حوار مع الكاتب عبدالله
العمر
حول الدين والعقل
(1 -2)
أ.د.
حاكم المطيري
22 /7/ 1993
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على محمد واله وصحبه أجمعين؛ أما
بعد:
فهذه مناقشة لما كتبه الأستاذ / عبدالله العمر في جريدة الوطن السبت
10 /7 /1993م، في رده على الاستاذ / عبدالله النفيسي.
والملاحظات على ما كتبه كثيرة جدا، وإنما سأقتصر على الأهم، فلو ذهبنا
نرد على كل خلط وخبط لطال الرد، فأقول وبالله التوفيق:
(أ) قال الكاتب: (ولا أود هنا ان استطرد في الحديث عن الفرق بين العلم
والدين أو بين العقل والوحي بينما الذي يجب ان يسود التعامل بين البشر والأمم
والشعوب هو العقل، ذلك أن العقل هو القاسم المشترك بين الشعوب جميعا بالرغم من
اختلاف الناس جميعا في أديانها ومذاهبها وعقائدها، وفي الوقت الذي يمكن للعقل من
خلاله ان يفرق بين المعقول واللا معقول).
ولنا على هذه الجملة ملاحظات:
1- لقد اعتاد الكاتب ترديد مثل هذه العبارات (العلم) و(العقل)
و(المنطق) في أغلب كتاباته وردوده؛ وهو نوع من الإرهاب الفكري يقصد الكاتب من وراء
ذلك ان يستسلم القارئ لما يمليه قلم العلم والعقل، ولطالما استخدم الماركسيون لفظ
(العلمية) و(التقدمية) و(العقلانية) مع أنهم
من أشد الناس تطرفا في الفكر والمنهج، وأخذ يجاريهم في هذا المضمار الليبراليون
نشرا لفكرهم وعقيدتهم. يقول جيمس ب كونانت (يستخدم الناس الفظة (العلم) ولفظة (العلمي)
ليدعموا حجة لديهم يختلف معناها ومغزاها تبعا لما عندهم من جنوح وميول وأهواء).
وسأعتمد على أقواله في الرد على الكاتب؛ لأنه مدير جامعة هارفرد سابقا؛
وهي التي تخرج منها عبدالله العمر!
2- أن من أصول الجدل عند مناقشة أي قضية أن يقدم الكاتب بالبدهيات والمسلمات
ويجعلها المدخل لبحث الخلافيات، فالنتائج الصحيحة إنما هي ثمرة مقدمات صحيحة.
ولكن الكاتب هنا قدم بمقدمات لا تشمله حيث فرق بين العلم والدين وبين العقل
والوحي، وكأنها من البدهيات التي لا تحتاج الى إقامة برهان على صدقها.
كما صدر حكمه وقضى بأن العقل يستطيع أن يفرق بين المعقول واللامعقول.
وجعل من هاتين المقدمتين المدخل إلى مناقشة الموضوع!
وهنا يرد سؤالان على الكاتب:
السؤال الأول: ما قصدك بالعقل الذي يفرق بين المعقول واللامعقول؟
هل العقل هو القدرة على إدراك الحقائق على ما هي عليه؟
أم القوة التي تمنع صاحبها من العدول عن الصواب؟
أم القوة الإدراكية التي يعرف بها الحق من الباطل والخير من الشر؟
ثم هل تريد بالعقل: العقل المجرد من كل تصور سابق للأشياء؟
أم العقل المحكوم بتصورات سابقة من معارف وقيم ومبادئ وعادات وتقاليد؟
وهل هو العقل الذي يؤمن بأن الحس هو مصدر المعرفة؟ أم الذي يؤمن بأن التجربة
المصدر الوحيد؟
أم الذي يؤمن بذلك كله ويضيف إليها مصادر أخرى للمعرفة الإنسانية؟
وهل هو العقل الذي يرى أن الخير والشر والحق والباطل قيم ذاتية ثابتة؟
أم الذي يراها قضايا نسبية تختلف باختلاف الزمان والمكان، وبحسب المصالح
والمنافع؟
هل العقل الذي يحتكم إليه العقل الغربي أم العقل الشرقي؟ العقل
المستعمر أم العقل المضطهد؟
إن المعقول في العقل الرأسمالي هو اللامعقول في العقل الاشتراكي، واللامعقول
في العقل الليبرالي هو المعقول في العقل الراديكالي!
