البدون جذور الأزمة والحل المشروع
سلسلة مقالات منشورة في زاوية سوانح
الفكر بصحيفة الصباح أكتوبر – ديسمبر 2008
البدون نكون أو لا نكون
بقلم
د . حاكم المطيري
صحيفة الصباح 5/11/2008
لم تتعرض قضية إنسانية نبيلة للاستخفاف بها مع خطورتها وتهميشها مع
أهميتها وضرورتها كقضية البدون، فقد لقي أصحابها من الاستغلال السياسي أبشعه، ومن
الظلم والتمييز الفئوي أشنعه، ومن الحرمان من أحق الحقوق الإنسانية أفظعه، دون أن
تتحرك لها ضمائر النواب الليبراليين والديمقراطيين الذين طالما تباكوا على الحرية
وحقوق الإنسان، وذرفوا عليها دموع التماسيح، ولم تهتز لها قلوب النواب الإسلاميين -الذين
طالما رفعوا شعار الإسلام هو الحل واستغلوا الدين- وكأن هؤلاء النواب لم يقرؤوا
قول الله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ ولم يسمعوا قول النبي ﷺ: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يسلمه)؟ بل لقد وقف
أكثرهم وما زالوا يقفون ضد حل هذه القضية الإنسانية؛ بل والقضية الشرعية الإسلامية
تحت حجج شيطانية شوفينية تنضح بالعصبية الجاهلية البغيضة التي تناقض الإسلام
وأصوله التي قررت الأخوة بين المسلمين جميعا؛ بل بين الإنسان وأخيه الإنسان؛ كما
في الحديث: (كلكم لآدم وآدم من تراب) وحديث: (الناس سواسية كأسنان المشط لا فضل
لعربي على عجمي ولا أبيض على أسود إلا بالتقوى) فلا يوجد في دين الله مسلم أو
إنسان بدون حقوق أو بدون هوية؛ فالأصل أن كل إنسان يولد في دار الإسلام تثبت له
حقوق المواطنة كاملة في الدار التي ولد فيها أو صار إليها ما لم يثبت خلافه، ولا
يمكن أن يحرم أي إنسان من العمل والتعليم والصحة والزواج والسفر في ظل الشريعة
الإسلامية، وفي ظل دولة ينص دستورها على أن دينها الإسلام تحت أي ذريعة؛ بل هذه
جريمة كبرى بحق الإسلام وبحق الإنسانية، ولم أعجب من موقف دعاة الليبرالية
المزعومة، ولا موقف الكتلة الإسلامية الموهومة، فهم أعداء الحرية وألد خصومها حين
تهدد مصالحهم الفئوية الضيقة؛ لتتحطم على صخرة هذه المصالح كل المبادئ الإيمانية
والقيم الإنسانية، وكان الأجدر بهم جميعا المبادرة بسن تشريع يرفع الظلم عن هذه
الفئة المظلومة، ويقرر حقوق هذه الطبقة المهضومة بعد نصف قرن من استلابها، وعلى
الحكومة الالتزام بالمواثيق التي وقعتها الكويت ومنها المواثيق الدولية لحقوق
الطفل والتي تنص على حق كل مولد بدون جنسية اكتساب جنسية الأرض التي ولد عليها؛
وهو ما ينطبق اليوم على تسعين بالمئة من هذه الفئة التي تمثل الجيل الرابع والثالث
من أبناء هذه الفئة الذين ولدوا في الكويت ولا يعرفون أرضا ولا وطنا سوى الكويت، والمبادرة
إلى إيقاف كافة هذه الانتهاكات الخطيرة لحقوق هذه الفئة.
...................
