كفى عبثا بأحكام الدين
.. أيها الجاهلون!
20 شوال 1441
12 يونيو 2020
إذا كان التباعد المشروط لفتح المساجد جائزا بناء على حكم رص الصفوف وتسويتها
غير الواجب عند الجمهور -كما ورد في فتوى علماء قطر واستدلالهم- فعدم الرص لا يبطل
الجماعة فضلا عن الصلاة نفسها، فلا معنى لذكر الضرورة والحاجة هنا، بل حتى لو لم تكن
هناك ضرورة ولا حاجة، فعدم رصها وعدم تسويتها لا يبطلها عند الجمهور!
وليس البحث هنا في التسوية وسد الفرج! وإنما البحث في هل هذا التباعد
المشروط من منظمة الصحة العالمية لفتح المساجد هو انعدام للتسوية والرص فقط أم فقدٌ
لهيئة الاجتماع نفسها فلا يصدق عليها أصلا بأنها صلاة جماعة! بل هي صلاة فرقة وافتراق!
وهي صلاة فرادى في المسجد سواء قيل هي صحيحة في نفسها، وإن بطلت جماعة، أو قيل هي باطلة
أصلا، ويجب على المصلين بهذه الهيئة أن يعيدوها؟ وذلك للحديث الصحيح في المسند والسنن
وصحيح ابن خزيمة وابن حبان عن علي بن شيبان الحنفي قال (صليت خلف رسول الله ﷺ، فانصرف، فرأى رجلا يصلي فردا خلف الصف، فوقف نبي الله ﷺ حتى انصرف الرجل من صلاته، فقال له: استقبل صلاتك، فلا صلاة لفرد خلف
الصف).
ولحديث وابصة بن معبد في المسند والسنن وصحيح ابن حبان قال (صلى رجل خلف
الصف وحده، فأمره النبي ﷺ أن يعيد).
وقد بوب عليه ابن خزيمة في صحيحه باب (باب الزجر عن صلاة المأموم خلف الصف
وحده والبيان أن صلاته خلف الصف وحده غير جائزة، يجب عليه استقبالها، وأن قوله: لا
صلاة له من الجنس الذي نقول: إن العرب تنفي الاسم عن الشيء لنقصه عن الكمال).
وقد رد ابن خزيمة على من خالف هذه السنة الصحيحة فقال (واحتج بعض أصحابنا
وبعض من قال بمذهب العراقيين في إجازة صلاة المأموم خلف الصف وحده بما هو بعيد الشبه
من هذه المسألة، احتجوا بخبر أنس بن مالك أنه صلى وامرأة خلف النبي ﷺ، فجعله عن يمينه، والمرأة خلف ذلك، فقالوا: إذا جاز للمرأة أن تقوم خلف
الصف وحدها، جاز صلاة المصلي خلف الصف وحده وهذا الاحتجاج عندي غلط؛ لأن سنة المرأة
أن تقوم خلف الصف وحدها إذا لم تكن معها امرأة أخرى، وغير جائز لها أن تقوم بحذاء الإمام
ولا في الصف مع الرجال، والمأموم من الرجال إن كان واحدا، فسنته أن يقوم عن يمين إمامه،
وإن كانوا جماعة قاموا في صف خلف الإمام حتى يكمل الصف الأول، ولم يجز للرجل أن يقوم
خلف الإمام والمأموم واحد، ولا خلاف بين أهل العلم أن هذا الفعل لو فعله فاعل - فقام
خلف إمام ومأموم قد قام عن يمينه - خلاف سنة النبي ﷺ، وإن كانوا قد اختلفوا في إيجاب إعادة الصلاة، والمرأة إذا قامت خلف الصف
ولا امرأة معها ولا نسوة فاعلة ما أمرت به وما هو سنتها في القيام، والرجل إذا قام
في الصف وحده فاعل ما ليس من سنته، إذ سنته أن يدخل الصف فيصطف مع المأمومين، فكيف
يكون أن يشبه ما زجر المأموم عنه - مما هو خلاف سنته في القيام - بفعل امرأة فعلت ما
أمرت به مما هو سنتها في القيام خلف الصف وحدها؟ فالمشبه المنهي عنه بالمأمور به مغفل
بين الغفلة مشبه بين فعلين متضادين، إذ هو مشبه منهيا عنه بمأمور به، فتدبروا هذه اللفظة
يبن لكم بتوفيق خالقنا حجة ما ذكرنا. وزعم مخالفونا من العراقيين في هذه المسألة أن
المرأة لو قامت في الصف مع الرجال حيث أمر الرجل أن يقوم أفسدت صلاة من عن يمينها،
ومن عن شمالها، والمصلي خلفها، والرجل مأمور عندهم أن يقوم في الصف مع الرجال، فكيف
يشبه فعل امرأة - لو فعلت أفسدت صلاة ثلاثة من المصلين - بفعل من هو مأمور بفعله؟ إذا
فعله لا يفسد فعله صلاة أحد).