ثم ما هو الموضوع الذي يبحث فيه العقل حتى يصل الى ما هو المعقول واللامعقول؟
فاذا كان العقل لم يستطع أن يصل إلى الحقيقة في العلوم المادية وهي
تقع تحت الحس والتجربة والملاحظة حتى قال كونانت: (إن الواجب علينا أن ننظر إلى كل
نظريات العلم وتفسيرات العلم على أنها أشياء مؤقتة).
واستدل على ذلك بتحقق نتائج علمية كانت تعد من المستحيلات قبل ذلك اذ يقول:
(إن عالم الفيزياء أصيب في أول هذا القرن العشرين بما يمكن أن يسمي أزمة عقلية
فرضتها عليه التجارب بالذي اخرجته من حقائق ليس فقط لم تكن منتظرة بل كانت عنده
مما لا يتصور إمكانه أبدا)،
فاذا كان العقل لم يستطع أن يصل في دراسة المادة الى ما هو المعقول واللامعقول؛
بل لم يستطع أن يصل الى حقائق ثابتة بل هو في تطور مستمر؛ فكيف يحتكم اليه في
معرفة ما هو المعقول واللامعقول في القضايا الإنسانية والمشاكل العالمية؟
ولهذا قال كونانت: (إن القول بأن كل تحليل للحقائق مؤسس على الدقة
والحيدة مثل للطريقة العلمية؛ قول يؤدي الى اختلاط في سبيل فهم العلم، والقول بأن
دراسة العلم هي أحسن الوسائل لتدريب الشباب على الحيدة عند تحليل الحقائق في
المشكلات الإنسانية قول أقل ما يقال عنه أنه فرض فيه شك؛ إني أكره ما أكره أن يقدس
العلم كما تقدس الاصنام).
ونحن نقول إن العالم تسيطر عليه فلسفات ومناهج فكرية متناقضة وتعمل دوله
لتحقيق مصالحها المتعارضة؛ فكيف لها أن تحتكم إلى العقل الذي يفرق بين المعقول
واللامعقول؟
فهل تريد من دول العالم أن تتجرد من فلسفاتها ومناهجها ومصالحها كي تستطيع
أن تحتكم الى العقل الذي يستطيع أن يفرق بين المعقول واللامعقول؟ هذا أمر مستحيل.
أم تقصد ان لها القدرة على تحقيق ذلك دون فلسفاتها المتناقضة ومصالحها
المتعارضة؟ فهذا أيضا مستحيل!
أم تقصد أن ما تحقق على الساحة الدولية من استقرار مؤقت في بعض مناطق
العالم هو بسبب تحكيم العقل وتطبيق القانون الدولي؟
فهذا غير صحيح. بل إن نظام الأمم المتحدة يقوم على اللامعقول في جعل العالم
كله تحت رحمة فيتو الدول الخمس مع أن في دول العالم ما يماثلها قوة ونفوذا وعددا. أما
الاستقرار الوهمي فإنما تحقق بسببه إحكام السيطرة من قبل الدول القوية على الدول
الضعيفة؛ لتحقيق مصالحها وبسط نفوذها وعجز هذه عن الحفاظ على مصالحها ودفع الظلم
عن نفسها وهي ترى اللامعقول يجري من حولها في هذا العالم المضطرب!
والسؤال الثاني: لمَ فرقت هنا بين العقل والعلم وجعلتهما في جانب
والدين في جانب آخر؟
وقلت في موضع آخر: (إن معظم البلاء خاصة في العالم الإسلامي يرجع إلى
عدم تفريقنا بين مجالين هامين هما: الدين والعقل).