البدون جذور الأزمة
وغياب القانون
(1)
صحيفة الصباح
13 /11 /2008
ليست قضية البدون مشكلة خاصة بالكويت فقط بل هي مشكلة دولية ظهرت بعد
سقوط الدول الكبرى في العالم الحديث بداية القرن الماضي كالإمبراطورية النمساوية
في أوربا وقيام الدول القومية مكانها وسقوط الخلافة العثمانية في أوربا وآسيا
وأفريقيا وقيام دويلات قطرية محلها كما في العالم العربي وقد دفعت شعوب كثيرة ثمن هذه التحولات السياسية العالمية
بسبب الحروب التي تبعتها والهجرة السكانية التي تلتها والتنازع على الحدود بين
الدول القطرية والاختلاف في تحديد رعايا كل دولة وقد كانت المشكلة أكثر تعقيدا في
العالم العربي حيث أن الدول القطرية فيها قامت لا على أساس قومي كما في أوربا ولا
على أساس جغرافي ولا على أساس لغوي أو ثقافي بل تم التقسيم بشكل عبثي بإرادة
استعمارية بريطانية وفرنسية كما تقتضيه مصالحها وقد كان لهذا الواقع -الذي فرضه
الاستعمار البريطاني الفرنسي للمنطقة العربية ولخريطة الشرق التي اشترك
البريطانيون والفرنسيون في تقسيمها وترسيمها على هذا النحو- تداعياته الخطيرة على
العرب خاصة الذين منذ وحدهم الإسلام وهم أمة واحدة ضمن دولة واحدة حتى سقوط
الخلافة العثمانية وقد عبر عن خطورة هذه التحولات السياسية الكبرى في المنطقة
ديفيد فرومكين في كتبه (ولادة الشرق) حيث يقول في ص629: (وهكذا فإن بريطانيا، شأنها
شأن فرنسا في منطقة نفوذها في الشرق الأوسط، أنشأت دولا، وعينت أشخاصا يحكمونها، ورسمت
حدودا فيما بينها، وقد عملت معظم ذلك في سنة 1922م، لقد تحقق للدول الأوربية ما
أرادت أن تفعله منذ زمن طويل، أي أن تأخذ بأيديها المصائر السياسية لشعوب الشرق
الأوسط ... وفي كل مكان من العالم أدى الاحتلال البريطاني إلى تدمير البنى
السياسية لأهالي السكان الأصليين، وإبدالها ببنى جديدة ذات أشكال أوربية، والإدارة
الحكومية كانت على نمط أوربي، وبموجب قوانين أوربية، ووفقا لمفاهيم أوربية، ومع
ذلك ثمة تساؤل عما إذا كان الاحتلال الأوربي سيحدث في الشرق الأوسط ما أحدثه في
أمكنة أخرى من أثر عميق ودائم، وسبب هذا السؤال ليس فقط لأن الشرق الأوسط منطقة
حضارات عريقة، يفخر بها أصحابها، ومعتقدات عميقة الجذور في الماضي، بل لأن
التغييرات التي تقترح أوربا إدخالها هي من العمق بمكان بحيث يجب أن تمر أجيال قبل
أن تضرب هذه التغييرات جذورها في الأرض) وهو ما يعاني منه البدون إلى اليوم من
انتقاص لحقوقهم الإنسانية والسياسية.
وللحديث بقية!
................................
البدون جذور الأزمة
وغياب القانون
(2)
صحيفة الصباح 14 /11 /2008
لقد تم تغييب شعوب المنطقة العربية -بل شعبها العربي الواحد- عن تقرير
مصيرها وتم تهميش إرادتها، وفرض الاستعمار عليها هوية لم يكن لها قبل ذلك أي وجود،
لقد تم خلق هويات قطرية وتم نسبتها إلى أسر أو مدن أو جزر أو أقاليم لشعب واحد لا
يرى في هذه النسبة أي مدلول تاريخي أو ثقافي أو قومي يعبر عن هويته، وتم تقسيم
الشعب الواحد بقبائله وأسره بين عدة دول، وقد
دفعت القبائل الرئيسية في المنطقة ثمنا باهضا لهذه التحولات، وما زالت إلى اليوم،
وكانت ضحية لهذا التقسيم الاستعماري للمنطقة؛ كما عبر عن ذلك المؤرخ والسياسي بشير
نافع في مذكرة عن تاريخ العراق ص 29 حيث يقول: (لقد ترك هذا التطور أثرا بالغا على
أنماط الاجتماع والهوية في العالمين العربي والإسلامي، ولأن هذا التطور قد فرض
أصلا على المنطقة بفعل السيطرة الاستعمارية المباشرة، ولم يكن للشعوب العربية
والإسلامية دور ملموس في صياغته، فقد تسبب في ولادة نظام الدولة الحديثة في بلاد
مثل العراق، وسوريا، والأردن، والسعودية، والكويت، في إيقاع اضطراب هائل في حياة
شعوب هذه البلدان، أدخل نظام الدولة الحديثة مفهوم الجنسية الحصرية، وجواز السفر، والقيود
على التنقل عبر الحدود.... وفجأة وجدت عشائر كشمر وعنزة نفسها قد انقسمت بين دول
كسوريا والعراق والكويت والسعودية، وأن هذا الانقسام يتطلب حمل جنسيات مختلفة
ويفرض قيودا قاطعة على تحركها عبر الحدود .... إن النظام الجديد يتطلب منهم الولاء
لدول لا تعبر بالضرورة عن هويتهم الثقافية ولا تشبع حاجات هذه الهوية، هذا التمايز
والافتراق ولد اضطرابا عميقا وعواقب إنسانية باهضة، في حياة أبناء العشائر العربية
على جانبي خط الحدود) لتبدأ بعد ذلك المأساة الإنسانية.
