاق كمحدث ويتفقون على إمامته في المغازي والسير؟
وقد أوردنا من الأدلة ما نراه كافيا في إثبات الفرق وأنهم يفرقون بين علم المغازي والسير وعلم الحديث والأثر ولا أدل على ذلك من ابن القيم الجوزية فقد رجح عدم صحة حديث مسلم في شأن زواج النبي صلى الله عليه وسلم من أم حبيبة احتجاجا بما تواتر عند أهل المغازي فقال (فإن قيل بل يتعين أن يكون نكاحها بعد الفتح لأن الحديث الذي رواه مسلم صحيح وإسناده ثقات حفاظ، وحديث نكاحها وهي بأرض الحبشة من رواية محمد بن إسحاق مرسلا، والناس مختلفون في الاحتجاج بمسانيد ابن إسحاق فكيف بمراسيله؟ فكيف بها إذا خالفت المسانيد الثابتة ؟! وهذه طريقة لبعض المتأخرين في تصحيح حديث ابن عباس هذا فالجواب من وجوه:
أحدها أن ما ذكره هذا القائل إنما يمكن عند تساوي النقلين فيرجح بما ذكره وأما مع تحقيق بطلان أحد النقلين وتيقنه فلا يلتفت إليه، فإنه لا يعلم نزاع بين اثنين من أهل العلم بالسير والمغازي وأحوال رسول الله أن نكاح أم حبيبة لم يتأخر إلى بعد الفتح ولم يقله أحد منهم قط ولو قاله قائل لعلموا بطلان قوله ولم يشكوا فيه.
الثاني أن قوله إن مراسيل ابن إسحاق لا تقاوم الصحيح المسند ولا تعارضه، فجوابه أن الاعتماد في هذا ليس على رواية ابن إسحاق وحده لا متصله ولا مرسله، بل على النقل المتواتر عند أهل المغازي والسير وذكرها أهل العلم واحتجوا على جواز الوكالة في النكاح...).([10])
ومعلوم أن التواتر عند أهل المغازي والسير في هذه القضية وغيرها ليس تواتر الأخبار بالأسانيد كما عند المحدثين، بل هو ما توتر عند أئمتهم من العلم وشاع بين شيوخ هذا الفن، وإلا لو بحثنا عن قصة زواج أم حبيبة في كل كتب المغازي لما وجدنا شيئا من هذا التواتر المذكور، لا في هذا الخبر ولا في غيره من أخبار المغازي والسير، حتى قيل في كتب وعلم المغازي ليس لها أصول، أي أسانيد بل ألف عروة والزهري كتابيهما بلا أسانيد لعدم الحاجة لذلك كما سبق بيانه في البحث، ولهذا لم يستطع ابن القيم أن يذكر إسنادا صحيحا متصلا أقوى مما جاء في صحيح مسلم ولو وجده لما كان في حاجة ليتكئ على قول أهل المغازي والسير!
وكذا قال ابن القيم قال في حديث هجر كعب بن مالك في الصحيح(وقوله (فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا لي فيهما أسوة) هذا الموضع مما عد من أوهام الزهري، فإنه لا يحفظ عن أحد من أهل المغازي والسير البتة ذكر هذين الرجلين في أهل بدر، لابن إسحاق، ولا موسى بن عقبة، ولا الأموي، ولا الواقدي، ولا أحد ممن عد أهل بدر).([11])
فهنا يرد ابن القيم رواية الزهري في صحيح البخاري المتصلة الإسناد برواية الحفاظ الأثبات لأن أهل المغازي والسير لم يذكروا في مصنفاتهم اسم هذين الرجلين في أهل بدر!
مع العلم بأن كل من سموا أهل بدر من أصحاب المغازي سموهم سردا دون ذكر إسناد؟!
وكان الأولى أن يضاف اسم هذين الصحابيين في أهل بدر بناء على ورودهما في حديث صحيح عند أهل الحديث أجمع الأئمة على صحته ومن رواية الزهري نفسه؟ إلا أن الزهري لم يذكرهما في كتابه المغازي ولا استدركهما موسى بن عقبة ولا ابن إسحاق ولا الواقدي فدل ذلك على أنه لا يعرف أهل المغازي والسير أنهما شهدا بدرا وإن ورد ذكرهما في بعض الأحاديث الصحيحة عند أهل الحديث!