نحن نقطع أن تفريقك هذا ليس بسبب ما يقتضيه حكم العقل ويحكم به العلم،
وإنما بسبب تصورات سابقة عن الدين والعقل، والحكم على الشيء فرع من تصوره، ولم يكن
تصورك نتاج عقل مجرد؛ بل هو نتاج عقل مقيد بتصورات سابقة استقيتها عمن يؤمن بهذه
الاشكالية في جامعة هارفارد، فلا هم عرفوا الدين وحقائقه ولا العقل وقدراته!
ونحن نسأل: تفريقك هذا هل هو أمر ظاهر مسلّم فيه؛ بحيث لا يحتاج إلى
دليل؟
إن قلت: نعم؛ فقد ادعيت الخصوصية في إدراك ما تشترك العقول في إدراكه عادة
فلا تصدق دعواك في ذلك. وإن قلت: لا، فلمَ قدمت بها على أنها من الحقائق والبدهيات
وجعلتها المدخل الى البحث؟ ونحن نقول لك {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ
إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}
فعليك أن تحدد ما مرادك (بالعقل) و (الدين)؟ وأي عقل؟ وأي دين؟
أما نحن فلا فرق عندنا بحمد الله بين ما جاء به الإسلام (القران
والسنة) وبين ما توصل إليه العقل، ونحن في حاجة العقل لفهم (القرآن والسنة) وتدبرهما،
وفي حاجة (القرآن والسنة) لضبط العقل والسلوك الإنساني، والأسباب التي تجعلنا لا
تفرق بين ما جاء به الدين الصحيح وما وصل إليه العقل الصحيح هي:
1- أن مصدرها واحد وهو الله عز وجل (فالعقل) خلقه و(الشرع) أمره؛ كما
قال تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ}؟ {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} فالعقل من خلقه سبحانه وتعالى، والشرع من أمره جل وعلا؛ ولهذا
يستحيل عقلا وشرعا أن يصطدما؛ فلا يتعارض مطلقا العقلي القطعي مع الشرعي القطعي،
ولم يقع ذلك بحمد الله تعالى، فإن وقع نوع تعارض بين عقلي وشرعي؛ قطعنا بأن أحدهما
ظني؛ فيقدم القطعي منهما على الظني، فيقدم الشرعي القطعي على العقلي الظني ويقدم
العقلي القطعي على الشرعي الظني.
2- أنه لم يقع فيهما اختلاف واضطراب أي الحقائق العلمية والشرعية، فإن
الوجود محكم أودع الله فيه سننا منتظمة؛ كما قال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا
آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} وكذلك الشرع محكم أودع الله فيه هدايات وسننا لتنظيم حياة الإنسانية
وكل ما فيه من محكم لا اختلاف فيه؛ كما قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ
الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا
كَثِيرًا}، فلما لم يقع
فيه اختلاف؛ دلّ ذلك أنه من عند الله عز جل، فإن توصلت بعض العقول إلى أن في هذا
الوجود اضطرابا أو في الشريعة اختلافا؛ كان الخلل في تلك العقول أو في مناهجها
التي توصلت بها إلى هذه النتائج ولا يضر الحق اختلاف الخلق فيه، ولم يكن الاختلاف أبدا
سبيلا لرد الحقيقة المختلف فيها؛ ولهذا لم يكن الاختلاف بين علماء المادة في حقائق
المادة مع اشتداده سبيلا لفقد الثقة في هذا العلم؛ ولذا قال كونانت: (كيف يمكن الفرد
منا أن يتحدث في سهولة عن حقائق الاشياء بينما هو مطالب قسرا بالحذر عندما يتحدث
عن أمر ظاهر السهولة؛ كحقيقة الضوء). فاختلاف علماء المادة في حقيقة الاشياء ليس
بسبب هذه الاشياء ذاتها؛ وإنما بسبب قصور الوسائل عن إدراك حقيقة هذه الاشياء،
وكذا اختلاف العقول في فهم بعض نصوص الشريعة ليس بسبب الشريعة ذاتها، وإنما بسبب
انحراف بعض العقول عن المنهج الصحيح في فهم نصوصها؛ بسبب مؤثرات داخلية أو خارجية؛
ألم تر كيف عبد بعض المسلمين الاشجار والأحجار والقبور وقدموا لها القرابين وطافوا
بها واستغاثوا بها من دون الله عز وجل لدفع الضر وجلب النفع مع أن القرآن كله
والسنة كلها دعوة الى إفراد الله وحده بالعبادة لا شريك له.
