(الحجج البينات
على حرمة الزيادة في الديات)
أ.د. حاكم المطيري
سؤال: السلام عليكم ورحمة الله.. ما حكم الزيادة على الدية الشرعية في الصلح؟
وما حكم أخذ المال للشفاعة في الديات؟ حيث تتشكل لجنة من مسئولين ووجهاء للسعي في عفو
أولياء الدم عن القاتل مقابل مبلغ باهض جدا يشترط في الصلح ثم يقوم الوجهاء بجمع المال
من قبيلة الجاني وغيرها بتفويض من الجاني أو أسرته فيدفع منه لهؤلاء الوجهاء ومن اشترك
معهم من مشاهير وسائل الإعلام في جمعه؟
الجواب: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته..
الشفاعة في الإصلاح بين الناس والعفو عن القصاص من أفضل القربات، كما قال
تعالى: ﴿لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ
أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾.
وكما في الحديث الصحيح عند أبي داود عن أنس بن مالك، قال: (ما رأيت النبي
ﷺ رفع إليه شيء فيه قصاص إلا أمر فيه بالعفو).
ومن المعروف والإصلاح بين الناس تحمل الحمالات في ديات القتل العمد، وهو
أن يقوم أهل الفضل بالتبرع بمال الصلح عن طيب نفس، ويضمنونه من أموالهم الخاصة لإصلاح
ذات البين، ولهم الأخذ من مال الزكاة من سهم الغارمين إذا عجزوا عنها، كما في الصحيح:
(لا تحل المسألة إلا لأحد ثلاثة.. ولرجل تحمل حمالة حتى يصيبها فيمسك).
أما تحصيل الديات فإن كان القتل خطأ فالعاقلة -وهم عصبة الجاني وعشيرته
من الرجال- هم من يتحملون الدية معه وتقسط عليهم لمدة ثلاث سنين، أو بحسب ما يرى القاضي.
ولا يجوز في القتل الخطأ الزيادة على الدية التي حددها الشارع، وإنما لولي
الدم العفو عن الدية كلها، أو عن بعضها، وأما الزيادة فيها على القدر الذي حدده الشارع
فهو ربا، كما في مجمع الأنهر في فقه الحنفية ٢/ ٦٢٧: (إذا كان القتل خطأ فإنه لا يجوز
الصلح بأكثر من الدية؛ لأنه دين ثابت في الذمة مقدر بقوله تعالى: ﴿وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ
إِلَى أَهْلِهِ﴾ فيكون أخذ أكثر منه ربا).
وقال ابن قدامة في المغني ٤/ ٣٦٩: (فأما إن صالح عن قتل الخطأ بأكثر من
ديته من جنسها، لم يجز، وبهذا قال الشافعي، ولنا أن الدية والقيمة ثبتت في الذمة مقدرة،
فلم يجز أن يصالح عنها بأكثر منها من جنسها، كالثابتة عن قرض أو ثمن مبيع، ولأنه إذا
أخذ أكثر منها فقد أخذ حقه وزيادة لا مقابل لها، فيكون أكل مال بالباطل).
والدية الشرعية مئة من الإبل بلا خلاف، أو ألف دينار ذهب، أو عشرة آلاف
درهم فضة إلى اثني عشر ألفا، أو مئتي بقرة، أو ألف شاة إن غلت وألفان إن رخصت الغنم،
أو ما يعادل هذه الأصناف كمئتي حلة من القماش، والحلة رداء وإزار، أو ما اصطلح عليه
أولياء الدم والجاني بالأقل من هذه الأصناف.
أما القتل العمد ففيه القصاص، أو العفو لوجه الله بلا مقابل، أو بالدية
الشرعية التي حددها الشارع، أو العفو عن بعض الدية، ولا تتحمل العصبة والعشيرة شيئا
من دية القتل العمد، ولا الصلح عنه.
قال ابن قدامة في المغني ٨/
٣٧٣: (أجمع أهل العلم على أن دية العمد تجب في مال القاتل، لا تحملها العاقلة).