وللحديث بقية
................................
البدون جذور الأزمة
وغياب القانون
(3)
صحيفة الصباح 16 /11 /2008
لقد واجهت بريطانيا حين أرادت تقسيم الحدود الصحراوية ـ كما في كتاب
تاريخ العلاقات بين الكويت ونجد للسعدون -ص 279- مشكلة في غاية التعقيد إذ كما
يقول: (لم تكن عملية رسم الحدود عملية هينة، إذ لم تعرف هذه المنطقة منذ وجودها
شيئا اسمه الحدود، فأغلب مساحاتها صحار شاسعة، تقطنها قبائل بادية، السمة الأساسية
لحياتها التنقل الحر طلبا للكلأ والمياه، أو الغزو في ديرة قبيلة معادية، إذ لكل
قبيلة مراع وآبار خاصة يمكن تمييزها بالخبرة والعرف المتوارث، ولذلك لم يكن معروفا
لدى تلك القبائل مفهوم الوطن الذي نعرفه الآن، فانتماؤها إلى هذا الكيان السياسي
أو ذاك يتحدد من خلال علاقات الرهبة والرغبة التي تربط مشايخها برئيس الكيان وهي
عرضة للتغيير والتبديل بسرعة كبيرة بحيث لا يمكن القول إلا نادرا بأن هذه القبيلة
تنتمي إلى هذا الحاكم أو ذاك بصورة مطلقة وفي كل وقت، وكان من الصعب تقبل أفراد
القبيلة فكرة وضع حدود تفصل الكيانات السياسية عن بعضها دون أن تراعي الواقع
القبلي الموروث، وسيما وأن تلك الكيانات لم يكن يفصلها عن بعضها معالم طبيعية يمكن
تمييزها بسهولة مثل الجبال أو الأنهار، وقد فطن لذلك الأمر دكسون الوكيل السياسي
البريطاني في البحرين الذي كتب إلى المندوب السامي البريطاني في العراق مقترحا أن
يتم تحديد الحدود بين نجد والكويت على أساس التعرف على القبائل التابعة لكل طرف، وتمييز
الآبار الخاصة بكل قبيلة، ثم تضم بعد ذلك القبيلة والأراضي التي تستخدمها مخيما
صيفيا إلى الطرف الذي تدين له بالولاء، وحذر من أن أي محاولة لحل المشكلة على أساس
رسم خط للحدود على النمط الأوربي سوف تقود إلى معارك قبلية متصلة، إذ لن تطيع القبائل
أبدا قرارا يحرمها من حقوقها القديمة).
أي حقها في أن تجوب الصحاري التابعة لها طلبا للمرعى دون تقييد حركتها
وهجرتها السنوية.
وللحديث بقية
................................