3- أن مجالهما واحد وهو هداية الخلق إلى ما يحقق سعادتهم، فما جاء به الشرع
الصحيح هو من العلم الذي أنزله الله على الخلق، وفيه من الهدايات في العقائد
والعبادات والسلوك والشرائع في جميع شئون الحياة ما هو كفيل بتحقيق الاستقرار والأمن
الاجتماعي والدولي.
ولهذا وصف الله هذا القرآن بأنه علم؛ كما في قوله تعالى: {وَلَا تَعْجَلْ
بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} وقال أيضا: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا
أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ}؟ ووصفه بأنه نور وبرهان {يَا أَيُّهَا النَّاسُ
قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} وأنه يخرج الناس {مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}. وأنه يهدي للتي هي اقوم {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ
يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}. وأن
فيه تفصيل كل شيء {وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ
وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} وأنه الحكم بين المسلمين عند الاختلاف {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ
الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا
عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ
عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}.
وكذا ما توصلت إليه العقول الصحيحة السليمة هو من العلم الذي فطر الله
عليه العقول أو أودعه الله هذا الوجود وهدى العقول إليه؛ ولهذا كان من هدايات
القران استثارة العقل الانساني وحثه على إعمال الفكر والعقل، وكم في القرآن من
قوله تعالى: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} {أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ} {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ} فلا يرضى الإسلام من أهله إلا إعمال الفكر والعقل في هذا الوجود؛
ولذا في الحديث: (انتم أعلم بأمور دنياكم).
إذًا ما جاءت به الشريعة علم
وما توصلت إليه العقول علم، قال تعالى: {الَّذِي عَلَّمَ
بِالْقَلَمِ . عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} والعلم هو إدراك حقائق الاشياء تحقيقا أو تقريبا، فلا فرق بين هذا
العلم وهذا العلم؛ فكلاهما من عند الله عز وجل، فالشرع في حاجة العقل لفهمه وتدبره
والعمل به. والعقل في حاجة الشرع لضبطه وتحديد مجالات عمله.
حوار مع الكاتب عبدالله
العمر
حول الدين والعقل
(2-2)
أ.د. حاكم المطيري
5/
8/ 1993
وما زلنا أيها القارئ
الكريم في نواد وأوابد (عدسة التلسكوب) للكاتب عبدالله العمر في رده على (عدسة المجهر) للأستاذ
عبدالله النفيسي.
ب- ثم قال الكاتب:
(وفي الوقت الذي
يعتبر فيه العقل أكثر الأشياء عدالة في التوزيع بين البشر تجد الدين والتطرف الفكري والتعصب العنصري
هي أكثر الأشياء تفريقا
بين البشر).
وما زال الكاتب
يقدم بمقدمات ضعيفة المبنى غامضة المعنى كما هي عادته، ولنا على هذه الجملة ملاحظات:
(أ) لم استخدمت
فعل (يعتبر) في هذه الجملة ولم بنيته للمجهول؟ ألم ترَ أنك أفسدت المعنى الذي تقصده باستخدام هذا الفعل
هذا الموضع؟
ثم ما معنى (أكثر
الأشياء عدالة في التوزيع) إنها عبارة تفقد أبسط عوامل الحياة؛ فهي بلا لفظ ولا معنى.
ثم ما هي الاشياء التي
فاضلت بينها وبين العقل في عدالة التوزيع؟
وأخيرا ما هذه المقابلة
(اللامعقولة) بين ما هو من مميزات العقل وما هو من نتاج الدين؟
فالمقابلة تقتضي
أن يوصف المقابل بنقيض ما يوصف به المقابل به، فالعدالة يقابلها الظلم، والتفريق يقابله التجميع،
فلا أنت استخدمت هذا في مقابل هذا
ولا ذاك في مقابل ذاك، وعلى كلٍّ ما هكذا تورد الإبل يا أستاذ؛ فالجملة ماتت قبل أن تولد!
