حجية السنة النبوية بين مفهومي الدين والفن
وشبهات المعاصرين
بقلم أ.د. حاكم المطيري
أستاذ الحديث والتفسير
كلية الشريعة - جامعة الكويت
12/ 10/ 2015م
يختلط عند المعاصرين مفهوم السنة -كوحي وبيان للقرآن وهي التي قال الله
عنها: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} وقال
تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ}
وهي السنة- بمفهوم الحديث الذي هو الإخبار بالرواية عن السنة بالمفهوم الأول وهي التي
تدخل تحت شرط {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا}!
والفرق بينهما ظاهر من وجوه:
١- فالسنة بالمعنى الأول -وهي أقوال النبي ﷺ وأفعاله وتقريراته- وحي يجب التسليم المطلق له كالقرآن، بينما السنة بالمفهوم
الثاني وهي ما يروى عن النبي ﷺ من قول وفعل وتقرير فيجب خضوعه لشروط الأخبار والرواية، فتقبل إذا صحت،
وقد ترد إذا لم تصح!
٢- والسنة بمفهومها الأول هي الشريعة، وهي التي يُعدّ ردها كفر بلا خلاف
بين أهل الإسلام، بينما السنة بالمفهوم الثاني مما قد يتنازع فيها أهل الإسلام قبولا
وردا بحسب ما يشترطونه من شروط لقبول الرواية!
٣- والسنة بمفهومها الأول شائعة شيوعا عاما كشيوع القرآن وتواتره، فهي
الدين الذي دخل فيه الناس أفواجا في حياة النبي ﷺ {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ. وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ
فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا}، بينما السنة بمفهومها الثاني وهي الحديث والخبر عن
السنة بطريق الرواية عند أهل الحديث قد تكون متواترة، وقد تكون مشهورة، وقد تكون آحادا.
٤- والسنة بمفهومها الأول هي التي يتحدث عنها الأصوليون في مبحث السنة
ومنزلتها من الكتاب، بيانا له، وهل تنسخه، وهل تخصص عموماته، وتقيد مطلقه... إلخ
بينما السنة بمفهومها الثاني تبحث عندهم في مبحث الأخبار وشروطها.
٥- والسنة بالمفهوم الأول تنقل عن طريق العمل والعلم العام، ونقل الكافة
عن الكافة، عملا بها، وقضاء، وفتوى، ورواية، ويشترك في العلم بها والعمل الفقهاء والقضاة
والمحدثون من لدن أصحاب النبي ﷺ حتى تم تدوين العلم وتصنيفه.
بينما السنة بمفهومها الثاني هي نوع من أنواع النقل للسنة بمفهومها الأول،
اختص بالعناية به أهل الحديث والرواية، كاختصاص أئمة التفسير بالعلم بالقرآن وقراءاته،
واختصاص أهل الفقه بالعلم بالأحكام الفرعية، واختصاص أهل المغازي بالعلم بالنبي ﷺ وسيرته، واختصاص القضاة بالعلم بقضاء النبي ﷺ وأصحابه.
٦- يحتج الأئمة كمالك بترجيح عمل أهل المدينة على الحديث الصحيح، من باب
الترجيح بين وسيلتين لنقل السنة، فعمل أهل المدينة عنده أقوى من حيث النقل للسنة من
خبر الواحد الصحيح، فهو لا يرجح سنة على سنة، بل يرجح وسيلة على وسيلة في نقل السنة!
ومثله احتجاج الشافعي بإجماع أهل المغازي على أن النبي ﷺ قال يوم الفتح: (لا وصية لوارث) مع اعترافه بأنه لا يكاد يثبته أهل الحديث
بالإسناد!
