بسم الله الرحمن الرحيم
حكم الدِّين في سداد القروض عن المَدينين[1]
بقلم د. حاكم المطيري
27/12/ 2006م
الحمد لله رب العالمين وصلى وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه
أجمعين وبعد ...
فقد كثر السؤال والجدل حول حكم إسقاط الديون التي على المواطنين، بعد
أن صدرت بعض الفتاوى في هذا الموضوع الخطير، حيث أخرجت تلك الفتاوى القضية من
كونها قضية اجتهادية يدلي أعضاء مجلس الأمة فيها برأيهم إلى قضية شرع ودين يحرم
على الشعب وعلى من يمثلهم من الأعضاء في مجلس الأمة الاجتهاد فيها أو الدعوة إلى
إسقاطها، تحت ذرائع باطلة شرعا كالعدالة، أو وجود الربا في الديون، وقد تكرر حولها
السؤال؛ فوجب بيان الحكم الشرعي في هذه القضية بناء على الأدلة الشرعية من الكتاب
والسنة وأقوال الأئمة وسلف الأمة، بقطع النظر عن الجانب السياسي والاقتصادي
والاجتماعي لهذه المشكلة، فقد جعل الشارع فك الدين عن المدينين كتحرير الرقيق كما
في قوله تعالى: {وفي الرقاب والغارمين}، فعطف الغارمين على الرقاب؛ لكون الديون
أغلالا في أعناق المدينين لدائنيهم، كغل الرق، وتعد الديون أخطر آفة اقتصادية
تواجهها المجتمعات والدول، وربما اضطرت الدول الرأسمالية الغنية لإسقاط ديون الدول
الفقيرة لتنشيط أسواقها وإنعاشها وهو ما يعود على الدول الغنية نفسها بالفائدة،
فكيف إذا كان المدينون هم أكثر المواطنين في دولة غنية كالكويت، وعامة ديونهم هي
في مساكنهم وأثاث بيوتهم وحاجات أسرهم؟!
ولا شك أن للمشكلة أسبابها وجذورها التي تتمثل في فساد النظام
الاقتصادي كله في الكويت الذي يقوم على السيطرة على الثروة والتحكم فيها، حتى لم
يعد في قدرة المواطن الكويتي من ذوي الدخل المتوسط فضلا عن ذوي الدخل المحدود -وهم
عامة الشعب الكويتي- شراء سيارة دون اقتراض؛ فضلا عن شراء قطعة أرض سكنية دون
اقتراض، حيث تبلغ قيمة أرخص أرض مائة ألف دينار، ويكلف متوسط قيمة بنائها نحو مائة
ألف أخرى، في الوقت الذي يستطيع أي مواطن خليجي في دول الخليج الأخرى الغنية شراء
قطعة أرض سكنية دون حاجة إلى اقتراض، حيث تتوفر الأراضي بكل الأسعار؛ ليتجلى الخلل
الخطير الذي يتمثل في سيطرة الدولة في الكويت على أهم قطاع اقتصادي بعد النفط وهو
العقار؛ دون توفير الأراضي المعروضة للبيع للمواطنين بأسعار مقدورة لذوي الدخل
المحدود، هذا بالإضافة إلى غلاء الأسعار، وارتفاع مستوى المعيشة؛ بسبب الحكرة
الاقتصادية التي يقوم عليها السوق الكويتي، مما اضطر أكثر المواطنين إلى اللجوء
للاقتراض لمواجهة تكاليف وأعباء الحياة المعيشية، مما أثقل كاهل عامة المواطنين
بالديون في أهم حاجاتهم الأصلية، وكان الواجب على الحكومة في ظل الوفرة المالية أن
تقدم المساكن لمواطنيها مجانا، أو بأسعار رمزية، لا أن تحتكر الأراضي، وتحرم
المواطنين منها ومن استصلاحها، وفي المقابل تهبها لبعض المتنفذين ليثروا من خلال
السيطرة على العقار السكني، والمقصود هنا بيان موقف الشريعة المطهرة من المدينين،
وإيجابها سهما من الزكاة للغارمين، بعد أن تكرر السؤال التالي:
السؤال: صدرت بعض الفتاوى التي تحرم إسقاط الديون عن المواطنين كما
جاء في مشروع القانون الذي تقدم به بعض أعضاء مجلس الأمة، فهل لهذه الفتاوى أصل
شرعي؟ وهل يحرم على أعضاء المجلس الموافقة على المشروع؟
الجواب: الحكم في هذه القضية يبنى على مقدمتين ضروريتين
لمعرفة الحكم الشرعي فيها بناء عليهما:
المقدمة الأولى: في بيان من هم الغارمين الذين أوجب الله لهم حقا في
الزكاة كما قال تعالى: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة
قلوبهم وفي الرقاب والغارمين}؟
والمقدمة الثانية: في حكم الدفع لهم من بيت المال العام إذا تعطل
مصرف الزكاة أو لم يف بسداد ديونهم وكيف يتم الدفع إليهم والقسم بينهم بالعدل؟
ولا خلاف بين العلماء من كافة المذاهب الفقهية في أن المقصود
بالغارمين في الآية المدينون، كما لا خلاف بينهم على وجوب سداد كل ديونهم حتى
يخرجوا من حد الغارمين ووصف المدينين، للأدلة الآتية:
أولا: الأدلة من الكتاب:
قال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ
وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ
وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ
وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [سورة التوبة: 60].
فقد نصت الآية على حق الغارمين في الزكاة وأن لهم سهما فيها، ومعلوم
أن الزكاة من أشد الأموال حرمة، فإذا استحقوا سهما فيها؛ فمن باب أولى جواز الدفع
لهم من المال العام من غير الزكاة، وقد نص أئمة التفسير قاطبة على أن الغارمين
يدخل فيهم المدينين وهذه بعض أقوالهم في ذلك:
روى ابن جرير في تفسيره بأسانيد صحيحة:
1- عن مجاهد قال: "الغارمون"، من احترق بيته، أو يصيبه
السيل فيذهب متاعه، أو يدَّانُ على عياله، فهذا من الغارمين، وفي رواية قال: من
احترق بيته، وذهب السيل بماله، وادن على عياله.
فجعل من احتاج لبناء بيته، أو استدان للإنفاق على أسرته من الغارمين.
2- وعن أبي جعفر محمد الباقر قال: "الغارمين"، المستدين في
غير سَرَف، ينبغي للإمام أن يقضي عنهم من بيت المال.
