رفع الإشكال وتحرير المقال
في الفرق بين حكم الديمقراطية وتولي الولايات السياسية
الحمد الله وكفى والصلاة والسلام على نبيه المصطفى وبعد..
فقد أشكل على بعض القراء الأفاضل ما ورد فيما كتبته في موضوع الانتخابات
كوسيلة لتولي الولايات السياسية، وكونها من مسائل الفروع الاجتهادية، وموضوع الديمقراطية
كنظام للحكم له أصوله العقائدية الفلسفية الغربية التي تتعارض مع حقيقة التوحيد في
الإسلام! وتحرير محل النزاع والفرق بينهما؛ هو في أن الديمقراطية نظام سياسي وعقائدي
يقوم على أساس حكم الشعب وحقه في التشريع المطلق، بناء على الفلسفة الليبرالية التي
تجعل حرية الفرد هي الأصل، وهي بهذا المفهوم الفكري والسياسي مناقضة لحقيقة التوحيد
في دين الإسلام، الذي هو الأساس الذي تقوم عليه الدولة والنظام السياسي الإسلامي، ابتداء
من توحيد الله في الملك والأمر والحكم وانتهاء بتوحيده في الطاعة. والشورى ركن من أركان
النظام السياسي في الإسلام، وهي تعبّر عن أصل الأخوة الإيمانية والمساواة التي هي حجر
الأساس في قيام المجتمع الإسلامي الإيماني وتحديد علاقة أفراده فيما بينهم؛ كما قال
عمر: (أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا)، وكذا علاقتهم بالسلطة التي يختارونها كوكيل عنهم
بالرضا والشورى؛ لتحكم بينهم بما أنزل الله، بلا تألهٍ بشري، ولا طغيان عليهم، ولا
ظلم لهم، بل هم جميعا (تتكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم)!
أما الانتخابات وهي الترشح للولايات، وتصويت الناخبين فيها لمن يختارونه
ليمثلهم في إدارة الدولة وسياسة شئونهم؛ فهي وسيلة للوصول إلى السلطة وممارستها سواء
كانت تنفيذية أو تشريعية برلمانية، فهي من باب الفروع الاجتهادية المصلحية، لا حرج
على من شارك فيها لتحقيق المصلحة ودفع المفسدة، ولا حرج على من يرى تحريمها لمن يراها
ذريعة لإقرار الديمقراطية بمفهومها الفكري الفلسفي!
كما بينته في كتابي (نحو وعي سياسي راشد)، وكتابي (الإعلام بأحكام الجهاد
في الشام) وكتابي (الخلافة والديمقراطية...أزمة مصطلحات أم صراع حضارات؟) وكتابي (مُختصر
الكلام عن الدولة والخلافة في الإسلام) وغيرها من كتبي.
وعامة فقهاء الأمة الذين أجازوا المشاركة في الانتخابات في كل بلدان العالم
الإسلامي على اختلاف أنظمتها منذ سقوط الخلافة حتى اليوم -وكذا أكثر الجماعات الإسلامية
التي تشارك فيها- لم يقصدوا فيما أجازوه إلا هذا المعنى الثاني الفقهي المصلحي، لا
الأول العقائدي الفلسفي!
وحتى من يدعو من الفقهاء أو الجماعات في خطابه الفقهي والإعلامي والسياسي
إلى (الديمقراطية) إذا سئل عن قصده أو وقف على كلامه من كتبه وفتاواه تبين أنه يريد
المعنى الثاني وهو المشاركة الشعبية في اختيار من يتولى السلطة، والوصول عبرها إلى
الولاية السياسية، لإقامة عدل ورفع ظلم، أو لتحقيق مصلحة ودفع مفسدة!
ولا يقصدون تقرير أو تعزيز الحكم بغير ما أنزل الله أو تعطيل شرعه وحكمه!
