بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الله، وصلى الله وسلم على رسول الله، محمد بن عبد الله، وآله
وصحبه ومن والاه، وبعد:
في ظل التداعي الأممي لوأد الثورة السورية وتطور الأحداث السياسية
والعسكرية؛ هذه معالم شرعية يسترشد بها قادة الثورة والجهاد في سوريا للتعامل مع
الواقع بكل تعقيداته:
أولا: الهدف الرئيس للثورة هو
إسقاط نظام الأقلية الطائفي الإجرامي، وإنهاء الطغيان السياسي، وتحرير الشعب
السوري من ربقته، ومن نفوذ القوى التي تقف معه، وقد بدأ الجهاد لتحقيق هذا الغرض؛
فهو جهاد دفع؛ كما قال تعالى: ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ﴾، وقال ﷺ: (من قاتل دون ماله فهو شهيد،
ومن قاتل دون أرضه فهو شهيد، ومن قاتل دون دينه فهو شهيد، ومن قاتل دون أهله فهو
شهيد)..
والغاية من جهاد الدفع هو صد العدوان، ودفع الطغيان؛ بتحرير
المستضعفين، وتحقيق الأمن والعدل لهم، فإذا تحقق ذلك؛ فثم شرع الله وعدله وحكمه.
فانشغال الفصائل الجهادية عن هذه الغاية والمهمة بالاقتتال فيما
بينها تحت أي ذريعة أخرى هو انحراف عن الغاية التي جاهدت من أجلها، حتى وإن ادعت
هذه الفصائل أنها تريد إقامة حكم الله وإعلاء كلمته، إذ إعلاء كلمته وإقامة حكمه
في جهاد الدفع يكون بصد العدوان وبتحرير المستضعفين وحمايتهم وتحقيق الأمن لهم، لا
بالعلو والتغلب والسيطرة وإشاعة الخوف في مناطقهم المحررة بالاقتتال المتكرر بين
الفصائل بسبب بغي بعضها على بعض، واعتداء بعضها على بعض، وافتراق كلمتها؛ وكل ذلك
نقيض الغاية التي قامت من أجلها!
ثانيا: العدو في هذه المعركة هو
نظام الطاغية ومن يقف معه داخليا وخارجيا، وفي ظل القصف الروسي والعدوان الإيراني
على الشعب السوري؛ لا فرق بين عصابات النظام وميليشيات إيران والمحتل الروسي.
ثالثا: وقفت تركيا مع الشعب السوري
إنسانيا وسياسيا وعسكريا، وآوت الملايين من المهجرين، ودفعت ثمن ذلك باهظا على
حساب أمنها الداخلي؛ فهي حليف إستراتيجي يجب المحافظة على العلاقة معها وتعزيزها،
ومراعاة التحول التاريخي فيها لصالح الأمة ودينها، ومراعاة الضغوط الدولية التي
تتعرض لها، فلم يعد للشعب السوري وثورته حليف موثوق إلا تركيا، فقوتها واستقرارها
قوة للشعب السوري وثورته، مع ضرورة محافظة قوى الثورة السورية على قوتها وتحررها
من الضغوط، ووجوب وحدتها لتحقيق شراكة حقيقية مع تركيا يستفيد منها كلا الطرفين،
وحتى لا تختل العلاقة بسبب ضعف قوى الثورة وتشرذمها وعجزها عن تغيير المعادلة على
الأرض لصالحها.
كما يجب على الفصائل تعزيز التنسيق مع تركيا في تحييد ما يمكن من
القوى الدولية، وعدم فتح جبهات مع كل القوى في آن واحد، وهي من حيث العداوة
والخطورة على النحو التالي:
1- يمثل نظام الأقلية الطائفي الإجرامي العدو الأول للشعب السوري،
وهو الذي استدعى كل هذه القوى الدولية المحتلة، وهو المسئول عن صناعة الجماعات
الإرهابية والتعاون معها لمواجهة ثورة الشعب السوري واختراقها، ليظل في السلطة؛
فيمثل إسقاطه الهدف الرئيس للثورة.
2- ثم تأتي إيران وميليشياتها كعدو ثان، بحكم مشروعها الصفوي الوظيفي
الذي استخدمه المحتل الأمريكي في العراق، والمحتل الروسي في سوريا لمواجهة ثورة
شعوبهما، للوصول إلى تحقيق مشروع الهلال الشيعي الطائفي.
3- ثم يأتي المحتل الروسي الذي شارك في دك المدن وتهجير سكانها؛
ليحافظ على قاعدته العسكرية ونفوذه في سوريا كقوة احتلال منذ سنة 1971م.
4- ثم المحتل الأمريكي الذي شن حملته الجوية منذ 2014م على الشعب
السوري والمناطق المحررة حصرا بدعوى مكافحة الإرهاب، كما حاصر الثورة وفرض عليها
طوقا خارجيا لمنع تسليحها ووقوف شعوب الأمة معها.
ويحكم العلاقات مع كل المكونات والقوى قوله تعالى: ﴿لا يَنْهَاكُمُ
اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ
مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ﴾، والبر هو الإحسان
والفضل، والقسط هو الإنصاف والعدل، فكل من وقف مع الشعب السوري أو لم يشارك في
العدوان عليه داخل سوريا أو خارجها؛ فهو داخل في عموم هذه الآية من أي دين أو
طائفة أو قومية كان.
وكل من قاتل الشعب السوري واعتدى عليهم وأخرجهم من ديارهم؛ فهو عدو
تحرم موالاته: ﴿إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي
الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ
تَوَلَّوْهُمْ﴾
ولا يمنع ذلك من التفاوض مع الأعداء بتفويض من الشعب السوري وفصائله
لتحييد ما أمكن منهم، واستعادة ما يمكن من حقوق الشعب السوري، وحفظ مصالحه؛ ممن
يمثل الثورة ويعبر عن أهدافها.
رابعا: مراعاة ظروف الشعب السوري
وحاجته لمن يدافع عنه ويساعده في مواجهة هذا العدوان الدولي، خاصة الدول
الإسلامية، كتركيا وغيرها من الدول، ولا حرج في التعاون مع كل من يريد نصرته، ومع
كل من يقف مع المظلوم ويدفع الظلم والظالم والعدوان عنه، من أي دين وفئة وطائفة
كان؛ كما في الحديث: "شهدت حلفا في الجاهلية - وكان على نصرة المظلوم - لو
دعيت إليه في الإسلام لأجبت"، ولعموم قوله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ
وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾، وفي الحديث
القدسي: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما؛ فلا
تظالموا" وهذا خطاب عام بتحريم الظلم مطلقا في كل زمان ومكان، وفي الصحيح:
"أمرنا رسول الله ﷺ بسبع... ونصرة المظلوم"، وهذا عام سواء كان المظلوم مسلما أو
غير مسلم، وقد عاهد النبي ﷺ يهود المدينة على الدفاع عنها وعلى نصرته على عدوه، وكذا كانت خزاعة
في حلف النبي ﷺ في صلح الحديبية، وكانوا على شركهم، فلما اعتدت عليهم قريش وحلفاؤها
واستنصرت خزاعة بالنبي ﷺ نصرهم وأعانهم وفتح النبي ﷺ مكة.
ولا يصلح الاحتجاج هنا بحديث: "إنا لا نستعين بمشرك" فهذه
عزيمة في جهاد طلب خارج المدينة، وذلك يوم بدر؛ كما في حديث عائشة في صحيح مسلم،
ولا يتعارض ذلك مع الرخصة في الاستعانة بهم في جهاد الدفع، ولا في جهاد الطلب إذا
كان المسلمون في حاجتهم، ولم يترتب على ذلك فرض إرادتهم أو ظهور شوكتهم على
المسلمين.