(2) لقد جعل الكاتب الدين والتطرف الفكري والتعصب
العنصري في ميزان واحد ثم حكم
عليه وبلا أدلة بأنه من أكثر الأشياء تفريقا بين البشر. وهنا يرد سؤال على الكاتب، هل تقصد (الدين)
المعنى العام؟
فعلى هذا كل من
يدين بفكر أو فلسفة؛ فهو متدين بها، ودان بالشيء أي: اعتقده، وعليه فالشيوعية دين يدين بها الشيوعيون
ويقاتلون من أجلها، والليبرالية والرأسمالية
دين يدين بها أتباعها ويبشرون بها ويقاتلون من أجلها؛ ودول الغرب وأمريكا تسعى لفرضها على الشعوب
بكل وسيلة.
وترى الليبراليين
يستخدمون الإرهاب الفكري في نشر فكرهم فهم أصحاب العقل والفكر والعلم ودعاة الحرية واحترام
حقوق الإنسان.
وإلى وقت قريب كان
الغرب وأمريكا يصفون الاتحاد السوفياتي بالشيطان وعدو الحرية والإنسانية... إلخ.
أم تقصد الدين بمعناه الخاص وهذا ما تريده قطعا، وهنا نقول أننا نعلم أن
المسيحية وأناجيلها ترفع شعار (دع مالله
لله وما لقيصر لقيصر)، (ومن ضربك على خدك الأيمن فادر له الأيسر) ولم تشرع لأتباعها في شئون
الحياة السياسية والاقتصادية أو
العسكرية شيئا، وعليه فما يفعله المسيحيون لا دخل للمسيحية فيه، وإنما يحكم عليها من خلال ما في الأناجيل
مع تحريفهم لها أيضا، أما ما
يقوم به المسيحيون في العالم باسم الإنجيل فهو افتراء على الإنجيل، وانما يستغلونه لتحقيق مصالحهم
وكذا باقي الأديان ليس فيها
دين يشرع لأهله في جميع شئون الحياة؛ ولهذا لم يجد أهل هذه الأديان في العلمانية وفصل الدين عن
واقع الحياة غضاضة أو ما يشكل
عليهم.
فلم يبق إذًا أمامنا
إلا الإسلام وشريعته (القرآن والسنة) فهو الذي يوجب على أهله أن يحتكموا إليه في كل أمر من شئون حياتهم، وقد وجد اهله أنه شرع في كل شئون حياتهم في العبادات
والعقائد والسلوك والمعاملات
الاقتصادية والسياسية والدولية، ونظم لهم شئون السلم والحرب والمعاهدات؛ ولهذا كانت الموسوعة
الفقهية في الإسلام أوسع وأشمل
الموسوعات القانونية في العالم، وقد أقرت المؤتمرات العالمية القانونية كما في مؤتمر
لاهاي 1938 بصلاحيتها لأن تكون مصدرا من مصادر القانون، وكذا أقر عمداء
كليات الحقوق في الجامعات العربية
1974 حيث أقروا بصلاحيتها كنظام قانوني شامل، وأن انحسار مجال تطبيقها إنما كان بسبب الاستعمار
لا بسبب قصورها.
فهل تقصد (بالدين)
هنا الإسلام المتمثل (بالقرآن والسنة) أم تقصد به (التدين) وخانك القلم والعقل؟
ألا ترى فرقا بين
(الدين) و(التدين) الذي هو فعل الإنسان، فإن كنت ترى فرقا، فلمَ حكمت عليه من خلال سلوك بعض الأفراد؟
ولمَ قلت: (قل لي من أين يستمد
المتطرفون الإسلاميون في مصر أو في غيرها أفكارهم وتصوراتهم حين يقتلون الأقباط بدم بارد وحين
يفتون بجواز الاستيلاء على ممتلكات
الأقباط).