فقد احتج ابن القيم هنا في رد لفظ رواية في صحيح البخاري، واحتج بعدم ذكر أهل المغازي والسير لها، لكون هذا الخبر من فنهم وهم أعلم الناس به.
رابعا : تعليق المحكم في ص 8 من البحث (إنهم ـ أي أهل المغازي ـ يذكرون الأسانيد لكنها مرسلة ثم إن المتواتر لا يستغني عن ذكر الإسناد بل إن متواتره لا يثبت إلا بتعدد طرقه).
وهذه هي المشكلة التي جاء البحث ليجيب عنها، فإن كتب المغازي عامة أخبارها مراسيل يرسلها مؤلفوها كعروة والزهري وموسى بن عقبة وابن إسحاق فكيف يصلح الاحتجاج بها وبهم فيها؟ وما معنى الشهرة والتواتر عند أهل المغازي والسير مادامت أخبارهم أكثرها مراسيلهم هم أنفسهم، وبعضها مراسيل شيوخهم، ولا يكاد يوردون في القصة والحادثة إلا مرسلا واحدا أو مرسلين، وهو ما لا يمكن معه وصفها بالشهرة أو التواتر أو الاجماع؟
ومن الأمثلة قول ابن سعد عن الحباب بن المنذر (وأجمعوا جميعا على شهوده بدرا ولم يذكره محمد بن إسحاق فيمن شهد عنده بدرا، وهذا عندنا منه وهل، لأن أمر الحباب بن المنذر في بدر مشهور). ([12])
فجعل المشهور ما أجمع عليه أئمة المغازي كعروة والزهري وابن عقبة إذا لم يذكره الواحد منهم كابن إسحاق!
وكذا قال ابن سعد في شأن يوم بدر حيث ذهب عامة أئمة المغازي إلى أنه يوم الجمعة وأخرج رواية متصلة على شرط الشيخين عن عامر بن ربيعة رضي الله عنه أنه يوم الاثنين ومع ذلك قال(وهذا الثبت أنه يوم الجمعة وحديث يوم الاثنين شاذ)! ([13])
فحكم على الرواية المتصلة الصحيحة على شرط الشيخين بالشذوذ ورجح الروايات المرسلة عند أئمة المغازي والسير!
وذكر الواقدي أهل بدر فقال (وحليف لهم من بهراء يقال له عتبة بن ربيعة بن خلف بن معاوية، قال أصحابنا جميعا أن الحليف ثبت). ([14])
وذكر الواقدي عن بعض أهل المغازي رجلين من أهل بدر وقول زرعة بن عبد الله فيهما (أن الرجلين ثبت . قال الواقدي : وليس بمجتمع عليهما).([15])
فتارة يذكر إجماع أهل المغازي على الخبر وتارة ينفي الإجماع لثبوت الخلاف بينهم!
وقال أيضا عن حجة النبي صلى الله عليه وسلم (والأمر المعروف عندنا الذي اجتمع عليه أهل بلدنا ، إنما حج حجة واحدة من المدينة) ([16]) يرد بذلك على ما ذكره مجاهد وغيره أنه حج قبل الهجرة.
فذكر إجماع علماء المغازي من أهل المدينة كعروة والزهري وابن عقبة وابن إسحاق على أنه حج مرة واحدة وعد قولهم وإجماعهم هو المعروف.
فثبت بذلك أن المتواتر والمشهور والمجمع عليه والمعروف عند أهل المغازي والسير ليس هو المتواتر والمشهور والمعروف بالأسانيد عند أهل الحديث والأثر، بل المتواتر والمشهور عندهم ما تواتر علمه ومعرفته عند شيوخ هذا الفن واشتهر بينهم وفي كتبهم ومصنفاتهم دون رد منهم أو من بعضهم، فأخبارهم على درجات كالتالي:
1 ـ فما ذكره أئمتهم كعروة والزهري وابن عقبة وابن إسحاق ومن جاء بعدهم من أخبار السيرة بلا خلاف بينهم فهذا يصدق عليه أنه متواتر عندهم ومجمع عليه بينهم.
2 ـ وما ذكره أكثرهم بلا خلاف بينهم وإن لم يذكره الواحد منهم فهو المشهور عندهم.
3 ـ وما ذكره أحدهم أو بعضهم ولم يذكره الآخرون ولم ينكروه أو يردوه فهذا في أخبار المغازي والسير كخبر الواحد المعروف عند أهل الحديث والأثر.