ومثله احتجاجهم بإجماع أهل العلم والفتوى على أن الماء طهور لا يخرجه عن
طهوريته إلا ما غير لونه وطعمه ورائحته من النجاسات، وقال ابن عبد البر في كتابه
"التمهيد" عن الحديث الذي يروى في ذلك ولا يثبت عند أهل الحديث، بأن العمل
عند الفقهاء على مقتضاه أقوى من خبر الواحد!: (وقد أجمع جمهور العلماء وجماعة أئمة
الفتيا بالأمصار مِن الفقهاء: أن البحر طهورٌ ماؤه، وأن الوضوء جائزٌ به. إلاَّ ما
رُوي عن عبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عمرو بن العاص، فإنه رُوي عنهما أنهما
كرها الوضوء مِن ماء البحر. ولم يتابعهما أحدٌ مِن فقهاء الأمصار على ذلك ولا عرَّج
عليه ولا التفت إليه، لحديث هذا الباب عن النبي ﷺ. وهذا يدلُّك على
استشهار الحديث عندهم وعملهم به وقبولهم له، وهذا أَوْلَى عندهم مِن الإسناد الظاهر
الصحة بمعنىً تردُّه الأصول) (التمهيد 16 /221).
٧- أن السنة بالمفهوم الثاني كفن من فنون الرواية والنقل، جاءت لخدمة السنة
بالمفهوم الأول، كوحي ودين وشريعة، والصحيح المجمع عليه منها هو ما قصده البخاري ومسلم
في كتابيهما، ولهذا تلقت الأمة كتابيهما بالقبول لأنهما اقتصرا على ما أجمع أهل العلم
قبلهما على ثبوته من السنة بالمفهوم الأول، فالأمة تلقت كتابيهما بالقبول لا لأنهما
اشترطا شروطا للصحة، بل لأن الأمة قبلهما قد أجمعت على السنة المعلومة، فجمع البخاري
ومسلم منها ما صحت به الرواية على شرط أهل الحديث بالإجماع بينهم، كما قال مسلم في
صحيحه في آخر حديث رقم ٤٠٤ وقد سئل عن حديث أبي هريرة: (فإذا قرأ فأنصتوا) فقال: (هو
صحيح)، فقيل له: (ولمَ لمْ تضعه في كتابك الصحيح؟) فقال: (ليس كل شيء عندي صحيح وضعته
ها هنا، إنما وضعت ها هنا ما أجمعوا عليه)!
فسبب إجماع الأمة على صحة كتابيّ البخاري ومسلم وتلقيها لهما بالقبول هو
أنهما وفيا بشرطهما في الاقتصار على جمع ما أجمع أهل العلم قبلهما على ثبوته من السنة،
على سبيل الاختصار لا الاستقصاء، وقد تركا من الصحيح شيئا كثيرا، فبعضه تركاه اختصارا
حيث أوردا من شواهده ما يغني عنه، أو لأنه من الصحيح الذي تنازع أهل العلم في ثبوته
قبلهما، وهو ما جمعه أصحاب السنن الأربعة بعدهما، واستدركه أصحاب الصحاح كابن خزيمة
وابن حبان والحاكم.
فالسنة لحظة ورودها تصبح دينا وشرعا يمارسه آلاف الصحابة عبادة وعملا،
ويتدارسونها فيما بينهم علما وفقها، ويلتزمونها عقيدة ودينا، إذ المراد من البيان النبوي
لهدايات القرآن إنما هو العمل والعلم كما جاء عن الصحابة أنفسهم (كنا لا نتجاوز عشر
آيات من القرآن حتى نعمل بها فتعلمنا العلم والعمل) (مسند أحمد 5/ 410).