وإذا وجب نصرة المظلوم المشرك فالاستعانة به على دفع العدوان والظلم
من باب أولى، خصوصا إذا كانت بينه وبين المسلمين أسباب توجب النصرة والتعاون كأهل
الوطن الواحد، وكالموالي، والحليف، فمن تولى منهم أهل الإسلام؛ فهو منهم في حقوق
النصرة والحماية، وإن كان غير مسلم، ومن تولى أعداء الإسلام والمسلمين؛ فهو منهم
في وجوب عداوته وحربه وإن كان مسلما؛ كما قال تعالى: ﴿وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ
فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾، ومفهوم المخالفة يقتضي أن من تولى منهم المسلمين؛ فهو من
المسلمين في الموالاة السياسية وحقوقها؛ كما في صحيفة المدينة: "وإن يهود بني
عوف أمة من المؤمنين" أو "أمة مع المؤمنين" والرواية الأولى أصح
فهي من مغازي الزهري، وكلا المعنيين صحيح؛ فهم من المؤمنين ومعهم في حقوق المواطنة
في المدينة، وهي الأمة والجماعة بمفهومها السياسي، ولها من الحقوق السياسية ما ليس
للأمة بمفهومها الإيماني في بعض الصور؛ ولهذا وجب بالإجماع حماية أهل الذمة وهم
المواطنون غير المسلمين في دار الإسلام والدفاع عنهم بحكم هذه العلاقة، بينما لا
تجب نصرة المسلمين في دار الحرب إذا آثروا المواطنة فيها على الهجرة لدار الإسلام
مع القدرة؛ لانقطاع ولاية أهل الإسلام السياسية معهم وعليهم ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا
وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلا عَلَى قَوْمٍ
بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾ فصار لغير المسلم في دار الإسلام من حقوق
الولاية السياسية وهي الحماية والنصرة، ما ليس للمسلم الذي في غير دار الإسلام؛
سواء كانت دار حرب أو دار عهد وسلم.
فيتساوى غير المسلم إذا قاتل مع المسلمين دفاعا عنهم في الأحكام
العامة معهم، وقد ساوى الإمام أحمد في أصح الروايتين عنه وهي المذهب: غير المسلم
بالمسلم في سهم الغنيمة في الجهاد إذا قاتل مع المسلمين، فيأخذ ما يأخذه المسلم،
قال المرداوي في الإنصاف 4/ 171: (قوله: (وفي الكافر روايتان): يعني هل يرضخ له،
أو يسهم؟
إحداهما: يرضخ له.
والأخرى: يسهم له. وهي المذهب. وعليها أكثر الأصحاب.
تنبيهات
أحدها: قال الزركشي: وقول الخرقي "غزا معنا"، لم يشترط أن
يكون بإذن الإمام. وشرط ذلك الشيخان، وأبو الخطاب. انتهى).
ولهذا لم يأخذ النبي ﷺ الجزية من يهود المدينة على الشرط الذي اشترطه عليهم بالدفاع عنها، وتحمل
النفقات المالية في الديات والغرامات، وأسقط عمر الجزية عن نصارى تغلب حين اشتركوا
مع المسلمين في قتال الروم، وأخذ منهم الصدقة بدلا منها كما يأخذ من المسلمين.
خامسا: عدم القبول بأي اشتراطات
خارجية دولية على حساب الشعب السوري وحقوقه ودينه وهويته وسيادته في وطنه ووحدة
أراضيه وشعبه بكل مكوناته؛ بما في ذلك حقه في إسقاط النظام واختيار نظامه السياسي
الجديد الذي يعبر عن إرادته وحريته وثورته.
ولا يحق لأي أطراف خارجية أو داخلية فرض إرادتها على الشعب السوري
وثورته؛ بما في ذلك الفصائل المسلحة التي يفترض فيها أنها قامت من أجل حماية
الثورة وتحقيق أهدافها.
سادسا: تهيئة الرأي العام السوري
والعربي والإسلامي لخوض معركة تحرير طويلة عسكرية وسياسية وعدم الانخداع
بالمفاوضات والوعود الغربية.
ففي ظل الصراع الأممي والتداعي على الأمة وشعوبها في كل ساحات
الثورة، وبتدخل كل جيوش القوى الدولية في سوريا، على الثورة السورية وفصائلها
تجاوز البعد القطري، واستدعاء الأمة وشعوبها للصراع كمصدر قوة وورقة ضغط يخشاها
النظام الدولي الذي يمثل الاحتلال الأممي للمنطقة، ورفض الضغوط الدولية التي تريد
حصار الشعب السوري داخل قطره، والتي تشترط خروج كل من جاء إلى نصرته، في الوقت
الذي يتم قصفه ومحاصرته دوليا ويفتح الطريق للميليشيات الإيرانية لتحتل مدنه!
فيتعين على كل هيئات الفتوى في الشام الدعوة العامة للأمة وشعوبها
إلى النفير العام للجهاد ﴿انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا
بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ
كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾، والتعبئة الروحية العامة، وتذكير المسلمين بأيام الله،
وبما لهم من الثواب عند الله، وبما جرى لنبيهم ﷺ وأصحابه يوم الأحزاب، وكيف
شارك بحفر الخندق بنفسه، وربط الحجر على بطنه ﷺ، والتحريض بكل الوسائل؛
كما أمر الله رسوله ﴿وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ
الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلا﴾.
فلا يسوغ شرعا ولا عقلا ولا سياسة أن يتداعى العدو الأممي لقتال
الشعب السوري وقتله كما تفعل روسيا وإيران وأمريكا ثم لا يدعو علماء سوريا الأمة
وشعوبها للنفير لنصرتهم؛ لأن العدو يرفض مشاركة الأجانب!
إذ على شعوب الأمة أن تقاتل أعداءها كافة كما يقاتلونها كافة
﴿وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً﴾!
فما يجري في سوريا - وغيرها من بلدان الثورة العربية التي تواجه
إجرام الطغيان الداخلي وعدوان الاحتلال الخارجي - هو جهاد أمة واحدة، لتحقيق غاية
واحدة، وهو فرض عين على أهلها، بلا خلاف بين أهل العلم؛ كما قال تعالى:
﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا﴾ و
﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى
نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ . الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾،
ونصرتهم وإغاثتهم على أهل الإسلام كافة فرض كفاية؛ كما قال تعالى: ﴿وَمَا لَكُمْ
لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ﴾، ﴿وَإِنِ
اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ﴾، فإن عجزوا عن دفع عدوهم
صار الجهاد على من حولهم من الأمصار- ممن يستطيع إغاثتهم - فرض عين!
سابعا: إن من أوجب الواجبات؛ بل
هو واجب الوقت بالنسبة لأهل الشام: تشكيل قيادة عامة؛ لما تواتر في السنة من وجوب
الإمارة والإمامة، وفي الحديث: "إذا كنتم ثلاثة في سفر فأمروا أحدكم"،
وهذا الواجب يُخاطب به شرعا أهل الحل والعقد من العلماء والزعماء والأمراء
والوجهاء، فيختارون قيادة عامة تمثل الثورة ويبايعونها على النصرة والسمع والطاعة
في القتال حتى يتم تحرير سوريا. كما يجب على الفصائل أن تقوم بالمبادرة إلى ما
أوجبه الله عليها من وحدة الصف وإصلاح ذات البين والقتال في جبهة واحدة ﴿إِنَّ
اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم
بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ﴾، ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾،
فلو عمل المجاهدون بالواجب عليهم لما اضطروا واحتاجوا إلى المحرم شرعا لرفع الحرج
عنهم!