فاشترط أن لا يكون الدين في سرف وهو ما تجاوز المعهود في الإنفاق في
الحاجات الأصلية وهي سكنه وأثاثه وثيابه ودابته ونحو ذلك مما يحتاج إليه كل إنسان.
3- وسئل الزهري عن "الغارمين"، قال: أصحاب الدين.
4- وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله: أن يُعْطى الغارمون من
الصدقات.
5- وعن قتادة قال: "الغارمون" قوم غرَّقتهم الديون في غير
إملاق ولا تبذير ولا فساد.
6- وقال ابن زيد: "الغارم"، الذي يدخل عليه الغُرْم.
وقد روى ابن أبي حاتم في تفسيره أكثر هذه الآثار بأسانيد صحيحة وزاد
أيضا:
7- وعَنْ مُقَاتِلٍ، قَال الغارمينَ: هُمُ الَّذِينَ عَلَيْهِمُ
الدَّيْنُ.
8- وعَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُخَيْمِرَةَ: أَنَّهُ قَدِمَ عَلَى عُمَرَ
بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَسَأَلَهُ قَضَاءَ دَيْنِهِ، فَقَالَ: وَكَمْ دَيْنُكَ ؟
قَالَ تِسْعُونَ دِينَارًا، قَالَ: قَدْ قَضَيْنَاهُ عَنْكَ، أَنْتَ مِنَ
الْغَارِمِينَ.
9- وعن الأَوْزَاعِيُّ: "أَن عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ
فَرَضَ لِلْقَاسِمِ بْنِ مُخَيْمِرَةَ فِي سِتِّينَ وَقَضَى عَنْهُ تِسْعِينَ
دِينَارًا، وَقَالَ لَهُ: أَنْتَ مِنَ الْغَارِمِينَ، وَأَمَرَ لَهُ بِخَادِمٍ
وَمَسْكَنٍ.
ثانيا: الأدلة من السنة النبوية:
1- روى مسلم عن أبى سعيد الخدري؛ قال: (أصيب رجل في عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها فكثر دينه، فقال رسول اللّه صلى الله عليه
وسلم: "تصدقوا عليه" فتصدق الناس عليه فلم يبلغ ذلك وفاء دينه، فقال
رسول صلى الله عليه وسلم لغرمائه "خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك").
2- وعن أبي سعيد أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: (لا تحل
الصدقة لغني إلا لخمسة: لعامل عليها، أو رجل اشتراها بماله، أو غارم، أو غاز في
سبيل الله)، رواه أبو داود وابن ماجه وأحمد ومالك في الموطأ والبزار وعبد بن حميد
وأبو يعلى والبيهقي وصححه ابن خزيمة والحاكم على شرط الشيخين.
3- وجاء في صحيفة المدينة: (وإن المؤمنين لا يتركون بينهم مفرحا أن
يعينوه بالمعروف)، قال ابن هشام في السيرة: (المفرح المثقل بالدين وكثير العيال)،
وكذا قال الأصمعي وغيره.
والغارم في الآية القرآنية وهذه الأحاديث النبوية هو من عليه دين كما
ورد في الفقه على المذاهب الأربعة 1/986: (عند الحنفية الغارم: هو الذي عليه دين
ولا يملك نصابا كاملا بعد دينه والدفع إليه لسداد دينه أفضل من الدفع للفقير،
ويجوز صرف الزكاة لمن يملك أقل من النصاب وإن كان صحيحا ذا كسب، أما من يملك نصابا
من أي مال كان فاضلا عن حاجته الأصلية وهي مسكنة وأثاثه وثيابه وخادمه ومركبه
وسلاحه؛ فلا يجوز صرف الزكاة له.
وعند الحنابلة الغارم قسمان: أحدهما: من استدان للإصلاح بين الناس.
ثانيهما: من استدان لإصلاح نفسه في أمر مباح أو محرم وتاب ويعطى ما يفي به دينه.
وقال المالكية: الغارم: هو المدين الذي لا يملك ما يوفي به دينه
فيوفى دينه من الزكاة ولو بعد موته
وشرطه أن يكون تداينه لغير فساد: كشرب خمر وإلا فلا يعطى منها إلا أن
يتوب.
وعند الشافعية: الغارم: هو المدين، وأقسامه ثلاثة: الأول: مدين
للإصلاح بين المتخاصمين فيعطى منها ولو غنيا. الثاني: من استدان في مصلحة نفسه
ليصرف في مباح أو غير مباح بشرط أن يتوب.
الثالث: من عليه دين بسبب ضمان لغيره وكان معسرا هو والمضمون إذا كان
الضمان بإذنه فإن تبرع هو بالضمان بدون إذن المضمون يعطى متى أعسر هو ولو أيسر
المضمون ويعطى الغارم في القسمين الأخيرين ما عجز عنه من الدين بخلاف القسم الأول
فيعطى منها ولو غنيا).
ثالثا: الأدلة من القواعد الفقهية والمقاصد الشرعية:
فمعلوم أن من أهم مقاصد الشريعة تقسيم الثروة وإعادة توزيعها من خلال
تشريعاتها المالية كالزكاة والميراث والفيء والخراج وغيرها من التشريعات، التي
تهدف إلى تدوير الثروة وتحريكها، وتنشيط دورة الاقتصاد في المجتمع، حتى لا يكون
المال دولة بين الأغنياء؛ ولهذا أوجب الزكاة في أموال الأغنياء لتدفع إلى مستحقيها
من الفقراء والمحتاجين من المدينين الغارمين، وقد نص الفقهاء على أن الحد الذي يجب
فيه الحق للفقراء والمساكين والمحتاجين والغاية التي يسقط بعدها حقهم في الزكاة هو
خروجهم بالزكاة من حال الفقر والحاجة والفاقة، إلى حال الغنى والقدرة، حتى يكون الفقير
غنيا، والغارم غير مدين، ليتجلى مقصود الشريعة وهو القضاء على الفقر والعوز في
المجتمع، حتى لا يبقى فقير ولا محتاج، قال ابن عاشور في التحرير والتنوير عند
تفسير قوله تعالى: {كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم}: (من مقاصد الشريعة أن
يكون المال دولة بين الأمة الإسلامية على نظام محكم في انتقاله من كل مال لم يسبق
عليه ملك لأحد مثل الموات والفيء واللقطات والركاز أو كان جزءا معينا مثل الزكاة
والكفارات وتخميس المغانم والخراج).