البدون جذور الأزمة
وغياب القانون
(4)
صحيفة الصباح 17 /11 /2008
لقد كانت حقيقة المشكلة -التي ما زال يدفع ثمنها البدون- تتمثل أساسا
في أن المنطقة تمثل إقليما جغرافيا واحدا، تعيش عليه قبائل تعود إلى أصل قومي واحد،
وتتحدث لغة واحدة، وتدين بدين واحد، ولها ثقافة وقيم واحدة، وظلت منذ أن وحدها
الإسلام تمثل جزء من دولة وكيان سياسي واحد على مر العصور، ولم يجرؤ أحد أن يحدد
حدودا يفصل فيما بينها، على هذه الجزيرة الواحدة، حتى جاء الاستعمار البريطاني
وأوجد هذا الواقع القطري، لقد كان اقتراح دكسون في رسم الحدود بحسب الانتماء
والامتداد القبلي هو الحل الوحيد الممكن بالنسبة لمصالح بريطانيا مع أنه ليس حلا
بل مشكلة بالنسبة للعرب، إذ لا يمكن الحل بحسب عامل الجغرافيا، إذ تمثل المنطقة
وحدة جغرافية واحدة، ولا بحسب عامل العرق القومي، إذ كل سكانها عرب أقحاح، ولا
بحسب العامل التاريخي، إذ لم يسبق أن قامت كيانات سياسية مستقلة تماما، لها حدودها
الخاصة، إلا أن المشكلة التي تواجه اقتراح دكسون هو أن الامتدادات القبلية شاسعة
جدا، فقبائل كالعجمان والعوازم والهواجر تمتد من الكويت إلى الإحساء جنوبا، كما
تمتد قبيلة كمطير من الكويت والخليج العربي شرقا إلى الصمان، ثم الدهناء، ثم
القصيم، ثم الحجاز، ثم البحر الأحمر غربا،
كما تمتد قبيلة الظفير من الكويت جنوبا، إلى العراق شمالا، وكذا تمتد قبيلة
شمر من شمال الكويت إلى حايل في الشمال الغربي وكذا تنتقل قبائل المنتفق والبدور
ما بين العراق وشمال الكويت ـ وكل هذه الامتدادات القبلية كانت موجودة قبل سنة
1900 م كما فصل ذلك وأثبته المستشرق البريطاني لوريمر في كتابه دليل الخليج العربي
ـ مما يجعل تقسيم الحدود على أساس قبلي كما اقترحه دكسون مستحيلا مع أنه هو الخيار
الوحيد المتاح، إذ لا يمكن تقسيم المنطقة على هذا النحو إلا على حساب القبيلة
الواحدة، ووحدة عشائرها، لتكون القبائل هي ضحية هذه الخطة الاستعمارية التي راعت
بريطانيا فيها مصالحها على حساب مصلحة شعب وقبائل المنطقة الواحدة، كما أن اقتراح
دكسون بأن يراعى في تحديد إقامة القبيلة مكان استقرارها صيفا لا يحل المشكلة، إذ
أن قبيلة كمطير -كما أثبته لوريمر- يستوطن قسم كبير من عشائرها صيفا ومنذ قديم الزمان
آبار رأس السالمية والجهراء والوفرة وأم الهيمان وأبو دوارة والطوال قريبا من واره
-وهي كلها آبار أصبحت جزء من حدود الكويت الدولة بعد ذلك- بينما تستوطن أقسام أخرى
من عشائرها آبار الصمان والحفر والدهناء ....الخ، وكذا حال باقي قبائل الكويت، وهو
ما يجعل الاعتداد بالاستقرار الصيفي للقبيلة غير ذي جدوى، لانتشار عشائر القبيلة
الواحدة في مخيمات استيطانية شبه مستقرة في الصيف قرب الآبار التي تشرب منها.
كما تتمثل الإشكالية الثانية في أن القبائل -كما يقول فرومكين في
ولادة الشرق ص 505- لم يتعودوا طاعة أي حكومة، بل ويرفضون وجودها، ويقامون خضوعهم
لمثل تلك الحكومة وإن كانت وطنية.
وللحديث بقية
................................
البدون جذور الأزمة
وغياب القانون
(5)
صحيفة الصباح 18 /11 /2008
لقد كان تحديد الحدود على النحو المذكور سابقا إحدى حلقات سلسلة
التحولات الكبرى التي دفعت شعوب المنطقة ثمنها باهضا وكانت قبل ذلك قد تعرضت لحصار
عسكري بريطاني غير إنساني تسبب في مجاعة كبرى حين أرادت بريطانيا أن تحاصر الدولة
العثمانية فقامت بفرض الحصار البريطاني على الأسواق الرئيسة في الخليج العربي -التي
ترتادها القبائل في الجزيرة العربية والعراق والشام- لقطع الطريق على القوافل التي
قد تزود الجيش العثماني والمناطق العربية التي لا تزال موالية للدولة العثمانية
بالمؤن، وقامت بريطانيا بدفع الأموال والمؤن لشيوخ القبائل الذين تعاونوا معها، كما
فعلت مع شيخ قبيلة عنزة فهد الهذال الذي خصصت له بريطانيا منحة مالية وتعهد
بالمحافظة على السلم ومنع مرور البضائع عبر البادية، ومع أن خطر المجاعة لم تستثن
منه البادية، غير أن عشيرة فهد تسلمت كميات كبيرة من الحبوب والتمور بشكل منتظم، فكانت الجموع الجائعة تعبر البادية ملتجئة إلى
فهد، وكما قالت بيل ص 13: (وما حل كانون الثاني حتى كان مائة ألف بدوي ـ من قبيلة
عنزة وحدها ـ يخيمون على مقربة من فهد، وادعين سهلي الانقياد، مثل سلالات خيلهم
المشهورة، ولم يحدثوا أي اضطراب، بل قبلوا بمنة المؤونة التي زودوا بها، وعندما
ملأ العشب ضروع نياقهم في الربيع أخذوا يرجعون إلى ديارهم).
