*
إجعلنا الرئيسية
أضفنا للمفضلة
الثلاثاء 24/10/1446 الموافق 22/4/2025
الصفحة الرئيسية
السيرة الذاتية
المقالات
رأي الأسبوع
الفتاوى
اللقاءات
الأشعار
الكتب
الدراسات والأبحاث
الصوتيات والمرئيات
الصور
أسطورة الثورة .. 22
(الثورة الخليجية والأزمة العقائدية)
بقلم د. حاكم المطيري
29/2/2012م
كانت الرسائل تتابع بيني وبين الشيخ المفكر إبراهيم .... حول الثورة العربية، وشروط حدوثها، وكان الشيخ إبراهيم يستبعد إمكانية حدوث الثورة في عالمنا العربي، وكتب إلي تعقيبا على المقالة الرابعة التي كتبتها في سلسلة (نحو وعي سياسي راشد)، التي نشرتها قبل الثورة التونسية بشهر تقريبا، ودعوت فيها إلى ضرورة الثورة للخروج من الأزمة التي تعيشها الأمة، وكانت المفاجأة أن حدثت الثورة أثناء المراسلات بيننا، وثبت أن الأمة قادرة على تفجير الثورة، وتغيير الواقع، ورسم المستقبل!
وهذه هي المراسلات بتواريخها، وفيها حوار طويل مع الشيخ إبراهيم في المشكلات العقائدية، التي تحول دون التغيير في الخليج والجزيرة العربية، وتأثر السلفية بالثقافة الأموية، وسبب شيوع مذهب أهل السنة في العالم الإسلامي، ومشكلة الطائفية، وعجز التشيع عن اختراق المنظومة الفكرية لعامة طوائف الأمة خاصة العرب ..الخ
(رسالة حول الثورة)
20/12/2010
فضيلة الشيخ الدكتور حاكم المطيري حفظه الله ورعاه..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
أسعدتني قراءة كتاباتك السياسية، ومن بينها سلسلة (نحو وعي سياسي راشد)، وخصوصاً الجزء الرابع الخاص بالدولة الوظيفية، والذي حمل توصيفاً عميقاً ودقيقاً للأوضاع، ثم ختمته بالدعوة إلى الثورة . واسمح لي يا دكتور أن أعلق على هذه الدعوة الأخيرة نحو الثورة .
أنا مثلك تماماً أتمنى أن تحدث ثورة إيجابية تقودنا نحو الأفضل، ولكني أعتقد أن ثقافتنا وأوضاعنا هي أبعد ما تكون عن الثورة الإيجابية، وأقرب ما تكون إلى التفتت والتحلل والاندثار .
ما الذي تتطلبه الثورة ؟
أول ما تتطلبه هو وجود ثقافة إيجابية بديلة يراد الانتقال نحوها، ثم وجود قوة جماهيرية أو نخبوية قادرة على الدفع باتجاه الانتقال . فهل توجد هذه المتطلبات في عالمنا العربي عموماً وفي منطقة الجزيرة العربية على وجه الخصوص؟
ما هي الثقافة الإيجابية البديلة التي توجد في عالمنا العربي، أو في منطقة الجزيرة ويمكنها أن تستقطب الناس وتدفعهم نحو تقديم التضحيات؟
لا أعتقد أن مسألة سنن الخلافة الراشدة كافية في تحقيق أدنى ثورة، لأن هذا الفهم ليس إلا فهماً نخبوياً تستطيع قوى الثقافة السائدة وأده والتشغيب عليه وتشتيته، خصوصاً في دول شبه مؤممة لصالح حكام التغلب ومن يحميهم .
الدولة في منطقتنا العربية أصبحت غولاً يستطيع التحكم في كل شيء، وبعض الحكام العرب لا يحملون عشر معشار المشروعية التاريخية أو الاجتماعية المتحققة لمعظم حكام الخليج، ولا يحظون بعشر معشار الدعم الغربي الذي تحظى به دول الخليج، ومع ذلك استطاعوا التحكم في شعوبهم واستعبادها، ومعظم أبناء الطبقة الوسطى لو انقطعت رواتبهم لمدة شهرين أو ثلاثة فقد تتحول حياتهم إلى جحيم لا يطاق . فأين هو الجمهور الواسع المستعد لتقديم التضحيات في سبيل الإصلاح والثورة، خصوصاً وأن معظم دول الخليج تكاد تكون بلا مجتمعات مدنية، وهي أشبه ما تكون بالمحميات الغربية؟!
في السعودية التي يوجد بها أكبر عدد من السكان والعمق التاريخي والديني ستكون الثقافة الدينية السائدة أقوى عائق نحو الإصلاح السياسي، فهي ثقافة نشأت على التحالف مع أهل التغلب في مواجهة الناس . وهذا مكون أساسي من مكوناتها لم يعد بالإمكان تصحيحه، وهو محمي من المؤسسات الدينية والسياسية . والأفكار السياسية الإصلاحية التي تظهر بين وقت وآخر ليست إفرازاً للتطورات الداخلية للمدرسة السلفية، بل هي إفراز لحالة الخروج عنها في الشق السياسي . وها هو الدكتور .... يحاول منذ سنوات عديدة إحداث أدنى تغيير دون جدوى . وأنت يا دكتور حاكم ستواجه أفكارك السياسية الرفض المستمر من قبل السواد الأعظم من أتباع الثقافة الدينية السائدة، فالسياسة أصلاً ليست من مكونات الخطاب السلفي، ويكاد هذا الخطاب يحتاج لثورات ثقافية كبرى لإدخال عالم السياسة إلى أجوائه . وهذا لا يتحقق إلا لبعض النخبة بعد تطورات وتجارب ومحاولات طويلة .
بل إنني أعتقد أن الخطاب السلفي لدينا أصبح من أعظم عوائق الإصلاح الدنيوي عموماً، لأن مكوناته الأساسية وقوى الدفع التي يحملها لم تعد إيجابية، أو ذات أولوية في عصرنا . شركيات أهل القبور لم تعد قضية كبرى في زماننا، ومع استمرار نقل الخطاب السلفي إلى غير زمانه ومكانه فإنه قد يستنهض الهمم باتجاه الصفاء العقائدي والجهد التعبدي ومواجهة التغريب، إلا أنه أيضاً سيواجه أي تجديد ديني، ويتعايش مع التغلب أو يدفع باتجاهه، ويكرس التقليد والانعزال والمعارك العقائدية ضد بقية المسلمين .
والسلطة لدينا أممت هذه المدرسة منذ أمد بعيد . وها هي تتحالف مع القوى الغربية حتى ضد المسلمين، وتصف الجهاد بالإرهاب، وهي التي قامت على الجهاد المتواصل ضد المسلمين، وهاهي توجد ضمن قائمة الدول الأكثر فساداً، ورغم ذلك فإنها ممسكة بالمدرسة الدينية، وأسهمت في إنتاج الجاميين والمداخلة وسائر المتعبدين بولي الأمر .
إن الثقافة الدينية الشائعة لدينا تحمل قوة دفع قصوى باتجاه الصدام مع الآخر المختلف، سواء كان مسلماً أو غير مسلم، وقوة دفع قصوى باتجاه التغلب، وقوة دفع قصوى ضد التجديد . ورغم كثرة إيجابيات مثل هذه السمات وقلة سلبياتها في مراحل معينة، مثل المرحلة التي انتشرت خلالها دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وبعض مراحل الاحتلال الأجنبي، إلا أنها ليست ثقافة بناء وتطوير وإصلاح دنيوي في زمان مثل زماننا، بل إنها أصبحت من أهم العوائق والعقبات .
العائق الثالث بعد ثقافة التغلب والثقافة السلفية المؤممة من قبل أهل التغلب، هو عائق الثقافة الغربية والمصالح الغربية . ولا أظن أن مشكلتنا الكبرى تكمن في الاستعمار، بل تنبع من القابلية للاستعمار كما ذكر الأستاذ مالك بن نبي . وهذه القابلية تنبع أيضاً من الهشاشة الثقافية الداخلية، وخصوصاً في جانبها السياسي . فمن أين لبيئات بمثل هذه السمات والخصائص أن تتجه نحو الثورة، وما الذي تحمله من القوى أو الثقافة الدافعة باتجاه الثورة ؟!
لا مجال للمقارنة بين الحسين ويزيد أو بين عبدالله بن الزبير وعبدالملك بن مروان، ولكن أهل السيف والجبروت انتصروا، ليس لأن المجتمع لا يعرف مقام الحسين وعبدالله بن الزبير، وليس لأنه لا يريدهما، بل لأنه لم يكن يحمل كل مقومات الثورة المتصلة والمتتابعة ضد التغلب وأهله، بينما كان أهل التغلب على استعداد لتوظيف السيف والمال للدفاع عن كراسيهم أو لتحقيق طموحاتهم، وكانت الثقافة والأوضاع السائدة مهيأة للإذعان لهذا التوظيف . ودوماً ستحتاج في أمثلتك لرموز التغيير والثورة إلى الخروج خارج الدائرة العربية باتجاه ماليزيا أو تركيا أو جنوب أفريقيا أو روسيا أو الصين أو إيران، لأن تلك الدول تتمتع بظروف دافعة باتجاه التجديد أو الثورة، وعوامل داخلية أو خارجية أسهمت في إفراز قوى التغيير .
نعم، نحن نحتاج إلى الثورة، ولكننا – فيما أعتقد نحتاج إلى التغيير الثقافي ضد أهم العوائق التي تواجهنا . وإذا نجح التغيير الثقافي ولو إلى حدود معقولة فإن قوى التغيير الإيجابي ستتشكل وتكون مهيأة لتحسين الأوضاع .
بارك الله فيك، ونفع بك، مع خالص تحياتي وتقديري..
إبراهيم .......
...
(الجانب الآخر من الصورة)
24/5/2011م
فضيلة الشيخ الدكتور حاكم المطيري حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد :
أتابع باهتمام بالغ سلسلة مقالات " عبيد بلا أغلال "، وخصوصاً ما يتعلق منها بالاتفاقيات والتحالفات مع الغربيين . وكما تلاحظ فإنه رغم وضوح هذه الصورة فإنها غائبة أو مغيبة عن الوعي العام والثقافة العامة، إما بسبب سطوة الحكام، أو بسبب الثقافة الطائفية التي نشأنا في ظلها، والتي اختلط فيها الدين بالهوية المحلية بالعادات والتقاليد بالثقافة العشائرية، إلى أن أصبحت بعض الحقائق منزوية وغائبة خلف الكثير من الحواجز المعرفية والوجدانية الراسخة .