فكل اجتماع واعتصام بحبل الله يتم بين الفصائل السورية؛ الواجب شرعا
مؤازرته، كما قال تعالى ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا
تَفَرَّقُوا﴾، وقال: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا﴾،
كما يجب التعاون مع كل اتحاد على البر والتقوى، لا على الإثم والعدوان، من أي فئة
كان، كما قال تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا
عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾، وهذا لا يبطل الحقوق والمظالم، ولا يتخذ ذريعة
لإسقاطها.
فالواجب شرعا نزول الجميع على حكم الله، والتحاكم للقضاة العدول، ورد
المظالم، والصلح بين المؤمنين ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا
بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾، وإذا جاز شرعا التفاوض مع العدو ومهادنته لمصلحة الشعب
السوري وثورته، فمن باب أولى وأوجب أن يتم ذلك بين الجيش الحر والفصائل المجاهدة،
لمصلحة الشعب وثورته أيضا، إذ ليس هناك حل آخر إلا الفرقة والاقتتال الداخلي بين
الفصائل، وكلاهما محرم تحريما قطعيا، فإن وقع وجب الكف عنه، والأخذ على يد من بغى
واعتدى حتى يفيء إلى أمر الله، فإن فاء وقبل حكم الله، فالواجب الصلح، لا التحريض
وإثارة الفتن.
فعلى علماء الشام دعوة جميع قادة الفصائل إلى مؤتمر عام للوحدة بين
كل الفصائل كما أمر الله ورسوله، فمن تخلف منهم وجب هجره، ودعوة المجاهدين إلى
تركه، ويحرم صرف سهم في سبيل الله له، للضرر الذي ألحقوه بأهل الشام خاصة والأمة
عامة، حيث صاروا عقبة تعيق تحقيق النصر، بسبب تشرذمهم وتحزبهم لجماعاتهم وطعن
بعضهم ببعض، وصاروا عبئا على الثورة التي بذل الشعب السوري فيها دماءه ورجاله
وأمواله لإسقاط الطاغية وحزبه وهزيمة الاحتلال الروسي والإيراني من خلفه، وعلى
العلماء على اختلاف مذاهبهم الفقهية ومدارسهم الدعوية أن يتداعوا لهذا الأمر
العظيم فهو واجب الوقت، وعليهم بيان الحكم الشرعي، وستقف الأمة كلها معهم ومع
الفصائل التي تستجيب لدعوتهم وستقاطع الأمة من يثبت أنه رفض الاستجابة للدعوة، أو
شرط أي شرط ليعيق الاتحاد بين الفصائل، وليذكَّروا جميعا بأن أوهامهم وأحلامهم
وآراءهم ليست حكما؛ بل الحكم والمرجع هو الكتاب الذي قال الله فيه ﴿وَلَا
تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ وقال ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ
جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾، وقال ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ
فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ﴾، ويذكروا العهد الذي
عاهدوا الشعب السوري عليه بلسان الحال أو المقال أن ينصروه وأن يردوا الأمر إليه
شورى، ولا يفتئتوا عليه، فإن من الغدر ونكث العهد أن يقف الشعب السوري والأمة خلفه
مع هذه الفصائل لنصرته والعمل لمصلحته فتستقوي عليه، وتشق صفه، وتفت من عضده
بتفرقها واقتتالها فيما بينها، مع عجز الأمة وعلمائها عن معرفة المحق منها من
المبطل، لتنشغل بها وبمشاكلها عن العدو وعن المعركة التي تزداد ضراوة وخطرا على
الأمة كلها، مما يوجب على الثورة وقياداتها الموثوقة وعلماء الشام تجاوز كل هؤلاء
الذين فرقوا دينهم وصاروا شيعا إلى أمر جامع راشد، وقد سبق أن شهدت ساحات الجهاد
في مناطق كثيرة مثل هذه الفوضى، فلما نهض أهل الحل والعقد والعلم والفضل جمع الله
بهم الكلمة وتآلف الشمل.
وكذلك لا ينبغي الانجرار تحت ضغط العدو المحتل والثورة المضادة
لاستباحة قتال المجاهدين، بدعوى الإرهاب، ولا استباحة قتال فصائل الثورة والجيش
الحر بدعوى الصحوات، فقد مارس ذلك الدهاء المحتل الأمريكي فدفع الجميع ثمن
الانخداع بوعوده الكاذبة، ومؤامراته الغادرة!
ولا توجد ثورة ولا جهاد ولا حرب تحرير ضد محتل، إلا ويكون فيها
مثاليون متشددون يرفضون التفاوض معه أو التسامح مع جرائمه، ويكون فيها واقعيون
متسامحون، كما جرى بين الصحابة في شأن أسارى بدر حين أشار عمر بقتلهم، وأشار أبو
بكر بأخذ الفدية، حتى نزل القرآن مصوبا رأي عمر، ومجوزا رأي أبي بكر، وحين اختلفوا
في صلح الحديبية بين عمر الذي يرفضه ويراه من باب إعطاء الدنية، وبين أبي بكر الذي
يراه حقا وصوابا، حتى نزل القرآن وسماه فتحا مبينا، حتى قال النبي ﷺ كما في المسند بإسناد حسن بشواهده
(لو اجتمعتما في مشورة ما خالفتكما)، وذلك لما عرف من طبعهما الإنساني، واختلاف
نظرهما للأمور، على نحو كان أحدهما يميل فيه للشدة، ويميل فيه الآخر إلى اللين!
وكذا اختلفا يوم الردة فعزم أبو بكر على القتال، وتوقف عمر ونازعه،
حتى أجمعوا بعد ذلك.
فمن يريد الساحة الجهادية والثورية تخلو من التشدد، أو التساهل، فقد
تكلف ما لا يكون، لا طبعا وواقعا، ولا يجب شرعا وعقلا وسياسة، وهذا مما يبتلي الله
به المؤمنين ﴿وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ
رَبُّكَ بَصِيرًا﴾، ﴿وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ . إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ
وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾!
فإن كان من يريد ذلك ويسعى له يفعله تنفيذا لشروط العدو فالأمر أشد
وأخطر!
ثامنا: الالتزام بما يصدر عن
الهيئات الشرعية للفتوى التي يقبلها عامة الشعب السوري؛ فالفصائل إنما جاءت لنصرة
الشعب السوري المظلوم؛ كما أمر تعالى: ﴿وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ
فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ﴾، والنصرة لهم تكون على حسب شروطهم، وبما يحقق مصلحتهم، لا
بما يضرهم ويفرق شملهم، فالمعروف عرفا كالمشروط شرطا، فهدف القتال في سوريا هو دفع
عدوان عصابة الأسد وطغيانها، ودفع عدوان روسيا وإيران وأمريكا الذين تواطؤوا على
حصار الشعب السوري؛ فالواجب شرعا الوفاء له بنصرته بما يحقق مصلحته هو لا مصلحة
هذا التنظيم أو ذاك، وللشعب السوري علماء كبار مخلصون يجاهدون معه ويرجع إليهم في
الفتوى ولهم هيئات شرعية جماعية، فإذا أفتت فتوى شرعية؛ فالواجب على المجاهدين
الالتزام والعمل بها، وأقل أحوالها عدم الطعن فيمن أخذ بها من المجاهدين!
