حكم تعزية أهل الكتاب
والاستغفار لموتاهم والترحم عليهم
الشيخ أ.د. حاكم
المطيري
س/ شيخنا ما حكم التعزية والاستغفار لغير المسلمين فقد
كثر الجدل في هذه القضية؟
ج/ الولاية بين المسلمين وغير المسلمين سواء من أهل دار الإسلام أو من
حلفائهم في غيرها ممن يوالي المسلمين وينصرهم هي ولاية سياسية إنسانية دنيوية؛
توجب لهم النصرة والعدل والبر والمعرف والمواساة والإحسان بنص القرآن: ﴿لا
يَنهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذينَ لَم يُقاتِلوكُم فِي الدّينِ وَلَم يُخرِجوكُم
مِن دِيارِكُم أَن تَبَرّوهُم وَتُقسِطوا إِلَيهِم إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
المُقسِطينَ﴾ [الممتحنة: ٨]
وبموجب هذه الولاية نصر النبي ﷺ خزاعة وكانوا على شركهم، حين اعتدت عليهم بكر وقريش، وكان ذلك السبب
في فتح مكة، وقال ﷺ حين استنصره عمرو الخزاعي: (نُصرت يا عمرو بن سالم)، وروى الواقدي في
المغازي أنه قال ﷺ: (لا نُصرت إن لم أنصر بني كعب مما أنصر منه نفسي).
وليست تلك ولاية دينية إيمانية أخروية توجب لهم الصلاة على موتاهم،
والدعاء والاستغفار لهم، المخصوصة بالمؤمنين بنص القرآن: ﴿ما كانَ لِلنَّبِيِّ
وَالَّذينَ آمَنوا أَن يَستَغفِروا لِلمُشرِكينَ وَلَو كانوا أُولي قُربى﴾
[التوبة: ١١٣]
وقد بيّن النبي ﷺ
الفرق بين الولايتين السياسية والدينية وأحكامهما في قوله في صحيفة المدينة: (وإن
يهود بني عوف أمة من المؤمنين للمسلمين دينهم، ولليهود دينهم). قال الإمام أبو
عبيد القاسم بن سلام في كتاب "الأموال" ص ٢٦٦ (وقوله: "وإن يهود
بني عوف أمة من المؤمنين" إنما أراد نصرهم المؤمنين ومعاونتهم إياهم على
عدوهم بالنفقة التي شرطها عليهم، فأما الدين فليسوا منه في شيء ألا تراه قد بين
ذلك فقال: لليهود دينهم وللمؤمنين دينهم).
وكذا قال ابن الأثير في "النهاية في غريب الحديث" ١/ ٦٨: (يريد
أنهم بالصلح الذي وقع بينهم وبين المؤمنين كجماعة منهم، كلمتهم وأيديهم واحدة).
وقال السمين الحلبي في "عمدة الحفاظ" ١/ ١٢٠: (وفي الحديث:
"إن يهود بني عوف أمة من المؤمنين" تأويله أنهم بالصلح الذي حصل بينهم
وبين المؤمنين كأمة من المؤمنين، كلمتهم وأيديهم واحدة).
ويدخل في البر بهم، والمعروف والإحسان إليهم: مواساتهم كعيادة مرضاهم،
كما في الصحيح عن النبي ﷺ أنه عاد جارا له يهوديا، وتعزيتهم بأحزانهم، وتهنئتهم بأفراحهم غير
الدينية، وتشييع جنائزهم، وهو قول الجمهور، ورواية عن الإمام أحمد، كما عند الخلال
في أحكام أهل الذمة وسئل (يتبع المسلم جنازة المشرك؟ قال: نعم). وسئل (عن المسلم
تكون أمه نصرانية، أو أبوه، أو أخوه، أو ذو قرابة، ترى أن يلي شيئا من أمره حتى
يواريه؟
قال: إن كان أبا أو أخا أو قرابة قريبة، فوليه وحضره، فلا بأس، قد أمر
النبي ﷺ علي
بن أبي طالب -رضي الله عنه- أن يواري أبا طالب).