غير أني أستأذنك في الاختلاف معك حول الخلاصة التي خرجت بها، وهي إلقاء التبعة على الاستعمار، فأنا ممن يعتقدون بصحة ما قاله المفكر مالك بن نبي من أن المشكلة لا تكمن في الاستعمار بل في القابلية للاستعمار . ولو كان الأمر بأيدي عائلات أخرى لتحققت ذات النتائج، أو ربما أسوأ . ومن السهل الحديث عن علل الآخرين، إلا أن من الصعب الحديث عن علل الذات.
هناك جانب آخر من الصورة قد لا توافق عليه، وقد يستفزك، ليس لأنه غير حقيقي وغير صحيح، بل لأنه غير ملائم، فهو يصدم جذور الثقافة الطائفية المتغلغلة فينا .
ما رأيك يا دكتور حاكم أن تخصص جزءاً يسيراً من الحس النقدي المبهر الذي تجلى في سلسلة مقالات " عبيد بلا أغلال " لتناول ثقافة التكفير والجهاد ضد المسلمين التي شاعت وطبقت في طول الجزيرة العربية وعرضها على مدى نحو قرنين من الزمان ؟!
لو خضت هذه التجربة، فهل ستجد صعوبة في الاستدلال على وجود ثقافة التكفير واتساعها ووصولها إلى أعلى وأقصى درجات الغلو؟
إذا وجدت العكس، وأن التكفير كان أشد وأوضح وأوسع مما يمكن أن يتخيله أي عاقل، فلماذا ظلت حقائقه مغيبة أو محجوبة أو مقدمة بغير بصورتها؟
هنا سنجد إحدى أقوى علل الذات، وهي الثقافة الطائفية المتسلحة بالتبني السياسي الطويل والتحصين الثقافي الواسع .
في موضوع الإصلاح السياسي يتعين أولاً الانطلاق من الإيمان بولاية الأمة والتسليم بقيمة الشورى كقيمة حاكمة للشأن السياسي . فما هي أقوى العوائق الثقافية التي يمكن أن تعترض طريق هذا الإصلاح؟!
أن تكون الأمة هي أكبر مصادر الخطر . ولن تكون الأمة كذلك من المنظور الديني إلا إذا نظر إلى أفرادها كمجموعات من المشركين والضالين . ثم أن يكون التغلب هو وسيلة الإصـلاح والتصحيح . فإذا وجد فكر يجمع بين التكفير والتغلب فإنه بقدر شيوعه وتجذره سيصبح أكبر عائق في وجه الإصلاح السياسي .
إذا حظي مثل هذا الفكر بالتبني السياسي الطويل والتحصين الثقافي الواسع فإنه يتحول إلى فكر طائفي شديد السلبية والخطورة على الصعيد الدنيوي، ومحمل بقدرات متعددة تمكنه من الشيوع والتجذر ومقاومة إمكانات التصحيح والتطوير . ذلك أن الأساس العقائدي يمده بقوة اليقين ودواعي الحدة لدى الأتباع والبعد السياسي يمد المتغلبين بالقوة الثقافية والرسالية اللازمة للتمكين لهذا الفكر واستثماره والدفاع عنه . ومع التبني السياسي والتحصين الثقافي فإن الكثير من الآراء والأفكار والجهود ستكتسب بعض صور ومعاني القداسة، وسيشيع ويترسخ الشعور بتميز الذات والنفور من الآخرين، والولع بمخالفتهم وتتبع انحرافاتهم وتهميش أو استبعاد ما هو مشترك معهم.
بعد أن تترسخ مثل هذه الثقافة الطائفية وتنتج أوضاعـاً سياسية واجتماعية واقتصادية ستنتقل السمات الطائفية إليها، فتحاط بقدر من القداسة وتصبح جزءاً من الهوية، وتوفر فرص الظهور وتحقيق الذات والمكانة . وبمجرد أن يشعر المرء بالتهديد أو الخطر، فإنه يلوذ بالطائفة حتى ولو لم يكن مقتنعاً بمقولاتها وأفكارها ورؤاها، فهي توفر له الحماية والأمن وفرص الانحياز والدعم . وإذا لم توجد الرابطة الوطنية، أو لم تكن فاعلة وجاذبة، أو تعرضت للضعف والتهديد، فإن الناس يلوذون بروابطهم الطائفية ويقدمونها على ما عداها .
وبالطبع فإن البنيان الطائفي ليس مجرد أفكار ورؤى، بل هو أيضاً عادات وتقاليد وطقوس ومشاعر متجذرة عبر التاريخ، وأوضاع ومصالح ومواقع معاشة وحاضرة وضاغطة . كما أنه بعد استقرار الثقافة الطائفية يهيمن التقليد، ويستشري التمجيد الطائفي، والسباق نحو الولاء للجذور والمنطلقات التأسيسية، وتشيع النظرة العدائية لأي جهد نقدي أو تطويـري . وهذه الجوانب والأبعاد تزيد من صعوبات وعوائق الخروج من الثقافة الطائفية أو تطويرها أو تعديل مكوناتها ومحمولاتها الكبرى .
ومن جانب آخر، فإن عالم الشريعة هو العالم الدنيوي، وقيمها الكبرى – لمن تأملها حق التأمل - هي قيم الشورى والحرية والعدالة، والرابطة التي يمكن من خلالها تطبيق الشريعة في عصرنا هي الرابطة الوطنية في كل دولة .
وإذا صح ذلك فإنه بقدر حضور التكفير أو التضليل، ودرجة مشروعية حكم التغلب ضمن الثقافة الطائفية، فإنها تؤدي ضمناً إلى تغييب عالم الشريعة وتهيمش بعض قيمها الكبرى، ومصادمة الرابطة التي تسمح بتطبيق قيمها وتكاليفها . هذا هو حال الثقافة الطائفية القائمة على التكفير والتغلب من منظور الشريعة . ومع اتساع وتعاظم تطورات العالم الدنيوي، وزيادة أولوية وإلحاح قيم الشورى والحرية والعدالة، ونشوء وتجذر الدولة الوطنية وتعقد متطلبات بنائها وتطويرها، ستزداد وتتعاظم خطورة وسلبية الثقافة الطائفية المتولدة من أفكار التكفير والتغلب على عالم الشريعة وقيمها ومتطلبات تطبيقها . غير أن التبني السياسي الطويل، والتحصين الثقافي الواسع، سيحاصر أية قراءة نقدية لهذه الثقافة بأسلحة العقيدة، والسياسة، والعادات والتقاليد، والمصالح، والأوضاع، والأمزجة والطباع، التي تشكلت وترسخت طوال رحلة التبني والتحصين .
لننظر مثلاً إلى موضوع التكفير، ولنضعه ضمن إطاره الشرعي، فتكفير المسلمين وقتالهم ليس من الأمور المندوبة أو المسكوت عنها، وليس من الأمور المطلوب التوسع فيها أو التساهل بشأنها، بل إن النصوص النبوية متظافرة حول التحذير الشديد من تكفير المسلمين وقتالهم، ووردت إدانات شديدة وعديدة لفكر الخوارج القدامى الذين كان واضحاً أن انحرافهم الأكبر يتمثل في تكفير المسلمين وقتالهم . وكل ذلك يفترض أن يجعل هذه الدائرة محاطة بالمحاذير والضوابط والموانع، وبعيدة عن متناول العامة وأصحاب المصالح، وغير قابلة للتساهل والاندفاع والاجتهادات الفردية، مهما كانت الذرائع والتبريرات .
لنأخذ هذا الإطار الشرعي، ولننظر من خلاله إلى صورة الذات والآخر، ومعالم الدين والسياسة، عبر مقاطع مما سجله أحد المؤرخين الموثوقين، ثم لنتساءل عن حجم الغموض واللبس الذي يحيط بموضوع التكفير، والموانع التي تحول دون الحكم الموضوعي على الأحداث؟
وحين نجد أن التكفير كان أشد وأوضح وأوسع مما يمكن أن يتخيله أي عاقل، ثم نجد أن تلك الصورة مغيبة، أو محجوبة، أو مقدمة بغير بصورتها، فإن بإمكاننا استشعار بعض معاني الفتنة، وما يؤدي إليه التبني السياسي الطويل، والتحصين الثقافي الواسع للأفكار من حجب بعض حقائقها الكبرى وتغييبها، وتسهيل فرص الدفاع عنها، وتصويرها بغير صورتها، وإعاقة فرص نقدها وتطويرها .
فضيلة الشيخ الدكتور حاكم..
لقد سبق أن أرسلت لك المضمون المرفق، غير أني أعيد إرساله بعد تطوير وتعديل بعض جزئياته وتفاصيله، آملاً أن يحظى بالقراءة الهادئة والمتدرجة، ولك مني خالص التحية والتقدير
إبراهيم...
....
رسالة الرد :
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته..
أخي إبراهيم كم سعدت برسالتك وبهذه الدراسة الرائعة مهما اختلفت معك في بعض جزئياتها ..
أخي الكريم كل ما ترسله إلي يجد حظه من الاهتمام، لأنني أستفيد منك أكثر مما أفيدك، هذه واحدة.
وثانيا أنا بحمد الله من أكثر الناس تحررا من القيود الثقافية، ولا أجد في نفسي حرجا من مناقشة ونقد أي فكرة.
أخي الكريم أنا صاحب مشروع سياسي، وأحاول أن أعالج كل الإشكالات الدينية والسياسية والتاريخية والثقافية التي تقف أمام هذا المشروع، وهناك قضايا كثيرة مع أهميتها إلا أنها لا تمثل مشكلة اليوم، ومن ذلك تاريخ الدعوة الوهابية فقد طواها الزمن، وتراجع أهلها أنفسهم عن كثير من دعاوها بما فيها قضية التكفير، ففي فتح الباب عليها استثارة للحس السلفي الذي ستأخذه الحمية الجاهلية أكثر من القناعة الفكرية ...
حاكم المطيري
...
(الرسالة الثالثة)
أخي الدكتور حاكم وفقه الله ..
أسعد الله أوقاتكم بكل خير..
أشكر لكم الاهتمام والتواصل..
أنا أتفق معك تماماً في أن تاريخ الدعوة الوهابية لم يعد مشكلة اليوم، بل إنه غائب أو مغيب عن معظم الناس، وربما من هنا تأتي المشكلة . صحيح أن التاريخ مغيب، لكن القيمة والاستثمار السياسي يفوقان التصور!