والسوريون أعلم بمصالح شعبهم من غيرهم وهذا أصل مقرر شرعا وفقها، فيجب مراعاة
المذاهب الفقهية وتقليد أهل كل بلد لعلمائهم، فهذا هو المقدور لهم؛ كما قال تعالى:
﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾، وقال تعالى:
﴿فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي
الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾
ولا يُحتجّ عليهم بأن المجاهدين أعلم منهم في ساحات القتال؛ إذ محل النزاع هو في
اختلاف المجاهدين وادعاء كل فصيل أنه على الحق؛ فالواجب على الجميع الرجوع للجهات
التي تمثل الشعب السوري وثورته، خاصة الهيئات الشرعية التي يثق بها أكثر السوريين
وأكثر المجاهدين، ومصلحة الشعب السوري لا يدركها ولا يقدرها المقاتل في الميدان
العسكري؛ بل تقدرها القيادة السياسية العليا التي تحيط بمجمل أبعاد الصراع
السياسية والعسكرية والدولية، وبما أنه لا توجد قيادة سياسية عليا تمثل الثورة؛
فينظر في الجهات الأكثر موثوقية لدى عموم الشعب السوري الثائر وعدم شق صفها؛ إذا
توافقت على رأي عام فيه مصلحتهم ومصلحة شعبهم وثورتهم؛ سواءً كان موقفا عسكريا أو
سياسيا، ويحرم شرعا إثارة الفتن بينهم أو الحكم عليهم بالفسق أو الكفر أو قتالهم؛
إذا اجتهدوا في رأي فيه مصلحتهم وأفتى لهم به علماؤهم الموثوقون؛ فالواجب لزوم
جماعتهم أو على الأقل التماس العذر لهم ممن خالفهم الرأي؛ إذ مصلحة العامة لا
يقدرها إلا ممثلوهم والموثوقون فيهم لا غيرهم، كما قال النبي ﷺ - في صحيح البخاري باب العرفاء
على الناس - حين اختلف عليه الناس في شأن غنائم هوازن: (إنا لا ندري من رضي منكم
ممن لم يرض فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم)؛ ولهذا لما عتب الأنصار على
رسول الله ﷺ سأل سعد بن عبادة أين أنت من قولهم وعتابهم؛ فقال: (إنما أنا رجل من
قومي)، فجمعهم النبي ﷺ وخطب فيهم وطيب خواطرهم، ولم يثرب على سعد وقوفه مع قومه فيما ذهبوا
إليه!
كما لا حرج شرعا من اتخاذ أعلام البلدان رايات للحرب؛ كعلم الثورة
السورية الذي صار راية جامعة للشعب السوري الثائر على اختلاف أطيافه لتعارف أهله
واجتماعهم؛ فهو أكثر تمييزا للثورة وأوضح شعاراتها، وهو المقصود أصلا من اتخاذ
الأعلام للتمييز والتعارف وإثارة الحمية كما نص عليه الفقهاء بأن يكون بأي لون
وبأي شكل، فرفعه من باب السياسة الشرعية؛ قال الماوردي في كتابه الحاوي في فقه
الشافعية ٨/ ١١٦٨: (وأما الشعار، فهي العلامة التي يتميز بها كل قوم من غيرهم في
مسيرهم وفي حروبهم، حتى لا يختلطوا بغيرهم ولا يختلط بهم غيرهم، فيكون ذلك أبلغ في
تضافرهم لما روي أن النبي ﷺ جعل للمهاجرين شعارا، وللأنصار شعارا. ويتخذون علامة من ثلاثة أوجه:
أحدها: الراية التي يتبعونها ويسيرون إلى الحروب تحتها فتكون راية كل قوم مخالفة لراية
غيرهم.
والثاني: ما يعلمون به في حروبهم، فيعلم كل قوم بخرقة ذات لون من أسود، أو أحمر،
أو أصفر، أو أخضر، تكون إما عصابة على رءوسهم، وإما مشدودة في أوساطهم.
والثالث: النداء الذي يتعارفون به فيقول كل فريق منهم يا آل كذا، أو يا آل فلان،
أو كلمة إذا تلاقوا تعارفوا بها ليجتمعوا إذا افترقوا ويتناصروا إذا أرهبوا، فهذا
كله وإن كان سياسة ولم يكن فقها فهو من أبلغ الأمور في مصالح الجيش وأحفظها للسير
الشرعية).
وقد ميز خالد بن الوليد يوم اليمامة (المهاجرين من الأنصار من الأعراب، وجعل كل
بني أب تحت رايتهم، يقاتلون تحتها، حتى يعرف الناس من أين يؤتون).
وليس هذه الرايات هي الراية العمية التي جاء النهي عنها، كما في حديث: (من قاتل
تحت راية عمية فمات مات ميتة جاهلية) وفي رواية: (راية عمياء)، فالمراد بالراية
العمية هنا هي القضية العمياء والدعوة الجاهلية، والقتال غير المشروع، سواء اتخذ
المقاتلون فيه راية أو لم يتخذوا، وسواء اتخذوا علم الثورة أو علما موسوما بشعار
التوحيد، فالحكم يدور مع علته وجودا وعدما، فلو رفع المجاهدون شعار التوحيد في
قتال محرم غير مشروع كالاقتتال فيما بينهم حمية وعصبية، فإنه يدخل في عموم النص:
(من قاتل تحت راية عمية)، ولا يغير من الحكم شيئا أن يرفع فيها راية التوحيد، بل
قد تكون الحرمة أشد من جهة التغرير بالناس واتخاذ راية التوحيد في قتال محرم وظلم
وعدوان ينافي شعار التوحيد الذي جاء بالعدل والقسط.
وعلم الثورة يختلف عن باقي أعلام الفصائل فهو علم الشعب كله؛ فرفض رفعه يعني رفض
الثورة؛ إما لصالح النظام أو لصالح المشاريع الخاصة للفصائل التي يعرف الجميع سلفا
نهايتها؛ لتقضي على الثورة دون أن تحقق مشروعها!
والحاصل على كل مجاهد جاء إلى سوريا نصرة لشعبها أن يفي لهم بحقوق
النصرة، وأن يكون معهم لا عليهم، وأن يقاتل من قاتلوا ويسالم من سالموا، ولا يتعدى
عليهم ولا يعتدي؛ كما قال ﷺ لأهل المدينة: (الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني؛ أحارب
من حاربتم، وأسالم من سالمتم)، وكما رجع النبي ﷺ عن الصلح مع غطفان على شطر
ثمار المدينة يوم الخندق حين رفضه سيدا الأوس والخزرج وهما السعدان سعد بن معاذ وسعد
بن عبادة وسألاه؛ فقالا: يا رسول الله أهذا أمر أمرك به الله ليس لنا أن نتعداه؟
أم شيء تحب أن نفعله؟ أم شيء تصنعه لنا؟ فقال ﷺ: (بل شيء أصنعه لكم، فقد رأيت
العرب قد كالبوكم ورموكم عن قوس واحدة؛ فأردت أن أكسر من شوكتهم إلى أمر ما)!
فلم يتصرف ﷺ وهو إمامهم المعصوم بثمار المدينة إلا برضا أهلها وشوراهم وإذنهم!
فمن باب أولى ولا مقارنة من جاء لنصرة أهل الشام؛ فلا يسعه أن
يتجاوزهم في شيء من مصالحهم وثروة بلدهم ورايتهم، فقد قرر النبي ﷺ كثيرا من الحقوق الشرعية لكل
أهل بلد في أرضهم ولكل قبيلة في أرضها؛ كما هو معلوم في أخبار السيرة النبوية، بما
في ذلك الزكاة الشرعية؛ كما قال ﷺ: (تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم).