رابعا: رأي المذاهب الفقهية:
وقد اتفق العلماء من كافة المذاهب الفقهية على أن المدينين هم من
الغارمين الذين يجب سداد ديونهم من الزكاة؛ وهذه أقوالهم مع شروط كل مذهب فيما
اشترطه في سهم الغارمين:
أولا: مذهب الحنفية:
قال السرخسي في المبسوط 3/2: (وأما قوله تعالى: {والغارمين} فهم
المدينون الذين لا يملكون نصابا فاضلا عن دينهم).
وفي بدائع الصنائع 2/152 (وأما قوله تعالى: {والغارمين} قيل: الغارم
الذي عليه الدين أكثر من المال الذي في يده أو مثله أو أقل منه لكن ما وراءه ليس
بنصاب).
وفي حاشية الطحاوي على المراقي 2/719: (والمديون هو المراد بالغارم
وفى الظهيرية: الدفع للمديون أولى منه للفقير).
ثانيا: مذهب مالك:
قال في بداية المجتهد1/417: (وأما قدر ما يعطى الغارم فبقدر ما عليه
إذا كان دينه في طاعة وفي غير سرف بل في أمر ضروري).
وقال القرطبي في تفسيره جامع الأحكام 8/183في الغارمين:(هم الذين
ركبهم الدين ولا وفاء عندهم به، ولا خلاف فيه، اللهم إلا من ادَّان في سفاهة فإنه
لا يعطى منها ولا من غيرها إلا أن يتوب، ويعطى منها من له مال وعليه دين محيط به
ما يقضى به دينه - يعنى دين مستغرق لما يملكه - فإن لم يكن له مال وعليه دين فهو
فقير وغارم فيعطى بالوصفين).
وقال الطاهر بن عاشور في تفسيره 6/317: (وأما الغارمون فشرطهم أن لا
يكون دينهم في معصية إلاّ أن يتوبوا. والميت المدين الذي لا وفاء لدينه في تركته
يُعدّ من الغارمين عند ابن حبيب).
ثالثا: مذهب الشافعية:
قال الإمام الشافعي الأم 2/109: (والغارمون كل من عليه دين، سواء كان
له عرض يحتمل دينه أو لا يحتمله، وإنما يعطى الغارمون إذا ادانوا في حمل دية، أو
أصابتهم جائحة، أو كان دينهم في غير فسق ولا سرف ولا معصية).
وقال أيضا في الأم 2/101 (فكان معقولا أن الفقراء والمساكين
والغارمين إذا أعطوا حتى يخرجوا من الفقر والمسكنة إلى الغنى، والغرم إلى أن لا
يكونوا غارمين، لم يكن لهم في السهمان شيء وصاروا أغنياء كما لم يكن للأغنياء على
الابتداء معهم شيء.... فإن اختلف غرم الغارمين فكان عدتهم عشرة، وغرم أحدهم مائة،
وغرم الآخر ألف، وغرم الآخر خمسمائة، فسألوا أن يعطوا على العدد لم يكن ذلك لهم،
وجمع غرم كل واحد منهم، فكان غرمهم عشرة آلاف وسهمهم ألفا، فيعطى كل واحد منهم عشر
غرمه بالغا ما بلغ، فيعطى الذي غرمه مائة عشرة، والذي غرمه ألف مائة، والذي غرمه
خمسمائة خمسين، فيكونون قد سوى بينهم على قدر غرمهم لا على عددهم ولا يزاد عليه).
وجاء في المهذب 1/308: (وأما من غرم لمصلحة نفسه فإن كان قد أنفق في
غير معصية دفع إليه مع الفقر، وهل يعطى مع الغنى فيه قولان: قال في الأم: لا يعطى
لأنه يأخذ لحاجته إلينا فلم يعط مع الغني كغير الغارم، وقال في القديم والصدقات من
الأم: يعطى لأنه غارم في غير معصية فأشبه إذا غرم لإصلاح ذات البين فإن غرم في
معصية لم يعط مع الغنى، وهل يعطى مع الفقر؟ ينظر فيه فإن كان مقيما على المعصية لم
يعط لأنه يستعين به على المعصية، وإن تاب ففيه وجهان: أحدهما يعطى لأن المعصية قد
زالت، والثاني لا يعطى لأنه لا يؤمن أن يرجع إلى المعصية، ولا يعطى الغارم إلا ما
يقضي به الدين فإن أخذ ولم يقض به الدين أو أبرئ منه أو قضي عنه قبل تسليم المال
استرجع منه وإن ادعى أنه غارم لم يقبل إلا ببينة).
وفي الأشباه والنظائر للسيوطي: (والغارم في معصيته يعطي إذا تاب).
رابعا: مذهب الحنابلة:
قال ابن قدامة في المغني 7/324: (الغارمين وهم المدينون العاجزون عن
وفاء ديونهم هذا الصنف السادس من أصناف الزكاة ولا خلاف في استحقاقهم وثبوت سهمهم،
وأن المدينين العاجزين عن وفاء ديونهم منهم، لكن إن غرم في معصية مثل أن يشتري
خمرا أو يصرفه في زنا أو قمار أو غناء ونحوه لم يدفع إليه قبل التوبة شيء، لأنه
إعانة على المعصية، وإن تاب فقال القاضي يدفع إليه، واختاره ابن عقيل لأن إبقاء
الدين في الذمة ليس من المعصية، بل يجب تفريغها، والإعانة على الواجب قربة لا
معصية، فأشبه من أتلف ماله في المعاصي حتى افتقر فإنه يدفع إليه من سهم الفقراء،
وفي وجه آخر لا يدفع إليه لأنه استدانة للمعصية فلم يدفع إليه كما لو لم يتب،
ولأنه لا يؤمن أن يعود إلى الاستدانة للمعاصي ثقة منه بأن دينه يقضى بخلاف
من أتلف ماله في المعاصي فإنه يعطى لفقره لا لمعصيته.
فصل: ومن الغارمين صنف يعطون مع الغنى وهو غرم لإصلاح ذات البين وهو
أن يقع بين الحيين وأهل القريتين عداوة وضغائن يتلف فيها نفس أو مال ويتوقف صلحهم
على من يتحمل ذلك فيسعى إنسان في الإصلاح بينهم ويتحمل الدماء التي بينهم والأموال
فيسمى ذلك حمالة، وكانت العرب تعرف ذلك وكان الرجل منهم يتحمل الحمالة ثم يخرج في
القبائل فيسأل حتى يؤديها فورد الشرع بإباحة المسألة فيها وجعل له نصيبا من الصدقة
وروى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تحل الصدقة لغني إلا
لخمسة ذكر منها الغارم)
والغارم لمصلحة نفسه يأخذ لحاجة نفسه فاعتبرت حاجته وعجزه كالفقير
والمسكين والمكاتب وابن سبيل، وإذا كان الرجل غنيا وعليه دين لمصلحة نفسه لا يطيق قضاءه
جاز أن يدفع إليه ما يتم به قضاءه مع ما زاد عن حد الغنى، فإذا قلنا الغنى يحصل
بخمسين درهما وله مائة وعليه مائة جاز أن يدفع له خمسون ليتم قضاء المائة من غير
أن ينقص غناه، قال أحمد لا يعطى من عنده خمسون درهما أو حسابها من الذهب إلا مدينا
فيعطى دينه وإن كان يمكنه قضاء الدين من غير نقص من الغناء لم يعط شيئا.