لو سألتك يا دكتور حاكم عن الجامع بين الرؤية المسيحية، والطرح الشيعي، والفكر الوهابي، فقد لا ترى بينها جامعاً، ولكنك بمجرد أن تتأمل الوعي عن البدايات والمراحل التأسيسية ستجد أن ما يجمع بينهم هو الصورة المصطنعة الشائعة، والصورة الحقيقية الغائبة أو المغيبة. ولأنني أنا وأنت ننظر من خارج الثقافة المسيحية المستحكمة، فإنه لا مشكلة لدينا في الاقتناع بأن تلك الثقافة تقوم على صورة مصطعنة لحقيقة المسيح، وأنهم سيواجهون الحقيقة في يوم من الأيام . وبالمثل فأنا وأنت ننظر من خارج الثقافة الطائفية الشيعية، وحقيقة علي والحسن والحسين رضي الله عنهم أوضح لدينا من الصورة المصطنعة التي قد نستغرب شيوعها وتمكنها من أي عاقل، ولكن هذا ما تفعله الثقافات الطائفية حين تتمكن سياسياً أو تتحصن ثقافياً!
وبالمثل، فإن البعد التكفيري والسياسي في تاريخ الدعوة الوهابية يضم صورة مغيبة لا يؤدي استمرار تغييبها إلا إلى تمكين آثار الصورة المصطنعة الحاضرة والشائعة . ونحن نعلم أن المشروعية الدينية والسياسية الحالية لا تستند إلى شيء قدر استنادها إلى دعوة الشيخ، ليس بصورتها الحقيقية المتكاملة التي حدثت تاريخياً، بل بصورتها المقدمة في حاضرنا . ومن هنا يمكننا أن نفهم مناسبة ورود بعض النبوءات عن بعض الأفكار أو الأوضاع ذات الطبيعة الملتبسة!
إن النبوءات تهدف إلى هداية وإرشاد المسلمين وتنبيههم إلى مواطن الخلل والانحراف أو مواطن الاهتداء والرشد في حياتهم المستقبلية . وفي النبوءات المتعلقة بالفتن لا بد أن يتجه الوعي نحو الأفكار أو الأوضاع الملتبسة والضاغطة والشائعة والمؤثرة، والتي قد تحمل الكثير من الإيجابيات والإغراءات أو عوامل الشيوع والتجذر، ولكن إيجابياتها مختلطة بالكثير من السلبيات الكبرى، كما أن الإيجابيات قد تتحقق أو تؤدي دورها ثم يتسع ويتعاظم دور السلبيات على نحو يشتد معه الالتباس والصراع والتأثير المزدوج وزيادة التعلق بتلك الأفكار أو الأوضاع والانجذاب نحوها عند البعض وشدة النفور منها عند آخرين .
إن حالة الفتنة تزداد وتتعاظم كلما التحمت الإيجابيات والسلبيات وعوامل الشيوع والنفور على نحو يؤدي إلى اشتداد حالة الالتباس والصراع والتأثير المزدوج، والدفع المستمر باتجاه الانقسام والتناحر . أما الأفكار أو الأوضاع الواضحة السلبية والمحدودة الشيوع والتأثير وشبه الخالية من عوامل الجذب المتعددة، وجوانب الإغراء الكبرى، أو شبكة المصالح الواسعة فليست من الفتن الكبرى، وليست مؤهلة لذلك، فمحدودية شيوعها وتأثيرها وضعف عوامل الجذب والإغراء التي تحملها وانحسار شبكة المصالح المرتبطة بها يعزز الحصانة ضدها، ويقوِّي فرص تجاوزها والانفصال عنها على نحو يجعلها غير جديرة بالإخبار عنها .
بارك الله فيك، ونفع بك، ولك مني خالص التحية والتقدير
إبراهيم....
...
(رسالة الرد)
السلام وعليكم ورحمة الله وبركاته..
أخي الكريم..
نزولا عند رغبتك في الاطلاع على كتابك (....)، وإبداء الرأي فيه، فقد عكفت عليه مدة ثلاثة أيام كاملة، ولم أستطع مع ذلك قراءة أكثر من ربع الكتاب!
وبعد قراء المقدمة ومبحث السياسة ثم مبحث السنة، ألفيته من حيث العموم على النحو التالي:
ملحوظة: هذه التعليقات كتبتها أثناء القراءة للمباحث أولا بأول، ولم أتكلف في إعادة صياغتها، حتى تعبر عن انطباعاتي أثناء القراءة كما هي، قبل تشكل الرؤية العامة عن الكتاب:
المقدمة: كانت من أجود ما قرأت في بابها، وهي لوحدها تستحق أن تفرد في رسالة خاصة، وقد وفق المؤلف فيها غاية التوفيق، وهي محكمة البنيان، رصينة السبك، تتحلى بالعلمية والموضوعية إلى حد كبير، وفيها تشخيص دقيق لسبب نهوض الحضارة الإسلامية في صدر شبابها، وسبب الجمود بعد ذلك، ثم السقوط، مما يدل على فهم المؤلف العميق للأزمة، وعلى تضلعه في هذا الباب.
المبحث الأول: عن الموضوع السياسي والثورات العربية:
وفيها اختلف الأسلوب اختلافا كبيرا جدا، وافتقد رونقه العلمي، وتحول إلى أسلوب صحفي، مع صحة الفكرة نفسها التي يحاول المؤلف تأكيدها، إلا أن المقدمة وصياغتها العلمية بدت نشازا مع ما جاء بعدها، وبدا البون شاسعا بين البابين حتى كأنهما لكاتبين مختلفين، لولا النفس والبصمة الكتابية!
ولهذا تمنيت لو أنه أعاد صياغتها بروية وبالعلمية نفسها التي صيغت بها المقدمة حتى تكون أكثر انسجاما مع المقدمة..
كما ظهر في هذه الدراسة بشكل جلي أن المؤلف يقع تحت تأثير الواقع المجتمعي المحلي السياسي والفكري، وهو أمر طبيعي ولا ضير فيه، إلا أنه لا يليق بكتاب بهذا العنوان الكبير، وبهذه المقدمة الرائعة التي أراها إبداعا بكل ما تعنيه الكلمة، أن يقع مؤلفها أسير واقع محلي! بينما الموضوع يناقش قضية أمة تمتد من أقصى المشرق إلى المغرب بقومياتها وتنوعها واختلاف مستويات نهوضها المعاصر..الخ
وبدا ذلك أيضا في الذرائعية التي أبدى المؤلف فيها ضرورة الإصلاح الثقافي والمعرفي في مواجهة الاستبداد، وعدم استخدام القوة في مجتمع قد يعود للاستبداد مرة أخرى..الخ
- وقد كرر المؤلف هذه القضية لاحقا بالتأكيد على مبدأ السلمية، والاستشهاد بقصص الأنبياء، والتأكيد على سلمية دعوتهم -
وليس في هذا الرأي من جديد هنا، إذ هذه النظرة هي النظرة الدعوية السائدة في الثقافة الدينية التقليدية، والتي أثبتت السنن الاجتماعية المطردة عدم جدواها، والواقع يؤكد بأن ثورات الشعوب غيرت واقعها تغييرا جذريا للأفضل كالثورة الأمريكية والفرنسية والبريطانية والروسية والصينية، وثورات شعوب أوربا الشرقية.. الخ!
والاستشهاد بقصص الأنبياء هنا يتعارض مع ما توصل له الباحث من أن العالم بعد ختم الرسالة وانقطاع الوحي انفصل عن عالم الغيب وانقطعت المعجزات، وصارت السنن المطردة والنواميس هي التي تحكم الواقع، فالرسل جاءوا فرادى ونصرهم الله بالمعجزات على أممهم، أما بعد ذلك فلا يوجد ما يمنع الشعوب من تغيير واقعها بكل وسيلة سلمية أو ثورية لمواجهة الطغيان فلم يعد هناك معجزات، والجانب التربوي الأخلاقي الذي حرص المؤلف هنا على تأكيده بالتغيير السلمي، يتنافى أخلاقيا مع كل القيم الإنسانية حين تترك الشعوب الطغيان يفسد في الأرض، ويسفك الدماء مع قدرتها على مواجهته ولا تفعل بحجة إيمانها بالعمل السلمي، وهو ما يتنافى مع ما جاءت به الشريعة الإسلامية التي قررت حق الأمة في التغيير دون تحديد وسيلة محددة بل جعلت تقدير ذلك للأمة نفسها (من جاهدهم بيده) (بلسانه) (فليغيره بيده) (لتأخذن على يد الظالم) ..الخ مع العلم بأن شعوبا كثيرة تغيرت أوضاعها السياسية إلى الحرية والتعددية أو ما يطلق عليه (الديمقراطية) دون هذه الشروط المعرفية التي اشترطها المؤلف، بل تحقق ذلك بوجود نخب سياسية ناضلت من أجل شعوبها، وقادت عملية التغيير، ولا أحتاج هنا إلى الاستشهاد بدول أوربية أو آسيوية، فمن الدول الإسلامية نفسها كماليزيا وأندونيسيا وتركيا وإيران من حدث فيها مثل هذا التحول، دون هذا الاشتراط المعرفي، الذي يفهم منه القارئ أن المؤلف يحاول الهروب من استحقاق ما قرره من وجوب الشورى وولاية الأمة، ولا يخفى مدى تأثر الكاتب بالثقافة المحلة التي لا تختلف كثيرا عن الخطاب الديني التقليدي الذي عاب جموده!
كما تتعارض هذه الرؤية التي يحتج المؤلف لها بالدعوة السلمية في العهد المكي مع المرحلية والتاريخية التي يجب تجاوزها اليوم، لاختلاف الظروف كلية بين المجتمع المكي آنذاك، وأحوال الشعوب اليوم وقدرتها على التغيير، وهو ما يفترض أن كتابكم جاء من أجل تقريره!
كما يلاحظ على الدراسة استشهادها بأحاديث ضعيفة، ومن ثم البناء عليها لكثير من الأحكام الخطيرة الحدية، وهو ما بدا متناقضا مع المبحث التالي حول السنة وتدوينها..الخ ومن ذلك الاستشهاد بحديث أن عليا يقاتل على تأويل القرآن كما قاتل على تنزيله!
ولولا مكانة علي رضي الله عنه - والذي حاول المؤلف بكل ما أوتي من قوة إضفاء الشرعية على كل ممارساته بما فيها ثلاث حروب داخلية – لقلت بأن المؤلف هدم كل ما أرد بناءه باستشهاده به وبالموقف منه!