وكل هذا الجدل هو في صحة صلاة الفرد الواحد خلف صفوف جماعة مرصوصة، أما
مع انعدام جماعة وصف يصلي المنفرد خلفهم فالمسألة مختلفة تماما!
ومع وضوح الفرق بين وجود الصفوف دون تسوية ورص، وهي التي اختلف فيها الفقهاء
قديما، كما في المصلي خلف الصف، وعدم وجود الصفوف نفسها وعدم تحقق هيئة الجماعة في
ذاتها - فضلا عن صفة الرص والتسوية لها وهي المشروطة لفتح المساجد اليوم - ما زال من
المتفقهة من يحاول جاهدا الخلط بين الصورتين!
وهنا يأتي السؤال المتكرر في كل نازلة كيف يدخل الوهم على المتفقهة المعاصرين
حتى نقضوا الإجماع في كثير من المسائل مع ظهور حكمها بالنص والإجماع؟
والسبب كما يبدو يعود لطبيعة موضوع كتب الفقه نفسها!
فقد بدأ تأليف كتب الفقه الإسلامي في أواخر القرن الأول الهجري بالخلافيات
بذكر ما ذهب إليه فقهاء العراق والحجاز، وتطور بذكر حجج كل فريق كما في كتاب (الحجة
على أهل المدينة) لمحمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة، ولم يتعرضوا للإجماعيات؛
لأنها اتفاقية، ولا يصدق عليها بأنها مذهب لأحد دون أحد فليست محلا للخلاف والذكر!
وكان هذا الأمر معلوما في شأن كتب الفقه عند الفقهاء قديما، وأنها تأسست
على ذكر مذهب كل من فقهاء الحجاز والعراق، وأنهم لا يذكرون فيها عادة الإجماعيات للعلم
بها، ولعدم دخولها في معنى الفقه الذي هو الفهم والاستنباط، بل هي النص والشرع نفسه،
فلما طال الأمد ونشأ من المتفقهة من خفي عليهم هذا الأمر البدهي، صاروا إذا لم يجدوا
المسألة مذكورة في كتب الفقة ظنوها نازلة تحتاج إلى اجتهاد منهم! حتى خفي عليهم اليوم
الفرق بين مسألة رص الصفوف وتسويتها الخلافية، وهيئة الصفوف الإجماعية!
وقد جاء بعد ذلك من نص من علماء الأصول كالإسفرائيني والزركشي وابن تيمية
على أن مسائل الإجماع أكثر من مسائل الخلاف، وذلك أنه نشأ تصور خاطئ عند المتفقهة بأن
الإجماع قليل لعدم ذكره في كتب الفقه والمذاهب التي صُنفت في ذكر الخلافيات والمذهبيات
حتى غدت الخلافيات أشهر مع أن الإجماعيات أكثر!
فقال الزركشي في كتابه الأصولي البحر المحيط ٦/ ٣٨٤ (وقال الأستاذ أبو
إسحاق الإسفراييني في " شرح الترتيب ": نحن نعلم أن مسائل الإجماع أكثر من
عشرين ألف مسألة. وبهذا يرد قول الملحدة إن هذا الدين كثير الاختلاف، إذ لو كان حقا
لما اختلفوا فيه، فنقول: أخطأت بل مسائل الإجماع أكثر من عشرين ألف مسألة. ثم لها من
الفروع التي يقع الاتفاق منها وعليها، وهي صادرة عن مسائل الإجماع التي هي أصول أكثر
من مائة ألف مسألة، يبقى قدر ألف مسألة هي من مسائل الاجتهاد، والخلاف في بعضها يحكم
بخطأ المخالف على القطع وبفسقه، وفي بعضها ينقض حكمه، وفي بعضها يتسامح، ولا يبلغ ما
بقي من المسائل التي تبقى على الشبهة إلى مائتي مسألة. انتهى).
وقال ابن تيمية في الفتاوى ٧/ ٣٥٧ (ما أجمع عليه المسلمون من دينهم الذي
يحتاجون إليه أضعاف أضعاف ما تنازعوا فيه. فالمسلمون: سنيهم وبدعيهم متفقون على وجوب
الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ومتفقون على وجوب الصلاة والزكاة
والصيام والحج ومتفقون على أن من أطاع الله ورسوله فإنه يدخل الجنة؛ ولا يعذب وعلى
أن من لم يؤمن بأن محمدا رسول الله - ﷺ - إليه فهو كافر وأمثال هذه الأمور التي هي أصول الدين وقواعد الإيمان
التي اتفق عليها المنتسبون إلى الإسلام والإيمان فتنازعهم بعد هذا في بعض أحكام الوعيد
أو بعض معاني بعض الأسماء أمر خفيف بالنسبة إلى ما اتفقوا عليه، مع أن المخالفين للحق
البين من الكتاب والسنة هم عند جمهور الأمة معروفون بالبدعة)!