بقلم أ.د. حاكم المطيري
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، هدى وأضل، وأعز وأذل، وحكم فعدل، له الملك وحده، وهو الحاكم لا معقب لحكمه، وإليه يرجع الأمر كله..
وصلى الله وسلم على نبيه الأمين، الذي أرسله الله رحمة للعالمين، ليخرجهم من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط مستقيم، فأبان لهم السنن السياسية في الإسلام، وأقام لهم معالم الحق والعدل في الشرائع والأحكام، وتركهم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، وقال لهم (من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)..
وبعد ..
فهذا جزء حديثي، صنفته على طريقة أهل الحديث، في أصول الإمامة والسياسة الشرعية، انتخبته من السنن النبوية والآثار الراشدية، وجمعتها ورتبتها، وحققت أسانيدها وخرجتها بإيجاز، ولم أخرج فيه إلا ما كان صحيحا أو حسنا لذاته أو لشواهده، على طريقة أهل الحديث والأثر، فيما كان من الأحاديث النبوية، وعلى طريق أهل المغازي والسير، فيما كان من الأخبار التاريخية، ولي فيها أبحاث محكمة منشورة، لمن خفي عليه الفرق بينهما، وقد رأيت ضرورة التأليف في هذا الفن على طريقة أهل الحديث لأسباب منها :
أولا : أن هذا العلم طمست معالمه، ودرست مراسمه، نظريا وواقعيا، بعد أن سقطت الخلافة الإسلامية، وأقامت الحملة الصليبية على أنقاضها دولا وأنظمة وحدودا وقوانين، وحدثت محدثات نسخت كل ما جاء به الإسلام جملة وتفصيلا في باب الإمامة وسياسة الأمة، حتى شاب عليها الكبير وترعرع عليها الصغير، ووصل الحال ببعض أهل العلم والفكر في ظل الثقافة المأزومة، والنفسية المهزومة، أن راج بينهم القول بأنه لا يوجد في الإسلام نظام سياسي محدد، وإنما جاء بمبادئ عامة للحكم، وللأمة أخذ نظامها السياسي من الغرب أو الشرق!
فوجب شرعا على أهل العلم بيان ما جاء به الإسلام في هذا الباب، وبعثه من جديد، والتجديد فيه، والدعوة إليه، والجهاد في سبيله!
وثانيا : أن أهل الحديث والسنة والفقه هم علماء الأمة، وهم أحوج من غيرهم إلى الوقوف على هذه السنن والأحكام، فإذا وقفوا عليها، واطمأنوا إليها، كانوا أقدر من غيرهم على نصرتها، والدعوة إليها.
ثالثا : أن الطاغوت الذي حكم الأمة منذ سقوط الخلافة بدأ يتهاوى، كما بشر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وستعود بإذن الله يوما ما خلافة على نهج النبوة، فوجب على الأمة وأهل العلم معرفة منهاج النبوة والخلافة الراشدة التي يجب على الأمة إقامتها، ولا يمكن معرفة ذلك إلا بالرجوع إلى سننهم وآثارهم، وفقهها وفهمها، بما يعين على بعث هداياتهم من جديد، بما يواكب تطور العصر الحديث.
رابعا : أنني لم أقف على من ألف في هذا العلم مع خطورته وأهميته، فرجوت أن أكون ممن يسهم في نشره، وفي نصرة هذه السنن المهجورة، وبعث تلك الآثار المطمورة، حتى يبعث الله الأمة من جديد (أمة واحدة وخلافة راشدة).
وقد خفي على كثير من أهل العلم والإيمان المراد بالسنة التي حث النبي صلى الله عليه وسلم على لزومها والعض عليها بالنواجذ، والمحدثات التي حذر منها، مع وضوح ذلك في كثير من النصوص وكون المراد هو سننه في باب الإمامة وسياسة الأمة على وجه الخصوص، كقوله صلى الله عليه وسلم (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين... وإياكم ومحدثات الأمور)، فأوجب لزوم سنته وسننهم في الإمامة والخلافة، والحذر من محدثات الأمور التي تحدث في هذا الباب، وقد بين تلك المحدثات في حديث (تكون فيكم النبوة، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم يكون ملكا عاضا، ثم ملكا جبريا) وفي رواية موقوفة لها حكم الرفع (ثم يكون الطواغيت)!