إن تبرير ثلاث حروب داخلية وسفك الدماء التي خاض فيها علي بذريعة أنه (سيقاتل على تأويل القرآن كما قاتل على تنزيله) تنسف كل ما كتبه المؤلف حول شورى الأمة، وحول فتنة التكفير، والقتال للمخالفين، التي عاب المؤلف على الدعوة الوهابية الوقوع بها في مباحث أخرى!
بل إن ما فعله علي أشد، فإنه سفك كل هذه الدماء مع اعترافه بعدم كفر خصومه!
وسأبين وجهة نظري:
لماذا اختلف أئمة السلف قديما في خلافة علي رضي الله عنه؟ حتى اقتصر بعض أئمة السلف وأهل السنة على خلافة أبي بكر وعمر وعثمان فقط؟ وكانت إحدى المشكلات آنذاك، وحتى قال أحمد من لم يربع بعلي فهو أضل من حمار أهله؟
السبب هو أنه في نظرهم لم تعقد له بيعة بالشورى والرضا! ولم يجتمع عليه الناس! بل بايعه أهل الفتنة وحملوه عليها، واضطروه لها اضطرارا، وكان ابنه الحسن ممن نهاه عن قبول ذلك، وكذلك ابن عباس، وقد جاءت روايات أنهم جاءوا بطلحة والزبير فبايعوه مكرهين، ولهذا اعتزل ابن عمر ومحمد بن مسلمة وسعد بن أبي وقاص وكثير من الصحابة هذه الفتنة، ولم يبايعوه ولا قاتلوا معه، حتى يجتمع الناس وتكون شورى ورضا!
ثم لما بويع علي في هذه الفتنة التي سيطر فيها الثوار، وغاب عنها عامة الصحابة الكبار من المهاجرين والأنصار، لم يستشر علي الأمة في السير إلى قتال أهل الجمل، وكان ابنه الحسن أول من نهاه عن الخروج من المدينة، فخرج بجيش فكان أول من سل السيف على الصحابة ليدخلهم في طاعته!
وهذه وجهة نظر من لم يروا لعلي خلافة وأن زمانه زمان فتنة وأنه تأول في الدماء!
والقصد بأنه إن كان أحد سن سنن الجبر على طاعته فهو علي لا معاوية، ولا يجدي الاستشهاد بالأحاديث ما دام يتطرق لها الشك على النحو المذكور في مبحث تدوين السنة، وبقي التاريخ المتواتر هو الحكم، والتاريخ يقول بأن بيعة علي كانت غامضة مشكلة ليس لها وجه بيّن جلي!
فقد كانت بعد قتل عثمان مباشرة، وبعد اتهام بعضهم عليا بقتله! وفي ظل وضع استثنائي وفرقة ودماء!
فلما تولى علي الأمر مضى للقتال - بدل أن يحاور الصحابة الذي لم يبايعوه، ومن طلبوا منه القصاص - فإذا هو يجهز ويجيّش الثوار أنفسهم ويخرج بهم ليقاتل الصحابة على طاعته!
فلما انتهى من أهل الجمل توجه إلى أهل الشام لقتالهم على طاعته، وهم لا يريدون إلا القصاص والعدل، ولم يطلبوا إلا ذلك! ولم يخطر ببال أحدهم أن ينازع عليا في الخلافة!
ولا يمكن لمن عرف أحوال العرب في الجاهلية - وكيف يلحقهم العار حين يقتل منهم أحد ظلما وعدوانا حتى يأخذوا بالثار له - أن يزعم بأنهم اتخذوا من قتل عثمان ذريعة للخروج عن الطاعة!
والعرب في جاهليتها لا تستجدي القصاص بل تأخذ بالثار فورا، فكيف لا يتحقق لهم ذلك في الإسلام! والمقتول فيهم خليفة المسلمين وسيد قريش!
فما كان من علي بن أبي طالب إلا أن أراد منهم خطة خسف لا يرضى بها جاهلي فضلا عن إسلامي! فاشترط عليهم أن يبايعوه ويدخلوا في طاعته، بينما قادة جيشه ودولته هم من شاركوا في قتل خليفتهم بالأمس!
والاعتذار له بأنه لا يستطيع القصاص لعجزه أو خشيته الفتنة، يتناقض مع قتاله لكل الصحابة في الجمل وصفين وقدرته على خوض الحروب والفتن دون مراعاة أدنى مصلحة ولا درء مفسدة!
وما زلت هنا أعرض رأي خصوم علي رضي الله عنه التي تنسف هذا المبحث كله!
ولم يكف علي عن القتال يوم صفين حتى ثبت له أهل الشام، وعجز عنهم، ورأى أنه لا حيلة له بهم!
فلما دعوا إلى التحكيم رفضه، وحث الجيش على القتال، وقال لهم إنها خدعة!
فرفض أتباعه ورأوا بأن الواجب الصلح، كما أمر بذلك القرآن، فنزل عليه مكرها، فلما اتفق الحكمان على عزلهما، وانفض الجمع بقي خليفة، وكان الواجب أن يجمع الصحابة ليختاروا من شاءوا، فلم يفعل، بل التفت إلى من تخلوا عنه من شيعته، واتهموه بالكفر، فتوجه إليهم بجيشه ليقاتلهم!
فكل هذه الفتن والحروب خاضها علي في أقل من خمس سنوات! ولا يخفى فيها مدى سيطرة شهوة الحروب عليه، وعدم تردده في خوضها مهما كانت الأسباب، ومهما كان للصلح موضوع!
ثم لم يترك أحدا من بني عمه إلا وولاهم الولايات، عبد الله بن عباس على البصرة، وقثم بن العباس على اليمن، وعبيد الله..الخ
ثم لما اضطر خصومه للتخلص منه بالاغتيال، عهد بالأمر إلى الحسن، على قول شيعته، وقيل بل استشاروه فلم ينههم!
فكان أول خليفة يخلفه ابنه سواء بأمره أو برضاه! وهو ما لم يفعله أبو بكر ولا عمر، اللذان قال فيهما النبي (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر)، ولا فعله عثمان!
ومن هنا نعرف حسن نظر الصحابة حين اختاروا عثمان للخلافة ولم يختاروا عليا، وحين اشترطوا على علي كما في البخاري أن يسن بهم (سنة الشيخين أبي بكر وعمر) فرفض، ووافق عثمان على هذا الشرط!
فقد كان القوم أعرف بالرجال وبقدراتهم وقد ثبت لهم - بعد أن صار علي خليفة - أن صرفهم الخلافة عنه قبل ذلك كان رأيا سديدا!
ولو أردت أن أطيل في هذا الباب ليكون التاريخ المشهور والمتواتر حكما لقضى بأن عليا هو أول من فتح باب التأويل بالدماء، وكان خروج الخوارج وفكرهم المتطرف نتيجة طبيعية لسياسته تلك وآرائه المتطرفة، فهو أستاذهم، وعنه أخذوا، ومن تحت عباءته خرجوا!
وحاشاه ذلك رضي الله عنه وأرضاه فهو أجل وأكرم، وإنما أفترض ذلك على لسان خصومه!
فإذا جئنا للطرف الآخر فإذا عثمان أصح الخلفاء الأربعة بيعة – حتى قال أحمد ليس في القوم أي أبي بكر وعمر وعلي أصح بيعة من عثمان حيث تشاور الناس ثلاثة أيام فيها - وأكفهم يدا، وأكرمهم نفسا، فرفض أن يسل السيف من أجل ولايته، حتى حاصره الثوار في بيته وقطعوا الماء عنه، فأقسم على حرسه أن لا يسلوا سيفا، ولا يسفكوا دما، وقال لهم (والله لا أخلف رسول الله بسفك دماء أمته) حتى قتل شهيدا قديسا!
فقتل مظلوما، فثار له المسلمون ديانة، وثار قومه له حمية، فرفضوا البيعة لعلي مع وجود من قتلوا عثمان في صفوف جيشه!
فلما سار علي إليهم يوم صفين، قاتلوه دفاعا عن أنفسهم، فكان من عدل الله أن جعل العاقبة لهم، فتأولوا قوله تعالى {فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا}!
ثم لما قتل علي، جاء الحسن بنفسه ومعه آل بيته وأهل العراق فصالحوا معاوية طوعا، وهم أشد ما كانوا قوة، فقد كان مع قيس بن سعد بن عبادة - وهو مع الحسن - نحو أربعين ألف مقاتل بايعوه على الموت، فبايع الحسن معاوية وبايعته الأمة، وكان عام الجماعة، فكانت بيعة معاوية أصح وأوضح من بيعة علي، وقد بايعه سيد المسلمين الحسن بن علي وترك الخلافة له، ولو لم يكن معاوية عدلا وأهلا للخلافة، لكان فجورا وفسقا من الحسن – وحاشاه - أن يولي على الأمة ويسلط عليها من ليس أهلا لها!
فساس معاوية الأمة عشرين سنة، وهي أشد ما تكون قوة ووحدة واجتماعا وأمنا!
فاستأنف الفتوح وفتح الأرض، وعدل حسب استطاعته!
فلما عهد بالأمر إلى يزيد بعد أن أشار عليه أهل الشام بذلك، وجاء إلى المدينة حاجا، رفض كبار الصحابة فلم يتعرض لهم وتركهم!
فإن قيل احتال بالمال، وشرى الرجال!
قيل فالحسن إذن أول من خان - حاشاه - وباع الأمة مقابل أموال تدفع له ولبني هاشم!
وإن قيل الحسن قدر المصلحة والمفسدة؟
قيل فغيره أولى بالعذر منه، فهو خليفة آلت إليه أمور الأمة، فتنازل عنها لمعاوية طوعا، وكان الواجب عليه إما القتال حتى يظهر الحق، أو الصلح مع معاوية دون ترك الخلافة، أو ترك الخلافة للصحابة شورى بينهم ليختاروا خليفة منهم يرتضونه، أو تركها والاعتزال لتقرر الأمة شئونها، فلما ترك ذلك كله وصالح معاوية، وتنازل له وبايعه، عرفنا بشهادة سيد شباب أهل الجنة وخليفة المسلمين أن معاوية عدل وكفؤ وأهل لها!
فإن كان هذا هو أول انحراف فيتحمل جريرته الحسن لا معاوية!
فهذه حجج من يتولون معاوية، والتاريخ شاهد لهم، وأن عهده خير من عهد علي، وأن سياسته خير من سياسة علي! وأن من بايعوه كالحسن والحسين خير ممن بايعوا عليا من قتلة عثمان!
ولن يستقيم للباحث هنا ما قرره في ولاية الأمة حتى يقصر الخلافة على الخلفاء الثلاثة، ويخرج منها عليا، كما هو قول بعض السلف قديما، وإلا فكل من تولى الإمامة بالشبهة دون رضا أكثر الأمة وشوراها فعلي إمامه!