وقال في ٨/ ٣٨٢: (روى ابن عباس، عن النبي ﷺ أنه قال "لا تحمل العاقلة عمدا، ولا صلحا، ولا اعترافا" وروي
عن ابن عباس موقوفا عليه، ولم نعرف له في الصحابة مخالفا، فيكون إجماعا).
قال القرطبي في تفسيره ٥/ ٣٢٥: (وأجمعوا على أن دية القتل العمد إذا رضي
بها أهل المقتول أنها في مال القاتل، ولا تحملها العاقلة واختلفوا في كونها حالة أو
مؤجلة).
وهي دية مقدرة ومحددة شرعا بلا خلاف وهي من حيث التقدير كدية القتل الخطأ،
كما قال ابن هبيرة في "اختلاف الأئمة" ٢/ ٢٣٠: (واتفقوا على أن دية الحر
المسلم مائه من الإبل في مال القاتل العامد إذا آل إلى الدية).
وقال ابن تيمية في مجموع الفتاوى ٣٤/ ١٣٩: (وأما القاتل عمدا ففيه القود،
فإن اصطلحوا على الدية جاز ذلك بالنص والإجماع، فكانت الدية من مال القاتل؛ بخلاف الخطأ
فإن ديته على عاقلته).
ولا يجوز على الصحيح الراجح أن يشترط أولياء الدم أكثر من الدية التي قدرها
الشارع؛ لأن دية القتل العمد مقدرة شرعا مع التغليظ في أوصافها، كدية القتل الخطأ مع
التخفيف في أوصافها، كما قال النبي ﷺ كما في الصحيحين: (ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين: إما يودى، وإما
أن يقاد).
وعن أبي شريح الخزاعي بإسناد صحيح
أن النبي ﷺ قال: (من أصيب بقتل، أو بخبل، فإنه يختار إحدى ثلاث: إما أن يقتص، وإما
أن يعفو، وإما أن يأخذ الدية).
وفي لفظ: (فمن قتل له بعد مقالتي هذه قتيل فأهله بين خيرتين: بين أن يأخذوا
العقل، وبين أن يقتلوا).
فلم يجعل لهم النبي ﷺ غير
هذين الخيارين القصاص أو الدية التي حددها الشارع، ولم يذكر صلحا في الأخبار الصحيحة
المشهورة.
وفي الترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (أن رسول الله ﷺ قال: "من قتل مؤمنا متعمدا دفع إلى أولياء المقتول، فإن شاءوا قتلوا،
وإن شاءوا أخذوا الدية، وهي ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة"، وما صالحوا
عليه فهو لهم، وذلك لتشديد العقل). قال الترمذي: حديث عبد الله بن عمرو حديث حسن غريب.
وهو كما قال الترمذي فهو حديث غريب خاصة قوله: (وما صالحوا عليه) فإنه
لا يصح مرفوعا إلى النبي ﷺ، بل هو من قول الراوي عمرو بن شعيب، وقد روي الحديث عن عمرو بن شعيب بغير
هذه الزيادة الشاذة، ويحمل قوله: (ما صالحوا عليه) يعني في أوصافها كأن يشترطوا أن
تكون خلفات حوامل مثلا، فهي زيادة بالصفة لا بالعدد، فهذا القدر الذي يمكن الصلح عليه
على فرض جوازه.
وقد أجاز الجمهور الصلح على أكثر من الدية المقدرة شرعا في القتل العمد،
وذهب بعض الفقهاء إلى المنع من الزيادة كدية القتل الخطأ، وهذا الذي رجحه ابن القيم
من حيث الدليل فقال في زاد المعاد ٣/ ٣٩٩: (الواجب أحد شيئين، إما القصاص، وإما الدية،
والخيرة في ذلك إلى الولي بين أربعة أشياء: العفو مجانا، والعفو إلى الدية، والقصاص،
ولا خلاف في تخييره بين هذه الثلاثة.
والرابع: المصالحة على أكثر من
الدية.
وفيه وجهان: أشهرهما مذهبا: جوازه.
والثاني: ليس له العفو على مال إلا الدية أو دونها، وهذا أرجح دليلا، فإن
اختار الدية سقط القود ولم يملك طلبه بعد).