وهنا يأتي السؤال لتحرير محل النزاع هل تولي الولايات السياسية كرئيس حكومة
أو وزارة أو نيابة في نظام غير إسلامي، سواء في دار الإسلام وبلدان المسلمين أو خارجها،
وسواء عبر الانتخابات أم بواسطة تولية السلطان الأعلى لمن يتولى هذه الولايات تحته،
جائز أم حرام؟ وإذا كان محرما هل التحريم لذاته أم لغيره؟ وهل هو من باب الفروع الفقهية
الاجتهادية وسد الذريعة؟ أم من باب الشرك الذي يجب اجتنابه لذاته وإلا كان من نواقض
الإيمان والتوحيد؟
ففرق كبير بين بحث القضية كقضية عقائدية وبحثها كقضية فقهية اجتهادية؟
فأما فقهاء الأمة الذين أجازوا تولي مثل هذه الولايات السياسية - وهم عامة
فقهاء الأمة قديما وحديثا - فلم يشكل عليهم أن الأمر فيها من باب الفروع الفقهية الاجتهادية
المصلحية، وفي سورة يوسف دليل جلي على الجواز، فقد قرر يوسف عليه السلام في دعوته صاحبي
السجن إلى الإيمان أصل توحيد الله في الحكم والأمر والعبادة، كما في قوله تعالى عنه
في السورة: ﴿إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه﴾ ومع ذلك قال لملك مصر: ﴿اجعلني
على خزائن الأرض إني حفيظ عليم﴾، فلا تعارض بين دعوته لتوحيد الله في الحكم، وطلب الولاية
من ملك غير مؤمن، وبذلك احتج شيخ الإسلام ابن تيمية فقال كما في مجموع الفتاوى ٢٠/
٥٦: (ومن هذا الباب تولي يوسف الصديق على خزائن الأرض لملك مصر، بل ومسألته أن يجعله
على خزائن الأرض، وكان هو وقومه كفارا كما قال تعالى: {ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات
فما زلتم في شك مما جاءكم به} الآية وقال تعالى عنه: {يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون
خير أم الله الواحد القهار} {ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم...
إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم} الآية ومعلوم أنه مع كفرهم
لا بد أن يكون لهم عادة وسنة في قبض الأموال وصرفها على حاشية الملك وأهل بيته وجنده
ورعيته، ولا تكون تلك جارية على سنة الأنبياء وعدلهم، ولم يكن يوسف يمكنه أن يفعل كل
ما يريد وهو ما يراه من دين الله، فإن القوم لم يستجيبوا له لكن فعل الممكن من العدل
والإحسان، ونال بالسلطان من إكرام المؤمنين من أهل بيته ما لم يكن يمكن أن يناله بدون
ذلك، وهذا كله داخل في قوله : {فاتقوا الله ما استطعتم}.
فإذا ازدحم واجبان لا يمكن جمعهما فقدم أوكدهما لم يكن الآخر في هذه الحال
واجبا، ولم يكن تاركه لأجل فعل الأوكد تارك واجب في الحقيقة. وكذلك إذا اجتمع محرمان
لا يمكن ترك أعظمهما إلا بفعل أدناهما لم يكن فعل الأدنى في هذه الحال محرما في الحقيقة،
وإن سمي ذلك ترك واجب وسمي هذا فعل محرم باعتبار الإطلاق لم يضر. ويقال في مثل هذا
ترك الواجب لعذر وفعل المحرم للمصلحة الراجحة أو للضرورة؛ أو لدفع ما هو أحرم) انتهى
كلامه.