وكل من سل السيف ليدخل المسلمين في طاعته فإمامه في ذلك علي لا معاوية!
فإن معاوية لم يسل السيف على أحد من أجل بيعته وخلافته!
وكل من ورثها من بعده لولده فإمامه علي لا معاوية!
وكل من تأول في قتال المخالفين، واستحل قتالهم، وسفك دماءهم، فإمامه علي لا معاوية!
فإن معاوية لم يخض حربا، ولا استحل قتالا مع المسلمين عشرين سنة أميرا على الشام، ثم خليفة عشرين سنة على الأمة! وإنما قاتل في صفين دفاعا عن نفسه بعد أن سار إليه علي بأهل العراق!
ومن هنا نعرف لم اعتزل أكثر الصحابة عليا رضي الله عنه زمن الفتنة، بينما اجتمعوا على معاوية بعد الجماعة!
ولا يشفع لعلي أحاديث الفضائل لسببين:
الأول أنها إما إنها لا تثبت ككثير من أحاديث أهل العراق في فضائله!
أو صحيحة ولا تفيد صحة ما أحدثه من محدثات يجب ردها ورفضها!
أو يمكن تأويلها بما لا ينفي فضله ولا يثبت صحة أخطائه!
فإذا دخل في الموضوع قاعدة الشك في الأحاديث النبوية خاصة في الفضائل، فهنا يسقط كل فضل لعلي، ولا يبقى إلا التاريخ شاهدا عليه لا له!
وما يتهم المؤلف به أهل السنة وعامة الأمة بأنهم وقعوا تحت تأثير الدعاية الأموية وثقافة ذلك العصر! فإنه يمكن في المقابل أن يقال مثل ذلك عن أسطورة علي وزهده وعدله وآل بيته بأنها صناعة المخيال الشعبي الشيعي، والمخيال المعارض السني للحكم الأموي، أكثر منه الواقع والحقيقة!
خاصة وأن بداية الحركة العلمية والتأليف في التاريخ والحديث كانت في العراق لا في الشام الذي ظل مشغولا في جهاد الروم، بينما اشتغل أهل العراق في حياكة الأساطير والقصص!
فإن من نظر في نساء علي وما ترك من المال، وحرصه قبل ذلك على الخلافة، بل ونزاعه مع عمه العباس على قطعة أرض كما في صحيح البخاري حتى سبه ووصفه بأقذع الأوصاف!
ومن نظر في الحسن وكثرة زواجه وطلاقه، ومن نظر في الحسين ورغبته في الخلافة وإرساله إلى أهل العراق يطلب بيعتهم سرا دون شورى الأمة، على نحو غير مسبوق في طلب الملك!
كل ذلك يؤكد بأنهم ليسوا أحسن حالا من معاوية وبني أمية!
فهذه حجج أنصار بني أمية، ولو كانوا أهل كذب وافتراء لو جدنا آلاف الأحاديث في فضائلهم، وقد سادوا الأرض من أقصاها إلى أقصاها، فما وجدنا لهم حديثا واحدا يذكر فضائلهم ويخصهم بها، بل وجدنا أحاديث كثيرة في ذمهم عند أهل السنة، فدل ذلك على براءة عصرهم من ثقافة الزيف وترويج الأكاذيب التي اشتهر بها أهل الكوفة وما زالوا إلى اليوم أكثر أهل المدن خرافة! ومن نظر في قنواتهم الفضائية اليوم في القرن الهجري الخامس عشر، وكيف تروج بين علمائهم دع عنك عامتهم الأساطير والأكاذيب، يعرف كيف كان حالهم في القرن الأول، حتى قال أهل الحديث قديما: ليس في أهل المدن أكذب من أهل الكوفة خاصة في فضائل علي وأهل بيته!
ومن الملحوظات على الكتاب أيضا ما بدا في الدراسة بشكل جلي من الانتقائية في تفسير الأحاديث بما يخدم الفكرة التي يريد المؤلف تقريرها، لا الحقيقة التاريخية التي يغض الطرف عنها!
ومن ذلك شرح حديث الخلفاء الاثني عشر!
فالحديث بألفاظه صريح (لا يزال هذا الدين عزيزا منيعا إلى اثني عشر خليفة كلهم من قريش) وهو في صحيح مسلم بألفاظ متقاربة!
فإدخال (طلحة والزبير وسعد وابن عوف) تكلف واضح لم يقل به أحد، ولا يحتمله النص قطعا، فليسوا بخلفاء، وقد تفانوا في وقت واحد متقارب، ولا يتحقق معه الإشارة المقصودة في الحديث من البشارة بظهور الإسلام وقوته إلى أن تمضي عهود اثني عشر خليفة!
كما أنه يتناقض مع القاعدة التي قررتها من أن الواقع يصلح شاهدا للرواية إذا تحقق معناها، حتى وإن كان الإسناد ضعيفا!
فالحديث هنا صحيح والواقع يؤكده إذ أن آخر خليفة قوي هو هشام بن عبد الملك، حيث ظلت الخلافة إلى عصره عزيزة منيعة، والدين قويا ظاهرا، وبعده اندثر أمر بني أمية، ولم تجتمع الأمة كلها على رجل بعده، ولا حتى على خلفاء بني العباس الكبار! حيث خرجت الأندلس من نفوذ أمرهم مع بقائها تحت ظل الخلافة اسميا!
وعلى دواوين هشام ونظمه الإدارية أقام بنو العباس خلافتهم!
ولو قال المؤلف بأن الخلفاء الاثني عشر هم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والحسن ومعاوية وابن الزبير والوليد بن عبد الملك وسليمان بن عبد الملك وعمر بن عبد العزيز ويزيد بن عبد الملك وهشام بن عبد الملك – لكان أصح وأصوب وأكثر مطابقة للتاريخ!
وخرج يزيد من عدادهم لأنه لم تجتمع عليه الأمة، ولم تعقد له بيعة صحيحة، كما خرج منها عبد الملك، لأنه أخذها بالسيف قهرا، بخلاف من بعده، فقد بايعتهم الأمة بالعهد لهم ممن قبلهم، ورضيت بهم، ولم تخرج عليهم!
أو يمكن أن يقال بأنه لا يشترط في الاثني عشر خليفة المذكورين التتابع، فيدخل فيهم خلفاء بني العباس العدول كالمهدي وهارون الرشيد ونحوهم مثلا!
وعلى أي تأويل تأولته فله وجه من الصحة إلا القول بأن طلحة والزبير وابن عوف وسعد يدخلون في عداد الخلفاء الذين يكون الدين بهم عزيزا منيعا!
ولم يزعم هذا أحد من شراح الحديث على كثرة اختلافهم في المراد، لأنه لا وجه له لا عبارة ولا إشارة!
ومثل هذه التفسيرات هي تكلف ظاهر أراد المؤلف منه نفي الفضل الوارد في شأن خلفاء بني أمية بالباطل!
فأخرج هذا الفصل الكتاب عن الموضوعية والعلمية التي تجلت كالشمس في مقدمته الرائعة فأطفأ نورها!
كما يمكن أيضا لمخالفي المؤلف أن يحتجوا بأحاديث أخرى صحيحة كحديث (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يفشو الكذب)!
وسواء قيل القرن مائة سنة، أو هو جيل الصحابة ثم التابعين ثم أتباعهم وهو إلى 200هـ، فالخلافة الأموية تدخل في الأفضلية على كلا الحالين، وهذا لا ينفي وجوب رد المحدثات والبدع السياسة التي حدثت منهم، إلا أنها تؤكد بأن الخلافة والدولة وإن طرأ عليها ما طرأ من محدثات، لا يزال فيها الإسلام عزيزا منيعا ظاهرا وهذا ما كان فعلا!
وقوله في الحديث بعد ذلك (ثم يفشو الكذب) واضح جلي بعد القرن الثاني، حيث فشا الباطل والخطأ وشاعت أقوال زائفة في الآراء والاعتقادات حفظتها لنا كتب الملل والنحل والفرق، بما يؤكد صحة الحديث وتطابقه مع الواقع السياسي، حيث بدأ شأن الخلافة والدولة يضعف من جهة كما أشار إليه الحديث الأول، والواقع العلمي من جهة أخرى حيث فشت الآراء الكاذبة على نحو مذهل بسبب الانفتاح على حضارات أخرى، وولع الناس بالمعرفة الجديدة كما أشار له الحديث الثاني وكلاهما في الصحيح!
أخي الكريم..
أقترح إعادة صياغة هذا الباب صياغة ترقى لمستوى المقدمة، ويقتصر فيها على تأكيد مبدأ ولاية الأمة والشورى والحرية والعدل، ودلالات النصوص، واستيعابها لتطور العصر، وشموليتها لكل زمان ومكان، دون السقوط في هاوية الصراع العلوي الأموي، والحزازات بين بيوت قريش! التي لا تحل مشكلة، ولا تقدم رؤية، مع التأكيد على رد المحدثات، ونبذ الطائفية بكل أشكالها، وإبراز قيم الإسلام التي تتجاوز الطوائف والأحزاب والبيوتات إلى آفاق إنسانية أرحب!
لقد حاول المؤلف تأكيد ولاية الأمة بكل وسيلة حتى لو كانت باطلة، واستعدى عامة الأمة وهم أهل السنة بدعوى نبذ الطائفية!
حتى بدا هذا الفصل وكأن الهدف منه الطعن في عامة الأمة وأهل السنة، وتحميلهم جريرة صراع بني أمية وبني هاشم!
أخي الكريم..
لقد شعرت وأنا أقرأ هذا الفصل - مع حياديتي وتحرري من ثقافة المجتمع حيث لا فرق عندي أصلا بين مسلم ومسلم فالإسلام عندي فوق الطوائف وقبل وجود الاختلاف، الذي هو مظهر اجتماعي طبيعي – بأن المؤلف يعيش صراعا مع المجتمع الوهابي وصل به إلى حد تبني المواقف الأخرى النقيضة له كردة فعل نفسية من حيث لا يشعر، أكثر منها نتائج موضوعية حيادية في شأن ما جرى بين علي ومعاوية!
وتجلى ذلك في اتهام أهل السنة عامة بأنهم تبنوا الثقافة الأموية، وأنهم لم يتأثروا بما جرى من قتل للحسين وآل بيت النبوة..الخ مع أن كتب أهل السنة تؤكد خلاف ذلك، فهي تنضح بالتشيع السني أكثر من الميول الأموية!
أخي الكريم..