4 ـ وما اختلفوا فيه فأثبته بعضهم ورده بعضهم فهذا كالحديث المختلف فيه بين أهل الحديث قبولا وردا.
5 ـ وما لم يذكروه في مصنفاتهم ولا ذكره أحد من أئمتهم على اختلاف طبقاتهم المذكورة فهو الغريب عندهم.
6 ـ وما ردوه وأنكروه من أخبار المغازي والسير فهو المنكر المردود .
خامسا : جاء في ملحوظات المحكم الفاضل ص 21 من البحث تعليق على كلام ابن عبد البر الذي يقرر فيه أن من الحديث ما تغني شهرته عن الإسناد الثابت فقال (هذه قاعدة خطيرة وعمل أهل العلم على خلافها وعندنا كتب في بيان حكم الأحاديث المشتهرة وكثير منها ضعيف أو موضوع ولم تشفع له شهرته).
وما ذكره المحكم صحيح فيما اشتهر على الألسنة من الحديث، إلا أن مراد ابن عبد البر هنا هو في أحاديث مشتهرة مخصوصة معلومة محصورة، وهي التي اشتهرت عند علماء الأمة منذ الصدر الأول وعليها العمل والفتيا وإن لم تثبت بإسناد صحيح فجعل تلقي العلماء لها بالقبول والعمل بها قرينة ترجح صحتها كحديث (هو الطهور ماؤه) فذكر أن البخاري لم يخرجه في صحيحه لأنه (لا يعول في الصحيح إلا على الإسناد، وهذا الحديث لا يحتج أهل الحديث بمثل إسناده، وهو عندي صحيح لأن العلماء تلقوه بالقبول ولا يخالف في جملته أحد من الفقهاء).
فهنا يصرح ابن عبد البر أن هذا الحديث لا يحتج بمثله أهل الحديث، ومع ذلك هو عنده صحيح لا بتعدد طرقه كما تقرره قواعد المحدثين، وإنما صححه لأمر آخر وهو قبول عامة الأئمة له وعملهم به مع وجود بعض من خالف كعبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص، حيث ذكرهما ابن عبد البر ممن قالوا بكراهة الوضوء من ماء البحر، إلا أن عامة الفقهاء على الجواز استدلالا بهذا الحديث حيث قال (ولم يتابعهما أحد من فقهاء الأمصار على ذلك لحديث هذا الباب وهذا يدلك على اشتهار الحديث عندهم وعملهم به وقبولهم له وهذا أولى عندهم من الإسناد الظاهر الصحة بمعنى ترده الأصول).
والباحثان في هذا البحث لم يقصدا مناقشة ابن عبد البر في رأيه هنا وهل أصاب أم أخطأ في استدراكه على البخاري، وإنما أرادا بيان أن الأئمة كابن عبد البر وغيره يفرقون في أحكامهم بين أخبار الآحاد المطلقة وهي التي يشترطون لقبولها صحة الإسناد واتصاله وعدم العلة والشذوذ، والأخبار الخاصة بأهل كل فن كالتي يجمع عليها أهل المغازي والسير منذ الصدر الأول أو تشتهر بينهم شهرة أقوى عندهم من خبر الواحد الذي قد يهم، وكالتي يجمع عليها أئمة الفقهاء في الأمصار ويتلقونها بالقبول عملا وفتوى أو عليها عامتهم منذ الصدر الأول، حيث لا يشيع عادة في تلك الأوساط العلمية إلا ما له أصل عندهم، فهذه لها خصوصية وليست كعامة أخبار الآحاد المشتهرة على الألسنة بين العامة أو الخاصة فهذه ترد إلى قواعد علم الحديث للحكم عليها.
ومثل ذلك قول ابن عبد البر في حديث (لا وصية لوارث) (وقد روي من أخبار الآحاد أحاديث حسان عن عمرو بن خارجة وأبي أمامة وخزيمة ...ونقله أهل السير في خطبته صلى الله عليه وسلم وهذا أشهر من أن يحتاج فيه إلى إسناد).