فهل تقصد أنهم يستمدون
ذلك من الإسلام وأن الإسلام يأمر بذلك؟ إذًا لِمَ لم يقم باقي المسلمين وعامتهم بذلك؟
ولمَ استقر أهل
الكتاب في الدولة الإسلامية أربعة عشر قرنا لهم ذمة الله ورسوله والمسلمين؟ إن التاريخ
لم يذكر لنا -ولو مرة واحدة- أن أهل الكتاب اضطهدوا
في أرض الإسلام؛ بل كانوا يهربون من بلدانهم إلى حيث الأمن والاستقرار بين المسلمين حتى أصبحوا
من أغنى الناس في الدولة
الإسلامية. وهذا ما لا يجده المسلمون في ألمانيا أو فرنسا في عصر حقوق الانسان. ثم أين هذه النصوص الشرعية
التي تأمر بهذا؟
إذًا المشكلة ليست
في الإسلام؛ فليبحث عن أسبابها فإن تلك المجتمعات العربية تعيش الاضطهاد والاستبداد والقهر
وامتهان كرامة الإنسان والمحاكم العسكرية،
والعنف يولد العنف، والضغط يولد الانفجار. وكل سلوك يخرج عن حد ما أمر به الله ورسوله؛ فالإسلام
منه براء وعلى فاعله وزر فعله؛
فردا كان او جماعة.
ثم إذا كانت هذه
فلسفتك في تحليل الأحداث فلنا أن نحكم على الليبرالية والديموقراطية من خلال سلوك دولها وليس أفرادها فقط
فقد قامت هذه الدول باستعمار
العالم من أجل مصالحها ودمرت شعوبا لتحقيق مطامعها وما أحداث فيتنام عنا ببعيد، وكم فعلت هذه
الدول من جرائم بحق الشعب الفلسطيني
فقد كانت هذه الدول تسارع في استخدام حق الفيتو لرفض مجرد إدانة الكيان الصهيوني في مجلس
الأمن على ما يقوم به من جرائم
ووحشية.
بل هذه البوسنة
يفرض عليها حصار دولي من قبل مجلس الأمن مع أنها دولة عضو تتعرض لحرب إبادة من عدة دول على مرأى
ومسمع من العالم المتحضر
والذي يحتكم إلى العقل والقانون الدولي!
(ج) ثم يصل الكاتب إلى النتيجة الحتمية عنده والحقيقة
الغائبة والمتمثلة في قوله:
(إن معظم البلاء الذي يعايشه عالمنا المعاصر بشكل عام وعالمنا العربي والإسلامي بشكل خاص يرجع
الى عدم تفريقنا بين مجالين
هامين هما الدين والعقل) وقد تكلمنا على تفريقه في المقالة الأولى، وفي قوله: (الصراعات التي تدور
رحاها في عالم اليوم بسبب
اعتماد الدين منطلقا للنقاش).
وبهذه السهولة يفسر
الكاتب الأحداث والمشاكل العالمية ويشخص الداء ويصف الدواء وكأنه يخاطب أطفالا
في رياض الأطفال أو بشرا من كوكب اخر لا
يعرفون ما يدور في هذا العالم من أحداث!
لقد كان الماركسيون
في تفسيرهم للأحداث تفسيرا قسريا ماديا أقرب إلى الحقيقة من تفسير الكاتب، وإذا كانوا قد تكلفوا
في إقامة الأدلة على صحة دعواهم ووصفوا
تفسيرهم بالعلمية والمنطقية، فإن الكاتب لم يكلف نفسه إقامة الأدلة على صحة تفسيره للأحداث،
ونحن نسأل الكاتب: هل الحرب
العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية وهي أعظم بلاء عاشه العالم المعاصر كان بسب منطلقات دينية؟
وهل الحرب الباردة
والاستقطاب الدولي والصراع على مناطق بسط النفوذ كان بسبب منطلقات دينية؟
هل حروب الشرق الأوسط
وفيتنام والخليج بسبب منطلقات دينية؟
هل الحروب التي
وقعت بين الأحزاب اللبنانية وبين اللبنانيين والفلسطينيين والفلسطينيين والسوريين وبين الفلسطينيين
والأردنيين كانت بسبب منطلقات
دينية؟ وهل للإسلام يد فيما جرى بين هذه الانظمة والأحزاب العلمانية؟
إننا نعلم أن العالم
تسيطر عليه فلسفات وأيدلوجيات وأنظمة علمانية متطرفة تسعى للقضاء على الدين أو علمانية يقال عنها
معتدلة تعمل على إبعاده عن واقع الحياة، والصراع المحتدم في العالم إنما هو بين هذه الأنظمة شيوعية او رأسمالية او اشتراكية أو قومية...