وشرع من قبلنا شرع لنا - على الصحيح كما تقرر في علم الأصول - إذا ثبت
في شرعنا، ولم يرد في شرعنا ما يعارضه، خاصة في أصول الدين وشرائع الأحكام العامة،
وقد ثبت في شرعنا ما يوافقه كما في السيرة النبوية مع النجاشي، فقد أسلم وأقره النبي
ﷺ على ولايته على الحبشة، ولم يوجب عليه ترك السلطة مع أنه لم يحكم بينهم
بشريعة الإسلام، إما لعدم قدرته وإخفائه إسلامه، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، ولا
يتعارض ذلك مع توحيده وإيمانه، كما يقرره ابن تيمية وغيره من الفقهاء، أو لأنه لم يتوجه
إليه الخطاب أصلا بأحكام الإمامة العامة، كما رجحته وفصلته في كتابي "تحرير الإنسان"؛
لأن داره لم تصبح دار إسلام، لا بإيمان أهلها طوعا واختيارا كأهل المدينة، ولا بفتحها
حربا كمكة، لتثبت الولاية للمؤمنين عليها، ولا إكراه في الدين، وهذا هو الأصل، وبهذه
السيرة النبوية مع النجاشي، احتج ابن تيمية كما قال في الفتاوى ١٩/ ٢١٧: (من بلغه دعوة
النبي صلى الله عليه وسلم في دار الكفر وعلم أنه رسول الله فآمن به وآمن بما أنزل عليه؛
واتقى الله ما استطاع كما فعل النجاشي وغيره ولم تمكنه الهجرة إلى دار الإسلام ولا
التزام جميع شرائع الإسلام؛ لكونه ممنوعا من الهجرة وممنوعا من إظهار دينه وليس عنده
من يعلمه جميع شرائع الإسلام: فهذا مؤمن من أهل الجنة. كما كان مؤمن آل فرعون مع قوم
فرعون، وكما كانت امرأة فرعون، بل وكما كان يوسف الصديق عليه السلام مع أهل مصر؛ فإنهم
كانوا كفارا ولم يمكنه أن يفعل معهم كل ما يعرفه من دين الإسلام؛ فإنه دعاهم إلى التوحيد
والإيمان فلم يجيبوه قال تعالى عن مؤمن آل فرعون: {ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات
فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا}. وكذلك
النجاشي هو وإن كان ملك النصارى فلم يطعه قومه في الدخول في الإسلام بل إنما دخل معه
نفر منهم؛ ولهذا لما مات لم يكن هناك أحد يصلي عليه فصلى عليه النبي صلى الله عليه
وسلم بالمدينة خرج بالمسلمين إلى المصلى فصفهم صفوفا وصلى عليه وأخبرهم بموته يوم مات
وقال: "إن أخا لكم صالحا من أهل الحبشة مات" وكثير من شرائع الإسلام أو أكثرها
لم يكن دخل فيها لعجزه عن ذلك، فلم يهاجر ولم يجاهد ولا حج البيت، بل قد روي أنه لم
يصل الصلوات الخمس ولا يصوم شهر رمضان ولا يؤد الزكاة الشرعية؛ لأن ذلك كان يظهر عند
قومه فينكرونه عليه وهو لا يمكنه مخالفتهم. ونحن نعلم قطعا أنه لم يكن يمكنه أن يحكم
بينهم بحكم القرآن والله قد فرض على نبيه بالمدينة أنه إذا جاءه أهل الكتاب لم يحكم
بينهم إلا بما أنزل الله إليه وحذره أن يفتنوه عن بعض ما أنزل الله إليه. وهذا مثل
الحكم في الزنا للمحصن بحد الرجم وفي الديات بالعدل؛ والتسوية في الدماء بين الشريف
والوضيع النفس بالنفس والعين بالعين وغير ذلك. والنجاشي ما كان يمكنه أن يحكم بحكم
القرآن؛ فإن قومه لا يقرونه على ذلك وكثيرا ما يتولى الرجل بين المسلمين والتتار قاضيا
بل وإماما وفي نفسه أمور من العدل يريد أن يعمل بها فلا يمكنه ذلك بل هناك من يمنعه
ذلك ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، وعمر بن عبد العزيز عودي وأوذي على بعض ما أقامه
من العدل وقيل: إنه سم على ذلك. فالنجاشي وأمثاله سعداء في الجنة وإن كانوا لم يلتزموا
من شرائع الإسلام ما لا يقدرون على التزامه بل كانوا يحكمون بالأحكام التي يمكنهم الحكم
بها. ولهذا جعل الله هؤلاء من أهل الكتاب قال الله تعالى: {وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن
بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك
لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب}).