أما السنة كرواية فلم يختلف أهل العلم في حجية الصحيح منها، إلا في خبر
الواحد فقط، بسبب قياس بعضهم الرواية على الشهادة، كما قال أبو الحسين علي بن محمد
المعتزلي الأصولي في كتابه (المعتمد في أصول الفقه 2/ 79): (خبر الواحد إذا أجمعت الأمة
على مقتضاه، وحكمت بصحته، فإنه يقطع على صحته، لأنها لا تجمع على خطأ، وإن لم تحكم
بصحته فعند الشيخ أبي هاشم، وأبي الحسن، وأبي عبد الله رحمهم الله أن الأمة لا تجمع
على مقتضى خبر الواحد إلا وقد قامت به الحجة... وحجتهم أن العادة جارية في أمتنا أنها
لا تجمع على مقتضى خبر واحد إلا وقد قامت الحجة به)!
فانظر إلى أئمة المعتزلة وشيوخ المدرسة العقلية كيف قرروا بأن خبر الواحد
إذا أجمعت الأمة على صحته وعملت بمقتضاه فإنه يكون مقطوعا بصحته؛ لأن الأمة لا تجتمع
عادة على ذلك إلا وقد قامت به الحجة القطعية، أما الخبر الذي أجمعت الأمة على مقتضاه
دون صحته كحديث: (لا وصية لوارث)، فهنا يقرر أئمة المعتزلة أيضا بأنه لا تعمل الأمة
بمقتضى ذلك إلا وقد قامت به الحجة عادة!
وقال أبو الحسين أيضا وهو يفرق بين الخبر والسنة، ويذكر ما يرد به الخبر:
(أما حال المخبر عنه فبأن يثبت بالدليل القاطع خلاف ما اقتضاه الخبر كدليل العقل والكتاب
والسنة المعلومة، ولا فرق بين أن يكون الخبر دافعا للكتاب والسنة المعلومة على كل حال،
أو على وجه النسخ...) (المعتمد 2 /182).
فتأمل كيف يفرق بين السنة المعلومة وهي كالقرآن من حيث العلم بها ومن حيث
حجيتها وثبوتها، والخبر - وهو الرواية للسنة - الذي قد يأتي معارضا لها؟!
كما عقد أبو الحسين البصري بعد ذلك فصلا بعنوان: (فصل في أن الخبر لا يرد
إذا كان واحدا: ذهب جل القائلين بأخبار الآحاد إلى قبول خبر الواحد وإن رواه واحد،
وقال أبو علي إذا روى العدلان خبرا وجب العمل به، وإن رواه واحد لم يجز إلا بشروط منها
أن يعضده ظاهر أو عمل بعض الصحابة أو يكون مشتهرا... والدليل على القول الأول إجماع
السلف...) (المعتمد 2/ 138).
فقد قرر هنا حجية خبر الواحد، ووجوب العمل به، واستدل عليه بإجماع السلف
من الصحابة ومن بعدهم، وهو قول عامة المعتزلة، ورد على الجبائي اشتراطه بعض الشروط
لقبوله خبر الواحد، مع أن هذه الشروط لا تخرجه عن كونه خبر واحد، بل حتى رواية الاثنين
لا تخرجه عن كونه خبر آحاد، وإنما قاس أبو علي الرواية على الشهادة التي يشترط لها
شاهدان عدلان، أو شاهد وعاضد إلا إن أبا الحسين البصري المعتزلي حاججه في ذلك ورد عليه
قوله!
والجدل في خبر الواحد هو في خبر الصحابي الواحد إذا أخبر عن النبي ﷺ بحكم أو خبر، أما بعد الصحابة فلا وجود على التحقيق لمثل هذا الفرض إذ
شاعت الرواية عنهم شيوعا مستفيضا!
ثم بعد ذلك عقد أبو الحسين (باب القول بالمرسل) وهو أن يروي التابعي عن
النبي ﷺ خبرا
ولا يذكر الواسطة بينه وبين النبي ﷺ، وقد أثبت أبو الحسين حجيته ووجوب العمل به إذا كان المرسل عدلا، كما بين
مذهب أبي علي في أنه يحتج بالمرسل إذا أرسله عدلان كما هو مذهبه في شهادة الشاهدين!