..................
البدون جذور الأزمة
وغياب القانون
(6)
صحيفة الصباح
19 /11 /2008
لقد كان تحديد الحدود ذاته، والتحكم في سير هجرة القبائل العربية
السنوية شمالا وجنوبا للبحث عن الكلأ، الوسيلة الرئيسة التي استخدمها البريطانيون
للسيطرة عليها، كما فطنت لذلك (مس بيل) المسئولة البريطانية عن الإدارة الملكية في
العراق بعد الاحتلال البريطاني له، حيث رأت أن السيطرة على القبائل مرهون بقطع
طريق هجرتها، حيث قالت في كتابها (فصول من تاريخ العراق ص 166): (لكن سيطرتنا
عليهم على كل حال ستتوقف خلال السنوات القلائل القادمة على قدرتنا على قطع طريق
هجرتهم شمالا وجنوبا).
وكذا فطنت المس بيل إلى ضرورة ضم القبائل قسرا إلى المدن والموانئ
التي ترتادها القبائل للتزود بالمؤون للسيطرة عليها، حيث تقول كما في (فصول من
تاريخ العراق ص85): (إن من الأمور الأساسية أن يجري تفاهم تام مع الأمراء العرب الذين
ترتاد قبائلهم الجولة أطراف البلاد المعمورة، وليس هذا شيئا صعبا أيام السلم، لأنهم
يعتمدون في احتياجاتهم المعيشية الضرورية على الأسواق التي يقصدونها لهذا الغرض، ومن
الممكن أن يجعل السماح لهم بالاتصال بهذه الأسواق منوطا بمسلكهم الحسن، على أنهم
طالما كانوا يحترمون حدود المدينة التي يتصلون بها وحدها فإن التزاماتهم يمكن أن
يقال عنها أنها تحققت، فليست هناك أي حكومة يمكنها أن تتوقع السيطرة على ما
يفعلونه ضمن ديرتهم).
وبهذه الطريقة تمكن البريطانيون من السيطرة على القبائل الرئيسة في
الجزيرة العربية التي يمكن أن تهدد وجودهم واستقرارهم في المنطقة، تلك القبائل
التي ترتحل شمالا وجنوبا بشكل سنوي بمئات الآلاف، وقد قدرت المس بيل في كتابها ص
129 عدد أفراد قبيلة عنزة وحدها بربع مليون نسمة على أقل تقدير في الوقت الذي لم
يكن يتجاوز عدد أي مدينة آنذاك عشرين ألف نسمة!
وللحديث بقية
...........................
البدون جذور الأزمة
وغياب القانون
(7)
صحيفة الصباح
20 /11 /2008
لقد تم تقسيم المنطقة على هذا النحو في مؤتمر العقير وكان دكسون حاضرا
ذلك المؤتمر وأبدى ملاحظاته على ما قام به كوكس حيث قال في كتابه الكويت وجاراتها
1/278 ـ 28: (لقد أخطأ السير بيرسي كوكس وفي اجتماع عام للمؤتمر أخذ كوكس قلما
أحمر ورسم على الخريطة خطا وأعطى العراق مساحة كبيرة من الأراضي التي تدعي نجد
ملكيتها، وحرم الكويت بدون شفقة من ثلثي أراضيها تقريبا، وظل خط الحدود الذي رسمه
بيرسي قائما لم يتغير إلى الآن).
لقد كان شأن تلك الحدود عبثيا وعبطيا كما عبر دكسون عن ذلك في كتابه
الكويت وجاراتها 1/284 حيث قال: (إن الحدود الاعتباطية التحكمية بين العراق ونجد
كانت في رأيي خطأ كبيرا، إذ حصرت تنقلات قبائل نجد السنوية ربما ولأول مرة في
التاريخ باتجاه الشمال، إن المشكلة قد حلت حسب المقاييس الأوربية وليس حسب تلك
المقاييس المفهومة في العالم العربي ولذلك لم ينجم عن تلك السياسة إلا المشاكل) إن
تسوية العقير-بشهادة الغربيين أنفسهم- ما هي إلا أفكار أوربية بعيدة عن طبيعة
الواقع العربي، حيث الحياة البدوية، والصحاري الواسعة بلا حدود، ففكرة الحدود
الثابتة لا يمكن أن تطبق على المساحات الواسعة من البوادي والصحاري في شبه الجزيرة
العربية التي لا يعترف بها المجتمع البدوي ولا يقرها بتاتا كما يقول الزيدي في
كتابه (عبد العزيز وبريطانيا) ص 203.