فإذا قبل أحد من أولياء الدم الدية فقد سقط حقهم جميعا في القصاص، وإن
عجز القاتل بعد العفو وأعسر عن دفع الدية فليس لهم طلب القصاص، بل نظرة إلى ميسرة وتقسط
عليه.
فالزيادة على الدية المحددة شرعا غير جائزة على الصحيح؛ لأنها من تعدي
حدود الله ﴿وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾، بل ورد عن النبي
ﷺ النهي عن الزيادة على الدية بالعدد، وأن ذلك من أمر الجاهلية، كما رواه
ابن جرير بإسناد صحيح عن قتادة عن النبي ﷺ مرسلا.
ورجح هذا القول إمام المفسرين ابن جرير الطبري في تفسيره فقال (وأما معنى
قوله:﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء
إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ﴾، فإنه يعني: فاتباع
على ما أوجبه الله له من الحق قِبَل قاتل وليه، من غير أن يزداد عليه ما ليس له عليه
في أسنان الفرائض، أو غير ذلك، يكلفه ما لم يوجبه الله له عليه، كما عن قتادة قال:
بلغنا عن نبي الله ﷺ أنه قال: "من زاد أو ازداد بعيرا - يعني في إبل الديات وفرائضها
- فمن أمر الجاهلية".
وأما إحسان الآخر في الأداء، فهو أداء ما لزمه بقتله لولي القتيل، على
ما ألزمه الله وأوجبه عليه، من غير أن يبخسه حقا له قبله بسبب ذلك، أو يحوجه إلى اقتضاء
ومطالبة).
وقال البغوي في تفسيره (قوله تعالى: ﴿فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ﴾ أي على
الطالب للدية أن يتبع بالمعروف فلا يطالب بأكثر من حقه. ﴿وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾
أي على المطلوب منه أداء الدية بالإحسان من غير مماطلة، أمر كل واحد منهما بالإحسان
فيما له وعليه).
وقال القرطبي في تفسيره: (هذه الآية حض من الله تعالى على حسن الاقتضاء
من الطالب، وحسن القضاء من المؤدي، وهل ذلك على الوجوب أو الندب. فقراءة الرفع تدل
على الوجوب، لأن المعنى فعليه اتباع بالمعروف. قال النحاس:" فمن عفي له"
شرط والجواب،" فاتباع" وهو رفع بالابتداء، والتقدير فعليه اتباع بالمعروف).
وقال ابن حيان في تفسيره: (فاتباع من الولي بالمعروف، وأداء من القاتل
إليه بإحسان، والاتباع بالمعروف: أن لا يعنف عليه، ولا يطالبه إلا مطالبة جميلة، ولا
يستعجله إلى ثلاث سنين، يجعل انتهاء الاستيفاء.
والأداء بالإحسان: أن لا يمطله ولا يبخسه شيئا. وهذا مروي عن ابن عباس
في تفسير الاتباع والأداء.
وقيل: اتباع الولي بالمعروف أن لا يطلب من القاتل زيادة على حقه،
وقد روي في الحديث: "من زاد بعيرا في إبل الدية وفرائضها فمن أمر
الجاهلية".
وقيل الاتباع والأداء معا من القاتل، والاتباع بالمعروف أن لا ينقصه، والأداء
بالإحسان أن لا يؤخره. وقيل: المعروف حفظ الجانب ولين القول، والإحسان تطييب القول،
وقيل: المعروف ما أوجبه تعالى، وقيل: المعروف ما يتعاهد العرب بينها من دية القتلى).
فالواجب شرعا على ولي الدم إذا عفا: الاتباع بالمعروف، وليس الزيادة على
الدية الشرعية بدعوى الصلح من المعروف؛ بل من الإجحاف والعنت المحظور شرعا.
بل إن الصلح على أكثر من الدية الشرعية هو عين ما كان يفعله اليهود الذين
يحكمون بغير العدل والقسط وما أنزل الله في كتابه عليهم؛ ولهذا أمر القرآن بالقسط والمساواة
في القصاص والديات، وأمر حتى في الإصلاح بين الناس بالقسط، لا بالظلم والجور، فلا يجوز
أن تغير الديات بأكثر مما قدره الشارع لها، بدعوى الصلح؛ فإنه يفضي إلى عرف جاهلي بتفاوت
الديات بين فئة وأخرى، كما كان بين بني النضير الذين تضاعف دياتهم على بني قريظة!