فصل: وإذا أراد الرجل دفع زكاته إلى الغارم فله أن يسلمها إليه
ليدفعها إلى غريمه، وإن أحب أن يدفعها إلى غريمه قضاء عن دينه، فعن أحمد فيه
روايتان إحداهما: يجوز ذلك نقل أبو الحارث قال قلت لـ أحمد رجل عليه ألف وكان على
رجل زكاة ماله ألف فأداها عن هذا الذي عليه الدين يجوز هذا من زكاته؟ قال نعم ما
أرى بذلك بأسا وذلك لأنه دفع الزكاة في قضاء دينه فأشبه ما لو دفعها إليه يقضي بها
دينه، والثانية لا يجوز دفعها إلى الغريم، قال احمد أحب إلي أن يدفعه إليه حتى
يقضي هو عن نفسه قيل هو محتاج يخاف أن يدفعه إليه فيأكله ولا يقضي دينه قال فقل له
يوكله حتى يقضيه، فظاهر هذا لأنه لا يدفع الزكاة إلى الغريم إلا بوكالة الغارم،
لأن الدين إنما هو على الغارم فلا يصح قضاؤه إلا بتوكيله ويحتمل أن يحمل هذا على
الاستحباب ويكون قضاؤه عنه جائزا، وإن كان دافع الزكاة الإمام جاز أن يقضي بها
دينه من غير توكيله لأن للإمام ولاية عليه في أداء الدين ولهذا يجبره عليه إذا
امتنع منه، وإذا ادعى الرجل أن عليه دينا فإن كان يدعيه من جهة إصلاح ذات البين
فالأمر فيه لا يكاد يخفى فإن خفي ذلك لم يقبل منه إلا ببينة، وإن غرم لمصلحة نفسه
لم يدفع إليه إلا ببينة أيضا لأن الأصل عدم الغرم وبراءة الذمة فإن صدقه الغريم
فعلى وجهين كالمكاتب إذا صدقه سيده.
فصل: وإن اجتمع في واحد سببان يجوز الأخذ بكل واحد منهما منفردا
كالفقير الغارم أعطي بهما جميعا فيعطى ما يقضي غرمه ثم يعطى ما يغنيه).
وقال ابن تيمية في السياسة الشرعية ص 60: (والغارمين هم الذين عليهم
ديون لا يجدون وفاءها فيعطون وفاء ديونهم ولو كان كثيرا إلا أن يكونوا غرموه في
معصية الله تعالى فلا يعطون حتى يتوبوا).
وفي الروض المربع 1/219: (النوع الثاني: ما أشير إليه بقوله: أو تدين
لنفسه في شراء من كفار أو مباح أو محرم وتاب مع الفقر ويعطى وفاء دينه ولو لله ولا
يجوز له صرفه في غيره ولو فقيرا وإن دفع إلى الغارم لفقره جاز أن يقضي منه دينه).
وفي الإقناع 1/290: (الثاني: من غرم لإصلاح نفسه في مباح حتى في شراء
نفسه من الكفار فيأخذ إن كان عاجزا عن وفاء دينه، ويأخذه ومن غرم لإصلاح ذات البين
ولو قبل حلول دينهما، وإذا دفع إليه ما يقضي به دينه لم يجز صرفه في غيره، وإن كان
فقيرا، وإن دفع إلى الغارم لفقره جاز أن يقضي به دينه، فالمذهب أن من أخذ بسبب
يستقر الأخذ به ـ وهو الفقر والمسكنة والعمالة والتألف ـ صرفه فيما شاء كسائر
ماله، وإن لم يستقر صرفه فيما أخذه له خاصة لعدم ثبوت ملكه عليه من كل وجه، ولهذا
يسترد منه إذا برئ أو لم يغز، وإن وكل الغارم من عليه الزكاة قبل قبضها منه بنفسه
أو نائبه في دفعها إلى الغريم عن دينه جاز، وإن دفع المالك إلى الغريم بلا إذن
الفقير صح كما أن للإمام قضاء الدين عن الحي من الزكاة بلا وكالة).
وفي الإنصاف 3/ 247: (إذا غرم في معصية لم يدفع إليه من الزكاة بلا
نزاع، وإذا سافر في معصية لم يدفع إليه أيضا على الصحيح من المذهب وقطع به
الأكثرون، وقد حكى في إدراك الغاية وجها بجواز الأخذ للراجع من سفر المعصية.
قوله فإن تاب فعلى وجهين وأطلقهما في المغني وشرح المجد والشرح
والنظم والفائق وأطلقهما في الغارم في الرعاية الكبرى:
أحدهما: يدفع إليهما وهو المذهب في الغارم ولم يذكروا المسافر إذا
تاب وهو مثله.
واختاره القاضي و ابن عقيل في الغارم وصححه ابن تميم في الغارم قال
في الفروع في الغارم: فإن تاب دفع إليه في الأصح قال الزركشي في الغارم: المذهب
الجواز اختاره القاضي و ابن عقيل و أبو البركات و صاحب التلخيص وغيرهم انتهى وقدمه
في الرعاية الكبرى في المسافر.
والوجه الثاني: لا يدفع إليهما وقدم ابن رزين عدم جواز الدفع إلى
الغارم إذا تاب وجواز الدفع للمسافر إذا تاب).
خامسا: مذهب الشيعة الجعفرية:
جاء في شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام في فقه الشيعة
الجعفرية (1/332): (وَالْغَارِمُونَ وَهُمْ الَّذِينَ عَلَتْهُمْ الدُّيُونُ فِي
غَيْرِ مَعْصِيَةٍ، فَلَوْ كَانَ فِي مَعْصِيَةٍ لَمْ يُقْضَ عَنْه، نَعَمْ لَوْ
تَابَ، صُرِفَ إلَيْهِ مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ، وَجَازَ أَنْ يَقْضِيَ هُوَ
.وَلَوْ جَهِلَ فِي مَاذَا أَنْفَقَهُ، قِيلَ: يَمْنَعُ، وَقِيلَ: لَا، وَهُوَ
الْأَشْبَهُ .وَلَوْ كَانَ لِلْمَالِكِ دَيْنٌ عَلَى الْفَقِيرِ جَازَ أَنْ
يُقَاصَّهُ).