وقد روى أبو يوسف في كتابه الآثار رقم ٤٠١ أبي حنيفة، عن حماد، عن
إبراهيم (أن أم الحارث توفيت وهي نصرانية، فخرج الحارث مع جنازتها، ومعه ناس من
أصحاب رسول الله ﷺ يمشون مع جنازتها).
وهو الحارث بن عبدالله بن أبي ربيعة والي البصرة لعبدالله بن الزبير
من الطبقة الأولى من التابعين.
وقال الطحاوي في مختصر الفقهاء ١/ ١٨٤: (في المسلم يموت له قرابة
كافر:
قال أصحابنا والشافعي يغسله ويتبعه ويدفنه.
عن حماد عن إبراهيم أن الحارث بن ربيعة ماتت أمه نصرانية فتبع جنازتها
في رهط من أصحاب النبي ﷺ).
وهذا بخلاف الدعاء لموتاهم والصلاة عليهم فهي محرمة بالنص والإجماع
كما قال النووي في المجموع ٥/ ١٤٤: (الكافر إذا مات وتنازع في غسله أقاربه الكفار
وأقاربه المسلمون فالكفار أحق، فان لم يكن له قرابة من الكفار أو كانوا وتركوا
حقهم من غسله جاز لقريبه المسلم ولغير قريبه من المسلمين غسله وتكفينه ودفنه.
وأما الصلاة على الكافر والدعاء له بالمغفرة فحرام بنص القرآن
والإجماع.
قال الشافعي في مختصر المزني والأصحاب: ويجوز للمسلم اتباع جنازة
قريبه الكافر.
وأما زيارة قبره فالصواب جوازها وبه قطع الأكثرون.. لحديث أبي هريرة
قال " قال رسول الله ﷺ استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها
فأذن لي" رواه مسلم).
ولا خلاف بين أهل التفسير على أن آية المنع من الاستغفار لغير
المؤمنين محكمة في المنع، قال ابن جرير الطبري في تفسيره: (القول في تأويل قوله
تعالى: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى..﴾
يقول تعالى ذكره: ما كان ينبغي للنبي محمد ﷺ والذين آمنوا به أن يستغفروا، يقول: أن يدعوا بالمغفرة للمشركين، ولو
كان المشركون الذين يستغفرون لهم أولي قربى، ذوي قرابة لهم..).
ثم ذكر خلافهم في سبب نزول الآية على ثلاثة أقوال فقال: (واختلف أهل
التأويل في السبب الذي نزلت هذه الآية فيه، فقال بعضهم: نزلت في شأن أبي طالب عم
النبي ﷺ؛
لأن النبي ﷺ أراد أن يستغفر له بعد موته، فنهاه الله عن ذلك..
وقال آخرون بل نزلت في سبب أم رسول الله ﷺ، وذلك أنه أراد أن يستغفر لها فمنع من ذلك..
وقال آخرون: بل نزلت من أجل أن قوما من أهل الإيمان كانوا يستغفرون
لموتاهم من المشركين، فنهوا عن ذلك..).
ثم ذكر الخلاف في الدعاء لهم حال الحياة فقال: (وقد تأول قوم قول
الله: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى﴾
[التوبة: 113]... الآية، أن النهي من الله عن الاستغفار للمشركين بعد مماتهم،
لقوله: ﴿مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيم﴾ [التوبة: 113] وقالوا: ذلك لا
يتبينه أحد إلا بأن يموت على كفره، وأما هو حي فلا سبيل إلى علم ذلك، فللمؤمنين أن
يستغفروا لهم.
ذكر من قال ذلك..
عن سعيد بن جبير، قال: مات رجل يهودي وله ابن مسلم، فلم يخرج معه،
فذكر ذلك لابن عباس، فقال: كان ينبغي له أن يمشي معه ويدفنه ويدعو له بالصلاح ما
دام حيا، فإذا مات وكله إلى شأنه ثم قال: ﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ﴾..).