لو سأل الباحث نفسه لماذا شاع المذهب السني على هذا النحو حتى كاد يستحوذ على العالم الإسلامي وعلى الأمة كلها، مع كون الاعتزال والتشيع وغيرها من المذاهب قامت لها دول، وحملت الأمة على مذاهبها بالقوة، كما فعل المأمون والواثق والمعتصم للاعتزال، وكما فعلت الدولة العبيدية في المغرب ومصر للتشيع..الخ؟
حتى قيل بأن القرن الرابع الهجري كاد يكون شيعيا على المستوى السياسي!
حين تنظر في الأسباب الموضوعية تجد بأن وجود القرآن – وليس الثقافة الأموية الموهومة - كأصل مرجعي لكل مسلم فضلا عن علماء الأمة وفضلائها، يتلوه المسلمون ليل نهار، ويحفظه علماء الأمة على اختلاف تخصصاتهم في التفسير والحديث والفقه والعربية والأصول وعلم الكلام..الخ
بالإضافة إلى قدر كبير من السنة محفوظ لا يختلف المسلمون في ثبوتها، وإن اختلفوا في فهمها، كل ذلك يجعل إمكانية تمحيص الآراء العلمية ونقدها أمرا ميسورا للجميع، وليس بين الحق وبين أحد منهم خلاف على اختلاف مذاهبهم، فمن يعرف تراجمهم يدرك شيوع حالة من الصلاح والزهد بين علماء الأمة سنة ومعتزلة وشيعة وخوارج ومرجئة.
فلما وقعت الفتن من جهة، وتلتها الفتوح، وانفتحت الأمة على العلوم والمعارف من جهة أخرى، راج سوق الآراء والجدل، فإذا نحن أمام حالة علمية غير مسبوقة في التاريخ الإنساني، حتى أن ما تم تأليفه في مدة أربعة قرون في كل الفنون، تحتاج الأمة إلى تحقيقه اليوم وإعادة نشره مدة عشرة آلاف سنة بهذا الوتيرة التي نحن عليها اليوم! حيث يتم تحقيق مائة كتاب تراثي كل سنة تقريبا في العالم العربي والإسلامي، وهناك نحو مليون كتاب لم يتم تحقيقها حتى الآن! هذا عدا ملايين الكتب التي لم تصل إلينا!
فكان هذا الانفتاح وفشو العلم والمعرفة والجدل وازدهار الحياة العلمية سببا في مناقشة كل قضية في حالة أشبه بالترف المعرفي، إلا أنها ما إن تظهر آراء وتروج فترة، حتى تموت فجأة، كما ولدت فجأة، حتى أن الباحث يعجب حين يقرأ في كتب الملل والنحل كيف توجد مثل تلك الخزعبلات وتناقش وتؤلف المؤلفات لردها!
وكان المجال مفتوحا للبحث والتأليف، وكانت المناظرات تعقد بين العلماء من مختلف المذاهب، والجوامع تعج بالمصلين من كل أهل مذهب، يتناقشون ويتجادلون!
فكانت الآراء تتعارف، وتتلاقح، وتتناصى، ويأخذ بعضها ببعض، ويؤثر بعضها في بعض، ويستفيد بعضها من بعض، فالأمة واحدة، والكتاب واحد، والنبي واحد، والجميع يبحث عن الحق، إلا ما كان من القوى السياسية وعلمائها الذين يتحزبون لها، وهذا بخلاف الحالة العلمية العامة السائدة، فقد كانت فضاء رحبا يتحاور فيه مشافهة ومكاتبة آلاف العلماء الصلحاء الأتقياء النبلاء الذين كان رائدهم الحق والدليل.
فما تلبث الساحة العلمية بعد جدل وتمحيص وفرز حتى تتوافق الآراء وتتقارب، وتنبذ الساحة الرأي المرذول والساقط، فرزا طبيعا كما تقرره قواعد العلم والمعرفة.
فلم تتباين المذاهب وتستقر حتى استجمع بعضها من عناصر القوة والعلمية والموضوعية ما لم يتحقق لغيره، فأصبحت المذاهب التي تفتقد لتلك العناصر تموت موتا طبيعيا حتى لا يبقى لها أثر!
وانظر إلى التشيع الغالي كيف اندثر أو تقلص ولم يبق منه إلا من يتظاهر بالاعتدال!
وانظر إلى الاعتزال الجهمي الغالي كيف اندثر مع طول المدة وطول النقد والتقويم حتى صار جزءا من مذاهب أخرى أقل غلوا، وفقد استقلاله!
وانظر إلى الإرجاء الغالي كيف اندثر!
وانظر إلى فرق الخوارج التي تذكرهم كتب التاريخ لم يبق منهم إلا من صاروا أقرب للاعتدال!
إن السبب في ذلك كله هو وجود القرآن، وظهور حجته وبرهانه، فلا تزال الآراء تضعف أمامه، حتى توافقه، أو تضمحل مع مرور الوقت!
وقد جمع المذهب السني من عناصر القوة ما مكنه من الشيوع والثبات والاستقرار في مواجهة الدول التي حاولت حمل الأمة على مذاهبها في بعض العصور ومن ذلك:
1- شعبيته وجماهيريته، فهو مذهب عامة المسلمين حتى في نظر مخالفيهم، ولهذا صار المعتزلة والشيعة والخوارج يطلقون على المذهب السني مذهب العامة، فأهل السنة ليسوا طائفة بل هم عامة الأمة، وإنما الطوائف هي الأقليات الأخرى، وهذه العمومية والجماهيرية والأممية لها جذورها منذ حدوث الفتنة، فإن أكثر الصحابة اعتزلوا الفتن السياسية، وتركوا الصراع السياسي وأجوائه، وتصدوا للتعليم والرواية، وعنهم أخذ علماء التابعين ومن بعدهم القرآن والقراءات والتفسير والحديث والفقه والقضاء، ثم أخذ عن التابعين آلاف العلماء من بعدهم، فكانت الحالة العلمية حالة جماهيرية، حيث تعج المساجد والجوامع بأهل العلم، الذي كانوا يقرئون القرآن، يفتون في الأحكام، ويدرسون العلم، ويشكلون الرأي العام العلمي، في الوقت الذي كان الصراع الأموي العلوي الشيعي على سوقه، ثم العلوي العباسي، يستهلك جدل الفرق الأخرى السياسية!
2- سهولة عقائده ومطابقتها لظاهر القرآن، بعيدا عن الفلسفة اليونانية التي تأثر بها الاعتزال والمذاهب التي تأثرت به كالتشيع، وانظر إلى القرآن وثنائه على الصحابة، على نحو يبطل كل رأي يتدين بالطعن فيهم، فلا يستطيع العربي الذي يفهم لغته إلا الترضي عنهم، أو تأويل الآيات عن ظاهرها على نحو متكلف لا يستقيم مع اللغة ودلالاتها.
وهذا أحد أسباب عجز التشيع عن اختراق العرب خاصة - مع أنه ولد وترعرع في الكوفة - حيث يقرؤون القرآن صباح مساء في مساجدهم، وبلغتهم بشكل مباشر، دون تأثير أموي عليهم، فلا يجدون إلا الثناء والرضا من الله على صحابة رسول الله، في مئات الآيات {كنتم خير أمة أخرجت للناس}، {محمد رسول الله والذين معه}، {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى}، {والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا}..الخ
فليس بين العرب وبين آل البيت عداوة، ولا بينهم وبين بني أمية قرابة، تحملهم على تبني الثقافة الأموية الموهومة!
3- شمول المذهب السني على العقائد التي تمثل حالة من الاعتدال والوسطية بين كل المذاهب، بعد أن مرت بأطوار وجدال بين سلف الأمة وأئمة السنة أنفسهم، كالخلاف في شأن عثمان وعلي، والخلاف في مكانة علي، واستقر القول عندهم – بعد تحاور ومحاججة واستدلال - على إثبات خلافة علي، لا كما تدعي النواصب، دون طعن في عثمان، لا كما تقول الشيعة، ودون طعن في علي كما تقول الخوارج، وعلى مكانة آل البيت وأن محبتهم من الإيمان، وأن إجماعهم حجة..الخ
4- اشتراك عامة الأئمة قديما وعلماء الأمة على اختلاف مذاهبهم الفقهية في بلورة أصول أهل السنة، فهذه الحالة من الوسطية العقائدية – كالوسطية بين الشيعة والخوارج في شأن علي، والوسطية بين النواصب والروافض، والوسطية بين الجبرية والمعتزلة، والوسطية بين المرجئة والوعيدية - لم تحدث فجأة بل تطورت مع تشكل التيار العلمي السني من المذاهب الفقهية المشهورة كمذهب الحنفية ومذهب مالك ومذهب الشافعي ومذهب أحمد ومذهب الظاهري..الخ
كما ساهم أهل الحديث والمتكلمون في تحرير أصوله العقائدية والاستدلال لها، فكان لمساهمة كل هذه المدارس - على اختلاف مذاهبها وتخصصاتها في تأصيل مذهب أهل السنة والجماعة - أثر كبير في شيوعه وامتداده فهو يمثل اختيارات أكثرية الأمة العلمية، من خلال الأدلة القرآنية والنبوية، بعيدا عن الواقع السياسي وصراعاته وإفرازاته.
فلا يمكن والحال هذه وصف عامة الأمة بأنهم تأثروا بالثقافة الأموية، في الوقت الذي لم تدم الخلافة الأموية متصلة إلا نحو خمسين سنة من بعد خلافة ابن الزبير سنة 73 إلى وفاة هشام بن عبد الملك 120هـ، حيث بعده اضطربت الدولة، حتى سقطت سنة 132هـ!
فكان من المنطقي أن تتأثر الأمة بثقافة الدولة العباسية، التي كانت تتشيع سياسيا ثم تحولت إلى الاعتزال بعد المأمون، أكثر من تأثرها بالثقافة الأموية التي سقطت قبل رواج سوق التأليف وازدهار الحركة العلمية في العصر العباسي، ومع ذلك قاومت الأمة كل ذلك، ولم تستطع الخلافة العباسية ولا سلطة بني بويه بعد ذلك، ولا الدولة العبيدية أن تغير ثقافة الأمة!
فحركة التأليف راجت وازدهرت في العصر العباسي لا العصر الأموي، فكان يجب أن تتأثر الأمة بالثقافة العباسية التي تتشيع أكثر من تأثرها بالثقافة الأموية التي لم تدم ولم تزدهر فيها حركة التأليف!