كما قال ابن تيمية في الفتاوى ٢٨/ ٣٧٥: (فقضى رسول الله ﷺ أن المسلمين تتكافأ دماؤهم، أي تتساوى وتتعادل، فلا يفضل عربي على عجمي،
ولا قرشي أو هاشمي على غيره من المسلمين، ولا عالم أو أمير على أمي أو مأمور، وهذا
متفق عليه بين المسلمين؛ بخلاف ما كان عليه أهل الجاهلية وحكام اليهود! فإنه كان بقرب
مدينة النبي ﷺ صنفان من اليهود: قريظة والنضير، وكانت النضير تفضل على قريظة في الدماء،
فتحاكموا إلى النبي ﷺ في ذلك... فنزل قوله: ﴿فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ
عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم
بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين﴾. إلى قوله: ﴿فَلاَ تَخْشَوُاْ
النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَن لَّمْ يَحْكُم
بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُون﴾ ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا
أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ
بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ﴾.
فبين سبحانه وتعالى أنه سوى بين نفوسهم، ولم يفضل منهم نفسا على أخرى،
كما كانوا يفعلونه إلى قوله: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا
لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم
بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ
جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ إلى قوله: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ
وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُون﴾.
فحكم الله سبحانه في دماء المسلمين أنها كلها سواء خلاف ما عليه أهل الجاهلية.
وأكثر سبب الأهواء الواقعة بين الناس في البوادي والحواضر إنما هو البغي وترك العدل؛
فإن إحدى الطائفتين قد يصيب بعضها بعضا من الأخرى: دما أو مالا، أو تعلو عليهم بالباطل
ولا تنصفها، ولا تقتصر الأخرى على استيفاء الحق؛ فالواجب في كتاب الله الحكم بين الناس
في الدماء والأموال وغيرها بالقسط الذي أمر الله به، ومحو ما كان عليه كثير من الناس
من حكم الجاهلية، وإذا أصلح مصلح بينهما فليصلح بالعدل كما قال الله تعالى: ﴿وَإِن
طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ
إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ
اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ
يُحِبُّ الْمُقْسِطِين﴾ ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾.
وينبغي أن يطلب العفو من أولياء المقتول؛ فإنه أفضل لهم كما قال تعالى: ﴿وَالْجُرُوحَ
قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ﴾. قال أنس رضي الله عنه (ما
رفع إلى رسول الله ﷺ أمر فيه القصاص إلا أمر فيه بالعفو). رواه أبو داود وغيره. وروى مسلم
في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ (ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا وما تواضع أحد لله
إلا رفعه الله). وهذا الذي ذكرناه من التكافؤ: هو في المسلم الحر مع المسلم الحر).
وقال في الجواب الصحيح ٢/ ٤٣٤: (وأيضا فقد تحاكموا إليه في القود الذي
كان بين بني قريظة والنضير، وكان النضير أشرف من قريظة، فكان إذا قتل بعض إحدى القبيلتين
قتيلا من الأخرى فيقتلونه ولم يضعفوا الدية، وإذا قتل من القبيلة الشريفة قتلوا به
وأضعفوا الدية.. فلما بعث النبي ﷺ قتل
رجل من النضير رجلا من قريظة، فقالوا ادفعوه إلينا نقتله فقالوا بيننا وبينكم محمد
فأتوه فنزلت ﴿وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ﴾ والقسط: النفس بالنفس،
ثم نزلت ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ﴾.. ) انتهى كلام ابن تيمية.
وهذه هي السنة الصحيحة حتى في ديات أهل الذمة من غير المسلمين في دار الإسلام،
كما في مصنف عبد الرزاق في المصنف ١٠/ ٩٥ بإسناد صحيح عن معمر عن الزهري قال: (دية
اليهودي والنصراني والمجوسي وكل ذمي مثل دية المسلم، وكذلك كانت على عهد النبي ﷺ، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، حتى كان معاوية فجعل في بيت المال نصفها، وأعطى
أهل المقتول نصفا، ثم قضى عمر بن عبد العزيز بنصف الدية، فألغى الذي جعله معاوية في
بيت المال.