ثم ذكر الخلاف في الاستغفار وقول من قال هو الصلاة وقول من قال الدعاء
ثم قال الطبري: (وقد دللنا على أن معنى الاستغفار: مسألة العبد ربه غفر الذنوب؛
وإذ كان ذلك كذلك، وكانت مسألة العبد ربه ذلك قد تكون في الصلاة وفي غير الصلاة،
لم يكن أحد القولين اللذين ذكرنا فاسدا، لأن الله عم بالنهي عن الاستغفار للمشرك
بعدما تبين له أنه من أصحاب الجحيم، ولم يخصص من ذلك حالا أباح فيها الاستغفار
له..).
ثم ذكر الخلاف في نسخ آية الدعاء للوالدين بالرحمة فقال: (وقال جماعة
من أهل العلم: إن قول الله جل ثناؤه: ﴿وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ [الإسراء:
24] منسوخ بقوله: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيم﴾…
عن ابن عباس قوله: ﴿وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ [الإسراء: 24]
ثم أنزل الله عز وجل بعد هذا: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى﴾..
عن عكرمة، قال في سورة بني إسرائيل إما يبلغان عندك الكبر أحدهما أو
كلاهما).. إلى قوله: ﴿وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ [الإسراء: 24] فنسختها
الآية التي في براءة ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى﴾…
قال ابن جريج، قال ابن عباس ﴿وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا﴾ [الإسراء: 24] . .
الآية، قال: نسختها الآية التي في براءة ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ﴾ [التوبة: 113]. الآية..).
ثم رجح الطبري عدم النسخ وأنها عامة يراد بها الخاص وهم الآباء
المؤمنون دون غير المؤمنين (وقد تحتمل هذه الآية أن تكون وإن كان ظاهرها عاما في
كل الآباء بغير معنى النسخ، بأن يكون تأويلها على الخصوص، فيكون معنى الكلام: وقل
رب ارحمهما إذا كانا مؤمنين، كما ربياني صغيرا، فتكون مرادا بها الخصوص على ما قلنا
غير منسوخ منها شيء).
فلا خلاف بين أهل التفسير في أن آية المنع من الاستغفار لغير المؤمنين
محكمة في تحريم الاستغفار للمشركين، وإنما الخلاف في آية الدعاء للأبوين بالرحمة
هل هي منسوخة أم عامة يراد بها الخصوص.
ولا خلاف بين الفقهاء في المنع والتحريم كما أجمع أهل التأويل
والتفسير لظاهر القرآن ولما تواتر في السنة في المنع من ذلك.
وقد جاء المنع من الاستغفار والصلاة حتى على من مات من المنافقين
الذين يتظاهرون بالإسلام ويتبين منهم النفاق الأكبر وعلل الحكم بالنهي لعدم
الإيمان بالرسول محمد ﷺ فقال تعالى: ﴿وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنهُم ماتَ أَبَدًا وَلا
تَقُم عَلى قَبرِهِ إِنَّهُم كَفَروا بِاللَّهِ وَرَسولِهِ وَماتوا وَهُم
فاسِقونَ﴾ [التوبة: ٨٤].
فلا يصلى ولا يستغفر إلا للمؤمنين بالله وبالرسول محمد ﷺ كما في دعاء إبراهيم ﴿رَبَّنَا اغفِر لي وَلِوالِدَيَّ وَلِلمُؤمِنينَ
يَومَ يَقومُ الحِسابُ﴾ [إبراهيم: ٤١]
وكما في دعاء نوح ﴿رَبِّ اغفِر لي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ
بَيتِيَ مُؤمِنًا وَلِلمُؤمِنينَ وَالمُؤمِناتِ﴾ [نوح: ٢٨]
وكما أمر الله المؤمنين أن يدعوا لمن سبقهم بالإيمان ﴿وَالَّذينَ
جاءوا مِن بَعدِهِم يَقولونَ رَبَّنَا اغفِر لَنا وَلِإِخوانِنَا الَّذينَ
سَبَقونا بِالإيمانِ وَلا تَجعَل في قُلوبِنا غِلًّا لِلَّذينَ آمَنوا رَبَّنا
إِنَّكَ رَءوفٌ رَحيمٌ﴾ [الحشر: ١٠].
