كلمات في السياسة الشرعية – مفاهيم فيها نظر
2002م
قال لي وهو
يحاورني: ألا ترى بأن ما تدعو إليه من التصدي للظلم والدفاع عن الحقوق والحريات
سيكون له أثر سلبي على الدعوة الإسلامية ويفوت عليها مصالح أكبر؟
فقلت له:
وكيف ذلك؟
قال: سيؤدي
ذلك إلى التضييق عليها وستحرم من الوصول إلى الناس ودعوتهم إلى هذا الدين كما حصل
في دول كثيرة.
فقلت له: هل
هؤلاء الناس الذين نريد دعوتهم من المسلمين أم لا؟ وهل هذه المجتمعات إسلامية أم
لا؟
قال: بل هم
مسلمون من مجتمعات إسلامية، إلا أنهم في حاجة إلى فهم الدين والعودة إليه.
فقلت له: إن
كانوا كذلك، فلهم علينا حقوق المسلم على المسلم، ومن ذلك نصرة المظلوم وإغاثة
الملهوف كما جاء في الحديث الصحيح، وكما أوجب العلماء بالإجماع وجوب جهاد الدفع
عنهم إذا دهمهم العدو ويكون الجهاد عنهم فرض عين حينئذ، وقد نموت جميعا ويخلفنا
فيهم من لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، فأين هي مصلحة الدعوة؟!
فقال: لا
أدري!!
قلت له:
المشكلة تكمن في ثلاثة أمور.
الأمر
الأول: في خلق الإشكالية بين الدعوة ومصالحها والمجتمع ومصالحه، دون تفريق بين
المجتمع المكي الجاهلي الذي كانت الدعوة الإسلامية ومصالحها فيه تصطدم بالمجتمع
الجاهلي ومصالحه اصطداما مباشرا، والمجتمع الإسلامي الذي مصلحة الدعوة هي مصلحته
وهي جزء منه وهو الكل الذي يجب تقديم مصالحه على مصالح الحركة الإسلامية عند
التعارض. لذلك فلا يمكن السكوت عن استبداد السلطة وانتهاكها لحقوق هذا المجتمع
المسلم وحرياته ومصالحه حفاظا على مصلحة الحركة الإسلامية وعلاقتها بالسلطة، إذ
المصالح التي أوجب العلماء مراعاتها هي المصالح الكلية العامة للمسلمين لا المصالح
الخاصة لبعضهم عند التعارض. وقد صارت الحركة الإسلامية تقف مع السلطة بدعوى
المصلحة الشرعية الخاصة بها على حساب المصلحة العامة للمجتمع!! مع أن هذا السلوك
أيضا لن يكون في صالح الحركة إذ سيفقدها ثقة المجتمع وسيرفض دعوتها.
الأمر
الثاني: في مفهوم الدعوة التي يجب الحفاظ عليها كما تقول. إذ أنها عند التحقيق
ليست سوى الأنشطة الوعظية والدروس العامة التي كان السلف قديما يرونها من البدع
ويعيبون على القصاص (وهم الوعاظ) وعظهم للناس فكان مالك رحمه الله يذمهم ويقول:
(ما كان الناس يجتمعون إلا على مدارسة الفقه والقرآن)، فهذه الدعوة التي تتحدث
عنها إن لم تكن من البدع والمحدثات؛ فهي من المباحات أو المستحبات على أحسن
الأحوال؛ لحاجة المجتمعات اليوم إليها، إلا أنها لا يمكن أن تكون بأي حال من
الأحوال أهم من نصرة المظلوم وإغاثة الملهوف والصدع بالحق أمام السلطان الجائر؛
كما في الحديث: (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر) (وسيد الشهداء حمزة ورجل قام
إلى إمام جائر فنهاه وأمره فقتله). فتلك حقوق وواجبات على المسلم لأخيه المسلم لا
يمكن التفريط بها بدعوى المحافظة على السماح لنا بالوعظ الذي لم يقل أحد بوجوبه أو
استحبابه. كما أن الدعوة لا تتعطل بالمنع من الوعظ الذي تقوم به وزارات الأوقاف بل
الدعوة تكون بكل وسيلة مشروعة ممكنة وليس بالضرورة في المساجد.
الأمر
الثالث: وهو الإشكالية الأشد خطورة في مفهوم الدين ذاته. هذا الدين الذي تدعو
الحركة الإسلامية الناس إليه في وقتنا الحالي. فإذا كانت لا تدعو إلى الدين الذي
نزل ﴿ليقوم الناس
بالقسط﴾ ولم تعن بالعدالة الاجتماعية والدعوة إلى تحرير الإنسان من العبودية لغير
الله والتصدي للآلهة البشرية التي أنزلت نفسها منزلة من لا يسأل عما يفعل وهم
يسألون، وإذا لم تدع إلى المساواة بين الناس ورفع الظلم عنهم، وهذا ما أدركه الناس
في العهد المكي حتى بادر المستضعفون إلى الدخول في هذا الدين العظيم الذي جاء
لتحريرهم من الظلم والطبقية والعبودية لغير الله ووعدهم بتحقيق المساواة والعدل
والحرية لهم وفيما بينهم، وعبّر عن ذلك ربعي بن عامر لرستم قائد الفرس حين أوجز له
في بيان حقيقة هذه الدعوة فقال: (إن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد
إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة
الدنيا والآخرة)، أقول إن لم تكن الحركة الإسلامية تدعو إلى هذا الدين؛ فإنها لا
تدعو إلى دين الإسلام الحق؛ بل تدعو إلى دين ممسوخ تم اختزال مبادئه العظيمة
ومقاصده الجليلة على مر القرون، وصارت الدعوة الإسلامية اليوم تدعو الناس إلى دين
لا تستقيم عليه حياتهم الدنيوية ولا تصلح به شؤونهم السياسية والاجتماعية، ولا
يمكن أن يكون هو الإسلام الذي جاء به النبي ﷺ بل هو أشبه
بالرهبانية منه بالحنيفية.