قال الزهري: وأحسب عمر رأى ذلك
النصف الذي جعله معاوية في بيت المال ظلما منه.
قال الزهري: فلم يقض لي أن أذاكر ذلك عمر بن عبد العزيز فأخبره أن قد كانت
الدية تامة لأهل الذمة.
قال معمر قلت للزهري: إنه بلغني أن ابن المسيب قال: دية الذمي أربعة آلاف؟
فقال الزهري: إن خير الأمور ما عرض على كتاب الله! قال الله تعالى: ﴿فدية مسلمة إلى
أهله﴾ أفإذا أعطيته ثلث الدية فقد سلمتها إليه؟!
قال عبد الرزاق: عن أبي حنيفة،
عن الحكم بن عتيبة، أن عليا قال: دية اليهودي والنصراني وكل ذمي مثل دية المسلم. قال
أبو حنيفة وهو قولي).
وكلام الزهري هو من كتابه المشهور آنذاك، وقد رواه الأئمة عنه، وقد نقله
الشافعي عنه في الأم ٧/ ٣٣٩، وكذا روى عنه ابن جريج هذا النص، كما رواه معمر عنه، كما
عند البيهقي في السنن الكبرى ٨/ ١٧٨ بإسناد صحيح عن جامع ابن جريج.
وكذا رواه أبو عروبة في الأوائل رقم ١٢٨ بأسانيد صحيحة عن شعيب بن أبي
حمزة وابن جريج كلاهما عن الزهري.
ورواه عنه أيضا ابن جرير الطبري في تفسيره ٩/ ٥١ من طريق إبراهيم بن سعد
عن الزهري.
ورواه ابن أبي شيبة في المصنف ٥/ ٤٠٧ عن ابن علية عن أيوب عن الزهري مختصرا
(دية المعاهد دية المسلم وتلا هذه الآية ﴿فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ﴾).
وهو مذهب فقهاء العراق وقضاتهم كإبراهيم النخعي والشعبي يروونه عن علي
وابن مسعود بلا خلاف بينهم.
وهو مذهب فقهاء مكة مجاهد وعطاء.
وإنما جعل معاوية نصفها لبيت المال؛ لأنه اعتبره وارثا للدية مع أولياء
المقتول، لأن المسلمين يقومون بواجب النصرة والحماية لغير المسلمين في دار الإسلام،
فاستحقوا مقابل ذلك نصف دياتهم تعود لبيت المال.
ورأى عمر بن عبد العزيز أن ذلك خلاف السنة فأبطله وأسقط ما يأخذه بيت المال
معهم، فرأى الزهري أن الإبطال وحده غير كاف أيضا، بل السنة والقسط والعدل أن تسلم الدية
كاملة لورثته لقوله تعالى: ﴿فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ﴾ يعني دية تامة
كاملة.
أما أخذ المال على الشفاعة فغير جائز بلا خلاف، كما قال الخطابي في غريب
الحديث ٢/ ٤٧٥: (وأما هدية الشفاعة فمكروهة على الوجوه كلها، وذلك لأنه إن كانت شفاعته
في باطل فقد أتي محظورا وأخذ محرما، وإن كانت في حق فقد أخذ على المعروف ثمنا).
وقال الماوردي في الحاوي الكبير ١٦/ ٢٨٧: (عن القاسم بن أبي أمامة عن النبي
ﷺ أنه قال: "من شفع لأحد شفاعة فأهدى له هدية عليها فقبلها فقد أتى
بابا عظيما من أبواب الربا ".
وهذا الحديث وإن كان مرسلا فسيظهر في الاستدلال به على ما يوجبه حكم الأصول.
ومهاداة الشافع معتبرة بشفاعته، وهي على ثلاثة أقسام:
أحدها: أن يشفع في محظور، من إسقاط حق، أو معونة على ظلم، فهو في الشفاعة
ظالم وبقبول الهدية عليها آثم، تحل له الشفاعة، ولا تحل له الهدية،
والقسم الثاني: أن يشفع في حق يجب عليه القيام به، فالشفاعة مستحقة عليه
والهدية عليه محظورة؛ لأن لوازم الحقوق لا يستعجل عليها.