...............................................
س/ شيخنا الكريم، هل مسألة الاستغفار لأهل الكتاب من المسائل
العقدية القطعية التي لا يسع فيها الخلاف أم هي من الفروع الفقهية الظنية؟
وهل هناك فرق بين الاستغفار لهم والترحم عليهم؟
ج/ هذه القضية نصية إجماعية كما ذكر ذلك النووي وابن جزي وغيرهما، فقد
أجمع المسلمون على أنه لا يصلى إلا على موتى المسلمين، ولا يصلى على كافر؛ لعموم قوله
تعالى: ﴿ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذينَ آمَنوا أَن يَستَغفِروا لِلمُشرِكينَ وَلَو
كانوا أُولي قُربى مِن بَعدِ ما تَبَيَّنَ لَهُم أَنَّهُم أَصحابُ الجَحيمِ﴾ [التوبة:
١١٣]
كما أجمعوا على أنه لا يصلى على
منافق معلوم النفاق؛ لعموم ﴿وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنهُم ماتَ أَبَدًا وَلا تَقُم
عَلى قَبرِهِ إِنَّهُم كَفَروا بِاللَّهِ وَرَسولِهِ وَماتوا وَهُم فاسِقونَ﴾ [التوبة:
٨٤] .
وهذا التعليل نص على سبب المنع وهو كفرهم بالله والرسول محمد ﷺ
قال القرطبي: (قال علماؤنا: هذا نص في الامتناع من الصلاة على الكفار).
قال الشافعي في الأم ٦/ ٦١ عن موتى المسلمين ومن يصلى عليه منهم: (ويصلى
عليهم كلهم إلا المرتد؛ فإنه لا يصلى على كافر).
فالنهي في الآية نص قطعي، والحكم معلل بوصف الكفر، فصار معقول المعنى،
وهو عدم أهلية الكفار للدعاء له بعد موته كافرا؛ لعدم قبول الله للشفاعة فيه، وعدم
استجابة الدعاء له، ولا فرق بين الصلاة والدعاء لهم، فكلاهما عبادة كما في الحديث:
(الدعاء هو العبادة)، وكلهما صلاة.
وقال ابن مازه في "المحيط البرهاني" في فقه الحنفية: (لا يُصلى
على الكافر لقوله تعالى: ﴿وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُون﴾ [التوبة: 84]؛ ولأن الصلاة على الميت دعاء واستغفار
له، والاستغفار للكافر حرام قال الله تعالى: ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِين﴾..).
وقال ابن جزي في القوانين الفقهية في مذهب مالك ص ٦٤: (أن يكون مسلما فلا
يصلى على كافر أصلا، ويدفن الذمي، ولا بأس أن يدفن المسلم أقاربه الكفار، وأما أطفال
المشركين فإن كانوا مع آبائهم، ولم يسلم أحد منهم، لم يصل عليهم إجماعا).
وهو إجماع قطعي، بنص قطعي.
وقال القرافي في الذخيرة ٢/ ٤٧٦: (ولا يصلى على الكافر ويدفن الذمي وفاء
بذمته إن خشي عليه).
وقد اختلف في قوله تعالى: ﴿إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً﴾ هل هو تيئيس أم تخيير؟
فذهب الطبري إلى أنه تيئيس، واختار ابن عطية أنه تخيير منسوخ، فقال في
تفسيره ٣/ ٦٤ (وإذا ترتب كما قلنا التخيير في هذه الآية صح أن ذلك التخيير هو الذي
نُسخ بقوله تعالى: في سورة المنافقون ﴿سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِين﴾).
وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لم يزل إبراهيم
صلى الله عليه وسلم يستغفر لأبيه حتى مات، فلما مات تبين له أنه عدو لله فتبرأ منه".
وعن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، في قوله عز وجل: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيم﴾
[التوبة: 113] ، فكانوا يستغفرون لهم حتى نزلت هذه الآية، فلما نزلت أمسكوا عن الاستغفار
لأمواتهم، ولم ينههم أن يستغفروا للأحياء حتى يموتوا، ثم أنزل الله عز وجل: ﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ﴾
[التوبة: 114] ، يعني استغفر له ما كان حيا، فلما مات أمسك عن الاستغفار له).