فهنا نص على أن أخبار الآحاد لهذا الحديث حسان أي غرائب ولم يقصد حسن الإسناد وقبوله، إذ أهل الحديث كما قال الشافعي لا يثبتونه وليس له عندهم إسناد قائم ـ حتى وإن صححه بعض المتأخرين بطرقه ـ ولهذا احتج الشافعي وكذا ابن عبد البر بإيراد أهل المغازي له ـ في مصنفاتهم المشهورة منذ عصر التابعين ـ في خطبة النبي صلى الله عليه وسلم لا يختلفون في ذلك وأن شهرته عند أهل الفن تغني عن تلك الأسانيد الغرائب، فالمعتمد عندهما نقل أهل المغازي لا تلك الأخبار الحسان والتي لو لم ينقل أهل المغازي تلك الخطبة وفيها ذلك الحديث، لما صحت تلك الأخبار الحسان لا عند أهل الحديث آنذاك ولا عند الفقهاء لأنها غرائب ضعيفة.
فلم يقصد الباحثان البتة تقرير قاعدة أن الاشتهار مطلقا يغني عن الإسناد.
سادسا : استدرك المحكم الفاضل في ص 24 من البحث بأن قصة كعب بن الأشرف موجودة في صحيح البخاري وهو كما قال إلا إن كلام ابن تيمية واحتجاجه بنقل أهل المغازي والسير إنما هو في كونه كان معاهدا مهادنا، وهذا ليس في الصحيحين ولا في غيرهما من كتب الحديث ما يثبته، وإنما فيها قصة إرسال النبي صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه لقتله دون وجود ما ينفي أو يثبت هل كان آنذاك معاهدا على عهده أم لا؟ بل الظاهر أنه في حال حرب ونقض للمعاهدة إلا أن ابن تيمية احتج بما عند أهل المغازي لأنه قتل في قومه بني النضير بعد بدر وقبل أحد بينما غزوة بني النضير وإخراجهم من المدينة بعد غزوة أحد.
والمقصود بيان منهج ابن تيمية في الاحتجاج بنقل أهل المغازي والسير سواء أصاب في رأيه ذاك أم أخطأ.
وهذا هو بعينه المثال الذي طلبه المحكم في ص 24 من البحث بقوله (أين المثال من صنيع شيخ الإسلام على ذلك الترجيح) تعليقا على عبارة ابن تيمية وقوله (بل بعض ما يشتهر عند أهل المغازي ويستفيض أقوى مما يروى بالإسناد الواحد ولا يوهنه أنه لم يذكر في الحديث المأثور).
فابن تيمية يعترف بأن هذه الجزئية ليست عند أهل الحديث، فإن الظاهر من قصة كعب في الصحيحين أنه كان يؤذي الله ورسوله وهذه عداوة ظاهرة، وقد ذكر أهل المغازي أنه ذهب لقريش يحرضهم على قتال النبي صلى الله عليه وسلم مما يرجح أنه نقض ما بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يلتفت ابن تيمية إلى ذلك ورأى أنه وقومه بني النضير كانوا جميعا معاهدين إلى أن حاربهم النبي صلى الله عليه وسلم، وأن العهد ينتقض بمجرد أذى الله ورسوله كالهجاء بالشعر كما فعل كعب بن الأشرف، وقد ذكر أهل السير كابن سعد في الطبقات 2/33 من أن قومه جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشتكون من أن سيدهم قتل غيلة..الخ وهو ما يؤكد أنهم كانوا في عهد وهدنة فلم تشفع لكعب.
وكذا احتجاج ابن تيمية بقتل المغنيتين اللتين كانتا تغنيان بهجاء النبي صلى الله عليه وسلم كما في البحث ص 25 فإنما حجته هي نقل أهل المغازي والسير للقصة يوم فتح مكة حيث أوردها في الصارم المسلول ص 132 عن الزهري وموسى بن عقبة وابن إسحاق والواقدي وابن سعد حيث لم يجدها عند أهل الحديث، وحتى رواية ابن المسيب المرسلة إنما أوردها ابن سعد في الطبقات 2/141 بإسناد ضعيف فيه علي بن زيد بن جدعان، وكتاب ابن سعد من كتب المغازي والسير أيضا، وهذا الذي عناه ابن تيمية بقوله (وحديث القينتين مما اتفق عليه علماء السير واستفاض نقله استفاضة يستغنى بها عن رواية الواحد).
فالحجة عنده هي نقل أهل المغازي والسير واستفاضة الخبر عندهم بما في ذلك ما رووه عن ابن المسيب وأن ذلك يغني عن خبر الواحد!
فهذا النص يشكل على قول المحكم الفاضل في تعليقه على البحث ص 25 (هنا لا تعارض مع حديث مسند آخر ثبت بطريق صحيح قلا يصلح مثالا للقول بأن شيخ الإسلام يقدم إجماع أهل السير على حديث آحاد).