إلخ.
وأسبابه الرئيسية
تصادم المصالح الدولية والسعي من أجل بسط النفوذ والسيطرة على مصادر الطاقة والثروات الطبيعية
في العالم؛ وفي المقابل تعمل
الدول الضعيفة على المحافظة على مصالحها، والدفاع عن أراضيها وتحرير إرادتها من
التدخلات الأجنبية، ومن ثم يحصل الصراع والحروب.
وكذا ما يجري في
أغلب دول العالم العربي من مشاكل وهو محكوم من قبل أنظمة علمانية منذ أن خرج الاستعمار؛ إنما يعيش
مشاكله بسبب الاستبداد والظلم
والجهل والفقر والعجز أمام التحكم الأجنبي وفرض القوانين والأنظمة الغربية والشرقية على المسلمين
إلى غير ذلك من مشاكل سياسية واقتصادية
وفكرية... إلخ.
(د) ثم يقول الكاتب
في مقاله الثالث بتاريخ 12/ 7/ 1993 في نفس الموضوع: (وأما الذي يجب أن يسود العلاقات
ويعمل على تنظيمها والاحتكام اليها
عند حدوث خلاف أو قيام نزاع فهو الدين عند إيران والعقل عند الغرب) ويقول ايضا: (إذا لم يكن العقل
والمنطق هما اللذين حفزا الغرب والولايات
المتحدة على اتخاذ مثل هذه المواقف العدالية إزاء العراق؛ فماذا إذًا يكون الحافز؟).
وهكذا يرفض الكاتب
إلا أن يقلب الحقائق ويتلاعب بالألفاظ ويقرر اللامعقول على أنه حقائق علمية مسلم بها،
ونحن نقول له اربع على نفسك يا فيلسوف؛
فلا إيران تحتكم في علاقاتها مع العالم إلى الدين ولا الغرب يحتكم الى العقل، فإيران لها علاقات ممتازة
مع دول الشرق: الصين والهند وكوريا
ومع روسيا أيضا واليابان وغيرها من دول العالم بل وإلى وقت قريب كانت لها علاقات جيدة مع
فرنسا وبعض دول أوروبا.
والآن تقف مع نظام
صدام للحفاظ على مصالحها. فإيران ترى الخليج منطقة نفوذ ومصالح حيوية تحاول السيطرة عليها أو
التحكم بها، وأمريكا والغرب
يرى أنها شريانه المتدفق بالطاقة والمنطقة الحيوية الهامة، ومن ثم حصل الصراع من أجل المصالح الحيوية
بين إيران وأمريكا، وأما العداء
بين أمريكا والعراق؛ فلا يحتاج الى هذا التحليل، فأمريكا أعلنت لشعبها أنها تحارب العراق
وتحاصره من أجل المصالح القومية الأمريكية،
وبهذا صرح بوش وجميع قادة أمريكا والغرب أعلنوا لشعوبهم أنهم يدخلون الحرب من أجل
مصالحهم الحيوية في الخليج؛ ولهذا بررت
القيادة الأمريكية الازدواجية في موقفها من حرب الخليج وحرب البوسنة بأنه لا مصالح لها في منطقة
البلقان مع أن ميثاق الأمم
المتحدة ينص على حماية الأعضاء عند الاعتداءات الخارجية.
لقد كان قادة هذه الدول أصدق وأصرح مع شعوبهم من
هذا الكاتب في تحليل
الأحداث وتفسيرها!