أما القول بأن الثقافة السنية تبنت المذهب الأموي السياسي الذي يقوم على السيف والغلبة وتخلت عن القول بالشورى! فهو قول لا يقوم على دليل قوي، إلا إذا اختزلنا أهل السنة بالمذهب الحنبلي! وقد فصلت ذلك في كتابي (الحرية أو الطوفان) بما لا يدع مجالا للشك ببراءة أهل السنة من هذا الاتهام!
والصحيح أن أهل السنة وأئمتهم وعلى رأسهم الإمام مالك وأبو حنيفة وهما إماما أهل الحجاز وأهل العراق لا يرون ولاية أئمة الجور، ويرون عدم شرعيتها، ويوجبون الخروج عليها..الخ
فلا يمكن الادعاء بأن أهل السنة تركوا القول بالشورى على المستوى العلمي والفكري، بل إنه لا خلاف بينهم على أن كل من أخذها بالسيف فهو إمام جور، حتى لو عدل! ولا خلاف بينهم على أنه لا توريث في الإمامة، وعلى أن الأصل الشورى، إلا أن المتأخرين صاروا يميلون إلى تحريم الخروج لأسباب سياسية ولتحقيق الاستقرار، لظروف تاريخية موضوعية، حيث لم تتوفر فرص للشورى!
ولعل الباحث في كتابه (....) يميل إلى هذا الرأي ونحن في القرن الهجري الخامس عشر حين يدعو إلى ضرورة الإصلاح الفكري والثقافي وتأهيل المجتمع للشورى، وحذر من خطورة الثورة وتغيير السلطة بالقوة خشية الانتكاسة، فنقض كل ما قرره في ولاية الأمة، وبرر بقاء الحكم الجبري حتى يتأهل المجتمع ثقافيا، وهو ما عابه على أهل السنة الذين لا يرون القتال والدماء، فلم يزد المؤلف على أن عاد إلى تبرير الجبرية كما فعل متأخرو أهل السنة، مع أنه غير متأثر بالثقافة الأموية!
الملحوظة الثانية :
1- كان المدخل في ص 106 حول تدوين السنة خطأ كبيرا! وهو خطأ شائع خاصة عند المتأخرين وهو القول بأن تدوين السنة بدأ يتنامى في القرن الثاني..الخ
وقد فصلت فيها القول في كتابي (تاريخ تدوين السنة) وهو مقدمة رسالتي الدكتوراه بجامعة برمنغاهم بانجلترا، وقد أثبت بالأدلة القطعية بأن مرحلة الكتابة للسنة بدأت من 1 هـ إلى 70 هـ على يد الصحابة، ثم بدأت مرحلة جمع المكتوب من 70هـ إلى 120 هـ، على يد أئمة التابعين الذين كتبوا أحاديث أكثر من صحابي بقصد جمعها، كعروة بن الزبير، والزهري، ونافع، وأبو الزناد..الخ
وفي آخرها خرجت الدواوين وأشهرها كتاب الزهري وابن بكير وأبي الزناد..الخ
ثم بدأ عصر المصنفات وهي الكتب التي بوبت ورتبت الأحاديث من 120 هـ إلى 150هـ، وفيها خرج جامع معمر شيخ عبد الرزاق، وفيه نحو عشرة آلاف حديث وأثر مرتبا، وقد عثر على جزء منه وطبع في آخر مصنف تلميذه عبد الرزاق، ثم خرج مصنف ابن أبي عروبة وحماد بن سلمة في البصرة، وجامع الثوري في الكوفة، ومصنفات الليث بن سعد في مصر، وجامع ابن جريج في مكة، وابن أبي زائدة وشعبة وهشيم بن بشير في واسط، ومصنفات الأوزاعي في الشام، وموطأ ابن أبي ذئب في المدينة، وكان آخرها تأليفا موطأ مالك الذي صنفه وأخرجه للناس سنة 143هـ، وبهذا انتهت مرحلة التصنيف سنة 150هـ.
وبدأت مرحلة الموسوعات الحديثية وهي المصنفات الضخمة والمسانيد، واشتغلت بجمع وترتيب كتب أهل التصنيف، ولم يكن للموسوعيين أي دور إلا الجمع، وجل كتاب المصنف لعبد الرزاق هو من هذه المصنفات فهو يروي عن مالك ومعمر والثوري وشعبة..الخ وجمع كتبهم ورتبها على الأبواب كأصولها، فجاء المصنف بعشرين ألف رواية تقريبا، وقد صنفه في حدود 160هـ، ومثله مصنف وكيع بن الجراح، وكتاب الأم للشافعي، والآثار لمحمد بن الحسن الشيباني، ومئات الكتب مثلها.
وخرجت أيضا المسانيد التي اشتغلت بخدمة تلك التصنيفات لأولئك الأئمة الكبار، وكان آخر المسانيد وأشملها وأصحها مسند أحمد الذي أخرجه وقرأه سنة 200هـ، فلم يبق للعلماء منذ سنة 150هـ ما يقومون به إلا خدمة كتب أولئك الأئمة الكبار، جمعا وترتيبا وتمحيصا.
فلما جاء البخاري ومسلم خدما تلك الكتب بالاقتصار منها على الصحيح المسند واختصروها، فسمى البخاري كتابه (الجامع المسند الصحيح المختصر)، فاتبع طريقة أهل التصنيف في تبويبها، وطريقة أهل المسانيد في اقتصارهم على الحديث المرفوع المسند، دون الموقوف والمرسل الذي كان في تلك المصادر والأمهات قبل سنة 150هـ، واقتصر على الصحيح دون غيره اتباعا لمالك، حتى قيل بأن صحيح البخاري ومسلم ما هما إلا مستخرجات على موطأ مالك! والذي قال عنه الشافعي (ليس تحت أديم السماء كتاب بعد كتاب الله أصح من كتاب مالك)! وهذا يؤكد كثرة تلك الكتب قبل الشافعي وعصره، ومدى صحة كتاب مالك وجلالة قدره، والذي اشتهر وطار في الآفاق في حياته وقبل سنة 150هـ !
وما على الباحث ليعرف ذلك بنفسه إلا النظر في صحيح البخاري وأول عشرة أحاديث ليجد الأول عن مسند شيخه الحميدي عن جامع سفيان بن عيينة المكي، والثاني من طريق موطأ مالك المدني، والثالث عن الأزاعي والليث بن سعد الخ من أصحاب المصنفات الذين صنفوا كتبهم قبل كتاب البخاري بقرن كامل تقريبا!
فلم يعد هناك منذ سنة 150هــ رواية شفهية أصلا! بل كانت مصادر التحديث والرواية الرئيسية هي الكتب كالمصنفات والجوامع والمسانيد، ولم يعد هناك شيء بعد 150هـ إلا الجمع والترتيب والاختصار لمصنفات المرحلة الثالثة التي تعد بحق هي أهم المراحل!
وانظر لقول الشافعي (أصول الأحكام كلها عند مالك – في الموطأ – إلا بضعة عشر حديثا، وكلها عند ابن عيينة – في الجامع - إلا سبعة أحاديث)، وقد جمعها الشافعي في كتابه (الأم) وشرحها وفرع عليها فقهه، وهذه الأصول للأحكام تجدها عند عامة الفقهاء وهي مادتهم الأصلية، ومع فروعها من الأحاديث الأخرى تصل إلى ألف نص فقهي، وهي تقريبا في موطأ مالك الذي تضمن نحو سبعمائة حديث مسند، وثلاثمائة حديث مرسل صحيح!
فليس هناك تضخم حديثي كما يتوهم المؤلف إلا في كثرة الطرق واتساعها مع مرور الزمن، وتقطيع الأحاديث من أجل تبويبها، كما في البخاري وسنن أبي داود وغيرها، ولو أرجعناها للأصول والأمهات وهي موجودة بنفسها أو ضمن الموسوعات التي جاءت بعدها، فسنجد النصوص هي هي، وسنجد أصول الأحكام هي هي، لعلها لا تتجاوز ألف حديث فقهي، لا يوجد عالم ولا قاض ولا فقيه آنذاك إلا ويحفظها أو يعرف أحكامها، ولا يتصدر للإفتاء إلا من أحاط بها، وإن كانت روايتها من اختصاص أهل الحديث، فإن معرفة فقهها وأحكامها من عمل الفقهاء والقضاة، قبل أن يولد مالك وقبل أن يصنف الموطأ!
ولو قارن الباحث بين هذه المصنفات ومسند الربيع عند الأباضية، ومسند زيد عند الزيدية، بل وما عند الإمامية سيجد أصول الأحكام عند الجميع، وإن اختلفوا في فقهها كما اختلفوا في فهم القرآن وتأويله!
فأرجو الاطلاع على كتابي (تاريخ تدوين السنة) لمعرفة مدى الخلط الذي شاع بسبب جهل المتأخرين بتاريخ السنة النبوية التي تم كتابته كلها في حياة النبي صلى الله عليه وسلم!
كما بإمكان الباحث الرجوع لكتابي في موقعي (جناية أوزون.. حينما يتحدث الجنون) ففيه بيان لهذه القضية، وقد ذكرت هناك قصتي مع الدكتور آذر شب رئيس مركز التقريب في طهران، والدراسة التي أعدوها وتفاجأوا بأن عامة أحاديث أبي هريرة الصحيحة موجودة أيضا في كتب الشيعة من روايات أخرى عن آل البيت!
2- وكذلك قول الباحث بأنه لا يكاد يوجد عالمان تتطابق أقوالهما في الأحاديث الصحيحة! قول عجيب جد عجيب! كيف؟ وقد عرض البخاري صحيحه على أئمة الحديث في عصره فقبلوه وأثنوا عليه، وإنما اختلفوا معه في نحو بضعة عشر حديثا، من مجموع أربعة آلاف حديث!
وكذا مسلم عرض كتابه عليهم وأثنوا عليه، وقد جاء أئمة الحديث بعدهما فأجمعوا على أنهما وفيا في شرطهما، وهو أن يقتصرا على الصحيح عند أهل الحديث قبلهما، إلا ما استدركه عليهما بعض النقاد كالدارقطني في أحاديث معدودة معلومة عند أهل الحديث، وقد تلقى أئمة الأمصار من المحدثين والفقهاء كتابيهما بالقبول وأجمعوا على صحة ما فيهما، وكان العلم آنذاك ما زال في فحولته وعنفوان شبابه، خاصة علم الحديث، حيث ظل النقاد يستدركون ويستخرجون ويعللون! مما ينفي شبهة التقليد للبخاري ومسلم!