وقد رأى دكسون نفسه كيف تتم الرحلة السنوية للقبائل النجدية إلى
العراق وقد وصفها فقال في كتابه الكويت وجاراتها 1/282: (وصلنا الشق ـ منطقة جنوب
غرب الكويت ـ وكانت الجمال سارحة ترعى بعشرات الآلاف، وكانت تأتي من الجنوب الشرقي
باتجاه الشق جمال ثقيلة الأحمال تنقل الخيام والأمتعة، إنها الهجرة الشمالية
الغربية الكبرى لقبيلة مطير الخارجة من الصمان بعد أن وصلت لها أخبار المراعي
الجيدة وبرك الماء الكثيرة) ولوضوح هذه المشكلة وللتخلص من آثارها رأى بيرسي كوكس
ضرورة النص في تلك الاتفاقية على احترام حق القبائل في التنقل الحر بين الحدود
وعدم اعتراض طريقها في البحث عن المراعي كما هو شأنها منذ آلاف السنين وهذه الرحلة
السنوية ظلت هي الحالة السائدة إلى حدود سنة 1960م، وبدأت تندثر في حدود سنة 1970م؛
حيث استقرت أكثر القبائل التي كانت ترتحل شمالا وجنوبا ليبدأ آخر فصول مأساة
البدون الذين ظل آباؤهم يرعون الماشية ويرتحلون ما بين جنوب العراق وشمال الكويت
ونجد؛ كما نصت على ذلك الاتفاقيات حتى إذا قرروا أخيرا الاستقرار في الدول الحديثة
وترك حياة البادية وطي بيوت الشعر السوداء؛ فإذا هم فجأة يصبحون من حيث لا يعلمون
قبائل بلا هوية وبلا جنسية وبلا حقوق إنسانية! وللحديث بقية
......................
الحل المشروع لمشكلة
البدون
(1)
صحيفة الصباح 2 /12 /2008
كل ما سبق ذكره في المقالات السابقة هو تاريخ جذور مشكلة البدون الذين
ينتمون إلى القبائل العربية ـ خاصة القبائل الشمالية ـ التي ظلت تجوب الصحراء بعد
قيام الدول الحديثة دون أن يرتبطوا بأي دولة أو وطن لأنهم يرون أن الصحراء العربية
كلها وطنهم ووطن آبائهم وأجدادهم حتى إذا فرضت الظروف عليهم الاستقرار كانت الكويت
المكان الجاذب لهم فلم يأتوا كمهاجرين إذا المهاجرون هم الذين ينتقلون من بلد إلى
بلد أخرى أجنبية عنهم أما هؤلاء فهم قبائل عربية جوالة استقرت في جزء من الصحراء
التي هي وطنهم الكبير فكان هذا الجزء هو الكويت فلما تشكل الجيش الكويتي كانوا هم
أكثر أفراده واشتغلوا في كل الوظائف والأعمال على أنهم مواطنون كويتيون حيث لم
يستقروا أصلا في أي بلد قبل الكويت وكانوا يعاملون على هذا الأساس عقودا طويلة
وينتظرون منحهم الجنسية حتى طال الانتظار وولد الجيل الثاني ثم الثالث والرابع وهم
ينتظرون فهؤلاء هم الشريحة الأكبر عددا من البدون بالإضافة إلى فئة أخرى قليلة
العدد نسبيا هم ممن جاء قبل الاستقلال أو بعده بقليل من بلدان أخرى بقصد كسب الرزق
واستقر وظل ينتظر الجنسية وانقطعت علائقه ببلده الأصلي وولد الجيل الثاني والثالث
منهم لا يعرفون لهم وطنا إلا الكويت وهناك شريحة ثالثة هم أبناء أسر قديمة في
الكويت أهملهم آباؤهم أو رحلوا قديما وتركوا أسرهم أو أهملوا استخراج الجنسية ولم
يهتموا بها فماتوا ودفع أبناؤهم ثمن ذلك كله حيث لم يكن لهم من يعتني بشأنهم وقد
كنت أتابع بنفسي بعض قضايا هذه الشرائح ومعهم من المستندات الرسمية والوثائق ما
يستحقون بها الجنسية دون أدنى تردد لو كان هناك قانون وإنصاف!