وفي الروضة البهية في فقه الشيعة الإمامية - (ج 1 / ص 318):
(وَالْغَارِمُونَ - وَهُمْ الْمَدِينُونَ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ) وَلَا
يَتَمَكَّنُونَ مِنْ الْقَضَاءِ فَلَوْ اسْتَدَانُوا وَأَنْفَقُوهُ فِي مَعْصِيَةٍ
مُنِعُوا مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ، وَجَازَ مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ إنْ
كَانُوا مِنْهُمْ بَعْدَ التَّوْبَةِ، إنْ اشْتَرَطْنَاهَا، أَوْ مِنْ سَهْمِ
سَبِيلِ اللَّهِ ( وَالْمَرْوِيُّ) عَنْ الرِّضَا عَلَيْهِ السَّلَامُ مُرْسَلًا (
أَنَّهُ لَا يُعْطَى مَجْهُولُ الْحَالِ ) فِيمَا أَنْفَقَ هَلْ هُوَ فِي طَاعَةٍ
أَوْ مَعْصِيَةٍ، وَلِلشَّكِّ فِي الشَّرْطِ، وَأَجَازَهُ جَمَاعَةٌ حَمْلًا
لِتَصَرُّفِ الْمُسْلِمِ عَلَى الْجَائِزِ، وَهُوَ قَوِيٌّ، ( وَيُقَاصُّ
الْفَقِيرُ بِهَا ) بِأَنْ يَحْتَسِبَهَا صَاحِبُ الدَّيْنِ عَلَيْهِ إنْ كَانَتْ
عَلَيْهِ وَيَأْخُذَهَا مُقَاصَّةً مِنْ دَيْنِهِ وَإِنْ لَمْ يَقْبِضَهَا
الْمَدْيُونُ وَلَمْ يُوَكِّلْ فِي قَبْضِهَا، وَكَذَا يَجُوزُ لِمَنْ هِيَ
عَلَيْهِ دَفْعُهَا إلَى رَبِّ الدَّيْنِ كَذَلِك).
سادسا: مذهب الشيعة الزيدية:
جاء في السيل الجرار على حدائق الأزهار 2/49: (والغارم كل مؤمن فقير
لزمه دين في غير معصية) قال الشوكاني: (قوله والغارم كل مؤمن فقير أقول هذا مصرف
من المصارف المذكورة في القرآن ولا وجه لاشتراط الفقر فيه، فان القرآن لم يشترط
ذلك، والسنة المطهرة مصرحة بعدم اشتراط الفقر فيه، كما في حديث أبي سعيد بلفظ (لا
تحل الصدقة لغني إلا لخمسة لعامل عليها أو رجل اشتراها بماله أو غارم أو غاز في
سبيل الله)، فهذا الحديث فيه التصريح بعدم اشتراط الفقر في الغارم ومن ذكر معه، بل
يعطى الغارم من الزكاة ما يقضي دينه وإن كان أنصباء كثيرة وأما اشتراط كونه في غير
معصية فصحيح لأن الزكاة لا تصرف في معاصي الله سبحانه ولا فيمن يتقوى بها على
انتهاك محارم الله عز وجل).
وقال أيضا في السيل الجرار 4/306: (وأما سائر الأموال التي هي معدودة
في بيت مال المسلمين فلا يشترط بها فقر القاضي ولا غيره وقد صح عنه صلى الله عليه
وسلم أنه قال لعمر ما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه وما لا فلا
تتبعه نفسك بعد أن قال عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يعطيه من هو أحوج
إليه منه وقد كان الصحابة يأخذون من العطاء الألوف المؤلفة كما هو معلوم بل كان
الحسنان وعبد الله بن جعفر وأمثالهم يأخذون المائة الألف وما هو أكثر منها).
وجاء في التاج المذهب لأحكام المذهب – في فقه الشيعة الزيدية - (ج 1
/ ص 413(وَ يَجُوزُ (لِلْإِمَامِ تَفْضِيلٌ) لِبَعْضِ الْأَصْنَافِ وَلَا يَجُوزُ
لِلْإِمَامِ ذَلِكَ التَّفْضِيلُ إلَّا إذَا كَانَ (غَيْرَ مُجْحِفٍ) بِالْأَصْنَافِ
الْبَاقِيَةِ فَأَمَّا إذَا كَانَ مُجْحِفًا لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَيْفٌ
عَنْ الْحَقِّ وَمَعْنَى الْإِجْحَافِ هُنَا هُوَ أَنْ يُعْطِيَ أَحَدَ
الْغَارِمِينَ فَوْقَ مَا يَقْضِي دَيْنَهُ وَالْآخَرَ دُونَ مَا يَفِي بِدَيْنِه
، أَوْ يُعْطِيَ أَحَدَ ابْنَيْ سَبِيلٍ مَا يُبَلِّغُهُ وَطَنَهُ وَالْآخَرَ
دُونَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ مُقْتَضٍ لِذَلِكَ كَأَنْ يَكُونَ الْمُفَضَّلُ
مُؤَلَّفًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ).