وكحديث (أول من يغير سنتي رجل من بني أمية) أي في باب الإمامة وسياسة الأمة، وحديث (يكون أمراء يهتدون بغير هديي ويستنون بغير سنتي) أي في باب الإمارة، وحديث بيعة عثمان على (الكتاب والسنة وسنة الشيخين) أي سننهم في الخلافة وسياسة الأمة..الخ.
ومثل ذلك المحدثات والبدع والانحرافات التي حذر منها كقوله صلى الله عليه وسلم (وإياكم ومحدثات الأمور)، وقوله (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)، وقوله في شأن المدينة (من أحدث فيه حدثا أو آوى محدثا)، وقول بني شيبان له (إنا قد عاهدنا كسرى على أن لا نحدث حدثا ولا نؤوي محدثا)، وقول أبي بكر يوم السقيفة للأنصار (اتقوا الله ولا تكونوا أول من أحدث) ...الخ!
وكذلك بيانه صلى الله عليه وسلم للمخرج من تلك الفتن حين حدوث تلك المحدثات، حيث جعل العصمة منها بلزوم سنن الخلافة الراشدة، ولزوم الإمامة والأمة الواحدة، كما في قوله صلى الله عليه وسلم (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين)، وقوله (ثم تكون أو تعود خلافة على منهاج النبوة)، وقوله (الزم جماعة المسلمين وإمامهم)، وقوله (إن كان لله في الأرض خليفة فالزمه)، فجعل المخرج من تلك الفتن والمحدثات والعصمة منها بلزوم نظام الحكم الإسلامي وأساسه الخلافة الراشدة والأمة الواحدة!
خامسا : أن أهل الحديث هم آل النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه وأنصاره، وهم أولى الأمة به، فرجوت أن يكون هذا الجزء الحديثي عدة لطلبة علم الحديث خاصة، ودعاة الحق عامة، ممن يريد بعث سنن الخطاب السياسي النبوي والراشدي، فأهل الحديث أقدر من غيرهم على نصرة السنة النبوية والآثار الراشدية، لمعرفتهم بصحيح الأخبار، وحبهم لنشرها، والذب عنها، فمن حفظ هذا الجزء وفقهه، كان له هدى ونور في معرفة أصول الحكم الراشد كما جاءت بها السنة، وهي السنن التي أحوج ما تكون الأمة اليوم لبعثها ومعرفتها والدعوة إليها والجهاد في سبيل إقامتها من جديد، فالسياسة جزء من الشريعة، وقسم من أقسامها، كما قال ابن القيم (الشريعة جاءت بغاية العدل، ولا عدل فوق عدلها، ولا مصلحة فوق ما تضمنته من المصالح، والسياسة العادلة جزء من أجزائها، وفرع من فروعها، فإن السياسة نوعان، سياسة ظالمة فالشريعة تحرمها، وسياسة عادلة هي عين الشريعة...
وقال ابن عقيل - الحنبلي - السياسة: ما كان فعلا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسول، ولا نزل به وحي.
وقال ابن القيم: فإن الله سبحانه أرسل رسله، وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط وهو العدل الذي قامت به السموات والأرض، فإذا ظهرت أمارات العدل، وأسفر وجهه، بأي طريق كان فثم شرع الله ودينه، بل قد بين الله بما شرعه من الطرق أن مقصوده إقامة العدل بين عباده، وقيام الناس بالقسط، فأي طريق استخرج بها العدل والقسط فهي من الدين، ليست مخالفة له، بل موافقة لما جاء به، بل هي جزء من أجزائه، ونحن نسميها سياسة تبع لمصطلحكم وإنما هي عدل الله ورسوله).[1]
وكل ما في هذا الجزء الحديثي، خرجته من مصادره الحديثية: من الصحاح، والسنن، والمصنفات، والمسانيد، والمعاجم، والتواريخ الخ، بروايتي لها عن شيوخي بالأثبات المشهورة
[1] الطرق الحكمية 4 ـ 14 بتصرف يسير واختصار.