بل لقد احتج أبو الحسين المعتزلي في باب الخبر بزيادة الراوي وبما وصله
الراوي بعد إرساله أو رفعه بعد وقفه... إلخ، بينما نقل عن أكثر أهل الحديث عدم قبولهم
لبعض ذلك وفق قواعدهم إذا يعدون مثل هذه الزيادات في المتن أو الإسناد من قبيل المنكر
أو الشاذ بحسب حال الراوي!
أي أن أهل الحديث أكثر تشددا في شروط قبول الحديث من المعتزلة وغيرهم!
وما ذكره أبو الحسين هنا نص عليه ابن حزم الظاهري في كتابه في أصول الأحكام
فقال وهو يعرّف السنة: (السنة هي الشريعة نفسها، وأقسام السنة في الشريعة فرض أو ندب
أو إباحة أو كراهة أو تحريم، كل ذلك قد سنه رسول الله ﷺ عن الله عز وجل) (الإحكام 1/ 47).
فتأمل تعريفه للسنة بأنها الشريعة التي شرعها الله على لسان نبيه فهي الإسلام
والأحكام التي جاءت عن النبي ﷺ وهي التي يعرفها أبو الحسين البصري بالسنة المعلومة!
وقال ابن حزم عن خبر الواحد: (صح إجماع الأمة كلها على قبول خبر الواحد
الثقة عن النبي ﷺ، وجميع أهل الإسلام كانوا على قبول خبر الواحد كأهل السنة والخوارج والشيعة
والقدرية -المعتزلة- حتى حدث متكلمو المعتزلة بعد المائة فخالفوا الإجماع في ذلك)
(الإحكام 1/ 108).
وإنما قصد ابن حزم بعض المعتزلة أما عامة المعتزلة فهم موافقون للأمة في
إثبات حجية خبر الواحد كما قال أبو الحسين البصري الذي احتج هو الآخر بإجماع السلف
على ذلك.
بل حتى من تكلموا في حجية خبر الواحد نظريا إذا حاججهم مخالفوهم في السنن
والأخبار التي يتفق الجميع على العمل بمقتضاها مع أنها آحاد ردوا عليهم بأنها ثبتت
عندهم عن طريق التواتر!
قال ابن حزم: (الأمة كلها مجمعة على قبول ما قاله رسول الله ﷺ لا خلاف بين أحد ينتمي إلى الإسلام في ذلك من جميع الفرق أولها عن آخرها،
ثم اختلفوا في الطريق المؤدية لمعرفة صحة ما قاله رسول الله ﷺ فقلنا نحن خبر الواحد العدل من جملة ذلك، وقال آخرون ليس من جملة ذلك،
ثم تأتي سنن فقلنا نحن صحت عندنا من طريق الآحاد، وقال من خالفنا إنما صحت عندنا من
طريق التواتر ولو لم تأت إلا من طريق الآحاد فقط ما أخذنا بها... كإجماع الناس على
أن في خمس من الإبل شاة، وفيما سقي بالنضح نصف العشر... التي جاءت من طريق الكافة وجاءت
أيضا من طريق الآحاد) (الإحكام 7/ 437).
فانظر كيف أن بعض من تكلموا في خبر الواحد -وهو غير الشريعة المشهورة والسنة
المعلومة- إذا جاءت السنن المعمول بها مما لا يخالفون في وجوب العمل بها مع كونها أخبار
آحاد، قالوا بأنها ثبتت عندهم بالتواتر، لأن التواتر لا حد له بل كل ما رواه جماعة
تحيل العادة تواطؤهم على الكذب، وأفاد العلم فهو متواتر، وإن رواه أربعة مع أن مخالفيهم
قد يعدون ذلك آحادا!
وتأمل قول ابن حزم في آخر العبارة المنقولة: (التي جاءت من طريق الكافة
وجاءت أيضا من طريق الآحاد) فهو يميز بين ثبوت الأحكام والشرائع والسنن عن طريق نقل
الكافة عن الكافة علما وعملا وفتوى، وثبوتها عن طريق الآحاد رواية وخبرا!