وقد أطبق على ذلك أئمة الشيعة الزيدية وأكثرهم من آل البيت، كما نقله عنهم ابن الوزير في (الروض الباسم) واتفاقهم على صحة ما في البخاري ومسلم وما صححه أئمة الحديث، وهو قول عامة أئمة المذاهب الفقهية المشهورة!
وهذا الإجماع على صحة البخاري ومسلم ليس لأنهما وضعا شروطا صارمة للتوثيق، بل لأنهما اقتصرا فقط على ما أجمع على صحته أهل العلم قبلهما، ممن صنفوا التصانيف في المرحلة الثالثة، دون الحديث المختلف فيه كالمرسل والمنقطع، فلما اطلع علماء الأمصار على كتابيهما رأوا بأنهما فعلا اقتصرا على ما أجمع على صحته أهل العلم قبلهما! ولهذا أجمعت الأمة على صحة ما في الصحيحين، لأن أحاديثهما قد أجمع الأئمة على صحتها قبل أن يولد البخاري ومسلم!
3- وكذا قول الباحث بأن كل صحابي لديه أحاديث ليست عند الآخر هي سقطة أخرى تجد جوابها في (تاريخ السنة) و(جناية أوزون)، فقد كانت السنة عندهم هي الإسلام وما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وليست مجرد الرواية لذلك العلم، وفرق بين العلم بالسنة والعمل بها وهو الشائع بينهم، والرواية للسنة التي اختص بها بعض علماء الصحابة، فالسنة بمعناها الأول كانت شائعة معلومة معمولا بها، وليست السنة عندهم سوى الإسلام وشرائعه الظاهرة كما جاء بها القرآن وبينها النبي صلى الله عليه وسلم، بخلاف فن الرواية للسنة!
4- وكذا قوله (فقط في هذا العصر صار توافق بين أهل السنة على صحة كثير من الأحاديث..الخ) وهذه دعوى لا تليق بباحث محقق، فقد أجمع علماء أهل السنة على صحة ما في الصحيحين إجمالا، وعلى قبول ما في الكتب الستة إجمالا، وعلى قبول ما صححه أئمة الحديث إجمالا!
وقد نقل الإجماع على تلقي الأمة للصحيحين بالقبول ابن الصلاح والنووي وغيرهما ولا يكاد يختلف في ذلك اثنان من علماء وفقهاء المذاهب الفقهية المشهورة، وقد وافقهم على الإجماع أئمة الشيعة الزيدية كما نقله عنهم السيد الإمام ابن الوزير في كتابه (الروض الباسم)!
وقد ظلت هذه القضية محل إجماع الأوساط العلمية في العالم السني كله من أقصاه إلى أقصاه لا يجادل أحد في صحة ما في الصحيحين إجمالا، بل لم يقع جدال ونزاع إلا في هذا العصر بالذات، ولا عبرة فيه إذ أهل الحديث هم أهل الفن وإليهم الحكم في هذا العلم، ولهذا لم يلتفتوا لما أثاره بعض من كانوا ليس من أهله في طعنهم ونقدهم لبعض الحديث، في الوقت الذي يرعون أسماعهم لمن كان من أهل الفن ويقبلون نقده حتى لما كان في البخاري ومسلم إذا جاء الناقد بالدليل، فإذا قبلوه صار مقبولا علميا!
5- ومن الملحوظات على هذا المبحث الخطأ العلمي في أن النبي صلى الله عليه وسلم (نهى عن كتابة الحديث) وهو حديث أعله أهل الفن وبعضهم تأوله، ولهذا لم يخرجه البخاري وأخرج ما هو أصح وأشهر عن أبي هريرة (ما كان أحد أكثر حديثا مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب)!
وصحيفة عبد الله بن عمرو مشهورة وكان يحدث منها ومن أحاديثها (كنا جلوسا عند رسول الله نكتب – أي الحديث - فسئل أي المدينتين تفتح أولا القسطنطينية أم روما؟ فقال مدينة هرقل أولا)!
وهي صحيفة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وقد تواترت عن ابن عمرو إجمالا، وكان اسمها (الصادقة)، وفيها نحو ألف حديث كما نص عليه ابن الأثير، وقد أخرج أكثرها أحمد في مسنده!
فإذا كان أبو هريرة محدث الصحابة وراويتهم وحافظهم يشهد لعبد الله بأنه أكثر حديثا منه ويعلل ذلك بالكتابة، فكم سيكون قدر ما كتبه ابن عمرو وحده إن كان حديثه أكثر من حديث أبي هريرة؟
فماذا بقي من السنة لم يكتب إذا أضفنا إليه ما كتبه الخلفاء من صحف كصحيفة أبي بكر في الزكاة وأنصبتها، وصحيفة عمرو بن حزم، وصحيفة عمر بن الخطاب في الديات والدماء، وصحيفة علي بن أبي طالب، وصحيفة أنس، وسعد بن عبادة..الخ
فالسنة التي تحتاجها الأمة كلها كتبت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا رد أهل الحديث حديث الخدري في النهي وضعفوه، وبعضهم قال بأنه منسوخ، وبعضهم قال بأنه خاص بغير علماء الصحابة خشية أن يختلط عليهم..الخ
وعلى كل حال فالأدلة المتواترة تؤكد كثرة الصحف المكتوبة في حياة النبي، فلا تهدم بمجرد حديث واحد تكلم فيه أهل العلم بين راد له ومتأول لمعناه!
6- ومن ذلك المجازفة في إطلاق أحكام خطيرة وأن الصحابة لم يكلفوا (بنقل تلك الأحاديث بينما معظمها أحاديث آحاد لم يؤمروا بترديدها أو التعبد بتلاوتها ولم يسمح لهم حتى بكتابتها ولم تجمع إلا بعد عصرهم)!!
وواضح جدا مدى وقوع هذه الرؤية تحت سطوة شبه المستشرقين حول السنة! وانظر مشكورا كتابي (تاريخ السنة) لمعرفة مدى فقدان هذه الرؤية لأدنى شروط الموضوعية والعلمية، وقد أرسل عمر إلى أهل الأمصار العلماء (ليعلموهم كتاب ربهم وسنة نبيهم)، وقال (إني لم أرسل إليكم عمالي ليضربوا أبشاركم وإنما أرسلتهم ليعلموكم قرآن ربكم وسنة نبيكم)..الخ وهل الإسلام إلا القرآن والسنة!
وعبارة (ولم يسمح لهم حتى بكتابتها) دعوى عريضة تحتاج نفسها إلى دليل قبل الركون إليها والاحتجاج بها!
فإن لم يكن عند المؤلف إلا حديث أبي سعيد الخدري فقد بينا مشكلته، فكيف تبنى كل هذه المجازفات والأوهام على حديث متكلم فيه، ولا يحتاج من ينفي هذه الدعوى إلا إلى دليل واحد يثبت فيه أن الصحابة كتبوا في حياة النبي فكيف إذا جاءت عشرات الأدلة الصحيحة الصريحة والصحف المشهورة المتواترة! ......
وتقبل شكري وتقديري
حاكم المطيري..
...
(الرسالة الأخيرة)
31/8/2011م
أخي الكريم ...
تحية طيبة وبعد..
رغم أنني اجتهدت سابقاً في تأويل فتنة الدهيماء بأنها الفتنة الطائفية منذ ما بعد احتلال العراق، إلا أنني بعد المراجعة والتأمل، وإعادة دراسة دلالات الألفاظ ومكامن التعبيرات اللغوية الحافظة للصورة الغيبية (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً . إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً)، وذلك بمعنى إحاطة الصورة الغيبية بالحوافظ التي تمنع اكتشاف الغيب قبل تحققه ، فإنني أرجح أن فتنة الدهيماء تصور أحوال الناس منذ أن دهمتهم الثورات العربية ووضعتهم في موضع الاستقبال واللحاق ورد الفعل!
إذا كان يهمكم الاطلاع على فهم مختلف لما جرى ويجري ، فستجدونه في الاجتهاد المطروح في الملف المرفق . وإذا كان يهمكم الاطلاع على كامل الرؤية الفكرية التي نعتقد أنها تفتح أفاقاً جديدة للفهم والبناء، فأتمنى أن تتفضلوا بتخصيص بضع ساعات لقراءة كتاب "... " بعد التعديلات الواسعة التي أجريت عليه.
وأعتقد أنه بقدر القراءة الهادئة والمتدرجة للأفكار المطروحة في الكتاب ستجدون الكثير مما تبحثون عنه ..
إبراهيم..
...
الرد
أخي الكريم أعدت قراءة هذا البحث مرة أخرى، وكم أعجبني تحليلك وتفسيرك وربطك للأحداث، فتح الله عليك فتوح العارفين، مع أن حديث الأموي في صحته وقبوله نظر، إلا أن التحليل والواقع يمكن ترجح أن له أصلا، وأنا لم أبحث فيه، وقد تضطرني إلى ذلك لما أثارني من روعة الاستنتاج..
وقد يشكل على تحليلك بأنه سبق أن مرت على الأمة مثل هذه الفتن تماما، ولعل آخرها ثورة الشريف حسين في مكة، واستنجاده بالبريطانيين، واحتلالهم المنطقة كلها، وخاصة العراق ونفطه، وهو أحد أسباب الحرب آنذاك، وكانت أكبر فتنة تعصف في الأمة، حيث انقسمت الأمة إلى فريقين من مع الشريف ويبرر خيانته، ومن كان ضد الاحتلال، ومن كان مع الخلافة العثمانية.
ويمكن لك أن تجيب بأن تكرر الفتن يؤكد شمول الأخبار الواردة في الفتن لكل فتنة تنطبق عليها دلالات الألفاظ ..
والله أعلم
حاكم المطيري
...
وما زلنا مع أسطورة الثورة العربية فللقصة بقية
!
التعليقات المنشورة في الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط.
لقراءة شروط نشر التعليق الرجاء الضغط هنا
1
khalid
5/9/2012 8:07:07 AM
جزاك الله ياشيخ حاكم خير الجزاء ونفع بفكرك النير وبحياديتك العادله ووسطيتك المطلوبة في هذا العصر
نموذج الإدخال
الإسم:
يرجى إدخال الإسم مكون من ثلاث مقاطع
البريد الإلكتروني:
يرجى إدخال البريد الإلكتروني
يرجى إدخال البريد الإلكتروني بشكل صحيح
التعليق:
يرجى إدخال التعليق
السيرة الذاتية
|
المقالات
|
رأي الأسبوع
|
الفتاوى
|
اللقاءات
|
الأشعار
|
الكتب
|
الدراسات والأبحاث
|
الصور
|
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ حاكم المطيري 2010 ©