والقسم الثالث: أن يشفع في مباح لا يلزمه، فهو بالشفاعة محسن لما فيها
من التعاون، وقد روي عن النبي - ﷺ - أنه
قال: " اشفعوا إلي، ويقضي الله على لسان رسوله ما يشاء ".
وللهدية على هذه الشفاعة ثلاثة أحوال:
إحداها: أن يشترطها الشافع فقبولها محظور عليه؛ لأنه يستعجل على حسن قد
كان منه.
والحال الثانية: أن يقول المهدي هذه الهدية جزاء على شفاعتك فقبولها محظور
عليه، كما لو شرطها؛ لأنها لما جعلت جزاء صارت كالشرط.
والحال الثالثة: أن يمسك الشافع عن اشتراطها ويمسك المهدي عن الجزاء بها
فإن كان مهاديا قبل الشفاعة، لم يمنع الشافع من قبولها ولم يكره له القبول، وإن كان
غير مهاد قبل الشفاعة كره له القبول، وإن لم يحرم عليه فإن كافأ عليها لم يكره له القبول).
وقال ابن رجب في شرح صحيح البخاري ٣/ ٣٥٦: (فدخل في تحريم الربا جميع أكل
المال بالمعاوضات الباطلة المحرمة، مثل ربا الفضل، فيما حرم فيه التفاضل، وربا النساء
فيما حرم فيه النسأ، ومثل أثمان الأعيان المحرمة، كالخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام،
ومثل قبول الهدية على الشفاعة، ومثل العقود الباطلة).
وقال ابن تيمية في مجموع الفتاوى ٢٨/ ٢٨٢ (وقد روى الإمام أحمد وأبو داود
في سننه عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ "من شفع لأخيه شفاعة فأهدى له عليها هدية فقبلها فقد أتى بابا عظيما
من أبواب الربا".
وروى إبراهيم الحربي عن عبد الله
بن مسعود رضي الله عنه قال: السحت أن يطلب الحاجة للرجل فتقضى له فيهدى إليه هدية فيقبلها.
وروي أيضا عن مسروق: أنه كلم ابن زياد في مظلمة فردها فأهدى له صاحبها
وصيفا فرده عليه وقال: سمعت ابن مسعود يقول: من رد عن مسلم مظلمة فرزأه عليها قليلا
أو كثيرا فهو سحت؛ فقلت: يا أبا عبد الرحمن ما كنا نرى السحت إلا الرشوة في الحكم قال:
ذاك كفر. فأما إذا كان ولي الأمر يستخرج من العمال ما يريد أن يختص به هو وذووه فلا
ينبغي إعانة واحد منهما إذ كل منها ظالم كلص سرق من لص وكالطائفتين المقتتلتين على
عصبيه ورئاسة؛ ولا يحل للرجل أن يكون عونا على ظلم).
والسعي في مثل هذه الشفاعات التي تضاعف فيها الديات فوق
القدر المشروع، ويؤخذ عليها عوض مالي؛ فيه عشرة محرمات:
الأول: أنه ظلم وإعانة على تعدي حدود الله وترك حكمه والقسط الذي أنزله في كتابه
إلى أحكام الجاهلية؛ بمضاعفة الديات في الدماء، مع مساواة الشرع بينها في القصاص والدية.
الثاني: أنه من إعانة أولياء الدم على أكل مال الجاني بغير وجه حق، بل هو من صور
الربا، إذ يكون له بالدية عشرة آلاف دينار فتصبح بالصلح عشرين ألف دينار، وهو من التحايل
الصريح على أحكام الربا.
الثالث: أنه يفتح بابا عظيما من أبواب أكل أموال الناس بالباطل فلا يعفو أحد لوجه
الله، ولا يعفو مقابل الدية التي حددها الله، بل تصبح الدماء سلعة يتغالون بها؛ وهذا
من أعظم الفساد الذي يجب سد ذرائعه.