تاسعا: عدم الانشغال في هذه
المرحلة بإقامة الأحكام السلطانية وأحكام الإمامة في المناطق المحررة؛ لعدم وجود
السلطة الشرعية العامة من جهة، ولفقد الأهلية الفقهية والقضائية والسياسية لمن
يريد ذلك من الفصائل من جهة أخرى، حتى صارت ممارساتها سببا للاقتتال بينها، وفرار
الناس من مناطقهم، وهذا ما يريده العدو!
فتطبيق الشريعة ليس كما يتوهمه كثيرون بأنه هو تنفيذ الحدود في
الجرائم، فهذا جزء يسير من الشريعة، بل هو آخر أحكامها، إذ قبل ذلك جاءت أحكام
كثيرة لحفظ الحقوق وإقامة العدل ورفع الظلم، السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وهو
المقصود الرئيسي للأحكام!
ولهذا ليس هناك أوجب من تحقيق الأمن في المناطق المحررة وتعزيز
ثباتها ومقاومتها.
وقد قرر الفقهاء بأنه لا تقام الحدود في أرض الحرب لهذا السبب، وهو
خشية ما يترتب على إقامتها من مفاسد، وفرار الناس إلى أرض العدو خشية إقامة
الأحكام!
فقد ذهب أهل الرأي كأبي حنيفة وأصحابه إلى عدم إقامتها مطلقا، وذهب
أهل الشام كالأوزاعي وهو مذهب أهل الحديث كأحمد وإسحاق، إلى عدم إقامتها في أرض
الحرب حتى يرجعوا إلى دار الإسلام فتقام، وذهب الشافعي إلى عدم إقامتها في أرض
الحرب إلا بوجود الإمام أو أمير إقليم يقود الجيش، وإلا فلا تقام الحدود
والعقوبات.
قال ابن قدامة الحنبلي في المغني 9/ 308: ( (7608) مسألة لا يقام
الحد على مسلم في أرض العدو:
قال: ولا يقام الحد على مسلم في أرض العدو. وجملته أن من أتى حدا من
الغزاة، أو ما يوجب قصاصا، في أرض الحرب، لم يقم عليه حتى يقفل، فيقام عليه حده.
وبهذا قال الأوزاعي، وإسحاق. وقال مالك، والشافعي، وأبو ثور، وابن المنذر: يقام
الحد في كل موضع؛ لأن أمر الله تعالى بإقامته مطلق في كل مكان وزمان، إلا أن
الشافعي قال: إذا لم يكن أمير الجيش الإمام، أو أمير إقليم، فليس له إقامة الحد،
ويؤخر حتى يأتي الإمام؛ لأن إقامة الحدود إليه، وكذلك إن كان بالمسلمين حاجة إلى
المحدود، أو قوة به، أو شغل عنه، أخر. وقال أبو حنيفة: لا حد ولا قصاص في دار الحرب،
ولا إذا رجع. ولنا، على وجوب الحد، أمر الله تعالى ورسوله به، وعلى تأخيره، ما روى
بشر بن أبي أرطاة، أنه أتي برجل في الغزاة قد سرق بختية، فقال: لولا أني سمعت رسول
الله ﷺ يقول: "لا تقطع الأيدي في الغزاة" لقطعتك. أخرجه أبو داود
وغيره. ولأنه إجماع الصحابة رضي الله عنهم، وروى سعيد، في سننه بإسناده عن الأحوص
بن حكيم، عن أبيه، أن عمر كتب إلى الناس "أن لا يجلدن أمير جيش ولا سرية رجلا
من المسلمين حدا، وهو غاز، حتى يقطع الدرب قافلا؛ لئلا تلحقه حمية الشيطان، فيلحق
بالكفار". وعن أبي الدرداء مثل ذلك.
وعن علقمة، قال: كنا في جيش في أرض الروم، ومعنا حذيفة بن اليمان،
وعلينا الوليد بن عقبة يشرب الخمر، فأردنا أن نحده، فقال حذيفة: "أتحدون
أميركم وقد دنوتم من عدوكم، فيطمعوا فيكم". وأتي سعد بأبي محجن يوم القادسية،
وقد شرب الخمر، فأمر به إلى القيد، فلما التقى الناس قال أبو محجن:
كفى حزنا أن تطرد الخيل بالقنا ... وأترك مشدودا علي وثاقيا
وقال لابنة حفصة امرأة سعد: أطلقيني، ولك الله علي إن سلمني الله أن
أرجع حتى أضع رجلي في القيد، فإن قتلت، استرحتم مني. قال: فحلته حين التقى الناس،
وكانت بسعد جراحة، فلم يخرج يومئذ إلى الناس. قال: وصعدوا به فوق العذيب ينظر إلى
الناس، واستعمل على الخيل خالد بن عرفطة، فوثب أبو محجن على فرس لسعد يقال لها
البلقاء، ثم أخذ رمحا، ثم خرج، فجعل لا يحمل على ناحية من العدو إلا هزمهم، وجعل
الناس يقولون: هذا ملك؛ لما يرونه يصنع، وجعل سعد يقول: الضبر ضبر البلقاء، والطعن
طعن أبي محجن، وأبو محجن في القيد. فلما هزم العدو، رجع أبو محجن حتى وضع رجليه في
القيد. فأخبرت ابنة حفصة سعدا بما كان من أمره، فقال سعد: "لا والله، لا أضرب
اليوم رجلا أبلى الله المسلمين به ما أبلاهم. فخلى سبيله. فقال أبو محجن: قد كنت
أشربها إذ يقام علي الحد وأطهر منها، فأما إذا بهرجتني، فوالله لا أشربها
أبدا". وهذا اتفاق لم يظهر خلافه.
فأما إذا رجع، فإنه يقام الحد عليه؛ لعموم الآيات والأخبار، وإنما
أخر لعارض، كما يؤخر لمرض أو شغل، فإذا زال العارض، أقيم الحد، لوجود مقتضيه،
وانتفاء معارضه، ولهذا قال عمر: حتى يقطع الدرب قافلا) انتهى.
عاشرا: ضرورة الاستعجال في ظل غياب
سلطة واحدة تمثل المناطق المحررة:
1)- بتشكيل مجلس شورى منتخب لكل المناطق يمثل سكانها، وتسليم
أهاليها الإدارات المدنية والبلدية والخدمية المنتخبة من أهالي المناطق.