فليس هنا خبر آحاد صحيح عند أهل الحديث، ولو وجده لاحتج به وأغناه عن هذه القاعدة وتقريرها بأن عند أهل المغازي من الأخبار المستفيضة ما يغني عن خبر الواحد، وحتى أهل الحديث لم يجدوا الخبر هذا إلا عند أهل المغازي فأخرجوه من طريقهم كما فعل البيهقي 8/205 عن ابن إسحاق من كلامه بلا إسناد و9/120 من كلام عروة وموسى بن عقبة .
سابعا : ورد في ملحوظات المحكم الفاضل في ص 25 من البحث (لم يقبل من أخبار الواقدي إلا ما رواه مسندا عن غيره ثم إنه استشهاد وليس استدلالا ولا بأس بذلك ما دام أصل المسألة ثابت بأدلة صحيحة).
وما ذكره المحكم صحيح ولهذا أوردناه في البحث تحت عنوان (ثالثا : الاستشهاد بتفاصيل أخبار أهل المغازي والسير) وذكرنا أن ابن تيمية (استشهد بتفصيل خبر عن الواقدي) ولم نورده في باب الاحتجاج إذ ليس الواقدي كعروة والزهري وابن عقبة وابن إسحاق فهذه الطبقة الأولى من طبقات أئمة المغازي والسير.
وحتى استشهاده بالواقدي إنما استشهد به في ما كان في باب المغازي والسير خاصة وإلا فهو عند المحدثين متروك الحديث لا يصلح حتى للاستشهاد به في أخبار الآحاد!
ثامنا : ورد في البحث ص 26 كلام لشيخ الإسلام ابن تيمية ينفي خبر غزوة السلسلة ويحتج على نفيها بأمور أولها أنها ليست في كتب أئمة المغازي وهم أهل الفن كعروة والزهري وابن إسحاق ..الخ، ولا وردت في شيء من الحديث عند أهل الحديث، ولا ذكر لها في القرآن.
وهذا صريح أنه لو ذكرها أهل المغازي وحدهم لكان كافيا عنده، ولهذا قدمهم في الذكر على أهل الحديث لأن الخبر المذكور في باب المغازي والسير وهو فنهم فلا يتصور أن يفوتهم شيء من مغازي النبي صلى الله عليه وسلم.
وكذا لو ورد ذكره عند أهل الحديث بخبر مسند صحيح لكان كافيا.
وكذا لو جاء ذكره في القرآن لكان كافيا.
وليس مقصود ابن تيمية أنه لا يثبت خبر عند أهل المغازي والسير أو لا يعتمد عليه حتى يوجد ما يعضده في الحديث أو القرآن، فسياق كلامه ونصوصه المتكاثرة المتوافرة تنفي ذلك، وهذا القول لم يقله أحد من أهل العلم، فالجميع يسلمون لأهل المغازي في بابهم وأن ما ذكروه في كتبهم من المغازي وأخبارها فهم أعلم به من غيرهم، فما أجمعوا عليه من أخبار المغازي فهو مقطوع به، وما استفاض عندهم واشتهر فهو راجح الثبوت، وما ذكره بعضهم دون رد منهم فهو محتمل، وما ردوه وأنكروه فهو منكر، وحالهم في فنهم كأهل الحديث في خبر الآحاد، وكأهل التفسير في فنهم، وكأهل اللغة في فنهم، وكالفقهاء في فنهم.
وأصرح منه كلام الشافعي في الأم 7/343 (أحفظ عمن لقيت ممن سمعت منه من أصحابنا أنهم لا يسهمون إلا لفرس واحد وبهذا آخذ، أخبرنا سفيان عن هشام بن عروة عن يحيى بن عباد أن عبد الله بن الزبير بن العوام رضي الله تعالى عنهم كان يضرب في المغنم بأربعة أسهم سهم له، وسهمين لفرسه..وكان سفيان بن عيينة يهاب أن يذكر يحيى بن عباد، والحفاظ يروونه عن يحيى بن عباد، وروى مكحول أن الزبير حضر خيبر فأسهم له رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة أسهم سهم له وأربعة أسهم لفرسيه، فذهب الأوزاعي إلى قبول هذا عن مكحول منقطعا، وهشام بن عروة أحرص لو أسهم لابن الزبير لفرسين أن يقول به فأشبه إذا خالفه مكحول أن يكون أثبت في حديث أبيه منه بحرصه على زيادته، وإن كان حديثه مقطوعا لا تقوم به حجة فهو كحديث مكحول، ولكنا ذهبنا إلى أهل المغازي فقلنا إنهم لم يرووا أن النبي صلى الله عليه وسلم أسهم لفرسين، ولم يختلفوا أن النبي صلى الله عليه وسلم حضر خيبر بثلاثة أفراس لنفسه السكب والظرب والمرتجز ولم يأخذ منها إلا لفرس واحد).