فتأمل قول ابن تيمية في الاعتذار عن النجاشي وعدم حكمه بما أنزل الله بقول
(لا يكلف الله نفسا إلا وسعها)، فأنزل هذا الفعل منزلة الأحكام العملية التي تسقط بالعجز،
لا منزلة الأحكام الإيمانية وأصول الدين كمسائل التوحيد والشرك الذي لا يغفره الله
أبدا ﴿إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء﴾ ﴿لئن أشركت ليحبطن
عملك ولتكونن من الخاسرين﴾!
فإذا كان هذا حال النجاشي الذي زكاه النبي ﷺ وقال عنه: (أخ لكم صالح) وصلّى عليه، وشهد له بالولاية الإيمانية، وقد
أسلم النجاشي سنة ٥ من البعثة حين هاجر إليه المسلمون، وكانت وفاته سنة ٩ للهجرة بعد
غزوة تبوك، وبعد نزول عامة الشرائع والأحكام، فضلا عن أصول الدين وأحكام التوحيد القطعية،
وكانت الرسل تتتابع بينه وبين النبي ﷺ كما في قصة زواج أم حبيبة، ودفع النجاشي مهرها عن رسول الله ﷺ، وقد دام النجاشي على هذه الحال ١٥ سنة، ولو كان ما هو فيه من ولاية عامة
على بلده يتناقض مع إيمانه وتوحيده - كالقول بالتثليث وعبادة غير الله - لما أقره النبي
ﷺ، ولما أقره القرآن على ما هو عليه من شرك في الحاكمية!
ولهذا لم ير شيخ الإسلام ابن تيمية تعارضا بين حقيقة الإيمان والتوحيد
وأن يتولى مسلم القضاء أو الرئاسة للتتار إذا اجتهد في الحكم بالعدل، بحسب الاستطاعة،
مع ما هو معروف من رأيه في قانونهم الياسق وأن الحكم به كفر!
فقد سئل كما في الفتاوى ٣٥/ ٤٠٧: (عن رجل تولى حكومة على جماعة من رماة
البندق ويقول: هذا شرع البندق وهو ناظر على مدرسة وفقهاء: فهل إذا تحدث في هذا الحكم
والشرع الذي يذكره تسقط عدالته من النظر أم لا؟ وهل يجب على حاكم المسلمين الذي يثبت
عدالته عنده إذا سمع أنه يتحدث في شرع البندق الذي لا يشرعه الله ولا رسوله أن يعزله
من النظر أم لا؟.
فأجاب: الحمد لله، ليس لأحد أن يحكم بين أحد من خلق الله؛ لا بين المسلمين
ولا الكفار ولا الفتيان ولا رماة البندق ولا الجيش ولا الفقراء ولا غير ذلك: إلا بحكم
الله ورسوله. ومن ابتغى غير ذلك تناوله قوله تعالى {أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن
من الله حكما لقوم يوقنون} وقوله تعالى {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم
ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} فيجب على المسلمين أن يحكموا
الله ورسوله في كل ما شجر بينهم، ومن حكم بحكم البندق وشرع البندق أو غيره مما يخالف
شرع الله ورسوله وحكم الله ورسوله وهو يعلم ذلك: فهو من جنس التتار الذين يقدمون حكم
"الياسق" على حكم الله ورسوله ومن تعمد ذلك فقد قدح في عدالته ودينه ووجب
أن يمنع من النظر في الوقف).