فإذا كانت هذه هي جذور الأزمة وأساس المشكلة تاريخيا فإن استمرارها
سياسيا يرجع إلى أسباب أخرى أشد خطرا ومن ذلك أن سلطة القضاء الكويتي لا تشمل حق
النظر في قانون الجنسية منحا وسحبا وهو خلل دستوري خطير يتعلق في أخطر موضوع وهو
موضوع المواطنة التي يفترض أن تكون علاقة بين المواطن والدولة بسلطاتها الثلاث
التشريعية والتنفيذية والقضائية لا أن تكون علاقة المواطنة رهن يد السلطة
التنفيذية ممثلة بوزير الداخلية وهو ما يحول دون لجوء هذه الفئة للقضاء الكويتي في
أحق الحقوق الإنسانية وأخصها وهو حق المواطنة مع أن الوضع الطبيعي أن تشرع السلطة
التشريعية القانون الذي بموجبه يتم استحقاق الجنسية وتقوم السلطة التنفيذية بتطبيق
القانون على كل من تتحقق فيه الشروط وتكون السلطة القضائية هي الفيصل حين يتعرض
مواطن لحرمانه من حقوقه الإنسانية وللحديث بقية.
.....................
الحل المشروع لمشكلة
البدون
(2)
صحيفة الصباح 3 /12 /2008
كما إن من أسباب بقاء مشكلة البدون واستمرار وجودها التجاذبات
السياسية حيث تحولت من قضية إنسانية نبيلة إلى ورقة سياسية خطيرة يعبث بها الوزراء
والنواب وكان قانون تجنيس 2000 مواطن سنويا أحد هذه الأوراق إذ لا يعقل حل مشكلة
مئة وأربعين ألف إنسان بدون هوية بتجنيس ألفين فقط كل سنة وهو ما يعني بقاء
المشكلة سبعين سنة أخرى إذا لم يتكاثر عدد البدون! وكان الهدف من هذا القانون هو
ابتزاز النواب واستغلالهم لهذا الموضوع لتصبح الجنسية عرضة للمساومات بين الحكومة
والنواب وبلغ العبث ذروته في تخصيص الحكومة لكل نائب عدد من الجناسي فلهذا النائب
خمسين ولذاك مئة جنسية كوسيلة لشراء الذمم واستغلالها انتخابيا تماما كما تم
استغلال العلاج في الخارج للأغراض الانتخابية نفسها لنواجه أزمة أخلاقية كبرى
ضحيتها البدون المستضعفون وأبطالها الملأ المترفون وزاد المشكلة تعقيدا وفسادا ما
يشاع عن إمكانية شراء الجنسية من خلال دفع مبالغ مالية ضخمة تصل إلى خمسين ألف
دينار ليصبح حق المواطنة سلعة في سوق النخاسة تباع وتشترى وتوهب!
كما إن من الأسباب السياسية والاجتماعية والأخلاقية التي حالت دون حل
مشكلة البدون حلا جذريا الروح الفئوية البغيضة التي زاد أوارها خلال العقد الماضي
فإذا المجتمع يزداد تراجعا وتخلفا ليتخندق خلف فئوية بغيضة ومناطقية ضيقة وطائفية
وقبلية عصبية جاهلية لم يكن يعرفها المجتمع الكويتي قبل عقدين من الزمن وكان
للحكومة يد طولى في ذلك من خلال تقسيم الدوائر الانتخابية التي أدت إلى تعزيز هذه
الظواهر الاجتماعية والسياسية الخطيرة وتراجعت رابطة المواطنة بين فئات الشعب
الكويتي لتحل محلها رابطة الطائفة والقبيلة والمنطقة والفئة والفريج على نحو
صبياني سخيف وزاد الأمر خطورة أن يكون عرابوا هذه الظاهرة هم السياسيون
والبرلمانيون والقوى السياسية الإسلامية والليبرالية وأصبح البدون هم الضحية بين صراع
فئات المجتمع فهناك من يرفض تجنيس البدون لأنهم بدو وسيختل التوازن السكاني في
الكويت لصالح البدو والمناطق الخارجية! وهناك من يرى أن كثيرا من البدون شيعة
وسيزيد من نسبة الشيعة في الكويت! وأصبح الجميع يعيش هوسا وجنونا أشبه بقصة نهر
الجنون لا تكاد تفاتح أحدا في موضوع البدون حتى يفاجئك بكأس من نهر الجنون ونسي
الجميع في غمرة هوسهم وجنونهم أن هناك أطفال ونساء وشيوخ يئنون تحت وطأة هذا الظلم
الذي فرق شملهم وأطال ليل معاناتهم وأن القضية ليست قضية سياسية بل هي في الدرجة
الأولى قضية إنسانية وقانونية وشرعية وللحديث بقية.