فالشافعي هنا ترك ما رواه هشام بن عروة وما رواه مكحول من الإسهام لفرسين لأنهما خبران منقطعان، ولا يرى الحجة تقوم بهما، ثم احتج بأن أهل المغازي لم يرووا في كتبهم في المغازي والسير أن النبي صلى الله عليه وسلم أسهم لغير فرس واحدة).
فإذا كان الشافعي يحتج بعدم رواية أهل المغازي للشيء ويبني عليه حكما شرعيا، فمن باب أولى احتجاجه بما رووه.
وقال الشافعي أيضا في الأم 7/335 في تقسيم الغنيمة في دار الحرب حيث أجازها الأوزاعي ومنعه أبو يوسف (ما قال الأوزاعي وما احتج به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم معروف عند أهل المغازي لا يختلفون في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم غير مغنم في بلاد الحرب).
فاكتفى بالاحتجاج بما هو معروف عند أهل المغازي وهو في مقام الفصل بين الأوزاعي وأهل العراق فيما اختلفوا فيه ولم يورد شيئا من أخبار الآحاد في الموضوع!
وكذا احتج زين الدين زكريا الأنصاري الشافعي كما في أسنى المطالب 14/389 والرملي في حاشيته على شرح الروض 3/130 في تزويج ابن العم ابنة عمه المسلمة مع وجود أبيها الكافر بما رواه عروة والزهري وابن إسحاق في قصة تزويج عثمان أم حبيبة للنبي صلى الله عليه وسلم وهي في الحبشة فقالا(وهذه قضية أجمع عليها أهل المغازي).
ففي هذه الأدلة ـ وهي كثيرة جدا ـ ما يشكل على قول المحكم الفاضل (ليس الدليل الوحيد لرد الخبر عدم ذكر أهل المغازي له وإنما ليس له ذكر في كتب السنة والتفسير .. فالدليل عند أهل العلم لم يكن اعتمادا على أهل المغازي فقط بل هناك أدلة أخرى).
تاسعا : ما ذكره الباحثان في ص 28 من رد ابن القيم لما ورد في صحيح البخاري في خبر كعب بن مالك وتخلفه عن تبوك وورود ذكر أسمي رجلين من الصحابة وهما هلال بن أمية ومرارة بن الربيع ممن شهد بدرا، حيث نفى ابن القيم أن يكونا شهدا بدرا بحجة أن أهل المغازي والسير لم يذكروهما في كتب المغازي ممن شهدوا بدرا..الخ
المقصود من إيراده أنه لو لم يكن قول أهل المغازي في فنهم حجة على غيرهم ممن خالفهم فيه لكان الحق أن يذكر هذان الصحابيان في أهل بدر ويستدركا على أهل المغازي والسير لا العكس! إذ خبرهما وارد في أصح كتاب عند أهل الحديث وبأصح إسناد إلا أن عدم ذكرهما عند أهل المغازي كاف عند ابن القيم في رد هذه الجزئية من الخبر في صحيح البخاري!
وليس مقصود الباحثين تصويب أو تخطئة ابن القيم وإنما الاستشهاد به على احتجاج الأئمة بأهل المغازي والسير في فنهم.
هذا ونكرر جزيل الشكر والتقدير للمحكمين الفاضلين على تقويم البحث وتصويبه.
[6] تاريخ دمشق 60/465، وتهذيب الكمال 29/119، وتهذيب التهذيب 10/322 .
[7] معرفة علوم الحديث ص 320 .
[8] تاريخ بغداد 1/215، وتهذيب الكمال ( 24/413 ) .
[9] جامع المراسيل للعلائي ص 89 .
[10] جلاء الأفهام ص 245 .
[12] طبقات ابن سعد 3/567 .
[13] طبقات ابن سعد 2/21 .
[14] مغازي الواقدي ص 168 .
[15] مغازي الواقدي ص 172 .
[16] مغازي الواقدي ص 1089 .