خامسا: فتاوى الأئمة والمجامع الفقهية:
1- قال ابن تيمية
في الفتاوى 28/569: (من كان من ذوي الحاجات كالفقراء والمساكين والغارمين وابن
السبيل فهؤلاء يجوز بل يجب أن يعطوا من الزكوات ومن الأموال المجهولة باتفاق
المسلمين وكذلك يعطوا من الفيء مما فضل عن المصالح العامة التي لابد منها عند أكثر
العلماء) وقال في 28/572 ـ 576 (وليس في المسلمين من ينكر صرف الصدقات وفاضل أموال
المصالح إلى الفقراء والمساكين بل يستحقون من الزكوات بلا ريب وإما من الفيء
والمصالح فلا يستحقون إلا ما فضل عن المصالح العامة ولو قدر أنه لم يحصل لهم من
الزكوات ما يكفيهم وأموال بيت المال مستغرقة بالمصالح العامة كان إعطاء العاجز منهم
عن الكسب فرضا على الكفاية فعلى المسلمين جميعا إن يطعموا الجائع ويكسوا العاري
ولا يدعوا بينهم محتاجا وعلى الإمام أن يصرف ذلك من المال المشترك الفاضل عن
المصالح العامة التي لا بد منها).وقال في 28/582: (وأما مذهب عمر في الفيء فانه
يجعل لكل مسلم فيه حقا لكنه يقدم الفقراء وأهل المنفعة كما قال عمر رضى الله عنه
ليس أحد أحق بهذا المال من أحد إنما هو الرجل وبلاؤه والرجل وغناؤه والرجل وسابقته
والرجل وحاجته فكان يقدم في العطاء بهذه الأسباب ...والرجل وفاقته فانه كان يقدم
الفقراء على الأغنياء وهذا ظاهر فإنه مع وجود المحتاجين كيف يحرم بعضهم ويعطي لغني
لا حاجة له ولا منفعة به لاسيما إذا ضاقت أموال بيت المال عن إعطاء كل المسلمين
غنيهم وفقيرهم؟ فكيف يجوز أن يعطى الغني الذي ليس فيه نفع عام ويحرم الفقير
المحتاج بل الفقير النافع فهذا كلام عمر الذي يذكر فيه بأن لكل مسلم حقا يذكر فيه
تقديم أهل الحاجات ولا يختلف اثنان من أنه لا يجوز أن يعطى الأغنياء الذين لا
منفعة لهم ويحرم الفقراء فإن هذا مضاد لقوله تعالى كيلا يكون دولة بين الأغنياء
منكم فإذا جعل الفيء متداولا بين الأغنياء فهذا الذي حرمه الله ورسوله وهذه الآية
في نفس الأمر).
2- وجاء في الفتاوى
الفقهية الكبرى للفقيه الشافعي ابن حجر الهيتمي (3 / ص 216(: (وَسُئِلَ
عَمَّنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَهُ مَالٌ يَسْتَغِلُّهُ يَخْرُجُ بِبَيْعِهِ إلَى
الْمَسْكَنَةِ هَلْ يُعْطَى مِنْ الزَّكَاةِ أَمْ لَا؟ (فَأَجَابَ) بِأَنَّهُمْ
صَرَّحُوا بِأَنَّ مَنْ لَهُ عَقَارٌ يَسْتَغِلُّهُ لَكِنْ يَنْقُصُ دَخْلُهُ عَنْ
كِفَايَتِهِ فَهُوَ إمَّا فَقِيرٌ أَوْ مِسْكِينُ فَيُعْطَى تَمَامُ كِفَايَتِهِ
وَلَا يَلْزَمُهُ بَيْعُهُ وَبِأَنَّ مَنْ ادَّانَ لِنَفْسِهِ وَعَجَزَ عَنْ
وَفَاءِ دَيْنِهِ يُعْطَى وَإِنْ كَانَ كَسُوبًا ثُمَّ إنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ
شَيْءٌ أَعْطَى الْكُلَّ وَإِلَّا فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَوْ قَضَى دَيْنَهُ
مِمَّا مَعَهُ تَمَسْكَنَ تُرِكَ لَهُ مِمَّا مَعَهُ مَا يَكْفِيهِ وَأُعْطِيَ مَا
يَقْضِي بِهِ بَاقِي دَيْنِهِ فَإِنْ انْتَفَى ذَلِكَ لَمْ يُعْطَ، هَذَا هُوَ
الْمُعْتَمَد .وَمِنْ ثَمَّ لَمَّا قَالَ الرَّافِعِيُّ ظَاهِرُ كَلَامِ
الْأَكْثَرِينَ يَقْتَضِي اشْتِرَاطَ كَوْنِهِ فَقِيرًا لَا يَمْلِكُ شَيْئًا
وَرُبَّمَا صَرَّحُوا بِهِ قَالَ وَفِي بَعْضِ شُرُوحِ الْمِفْتَاحِ أَنَّهُ لَا
يَعْتَبِرُ الْمَسْكَنَ وَالْمَلْبَسَ وَالْفِرَاشَ وَالْآنِيَةَ وَكَذَا
الْخَادِمُ وَالْمَرْكُوبُ إذَا اقْتَضَاهُمَا حَالُهُ بَلْ يَقْضِي دَيْنَهُ
وَإِنْ مَلَكَهَا وَيَقْرُبُ مِنْهُ قَوْلُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ إنَّا لَا
نَعْتَبِرُ الْفَقْرَ وَالْمَسْكَنَةَ هُنَا بَلْ لَوْ مَلَكَ قَدْرَ كِفَايَتِهِ
وَلَوْ قَضَى دَيْنَهُ لَنَقَصَ مَالُهُ عَمَّا يَكْفِيهِ تُرِكَ لَهُ مَا
يَكْفِيهِ وَلَا يَدْخُلُ فِي الِاعْتِبَارِ وَهَذَا أَقْرَبُ ا هـ كَلَامُ
الرَّافِعِيِّ .قَالَ الْقَمُولِيُّ وَمَعْنَى هَذَا الْأَخِيرِ الَّذِي رَجَّحَهُ
أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي مِلْكِهِ مَا يُبَاعُ فِي الدَّيْنِ لَكِنْ لَوْ بِيعَ
لَاحْتَجْنَا إلَى دَفْعِهِ لَهُ فِي سَهْمِ الْفُقَرَاءِ أَوْ الْمَسَاكِينِ لَا
يَمْنَعُ وُجُودُهُ أَنْ يُصْرَفُ إلَيْهِ مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ لِأَنَّا
لَوْ فَعَلْنَا ذَلِكَ لَصَرَفْنَا إلَيْهِ بَدَلَهُ مِنْ الزَّكَاةِ فَلَا
فَائِدَةَ فِيهِ وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ عَقَارٌ أَوْ ضِيَاعٌ
وَعَادَتُهُ اسْتِغْلَالُهَا أَوْ رَأْسَ مَالًا يَتَّجِرُ فِيهِ وَالرِّيعُ
وَالْكَسْبُ لَا يَزِيدَانِ عَلَى كِفَايَتِهِ لَا يَمْنَعُ).
3- وفي فتاوى الأزهر 9/245:(ومهما يكن من شيء فإن المدين لنفسه أو
لغيره وكان الدين بسبب مباح يعطى من الزكاة بمقدار دينه، ومن استدان لمعاص أو لهو
لا يعطى إلا إذا تاب).
4- وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء برئاسة
الشيخ محمد بن إبراهيم ونائبه الشيخ ابن باز وعضوية ابن منيع وابن غديان (ج 11 / ص
488) (وأما بالنسبة للمسجونين لقاء الحق الخاص فقد بين الله تعالى أهل الزكاة في
قوله تعالى:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ
عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي
سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ} وذكر (الغارمين) من أصناف أهل الزكاة،
والغارمون قسمان: قسم غرم لإصلاح ذات البين ما أخمد به فتنة وقعت بين جماعة، حصل
بسببها التزامات مالية مثلًا، فالتزم بدفعها على نية الرجوع بها على زكاة المسلمين،
فهذا الصنف من الغارمين يعطى ما غرمه من الزكاة، وإن كان غنيا. القسم الثاني
الغارم لإصلاح نفسه وحاله في مباح، كمن يستدين لنفقته ونفقة من تلزمه مؤنته، أو
تجب عليه التزامات مالية ليس الظلم والعدوان سببها؛ فإنه يعطى من الزكاة ما يقابل
به ما غرمه).
5- وفي فتوى اللجنة الدائمة رقم 6375: (والمراد بالغارمين: من استدان
في غير معصية، وليس عنده سداد لدينه). وفيها أيضا (سؤال: هل يجوز صرف الزكاة على
المدين؟ أي إذا كان رجل مستديناً مبلغاً من المال لشراء أرض مثلاً فهل تصرف عليه
الزكاة؟ وما مدى استحقاق الزكاة على رجل تدين لشراء ملابس لأبنائه أو سيارة يستعين
بها على ضرورات الحياة؟ الجواب: إذا استدان إنسان مبلغًا مضطرًا إليه؛ لبناء بيت
لسكناه، أو لشراء ملابس مناسبة، أو لمن تلزمه نفقته؛ كأبيه ولأولاده أو زوجته، أو
سيارة يكد عليها لينفق من كسبه منها على نفسه، ومن تلزمه نفقته مثلا، وليس عنده ما
يسدد به الدين استحق أن يعطى من مال الزكاة ما يستعين به على قضاء دينه. أما إذا
كانت استدانته لشراء أرض تكون مصدر ثراء له أو لشراء سيارة ليكون من أهل السعة أو
الترف فلا يستحق أن يعطى من الزكاة. (لجنة الفتوى: عبدالله بن قعود، عبدالله بن
غديان، عبدالرزاق عفيفي، عبدالعزيز بن عبدالله بن باز).
6- وفي فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ - (ج 2 / ص
315): (أما الديون التي على الأحياء فمن كان موسورًا الزم بالوفاء، ومن كان معسراً
فنظرة إلى ميسرة ؛لقوله تعالى:(وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة ) لكن إذا كان
الدين قد تحمله المدين غرامة لإصلاح ذات البين أو علقه لإصلاح نفسه في مباح كنفقته
ونفقة عياله استحق أن يدفع له من الزكاة ما يفي به ؛لأنه من الغارمين الذين هم أحد
أصناف مصارف الزكاة).
7- وفي فتاوى ابن عثيمين: (الغارمون وهم المدينون إذا لم يكن لهم ما
يمكن أن يوفوا منه ديونهم، فهؤلاء يعطون ما يوفون به ديونهم قليلة كانت أو كثيرة،
وإن كانوا أغنياء من جهة القوت، فإذا قدر أن هناك رجلاً له مورد يكفي لقوته وقوت
عائلته إلا أن عليه ديناً لا يستطيع وفاءه فإنه يعطى من الزكاة ما يوفي به
دينه).وفي فتوى رقم 903 (لو كان هؤلاء الإخوة والأخوات عليهم ديون للناس وقضيت
ديونهم من زكاتك فإنه لا حرج عليك في هذا أيضاً، وذلك لأن الديون لا يلزم القريب
أن يقضيها عن قريبه فيكون قضاؤها من زكاته أمراً مجزياً، حتى ولو كان ابنك، أو
أباك وعليه دين لأحد ولا يستطيع وفاءه، فإنه يجوز لك أن تقضي دين أبيك من زكاتك،
ويجوز أن تقضي زكاة ولدك من زكاتك بشرط أن لا يكون سبب هذا الدين تحصيل نفقة واجبة
عليك، فإن كان سببه تحصيل نفقة واجبة عليك فإنه لا يحل لك أن تقضي الدين من زكاتك؛
لئلا يتخذ ذلك حيلة على منع الإنفاق على من تجب نفقتهم عليه، لأجل أن يستدين ثم
يقضي ديونهم من زكاته).
فتحصل من مجموع أقوال الفقهاء وفتاواهم على اختلاف مذاهبهم ما يلي:
أولا: أن المدينين هم من الغارمين الذين لهم حق في
الزكاة بلا خلاف بينهم؛ سواء كان المدين فقيرا أو غنيا لا يستطيع سداد دينه،
فالفقير المدين يدفع له سهمان من سهم الفقراء ومن سهم الغارمين، وأما الغني المدين
فيدفع له من سهم الغارمين فقط.
ثانيا: وأن من استدان لصلاح نفسه وأهل بيته؛ كمن بنى
بيتا أو أثثه أو اشترى سيارة أو عالج مريضا ونحو ذلك من التصرفات المباحة شرعا؛
فهو من الغارمين.
ثالثا: وأن سهم الغارمين يختلف عن سهم الفقراء
والمساكين؛ فلا يشترط فيمن عليه دين أن يكون فقيرا؛ بل يدفع حتى للغني الذي عليه
دين لا يستطيع سداده.
رابعا: ولا يشترط في سهم الغارمين أن يكون المدين مطلوبا
بالسداد أو محكوما عليه بالسجن؛ بل لكل مدين لا يستطيع سداد دينه فك رقبته من
الديون التي عليه.
خامسا: وأن من اشترى ما يحتاجه هو أو أسرته من الضرورات
أو الحاجيات بدين ربوي لا يسقط حقه في سهم الغارمين؛ إذ أنه لم يدفع الدين في حرام
كالخمر والزنا أو الظلم والعدوان؛ بل دفعه في مباح شرعا مضطرا أو محتاجا إليه؛
كشراء منزل أو تأثيثه أو علاج، فسبب الدين في الأصل ليس حراما أو معصية، وإن كان
قد اضطر إلى الشراء بالربا؛ إذ الواجب شرعا: إسقاط الربا، وسداد الدين عنه؛ بل مثل
هذا أولى؛ إذ تخليص المسلم من الربا، وإعانته على ذلك من التعاون على البر
والتقوى، ولا يسوغ ترك المحتاجين يضطرون إلى الربا، أو يستمرون عليه.