إن القارئ ليعجب
من هذا الكاتب وجرأته على قلب الحقائق، لقد وصف أمريكا والغرب بما يخجل أي مواطن هناك
أن يصفهما به، إنه ملكي أكثر من الملكيين!
ونحن نسأله أين
المنطق والعقل في تركهم لصدام يحكم العراق
إلى اليوم؟ لقد أدخل العالم حربا مدمرة وارتكب جرائم حرب هو وزمرته بحق الشعب الكويتي والشعب العراقي،
فلم توقفت قواتهم عن
التقدم اليه وإلقاء القبض عليه؟ لمَ أذنت له باستخدام الطيران في حرب الأكراد بعدما كادوا يسقطون
نظامه؟
أين أمريكا من
الأسرى الكويتيين؟
لقد استسلم
الرجل لهم حتى بلغ الضعف أن دخلوا مصانع أسلحته ودمروها على مشهد من العالم؟
فلمَ لم يخرجوا
الأسرى مع أن اطلاقهم من شروط وقف الحرب؛ إن ما يجرى في المنطقة من أحداث كلها تدخل في
دائرة اللامعقول بالنسبة لنا وفي دائرة المصالح
الحيوية بالنسبة لهم، وما زال صدام ورقة رابحة يستغلونه لتحقيق أهدافهم حتى إذا احترق استبدلوا
به غيره.
واللعبة مستمرة
وفي نظام الشاه وماركس عبرة!
(هـ) ويقول الكاتب:
(وإذا كان الإسلام
يحظى عند المسلمين بمكانه رفيعة لا تعادلها مكانة أي شيء آخر في نفوسهم فإنني أستطيع أن
أؤكد على أن كل ذلك يجب أن يقترن بنظرة عقلانية إلى العالم الذي نعيش فيه، وأن نلجأ
إلى العقل في حل المشكلات التي تطرأ بيننا وبين الأمم والشعوب التي تدين بأديان مختلفة).
ونحن نقول للكاتب
لم تأت بجديد؛ بل الإسلام يأمر بالعقلانية في معالجة مشاكل الأمم وقد وضع من النظم ما نستطيع معه التامة
علاقات مع جميع دول العالم،
تقوم على العدل ورفض الظلم ونصرة المظلوم وتبادل المصالح وإنفاذ العهود والمواثيق التي تحقق
مصالح الجميع، والنصوص من القرآن
والسنة على ذلك كثيرة جدا.
وأما ما يذهب إليه
خيالك من أن المسلمين يلزمون أمم العالم أن تحتكم إلى الإسلام من أجل حل المشاكل التي تقوم بينهم؛
فهو من بنات أفكارهم ولم يقل
به أحد من فقهاء الإسلام مطلقا؛ بل إننا لا نلزم أهل الكتاب في الدولة الإسلامية أن يحتكموا الى الإسلام؛
فكيف بدول العالم التي لا تؤمن بالإسلام؛
بل الإسلام يأمرنا أن نتعامل معهم على وفق ما يحقق المصلحة، على أن يكون ذلك قائما على العدل والصدق
والأمانة في المعاملة؛ ولذا
حرم الظلم والخيانة، وأوجب الصدق والوفاء بالعهود مع غير المسلمين؛
كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ} وكما قال تعالى: {وَلَا
يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}.
ولعل في قصة صلح
الحديبية وإرجاع النبي ﷺ لمن جاء مسلما من أهل مكة بعد الصلح إلى قريش مع قدرة
النبي ﷺ على حمايته أوضح دليل على مدى اهتمام
الإسلام بالمعاهدات والمواثيق
الدولية.
هذه بعض الملاحظات:
وأرجو من القارئ
الكريم أن يعذرني في استخدام مصطلح (اللامعقول) فإنه على غير قواعد العربية وإنما
جاريت به الكاتب كما أرجو من الكاتب أن يقلل
من استخدام هذه الألفاظ (العقل والمنطق) فقد ابتذلها حتى أفقدها معناها الجميل وقيمتها العلمية.
وفي الختام أسال
الله عز وجل أن يهدينا وجميع المسلمين لما يحبه ويرضاه، وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.