فكون في خمس من الإبل زكاة شاة، وفي ما ينضح من الزروع نصف العشر، هذا
يعرفه كافة الفقهاء كابرا عن كابر، ويتناقلونه كافة عن كافة كعلم وعمل بمقتضاه وهو
مما لا خلاف فيه بينهم، إلا أنه أيضا ثبت عن طريق الرواية بأخبار الآحاد بالإسناد،
لا بالتواتر، ويدخل في الآحاد المشهور والمستفيض!
وهذا التواتر بنقل الكافة عن الكافة علما وعملا وفقها وفتوى وقضاء لم ينقطع
وما زال في ازدياد إذ بعد أن تم تدوين فقه أهل العراق وأهل الحجاز قبل سنة 150 هـ وظهرت
المذاهب الفقهية أصبح النقل للمذاهب من قبل أتباعها أكثر تواترا والمذاهب الفقهية ما
هي إلا مدارس لفهم الشريعة وحفظها والعمل بها!
والمقصود أن الأمة مجمعة على:
1- أن السنة -وهي الشريعة كلها كما بينها النبي ﷺ في العبادات والمعاملات وسياسة شئون الأمة وفق أحكام القرآن- حجة كالقرآن
ومعلومة من حيث العموم بلا خلاف.
2- وأما ما يروى منها بأخبار الآحاد الصحيحة؛
- فما أجمعت الأمة على صحته أو على العمل به كأحاديث الصحيحين فهو حجة
مقطوع به حتى عند المعتزلة إذ عامته من المشهور والمستفيض والآحاد المجمع
عليه.
- وما لم تجمع الأمة على صحته ولا على العمل به فمنه:
- ما هو مشهور رواه اثنان أو ثلاثة ولم يبلغ حد التواتر وهو حجة بلا خلاف.
-
ما هو خبر واحد عدل فهو حجة يجب العمل به عند عامة الأمة وإجماع سلف الأمة
وعند أكثر المعتزلة وإنما خالف فيه بعض متأخري المعتزلة القدرية.
وهؤلاء الذين خالفوا في هذه الجزئية وافقوا على أن خبر الواحد هذا إذا
وجد له شاهد أو عاضد فهو حجة ويجب العمل به مع أنه بلا خلاف لم يخرج عن دائرة خبر الآحاد!
وخبر الواحد عند هؤلاء القلة من المعتزلة يشمل أيضا المسند والمرسل الذي
يرويه العدل، فكل ما رواه عدلان مسندا أو مرسلا فهو حجة عندهم يجب العمل به!
وانظر إلى قول أبي داود في رسالته إلى أهل مكة عن منهجه في تأليف كتابه
السنن حيث يقول -بعد أن نص على أنه أراد جمع أحاديث الأحكام، وأنه اقتصر على أصح ما
في الأبواب وأن عامته صحيح وصالح للعمل لشهرته بين فقهاء الأمة-: (والأحاديث التي وضعتها
في كتاب السنن أكثرها مشاهير، فإنه لا يحتج بحديث غريب ولو كان من رواية مالك ويحيى
القطان والثقات من أئمة العلم، ولو احتج رجل بحديث غريب وجدت من يطعن فيه، فأما الحديث
المشهور المتصل الصحيح فليس يقدر أن يرده عليك أحد... وإنما لم أصنف في كتاب السنن
إلا الأحكام ولم أصنف في الزهد وفضائل الأعمال وغيرها فهذه أربعة آلاف وثمانمائة كلها
في الأحكام، فأما أحاديث كثيرة صحاح من الزهد والفضائل وغيرها لم أخرجها).