فمن الطغيان حمل الأمة على طاعة فئة أو بيعتها كرها باسم الإسلام أو
ذريعة إقامة حكم الله؛ فليس من شرع الله قهر المؤمنين على طاعة أحد بلا شوراهم؛ إذ
الشورى حق لكل المسلمين؛ كما في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا
لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا
رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ والمخاطبون في الآية هم المؤمنون جميعا، فأضاف الأمر
لهم إضافة استحقاق، وكذا قوله: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾، وهذا الذي كان
النبي ﷺ يفعله؛ فكان يشاور في شأن العامة كل من حضر منهم، ويقول: "أشيروا
علي أيها الناس"، ولا يخص أحدا، إلا فيما كان من أمر خاص فيشاور فيه أهله،
كما فعل حين شاور السعدين في الصلح مع غطفان يوم الخندق على ثمار المدينة، فرفضا
فتركه ﷺ، وإنما شاورهما لأن النخل يخص الأنصار لا المهاجرين، والسعدان هما ممثلا
الأوس والخزرج، وهذا ما جرى في شأن سبي هوازن حين استشار الناس جميعا، فلما اختلف
الأعراب، قال: "أيها الناس إنا لا ندري من رضي منكم ممن لم يرض، فارجعوا حتى
يرفع إليكم عرفاؤكم أمركم"، وقد أخرجه البخاري في صحيحه وبوب عليه باب
العرفاء على الناس، وهم الذين يمثلون قبائلهم وأقوامهم، فيعرف الإمام رأي الناس
ورضاهم بواسطة عرفائهم ونوابهم، لا رأي العرفاء والنواب أنفسهم؛
وهذا ما بينه عمر أوضح بيان بمحضر الصحابة، في أصح خطبة عنه، فكان
إجماعا منهم، حيث قال كما في صحيح البخاري: "إني قائم في الناس فمحذرهم هؤلاء
الذين يريدون أن يغصبوهم أمرهم أو أمورهم... من بايع رجلا دون مشورة المسلمين فلا
بيعة له ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا"!
فجعل حكم من اغتصب السلطة واستبد بالأمر القتل لا السمع والطاعة،
فإذا تقرر هذا الحق وهو الشورى لكل مسلم كمبدأ وأصل، يأتي بعده موضوع تنظيم هذا
الحق، فهذا يخضع لتطور العصر واختلاف الزمان والمكان، فإذا ارتضى المسلمون آلية
يمارسون من خلالها هذا الحق، وتتجلى إرادتهم ورضاهم من خلالها، ولا يفتئت أحد
عليهم، ولا يستبد بأمرهم من دونهم؛ فثم شرع الله؛ كأهل الحل والعقد والعرفاء ومجلس
الشورى، كما فعل عمر فكان له مجلس شورى، بشرط أن يكون تعبيرا حقيقيا وممثلا للناس
لا للسلطة، كما جاء في صحيفة المدينة التي كتبها النبي ﷺ كوثيقة سياسية تنظم الحقوق،
وذلك حين دخل المدينة، وجاء في آخرها "وإن هذا الكتاب لا يحول دون آثم وظالم".
فلما دخل النبي ﷺ المدينة وجد مكونات اجتماعية أخرى، لم تؤمن به ولم تبايعه بالرضا والاختيار
على السمع والطاعة، وليس هو بجبار ولا مسيطر سياسيا، ولا إكراه في الدين عقائديا،
فكان لا بد وفق هدايات القرآن الذي جاء بالعدل والقسط أن تقوم العلاقة مع هذه
المكونات التي لا تؤمن به نبيا على أساس عقد تراض سياسي، تحدد بموجبه الحقوق
والواجبات، والمرجعية السياسية والتشريعية في الدولة الجديدة، فكانت صحيفة المدينة
ودستورها الذي نشأت العلاقة فيه على أساس المواطنة للدولة والالتزام بدستورها
وعقدها السياسي، لا على أساس الإيمان بالنبي ﷺ، وهذا غاية العدل والقسط الذي
أراده الله ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ
الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾.
وقد تضمنت كل المبادئ الدستورية التي تنظم علاقة السلطة بالمجتمع ومن
ذلك:
1- التأكيد على الطبيعة التعاقدية بين كل مكونات المجتمع الجديد على
اختلاف فئاتهم وأديانهم، كما جاء في مغازي الزهري في سيرة ابن إسحاق (كتب رسول
الله ﷺ كتابا بين المهاجرين والأنصار، وادع فيه يهود وعاهدهم، وأقرهم على دينهم
وأموالهم، وشرط لهم واشترط عليهم).
2- وقيام العلاقة على أساس مفهوم الأمة الواحدة والشعب الواحد، لا
فرق بين مواطن ومهاجر، في حقوق المواطنة (المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن
تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم إنهم أمة واحدة من دون الناس).
3- وتقرير مبدأ حقوق المواطنة للجميع، فلا فرق بين مسلم وغير مسلم،
بل الجميع أسوة وسواء بالمعروف والعدل (وأنه من تبعنا من يهود فإن له المعروف
والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم... وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين.. وأن
اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.. وأن بينهم النصر على من حارب أهل
هذه الصحيفة.. وأن بينهم النصر على من دهم يثرب)، وفي رواية أبي عبيد في كتاب
الأموال عن مغازي الزهري (وأن يهود بني عوف أمة من المؤمنين)، قال الإمام أبو عبيد
القاسم بن سلام (إنما أراد نصرهم المؤمنين ومعاونتهم إياهم على عدوهم بالنفقة التي
شرطها عليهم، فأما الدين فليسوا منه في شيء، ألا تراه قد بين ذلك بقوله : لليهود
دينهم، وللمؤمنين دينهم).
فالمراد هنا إثبات أن يهود المدينة أمة مع المؤمنين، وأمة من
المؤمنين في المواطنة في الدولة، وفي والحقوق والواجبات السياسية العامة، لا في
الدين حيث لكل أمة دينها، ولا إكراه في الدين، وقد قامت هذه الضريبة والالتزامات
المالية والقتالية الطوعية من اليهود بناء على هذا التعاقد السياسي تجاه دولة
المدينة في تقرير حقوق المواطنة لهم، ولهذا لم تفرض عليهم الجزية، وكان يسهم لهم
في المغانم، كما قال أبو عبيد في كتاب الأموال (إنما كان يسهم لليهود إذا غزوا مع
المسلمين بهذا الشرط الذي شرطه عليهم من النفقة).
4- وإقرار الحرية الدينية للجميع (لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم
مواليهم وأنفسهم).
5- وقيام مكونات المجتمع بمسئولياتها بالتعاون فيما بينها بالمعروف
على أساس العدل والقسط (كل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين)، وعلى
الالتزام المالي تجاه الدولة (وعلى كل أناس حصتهم من النفقة)...
6- وتحقيق التكافل المالي والعدالة الاجتماعية بين الجميع (وإن
المؤمنين لا يتركون مفرحا بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل).
7- وقيام المجتمع بدوره السياسي في المحافظة على النظام العام،
وصيانة وحدة المجتمع، والتصدي للظلم والفساد والعدوان (وإن المؤمنين المتقين على
من بغى منهم أو ابتغى دسيعة ظلم أو إثم أو عدوان ، أو فساد بين المؤمنين، وإن
أيديهم عليه جميعا ، ولو كان ولد أحدهم).
8- وحق الجميع في العدل والأمن (وأن بينهم النصيحة والنصر للمظلوم..
وأنه من خرج فهو آمن، ومن قعد فهو آمن، إلا من ظلم وأثم).
9- وحق المساواة في الذمة والمسئولية (وإن ذمة الله واحدة يجير عليهم
أدناهم).
10- وتنفيذ النظام والأحكام على الجميع (وإنه لا يحل لمؤمن أقر بما
في هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثا ولا يؤويه، وأنه من نصره أو
آواه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل) قال أبو
عبيد (المحدث كل من أتى حدا من حدود الله، فليس لأحد منعه من إقامة الحد عليه).
11- وأن المرجعية التشريعية للحكم هو الشريعة (وأنكم مهما اختلفتم
فيه من شيء فإن حكمه إلى الله تبارك وتعالى وإلى الرسول..).
12- وأن المرجعية السياسية للفصل بين الخلافات والنزاعات هي السلطة
السياسية (وأن ما كان من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله عز وجل، وإلى
محمد رسول الله ﷺ)..