الرابع: أنه من أوضح صور أكل الناس بالباطل إذا صار من يتحملها غير الجاني،
فيتكلف الناس دفع أموال طائلة لغير من يستحقها، عن من لم تجب عليه، من أموال من لا
علاقة له بالجناية.
الخامس: أن ذلك من أعظم أسباب الاستخفاف بالدماء إذا علم الجاني عمدا بأن غيره
يتحمل عنه الدية مهما ضوعفت عليه؛ وهو خلاف حكم الشرع الذي جعل الدية على العشيرة والعصبة
في القتل الخطأ، لا القتل العمد.
السادس: أنه وسيلة للتجارة بالدماء والعقوبات وتحويلها عن مقاصدها الشرعية التي
يراد منها الزجر عن القتل، فيتخذها سماسرة المال وسيلة كسب وتجارة وارتزاق، فيتفقون
مع ولي الدم على طلب ما يشاء من المال، ومع الجاني على تفويضهم بالجمع للمال من عموم
الناس، ويكون لهم جزء منه، فيقومون من خلال وسائل الإعلام بجمع الأموال من الناس، فيأخذون
نصيبهم بالشفاعة بالباطل.
السابع: أنها فتحت الباب لبعض المسئولين من ضعاف النفوس في الدخول في هذا الباب
وتشكيل لجان مصالحة وتسهيل عملها بشكل قانوني مقابل أخذ حصتهم منها، فصاروا يحرصون
على مضاعفة مبالغ الصلح ليتضاعف نصيبهم.
وقد تواترت الأخبار بوقوع مثل هذه الحوادث، وصار من يتولى جمع الأموال
لهذه اللجان شركات متخصصة، وتضع أعمالها جداول زمنية للقبائل، لتستغل أعرافهم الكريمة
في تعاونهم وتعاضدهم، فلا يفرغون من قبيلة حتى يبدأوا بالأخرى، وصارت تجارة من لا تجارة
له؛ ليزداد المسئولون الذين يقفون وراءها ثراء بالنصب والاحتيال، وهو من المحرمات القطعية؛
كما قال تعالى: ﴿وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ﴾.
الثامن: أن التعاون على مثل هذا الأمر مع معرفة حرمته وخطره وفساد ما يترتب عليه؛
ليس من التعاون على البر والتقوى بل من التعاون على الإثم والعدوان، كما قال ابن تيمية
في مجموع الفتاوى ٢٨/ ٢٨٣: (فإن التعاون نوعان: الأول: تعاون على البر والتقوى: من
الجهاد وإقامة الحدود واستيفاء الحقوق وإعطاء المستحقين؛ فهذا مما أمر الله به ورسوله.
ومن أمسك عنه خشية أن يكون من أعوان الظلمة فقد ترك فرضا على الأعيان أو على الكفاية؛
متوهما أنه متورع. وما أكثر ما يشتبه الجبن والفشل بالورع إذ كل منهما كف وإمساك. والثاني:
تعاون على الإثم والعدوان كالإعانة على دم معصوم، أو أخذ مال معصوم، أو ضرب من لا يستحق
الضرب ونحو ذلك، فهذا الذي حرمه الله ورسوله).
التاسع: أن مثل هذا يفضي إلى الضرر بمن لا عشيرة له تقوم به، فيضطر بسبب مضاعفة
الديات إلى ما لا يحل من سؤال الناس من غير عاقلته، وما يترتب على ذلك من الأذى والمنة
عليه، وهو خلاف الأمر القرآني ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ
بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾.
العاشر: أنه ينافي الرحمة التي حث الشارع عليها عند العفو عن القصاص وينافي الحكمة
منه؛ كما قال تعالى: ﴿ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ﴾، وليس في مضاعفة
الديات حتى تبلغ دية رجل واحد بالصلح دية مئة رجل بالشرع.
فالواجب شرعا منع هذا الأمر والتواصي على الحكم بما أنزل الله، ولزوم ما
شرعه وحدده وقدره النبي ﷺ، وترك المحدثات الجاهلية، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
27 /8 /1440هـ الموافق 2 / 5/
2019م
تنزيل الفتوى بصيغة pdf