قال القاضي عبد الجبار -وهو إمام المعتزلة في عصره -: (الأخبار المتواترة
نحو خبر من يخبرنا أن النبي ﷺ كان يتدين بالصلوات الخمس، وإيتاء الزكاة، والحج إلى بيت الله، وغير ذلك،
فإن هذا سبيله يعلم اضطرارا، وأقل العدد الَّذِي يحصل العلم بخبرهم خمسة) (شرح الأصول
الخمسة 768).
فهذا القاضي عبد الجبار يقرر أن خبر الخمسة متواتر يفيد العلم. وأكثر المتكلمين
والأصوليين يترددون في العدد ما بين الخمسة إلى العشرة.
والصحيح ما ذهب إليه أصحاب الرأي الأول من أنه لا يشترط عدد محدد، بل متى
أفاد الخبر العلم، وورد وتتابع من طرق عدَّة فهو المتواتر.
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن رجل ينكر وجود الخبر المتواتر فقال:
(أما من أنكر تواتر حديث واحد فيقال له: التواتر نوعان: تواتر عن العامة؛
وتواتر عن الخاصة وهم أهل علم الحديث. وهو أيضاً قسمان: ما تواتر لفظه؛ وما تواتر معناه.
فأحاديث الشفاعة والصراط والميزان والرؤية وفضائل الصحابة ونحو ذلك متواتر عند أهل
العلم، وهي متواترة المعنى وإن لم يتواتر لفظ بعينه، وكذلك معجزات النبي ﷺ الخارجة عن القرآن متواترة أيضاً، وكذلك سجود السهو متواتر أيضاً عند
العلماء، وكذلك القضاء بالشفعة ونحو ذلك.
وعلماء الحديث يتواتر [عندهم] ما لا يتواتر عند غيرهم؛ لكونهم سمعوا ما
لم يسمع غيرهم، وعلموا من أحوال النبي ﷺ ما لم يعلم غيرهم، والتواتر لا يشترط له عدد معين؛ بل من العلماء من ادعى
أن له عدداً يحصل له به العلم من كل ما أخبر به كل مخبر، ونفوا ذلك عن الأربعة وتوقفوا
فيما زاد عليها، وهذا غلط! فالعلم يحصل تارة بالكثرة؛ وتارة بصفات المخبرين؛ وتارة
بقرائن تقترن بأخبارهم وبأمور أخر.
وأيضاً فالخبر الَّذِي رواه الواحد من الصحابة والاثنان: إذا تلقته الأمة
بالقبول والتصديق أفاد العلم عند جماهير العلماء، ومن الناس من يسمي هذا: المستفيض.
والعلم هنا حصل بإجماع العلماء على صحته؛ فإن الإجماع لا يكون على خطأ؛ ولهذا كان أكثر
متون الصحيحين مما يعلم صحته عند علماء الطوائف: من الحنفية، والمالكية، والشافعية،
والحنبلية، والأشعرية، وإنما خالف في ذلك فريق من أهل الكلام كما قد بسط في موضعه)
(الفتاوى 18/ 69 - 70).
فهنا لم يذكر شيخ الإسلام عن أحد من أهل السنة أنه ينكر المتواتر -وهو
أعلم الناس بمذاهب الناس- وقد كان بصدد الإجابة على سؤال عمن ينكر ذلك.
وذكر أن التواتر نوعان: تواتر عن العامة ترويه عن العامة، ويأخذه الكافة
عن الكافة، وعامة شرائع الإسلام الظاهرة هي من هذا النوع كما ذكر القاضي عبدالجبار
-آنفًا- وكما قال الشافعي في مناظرته مع أحدهم: (قلت: أفرأيت سنة رسول الله ﷺ بأي شيء تثبت؟
قال: تثبت من أحد ثلاثة وجوه.
قلت: فاذكر الأول منها.
قال: خبر العامة عن العامة.
قلت: أكقولكم مثل أن الظهر أربع؟
قال: نعم.
قلت: هذا مما لا يخالفك فيه أحد علمته) (جماع العلم 55).