قال لي صاحبي وهو لا يزال يحاورني:
لماذا لا تدعو إذن إلى تطبيق الشريعة كدعوتك إلى الحرية السياسية ودفاعك
عن حقوق الإنسان؟ ألا ترى أن لها الأولوية؟
فقلت: إلى أي شريعة تريدني أن أدعو؟
قال: إلى الشريعة الإسلامية
طبعا.
قلت: التي جاء بها النبي ﷺ أم التي يدعو إليها كثير من الدعاة اليوم؟
قال: وما الفرق وهل هناك شريعتان؟
قلت: نعم! فالشريعة التي جاء بها النبي ﷺ هي الإسلام المنزل الذي أتت كل أحكامه من أجل صالح
الإنسان وصلاح دنياه وآخرته، كما قال تعالى: ﴿وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين﴾ وقال
تعالى: ﴿لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط﴾.
فالغاية من الشريعة وأحكامها تحقيق العدل والقسط، وهي رحمة للعالمين جميعا
ورحمة بهم؛ ولهذا رفعت عنهم الحرج والمشقة كما في قوله تعالى: ﴿ما جعل عليكم في الدين
من حرج﴾ وقال أيضا: ﴿يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر﴾؛ ليؤكد سبحانه أن
أحكامه كلها من أجل هذا الإنسان ورحمة به حتى لغير المؤمن؛ ولهذا رفع عنه الإكراه، فقال
سبحانه: ﴿لا إكراه في الدين﴾، وقال: ﴿من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر﴾، وقال جل
وعلا: ﴿أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين﴾، فجاءت الشريعة الإسلامية وأقرتهم على ما هم
عليه من شرك رفعا للحرج الذي يكون بالإكراه على ترك أديانهم التي يدينون بها مع
بطلانها، فقررت الشريعة مبدأ ﴿لا إكراه في الدين﴾ ومبدأ: (لهم ما لنا، وعليهم
ما علينا) من حيث الجملة رحمة بهم ورفقا؛ لتتأكد بذلك حقيقة أن الشريعة التي جاء بها
النبي ﷺ غايتها الإنسان مسلما
كان أو غير مسلم، فردا كان أو مجتمعا. أما الشريعة التي ينادي
بتطبيقها كثير من الدعاة اليوم؛ فليس غايتها الإنسان
بل السلطان!
قال صاحبي: وكيف ذلك؟!
قلت:
يتجلى ذلك في أمرين:
الأول: أنهم اختزلوا الشريعة وأحكامها، فإذا ما دعوا إليها
فإنما يقتصرون على الأحكام القضائية التي تخضع لها الأمة دون الأحكام
السياسية التي يجب أن تخضع لها السلطة، كحق الأمة
في اختيار السلطة وحقها في محاسبتها ونقدها وتقويمها عند انحرافها، وحق الأمة في
مقاومة طغيان السلطة وخلعها... إلخ، وحق الأمة في الرقابة على أموال الأمة ومحاسبة
السلطة على أوجه صرفها، الخ. مع إجماع الصحابة رضي الله عنهم على هذه الحقوق التي
هي أحكام شرعية سياسية قطعية.
الثاني: أنهم يريدون من الحكومات تطبيق الشريعة
بهذا المفهوم المختزل الخطير دون وجود ضمانات تجعل من تلك الأحكام القضائية نافذة
على الجميع؛ بما في ذلك السلطة ورجالها ليكتشف المجتمع أن هذه الأحكام القضائية لا
يخضع لها الجميع لعدم استقلال السلطة القضائية من جهة، ولكون السلطة غير ملزمة
بأحكام الشريعة السياسية التي تجعل للأمة الحق في تقويم السلطة وخلعها عند انحرافها من
جهة أخرى، كما قال أبو بكر في خطبته المشهورة الصحيحة: (إن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت
فقوموني. أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم). فإذا كان
الواقع كذلك ولم يتحقق خضوع الجميع للأحكام القضائية لاستبداد السلطة وعجز
الأمة، فقد انعدم العدل الذي هو الغاية التي جاءت الشريعة لتحقيقها رحمة بالإنسان.
وهذا سبب هلاك الأمم كما قال النبي ﷺ: (إنما أهلك من كان قبلكم أنهم إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق
فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد) وهذا معنى قوله
تعالى: ﴿وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون﴾، قال المفسرون: (ما كان الله
ليهلك الأمم بالشرك وحده ما داموا مصلحين بإقامة العدل فيما بينهم)، ولهذا قال
شيخ الإسلام ابن تيمية: (إن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ويخذل
الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة). فثبت بذلك أن الغاية من الشريعة التي ينادي بها كثير من
الدعاة اليوم غايتها السلطان لا الإنسان، خصوصا مع تعظيم شأن السلطان واعتقاد أنه ظل
الله في الأرض وأن طاعته من طاعة الله ورسوله والمبالغة في ذلك، وتحجيم دور الأمة
واستلاب حقوقها بدعوى السمع والطاعة... إلخ.
ولا سبيل إلى الإصلاح في نظرنا إلا بالدعوة إلى الإسلام وأحكامه
بشموليتها، ولا سبيل إلى تطبيق الأحكام الشرعية
القضائية إلا بعد تطبيق الأحكام الشرعية السياسية وترسيخ مفهوم الحرية!