قال الطحاوي في مشكل الآثار ٦/ ٢٨٠: (فكان في ذلك ما قد دل على أن الاستغفار
لهم قبل أن يتبين لهم أنهم أصحاب الجحيم بخلاف ذلك، وفي ذلك ما يبيح الاستغفار لهم
ما كان الإيمان مرجوا منهم، ومحرما عنهم بعد أن يؤيس منهم منه، وذلك لا يكون إلا بعد
موتهم).
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام في الناسخ والمنسوخ رقم ٥١٨: (حدثنا حجاج،
عن ابن جريج، وعثمان بن عطاء، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس، في قول الله: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [الإسراء: 23] إلى قوله: ﴿كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾
[الإسراء: 24] قال: ثم استثنى فقال: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ﴾
[التوبة: 113] إلى قوله: ﴿إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ﴾..).
وقد قصد بالاستثناء هنا التخصيص،
وهو نوع من النسخ، برفع حكم البعض.
أما الاستغفار والدعاء بالرحمة للكفار الأحياء فقيل: لا يجوز وأنهم داخلون
في عموم النهي، وما ورد من جواز الاستغفار لهم كان قبل النسخ بالنهي عن ذلك، وقيل:
بل جائز الدعاء بالرحمة والاستغفار لهم، لدعاء النبي لقومه وهم على شركهم: (اللهم اغفر
لقومي فإنهم لا يعلمون)، قال الطحاوي في مشكل الآثار ٦/ ٢٨٧: (ففي هذا الحديث استغفاره
صلى الله عليه وسلم لقومه الذين لا يعلمون، وهم الذين لم يؤمنوا به ولم يصدقوه).
وأيضا لعموم الأمر بالدعاء للوالدين بالرحمة، كما قال تعالى: ﴿رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾، لأنه مرجو إيمانهم بالاستغفار والدعاء بالرحمة لهم من أبنائهم،
فإذا ماتوا على كفرهم حرم الدعاء لهم لعموم: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيم﴾.
وإنما يتبين ذلك بموتهم كفارا، وفسره قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ﴾ وتبين له ذلك بموته
على كفره.
وجاء في الصحيح عن النبي ﷺ قوله: (إني استأذنت ربي عز وجل في الاستغفار لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته
في زيارة قبرها فأذن لي).
قال مكي بن أبي طالب في "الهداية" في تفسير الآية: (قال بعض
العلماء أن قوله: ﴿رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ منسوخ بالنهي عن الاستغفار للمشركين.
وقال بعضهم: الآية مخصوصة في المؤمنين خاصة.
وقيل: هي عامة إلا لمن مات من المشركين، فلا يستغفر له. فأما إذا كانا
مشركين حيين، فيجوز للمسلم أن يستغفر لهما كما فعل إبراهيم).
ولم يذكر غير هذه الأقوال الثلاثة، فكان إجماعا من المفسرين والفقهاء على
اختلاف مذاهبهم، بعدم جواز الدعاء والاستغفار للمشركين بعد الوفاة بما فيهم الأبوان.
والاستغفار للمشركين اعتداء في الدعاء وهو محرم شرعا؛ لأنه دعاء غير مستجاب
لقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ﴾، وقوله: ﴿إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ﴾.
ولا فرق بين الدعاء لهما بالرحمة والاستغفار؛ ولهذا قال أهل العلم بأن
آية: ﴿رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي﴾ منسوخة بآية ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ﴾، لأنهما من جنس واحد، وقيل بل هي غير منسوخة إلا إنها خاصة بالمؤمنين من
الوالدين، وقيل بل هي على عمومها في الأحياء جميعا مؤمنهم وكافرهم، وأما الأموات من
المشركين فيحرم الدعاء لهم بالرحمة.
وكل ذلك دليل على عدم الفرق في الحكم بين الدعاء بالرحمة والاستغفار.