فقد قيد الحكم هنا بالعلم (وهو يعلم) والقدرة والقصد (فمن تعمد ذلك)، وهو
قيد معتبر كما في قوله تعالى: ﴿يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت﴾ ﴿أفحكم الجاهلية
يبغون﴾ فقوله: (يريدون) و قوله (يبغون) وصف وقيد يخرج به من الذم والإثم من لم يرد
ذلك ولم يبغه ولم يرضه، وإنما حكم به أو تحاكم إليه لعدم القدرة على الحكم بما أنزل
الله، لا رغبة عن حكم الله ولا إعراضا عنه؛ ولهذا كان الشرك في ذلك هو شرك الطاعة،
كما في قوله تعالى: ﴿وإن أطعتموهم إنكم لمشركون﴾ قال القرطبي في تفسيره في هذه الآية
٧/ ٧٧: (فدلت الآية على أن من استحل شيئا مما حرم الله تعالى صار به مشركا. وقد حرم
الله سبحانه الميتة نصا، فإذا قبل تحليلها من غيره فقد أشرك. قال ابن العربي: إنما
يكون المؤمن بطاعة المشرك مشركا إذا أطاعه في الاعتقاد، فأما إذا أطاعه في الفعل وعقده
سليم مستمر على التوحيد والتصديق فهو عاص، فافهموه).
قلت: والصحيح أن من أطاع المشركين في تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل
فقد أشرك كما هو ظاهر الآية سواء استحله اعتقادا أو لم يستحله، إذ قوله: ﴿أطعتموهم﴾
دليل على الاتباع لهم اختيارا بلا إكراه، وهو حقيقة معنى طاوعه يطاوعه في اللغة إذا
وافقه عليه وتابعه اختيارا، ولا يقال للمكره على فعل شيء بأنه أطاع من أمره به، كما
قال البيضاوي في تفسيره: (فإن من ترك طاعة الله تعالى إلى طاعة غيره واتبعه في دينه
فقد أشرك).
ولهذا قابل القرآن بين لفظ الطوع والكره في قوله تعالى: ﴿ائتيا طوعا أو
كرها قالتا أتينا طائعين﴾ ﴿وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها﴾.
قال في تهذيب اللغة ٣/ ٦٦: (وقال الليث: الطوع: نقيض الكره، لتفعلنه طوعا
أو كرها، وطائعا أو كارها. وطاع له إذا انقاد له، فإذا مضى لأمره فقد أطاعه، وإذا وافقه
فقد طاوعه).
فثبت بذلك الفرق بين الصورتين فمن أطاع المشركين في حكمهم وتابعهم ووافقهم
على كفرهم وشركهم؛ فقد أشرك سواء استحل أو لم يستحل، ما دام فعل ذلك عالما مختارا طائعا،
بخلاف من لم يرد ذلك ولم يرضه، وإنما فعله مكرها، أو عاجزا عن الحكم بغيره!
فتبين بذلك الفرق بين الأصل الإيماني الاعتقادي والفعل الاختياري من جهة،
والفعل الاضطراري من جهة أخرى!
وكذا الفرق بين تولي الولاية والترشح لها والمشاركة في انتخاب من يتولاها
-سواء في دار الإسلام أو دار الكفر- الذي هو في حد ذاته فعل جائز، ومن باب العادات
لا العبادات، فإن قصد فاعله الإصلاح في الأرض والعدل؛ كان مأجورا لحسن قصده. وإن أراد
الظلم والعلو والفساد في الأرض؛ كان مأزورا لسوء قصده وفعله. أما إن أراد الوصول إلى
الولاية من أجل الحكم بغير ما أنزل الله أو منع الحكم بما أنزل الله؛ فهذا هو الحكم
بالطاغوت عينه، ويكون فاعله بذلك مشركا بنص القرآن.
ولا فرق في تولي الولايات السياسية بين من يتولاها بانتخاب الناس له أو
بتولية الحاكم الأعلى له، وسواء كان في بلد إسلامي، أو بلد غير إسلامي، وسواء كان في
سلطة تنفيذية أو برلمانية، فالولاية وسياسة شئون الناس في حد ذاتها جائزة، وإنما قد
تجب وتتعين في حق بعض الأفراد بحسب ما يترتب عليها من جلب مصلحة أو دفع مفسدة، وقد
تحرم من باب سد الذريعة إذا ترجحت المفسدة فيها لا لذاتها.