فهذه بعض المبادئ الدستورية التي نظمت شئون المجتمع والدولة في
المدينة، وهي قائمة على أساس العقد والشرط بين مكونات المجتمع الجديد، وهو عقد
سياسي مدني، لا سلطة فيه لرجال الدين، ولا كهنوت فيه، ولا انتهاك لحق ديني أو
إنساني أو مالي، فالعدل للجميع، والأمن للجميع، والحرية الدينية للجميع ، وحقوق
المواطنة للجميع.
وهذا غاية البر والقسط والعدل لقول الله تعالى ﴿لا يَنْهَاكُمُ
اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ
مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ﴾.
وكل ذلك ضروري لإقامة الدولة الراشدة والحكومة الراشدة التي تمثل
خيار الأمة وإرادتها، بإقامتها نظامها السياسي على أساس حق الأمة في اختيار السلطة
التي تحكمها وتسوس شئونها بالشورى والرضا والاختيار، بلا إكراه ولا إجبار، وأن
تكون خيارا حقيقيا للأمة، لا خيارا صوريا.
فالغاية تحقيق العدل والقسط الذي جاء به القرآن على أكمل وجه، ورعاية حقوق
الإنسان، وصيانة حريته وكرامته.
وأن تحافظ هذه الدولة الراشدة على سيادة الأمة والدولة واستقلالها عن أي نفوذ
أجنبي، وتعزز قدراتها الاقتصادية والعسكرية لتتحمل مسئولياتها على مستوى الأمة حسب
إمكاناتها.
وتحقق التنمية والنهضة الشاملة في جميع المجالات على مستوى الفرد والأسرة والمجتمع
والدولة، وأن تثبت فاعلية وكفاءة سياسية متميزة، وأداء سياسيا ناجحا.
لتحقيق التكامل والوحدة والاتحاد مع الدول الإسلامية المجاورة، للوصول إلى توحيد
الأمة، وتحقيق الهدف النهائي (أمة واحدة وخلافة راشدة).
فكل حكومة تحققت فيها هذه الشروط هي (حكومة راشدة)، والفرق بينها وبين (الخلافة
الراشدة)، هو أن الحكومة الراشدة خاصة في القطر الذي تقوم فيه، بينما الخلافة
الراشدة عامة تشترك الأمة كلها أو أكثر دولها في إقامتها، بعد أن تتحرر أقطارها،
وتصل إلى السلطة فيها حكومات راشدة، أو إلى الدول الرئيسة المؤثرة فيها، بحيث تكون
قادرة على توحيد الأمة وحمايتها!
فعدم قدرة الأمة اليوم على إقامة الخلافة الراشدة، لا يسقط وجوب إقامة الحكومة
الراشدة في كل بلد تستطيع الأمة فيه إقامتها؛ إذ الواجب شرعا الإصلاح حسب الإمكان
في كل حال، ولا تتعطل الواجبات الشرعية، والفروض الكفائية بدعوى عدم وجود الخلافة
الراشدة!
فالسياسة الشرعية كما عرفها الفقهاء هي كل فعل يكون الناس معه أقرب للصلاح والعدل
وإن لم يأت به نص شرعي، فالسياسيون إنما يراعون الواقع ويجتهدون في تنزيل الأحكام
الشرعية حسب الإمكان بما يحقق العدل والقسط، وقد قال تعالى: ﴿وَاتَّبِعُوا
أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم﴾، ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ
الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾، ﴿فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ
يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا﴾... إلخ.
والأحسن هنا يختلف بحسب أحوال المكلفين وظروفهم والممكن لهم؛ فربما كان أحسن ما
يستطيعه قوم في زمان أو مكان، هو حسن عند آخرين وليس بالأحسن، وقد جاء في الأثر ما
يوضح ذلك في آخر الزمان، وأن (من تمسك بعشر ما يعلم نجا)؛ كما في مسند أحمد.
فكل من اجتهد من الحكومات الراشدة التي تختارها الأمة في تحقيق الإصلاح في شئون
المجتمع والدولة لتحقيق الشوكة والقوة للأمة، وتعزيز قدرتها، سياسيا واقتصاديا
وعلميا وعسكريا، فقد قام بتطبيق الشريعة.
2)- تأهيل المؤسسات القضائية والمحاكم؛ لحفظ حقوق الناس ورد مظالمهم
فيما بينهم، ولو بالتحكيم الاختياري بالتراضي، وهو جائز بالإجماع، وأولى منه
التحاكم إلى القضاة العدول عند تأهيل المحاكم العامة، ويكون توليتهم من أهل
المناطق؛ كما تقرر بأن (جماعة المسلمين تقوم مقام الإمامة عند فقدها)، فإذا تحاكم
خصمان برضاهما إلى المحاكم العامة، وجب عليها أن تحكم بينهما بالعدل وألا تخالف
الشرع المقطوع به، وكذا إذا ولى أهل البلد قضاة المحكمة للنظر في خصوماتهم وجب
التزام أحكامها العادلة.
قال ابن قدامة في المغني 10/ 94: (..(8297) فصل: وإذا تحاكم رجلان إلى رجل حكماه بينهما ورضياه، وكان ممن يصلح
للقضاء، فحكم بينهما؛ جاز ذلك، ونفذ حكمه عليهما. وبهذا قال أبو حنيفة. وللشافعي
قولان؛ أحدهما، لا يلزمهما حكمه إلا بتراضيهما؛ لأن حكمه إنما يلزم بالرضا به، ولا
يكون الرضا إلا بعد المعرفة بحكمه.
ولنا ما روى أبو شريح، أن رسول الله ﷺ قال له: "إن الله هو الحكم،
فلم تكنى أبا الحكم؟ قال: إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني، فحكمت بينهم، ورضي
علي الفريقان. قال: ما أحسن هذا، فمن أكبر ولدك" ؟ قال: شريح. قال: "
فأنت أبو شريح ". أخرجه النسائي. وروي عن النبي ﷺ أنه قال: "من حكم بين
اثنين تراضيا به، فلم يعدل بينهما، فهو ملعون.
ولولا أن حكمه يلزمهما؛ لما لحقه هذا الذم، ولأن عمر وأبيا تحاكما
إلى زيد، وحاكم عمر أعرابيا إلى شريح قبل أن يوليه، وتحاكم عثمان وطلحة إلى جبير
بن مطعم، ولم يكونوا قضاة.
فإن قيل: فعمر وعثمان كانا إمامين، فإذا ردا الحكم إلى رجل صار
قاضيا. قلنا: لم ينقل عنهما إلا الرضا بتحكيمه خاصة، وبهذا لا يصير قاضيا...
فصل: قال القاضي: وينفذ حكم من حكماه في جميع الأحكام إلا أربعة
أشياء؛ النكاح، واللعان، والقذف، والقصاص؛ لأن لهذه الأحكام مزية على غيرها، فاختص
الإمام بالنظر فيها، ونائبه يقوم مقامه. وقال أبو الخطاب: ظاهر كلام أحمد، أنه
ينفذ حكمه فيها.
ولأصحاب الشافعي وجهان، كهذين.
وإذا كتب هذا القاضي بما حكم به كتابا إلى قاض من قضاة المسلمين؛
لزمه قبوله، وتنفيذ كتابه؛ لأنه حاكم نافذ الأحكام، فلزم قبول كتابه، كحاكم
الإمام) انتهى كلامه
ولا يشترط على الصحيح فيمن يحكم بينهما أن تتوافر فيه صفات القاضي
الشرعي؛ كما قال ابن تيمية: (قال الشيخ تقي الدين: العشر الصفات التي ذكرها في
المحرر في القاضي لا تشترط فيمن يحكمه الخصمان، فيحكم بينهما وينفذ حكمه في كل ما
ينفذ فيه حكم من ولاه إمام أو نائبه؛ فلا يحل لأحد نقضه حيث أصاب الحق).