سادسا: وأن من عليه ديون بسبب محرم كشراء الخمر مثلا
يجوز الدفع له من سهم الغارمين بشرط التوبة من المعصية عند أكثر الفقهاء، كما عند
الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، وذهب الجعفرية إلى أنه إن تاب يدفع إليه
من سهم الفقراء لا من سهم الغارمين، أي: يشترطون أن يكون فقيرا، بينما لا يشترط
ذلك الجمهور فإذا كان غنيا إلا أن ماله لا يطيق سداد دينه يدفع له من سهم الغارمين
بشرط ثبوت توبته؛ إذ مقصود الشارع تحرير رقبة المدين من الدين كتحريرها من العتق.
سابعا: أنه للإمام أن يدفع عن المدين للدائنين مباشرة،
ولا خلاف بين الفقهاء في ذلك بالنسبة للإمام ومن يقوم مقامه، وإنما اختلفوا في
جواز أن يدفع صاحب الزكاة زكاته مباشرة للدائنين دون توكيل من المدين نفسه، وذهب
أكثرهم إلى جواز ذلك؛ إذا كان يخشى أن لا يقوم المدين بالسداد إذا قبض الزكاة.
ثامنا: أنه إذا كان المال فائضا وسهم الغارمين وافرا؛
فالواجب السداد عن المدينين كل بحسب ما عليه من ديون مهما بلغت ديونهم، ما دامت في
الضروريات المباحة والحاجيات المباحة، فمن عليه ألف تدفع عنه الألف، ومن عليه مائة
ألف تدفع عنه مائة ألف، وهذا لا خلاف فيه بين الفقهاء.
تاسعا: وإذا لم يكن المال فائضا ولا سهم الغارمين وافرا،
فإنه يسدد عن كل واحد من المدينين بالنسبة، كربع الدين مثلا، فيسدد عن صاحب الألف
مائتين وخمسين، وعن صاحب المائة ألف خمسة وعشرين ألفا، هذا قول الإمام الشافعي.
عاشرا: أنه يحرم على الإمام أو الدولة المحاباة في سهم
الغارمين؛ بل يجب تحري العدل بين المدينين في تقسيم السهم عليهم، ونص الزيدية على
أنه يحرم على الإمام الإجحاف وهو أن يدفع لمدين أكثر من دينه الذي عليه، ويدفع
لمدين آخر أقل من الدين الذي عليه، فالعدل هو أن يدفع عن كل واحد منهما كل ما عليه
من دين إن كان المال وافرا، أو يدفع عن كل واحد منهما بعض دينه بالتساوي إن كان
المال غير وافر، كالنصف أو الثلث أو الربع، أو يدفع عن كل واحد منهما مقدارا محددا
من المال متساويا، كألف عن كل واحد، أو ألفين عن كل واحد.
الحادي عشر: أنه لا خلاف بين الفقهاء أن مال الزكاة أشد حرمة
مما سواه من أموال بيت المال، فمن جاز الدفع له من الزكاة فالدفع له من الأموال
الأخرى من بيت المال أولى، خاصة إذا كان في بيت المال فائض ووفرة.
الثاني عشر: أنه لا يسوغ شرعا المنع من سداد ديون المدينين في
حاجاتهم الأصلية كالمساكن والأثاث والعلاج ونحوها بذريعة وجوب العدل بينهم وبين
غير المدينين، فهذا هو عين الظلم، وهذه مضادة لحكم الله ورسوله، ومساواة بين من له
حق ومن لا حق له شرعا، وهذا تماما كقول من يقول لا يدفع للفقراء والمساكين شيء حتى
يدفع للأغنياء مثله؛ وهو قول باطل بإجماع الفقهاء، فقد أوجب الشارع للغارمين حقا
كالفقراء والمساكين، وإنما الواجب شرعا العدل بين الغارمين والمدينين بحسب حاجتهم
دون محاباة.
الثالث عشر: أنه إذا تعطلت الزكاة ولم تقم الدولة بأخذها ممن
وجبت عليهم ودفعها لمستحقيها، أو كانت الزكاة غير كافية، وفي بيت المال فائض عن
المصالح العامة، فيجوز؛ بل يجب شرعا سداد ديون المدينين، في حاجاتهم الضرورية
والحاجية المباحة، من بيت المال؛ كما نص عليه شيخ الإسلام ابن تيمية.
الرابع عشر: أنه لا يسوغ شرعا ترك الديون على المدينين بذريعة
أن إسقاطها سيؤدي إلى غلاء الأسعار ونحو ذلك من الشبه؛ إذ هو مصادرة لحقهم الذي
أوجب الله لهم بالنصوص القطعية بذرائع باطلة وهو محرم شرعا، وهذا كشبه بعض
الرأسماليين الذين يزعمون بأن التدخل لمساعدة الفقراء والمساكين والمحتاجين يضر
بالسوق وبالاقتصاد الحر، وكل ذلك مضادة لحكم الله ورسوله، فلا يسقط حق أحد؛ لكون
غيره قد يتضرر من ذلك، ولا تسقط الحقوق بسد الذريعة.
الخامس عشر: أن العدل في الأموال هو في تصريفها حسب موجب
الشرع لا حسب الأهواء، وإنما العدل واجب في تقسيم الأموال ابتداء، إذا لم يوجد سبب
يقتضي التفاضل.
السادس عشر: أن الواجب على السلطة القيام بمعالجة جذور الأزمة
وذلك للحيلولة دون حدوث مشكلة الديون مرة ثانية من خلال تطوير النظام الاقتصادي،
ورفع الاحتكار، وضبط الأسعار، والرقابة على البنوك؛ لمنعها من استغلال حاجة الناس،
وتحديد سقف الاقتراض، وتوفير الضروريات كالأراضي السكنية لمن أراد الشراء بأسعار
في مقدور الجميع.
والمقصود أنه لا يوجد ما يمنع شرعا من تقديم مشروع قانون يتم بموجبه
سداد ديون المواطنين في حاجاتهم الأصلية كالقروض الاجتماعية والسكنية والاستهلاكية
من المال العام؛ إذا كان فيه فائض عن المصالح العامة، ولا يحرم شرعا على الأمة
إسقاط الديون عن نفسها كما لها إسقاط الديون التي لها عن غيرها من الأمم، ولها أن
تتبرع على نفسها، كما لها التبرع لغيرها من الأمم، وكل ذلك حق للأمة بعد إذنها، إذ
تصرف السلطة على الأمة منوط بموافقة الأمة، ومنوط بالمصلحة، والله تعالى أعلم.
[1] منشور في صحيفة القبس
والأنباء والرأي العام بتاريخ 27/12/ 2006م.