فمن قصد من المشاركة في الانتخابات في ظل نظام غير إسلامي الوصول للولاية
لتغيير الواقع وإصلاحه؛ فلا يعدو فعله هذا أن يكون من المسائل الفرعية الفقهية، سواء
قيل بالجواز وهو قول عامة الفقهاء، أو التحريم كما يقوله بعضهم، اجتهادا أو تقليدا،
بخلاف من يريد إقامة الديمقراطية نفسها كنظام سياسي وتشريعي بديلا عن الإسلام وحكمه
ونظامه السياسي، فهذه مسألة أصولية عقائدية، وهي من مسائل الإيمان والكفر. وإنما يعذر
المسلم الجاهل فيها والمتأول لها، فقد يقع من المسلم شرك وكفر جهلا أو تأويلا فلا يخرجه
ذلك من الإسلام؛ بخلاف من علم من حاله أنه عدو لله ورسوله يأبى طاعته واتباعه، فهذا
منافق إن تظاهر بأنه مسلم؛ كما هو حال المنافقين الذين يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت،
وهم يزعمون بأنهم مؤمنون، وإن أبدى ذلك وجاهر برفضه حكم الله ورسوله فهو كافر كفرا
أكبر مخرجا من الملة، كما قال ابن القيم في الصلاة وأحكامها ص ٥٦: (الكفر نوعان: كفر
عمل، وكفر جحود وعناد، فكفر الجحود أن يكفر بما علم أن الرسول جاء به من عند الله جحودا
وعنادا من أسماء الرب وصفاته وأفعاله وأحكامه، وهذا الكفر يضاد الإيمان من كل وجه.
وأما كفر العمل فينقسم إلى ما يضاد الإيمان، وإلى ما لا يضاده، فالسجود
للصنم والاستهانة بالمصحف وقتل النبي وسبه يضاد الإيمان، وأما الحكم بغير ما أنزل الله،
وترك الصلاة، فهو من الكفر العملي قطعا، ولا يمكن أن ينفى عنه اسم الكفر بعد أن أطلقه
الله ورسوله عليه، فالحاكم بغير ما أنزل الله كافر، وتارك الصلاة كافر بنص رسول الله
صلى الله عليه وسلم، ولكن هو كفر عمل لا كفر اعتقاد..
وهذا الكفر لا يخرجه من الدائرة الإسلامية والملة بالكلية، كما لا يخرج
الزاني والسارق والشارب من الملة، وإن زال عنه اسم الإيمان، وهذا التفصيل هو قول الصحابة
الذين هم أعلم الأمة بكتاب الله وبالإسلام والكفر ولوازمهما، فلا تتلقى هذه المسائل
إلا عنهم، فإن المتأخرين لم يفهموا مرادهم فانقسموا فريقين فريقا أخرجوا من الملة بالكبائر،
وقضوا على أصحابها بالخلود في النار، وفريقا جعلوهم مؤمنين كاملي الإيمان، فهؤلاء غلوا
وهؤلاء جفوا، وهدى الله أهل السنة للطريقة المثلى، والقول الوسط الذي هو كالإسلام في
الملل، فها هنا كفر دون كفر، ونفاق دون نفاق، وشرك دون شرك، وفسوق دون فسوق، وظلم دون
ظلم..
وههنا أصل آخر وهو أن الرجل قد يجتمع فيه كفر وإيمان، وشرك وتوحيد، وتقوى
وفجور، ونفاق وإيمان، هذا من أعظم أصول أهل السنة، وخالفهم فيه غيرهم من أهل البدع
كالخوارج والمعتزلة والقدرية.
ومسألة خروج أهل الكبائر من النار
وتخليدهم فيها مبنية على هذا الأصل، وقد دل عليه القرآن والسنة والفطرة وإجماع الصحابة.
قال تعالى: {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون}. فأثبت لهم إيمانا به سبحانه مع
الشرك).
هذا باختصار الإجابة عن هذه المسألة الشائكة وفي كتبي المطولة التفصيل فيها.
والله الهادي إلى سواء السبيل..
========================
22 صفر 1441هـ / 21 أكتوبر 2019م
========================
مواضيع ذات صلة:
حكم التصويت في الانتخابات