وفي فتاوى ابن تيمية الكبرى 5/ 558: (ويشترط في القاضي عشر
صفات. قال أبو العباس ابن تيمية: هذا الكلام إنما اشترطت هذه الصفات فيمن يولى لا
فيمن يحكمه الخصمان... والقضاة ثلاثة: من يصلح، ومن لا يصلح، والمجهول، فلا يرد من
أحكام من يصلح إلا ما علم أنه باطل، ولا ينفذ من أحكام من لا يصلح إلا ما علم أنه
حق) انتهى.
فإذا حكّم الخصمان بالغا عاقلا عدلا أو عدلين عاقلين أو أكثر وإن لم
يكونا عالمين جاز حكمهما؛ كما في النوادر والزيادات 8/ 86: (قال ابن الماجشون: إن
كانا بصيرين عارفين مأمونين، فأرى تحكيمها، وحكمها جائز لازم، إلا في خطأ بين.
وقاله أصبغ، وأشهب. وبه آخذ، وقد ولى عمر امرأة سوق المدينة، وهي الشفاء أم سليمان
من أبي حثمة، ولا بد لصاحب السوق من الحكم بين الناس ولو في صغار الأمور.
قال أصبغ، في كتابه: إذا حكم مسخوطا، فحكم فأصاب؛ جاز ذلك).
قال الماوردي الشافعي في الحاوي الكبير 16/ 325: ((فصل: تحكيم الخصمين
شخصا) وإذا حكم خصمان رجلا من الرعية ليقضي بينهما فيما تنازعاه في بلد فيه قاض أو
ليس فيه قاض جاز؛ لأن عمر بن الخطاب وأبي بن كعب تحاكما إلى زيد بن ثابت، ولأنه
لما حكم علي بن أبي طالب في الإمامة كان التحكيم فيما عداها أولى.
وهكذا حكم أهل الشورى فيها عبد الرحمن بن عوف.
(نفوذ حكم المحكم): وإذا جاز التحكيم في الأحكام فنفاذ حكمه معتبر
بأربعة شروط:
أحدها: أن يكون المحكم من أهل الاجتهاد، ويجوز أن يكون قاضيا، لأنه
قد صار بالتحكيم حاكما، فإن لم يكن من أهل الاجتهاد بطل تحكيمه، ولم ينفذ حكمه.
والشرط الثاني: أن يتفق الخصمان على التراضي به، إلى حين الحكم، فإن
رضي به أحدهما دون الآخر أو رضيا به ثم رجعا، أو رضي أحدهما، بطل تحكيمه ولم ينفذ
حكمه سواء حكم للراضي أو للراجع.
والشرط الثالث: أن يكون التحاكم في أحكام مخصوصة. والأحكام تنقسم في
التحكيم ثلاثة أقسام:
قسم يجوز فيه التحكيم: وهو حقوق الأموال، وعقود المعاوضات، وما يصح
فيه العفو والإبراء.
وقسم لا يجوز فيه التحكيم، وهو ما اختص القضاة بالإجبار عليه من حقوق
الله تعالى، والولايات على الأيتام، وإيقاع الحجر على مستحقيه. وقسم مختلف فيه وهو
أربعة أحكام: النكاح واللعان والقذف والقصاص.
ففي جواز التحكيم فيها وجهان:
أحدهما: يجوز لوقوفها على رضا المتحاكمين.
والثاني: لا يجوز لأنها حقوق وحدود يختص الولاة بها.
فلو أن امرأة لا ولي لها خطبها رجل فتحاكما إلى رجل ليزوج أحدهما
بالآخر فإن كانا في دار الحرب أو في بادية لا يصلان إلى حاكم جاز تحكيمهما وتزويج
المحكم لهما. وإن كانا في دار الإسلام وحيث يقدران فيه على الحاكم كان في جوازه
وجهان على ما ذكرنا.
والشرط الرابع: فيما يصير الحكم به لازما لهما.
وفيه للشافعي قولان نص عليهما في اختلاف العراقيين:
أحدهما: أنه لا يلزمهما الحكم إلا بالتزامه بعد الحكم كالفتيا، لأنه
لما وقف على خيارهما في الابتداء وجب أن يقف على خيارها في الانتهاء وهو قول
المزني.
والقول الثاني: وهو قول الكوفيين وأكثر أصحابنا أنه يكون بحكم المحكم
لازما لهما ولا يقف بعد الحكم على خيارهما، لما روي عن النبي ﷺ أنه قال: "من حكم بين
اثنين تراضيا به فلم يعدل بينهما فعليه لعنة الله"، فكان الوعيد دليلا على
لزوم حكمه كما قال في الشهادة: ﴿وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾، فدل
الوعيد على لزوم الحكم بشهادته وكقوله عليه السلام: "من علم علما وكتمه ألجمه
الله يوم القيامة بلجام من نار"، فدل الوعيد على لزوم الحكم بما أبداه.
وروي عن النبي ﷺ أنه قال: "وإذا كنتم ثلاثة فأمروا عليكم واحدا"، فصار بتأميرهم
له نافذ الحكم عليهم كنفوذه لو كان واليا عليهم، ولذلك انعقدت الإمامة باختيار أهل
الاختيار.
وحكى أبو سعيد الإصطخري فيه وجها ثالثا: أن خيارهما في التحكيم ينقطع
بشروعه في الحكم، فإذا شرع فيه صار لازما لهما، وإن كان قيل شروعه فيه موقوفا على
خيارهما لأن خيارهما بعد الشروع في الحكم مفض إلى أن لا يلزم بالتحكيم حكم إذا رأى
أحدهما توجه الحكم عليه فيصير التحكيم لغوا).
ولا ينبغي للحاكم حمل الناس على ما اختلف فيه الفقهاء وإلزامهم به،
كما قال ابن تيمية -المستدرك 5/ 157-: (وليس لحاكم وغيره أن يبتدأ الناس بقهرهم على ترك ما يسوغ،
وإلزامهم برأيه واعتقاده اتفاقا، ولو جاز هذا لجاز لغيره مثله، وأفضى إلى التفرق
والاختلاف).
3)- تحفيز عامة الشعب على القيام بالأعمال التطوعية المدنية أو
القتال في المدن المحاصرة مقابل منحهم إقطاعات وأراضي زراعية أو سكنية داخل المدن
أو خارجها من الأرض البيضاء غير المملوكة، وتكون بصكوك موثقة من البلديات أو
المحاكم الشرعية، وتمنح لمن شارك بهذه الأعمال مدة محددة بزمن أو مؤقتة بنهاية
الحرب، وغير ذلك من الحوافز المشروعة، أو استئجارهم للعمل مدة محددة مقابل مبالغ
من المال بصك موثق يكون دينا على بلدية المدينة أو الحكومة المؤقتة ويستوفونه بعد
تحرير الشام بإذن الله.
فاللهم كن للمستضعفين في سوريا وعجل نصرهم ووحد كلمتهم وأصلح ذات
بينهم وارحم شهداءهم... آمين آمين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
مؤتمر الأمة
الأمين العام
أ.د. حاكم المطيري
الاثنين 21 جمادى الآخرة 1438هـ
20 مارس 2017م