......................
الحل المشروع لمشكلة
البدون
(3)
صحيفة الصباح 4 /12 /2008
لقد طرحنا في حزب الأمة مشروعا كاملا لحل مشكلة البدون حلا جذريا
وضمناه مشروع الإصلاح السياسي للحزب منذ تأسيسه وقد بادر الأخ النائب السابق عبد
الله عكاش إلى تبنيه وتقديمه لمجلس الأمة كمشروع قانون ينص على تجنيس كل من لديه
إحصاء سنة 1965 أو شارك في حرب 67 أو 73 أو حرب تحرير الكويت وكل من ولد على أرض
الكويت من أبناء البدون وكذلك تجنيس كل من لم يثبت أن لديه جنسية دولة أخرى وقد
كان هذا الموقف الذي تبناه الحزب موقفا مبدئيا يتوافق مع أحكام الشريعة الإسلامية
التي قررت المساواة بين المسلمين جميعا في الحقوق والواجبات في أي بلد إسلامي حيث
يعد حرمانهم من حقوقهم الإنسانية ظلما وتعديا لا تقره الشريعة الإسلامية تحت أي
ذريعة كما أن حرمانهم من حقوقهم السياسية وحقهم في الجنسية يتعارض كذلك مع النصوص
القطعية التي تقرر مبدأ المساواة في الأحكام الشرعية بين المسلمين فليس في الشريعة
الإسلامية إنسان بدون هوية يتم انتقاص حقوقه بفقدها بل كل مسلم وإنسان يثبت أنه
بلا هوية يكتسب هوية البلد الإسلامي التي يوجد فيها وليس عليه إثبات عكس ذلك بل
البينة على المدعي واكتسابه لهذا الحق لا يحتاج إلى دليل بل حرمانه هو الذي يحتاج
إلى دليل كما أن هذا المواقف يتوافق مع المواثيق والمعاهدات الدولية لحقوق الإنسان
التي أوجبت على كل دول العالم حل مشكلة غير محددي الجنسية حلا جذريا واحترام
حقوقهم وكرامتهم الإنسانية ومن ذلك اتفاقية حقوق الطفل التي نصت على حق كل مولود
من أبناء هذه الفئة في الحصول على جنسية الأرض التي ولد عليها ويعد هذا المولود
مواطنا تلقائيا لهذه الدولة وهذا يعني أن تسعة وتسعين بالمئة من البدون اليوم
يستحقون الجنسية استحقاقا تلقائيا حيث أنهم يمثلون الجيل الثاني والثالث والرابع
وكان الأجدر بالقوى السياسية والحكومة تبني هذا الموقف أما القوى الإسلامية فلكون
القضية قضية شرعية بلا خلاف وأما القوى الديمقراطية والليبرالية فلكون هذا ما
ينسجم مع مبادئ الميثاق الدولي لحقوق الإنسان وأما الحكومة فلأنها ملزمة بحسب
المواثيق الدولية بحل هذه المشكلة وهو ما سيحدث فعلا إذ لا حل أمام الحكومة سوى
المبادرة لتجنيس البدون إن لم يكن مراعاة للظروف السياسية فالتزاما بالمواثيق
الإنسانية والمبادئ الدستورية وفي تأجيل الحل تأخير لفرصة اندماج البدون في
المجتمع وتعزيز روح المظلومية لديهم مع أنهم يمثلون حلا ناجعا لمشكلة الفقر
السكاني الذي تعاني منه الكويت وعلاجا لاختلال التركيبة السكانية الخطير وقوة عمل
اقتصادي فعال وفي اندماجهم بعث للحياة وللحيوية في مجتمع راكد ركود اليأس والإحباط
يفتقد لطموح هذه الطبقة التي ستناضل لتأخذ مكانها الطبيعي في المجتمع وهو ما سيبعث
الحياة فيه من جديد!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مواضيع ذات صلة:
قضية البدون والحل المشروع
كتاب عبيد بلا أغلال