مناقشة الدكتور حاكم المطيري لنقد سليمان الخراشي لكتاب
الحرية أو الطوفان
4/ 6/ 2008
الأخ المكرم الشيخ سليمان الخراشي وفقه الله لما يحبه ويرضاه، السلام عليكم
ورحمة الله وبعد:
فقد اطلعت على الدراسة النقدية
لكتابي (الحرية أو الطوفان) وأشكر لكم اهتمامك به وأعتذر عن تأخري في الرد لظروف سفري
وكثرة أشغالي، وأعتذر للأخوة الأفاضل عن عدم ردي على الأسئلة الأخرى التي لا علاقة
لها بموضوع الكتاب لضيق الوقت، وبإمكانهم معرفة الأجوبة عنها بالدخول على موقعي الخاص
موقع الدكتور حاكم المطيري أو موقع حزب الأمة، أما بالنسبة
لما ورد في الدراسة النقدية فلي عليها ملحوظات أرجو أن يتسع لها صدر الشيخ الناقد حفظه
الله:
1- افتقدت
الدراسة للموضوعية والحياد العلمي اللذين تقتضيهما أصول الجدل والمناظرة فلم يحرر الأخ
الناقد موطن الخلاف ومحل النـزاع بيننا لمناقشته فيه، فبعد أن أثنى على الخطاب الراشدي
ووافق على ضرورة بعثه من جديد عاد ونقض ذلك كله بالدفاع عن الخطاب المؤول وتبريره وحشد
الأدلة لبيان مشروعيته مع ما بين الخطابين الراشدي والمؤول من تناقضات!
ولو حرر الشيخ الفاضل محل الخلاف لكان بإمكاني مناقشته في قضية محددة لا
في كل قضية تتعلق بالموضوع مع اتساعه وتشعبه وخطورته، فمن وافقني على الأصول العامة
للكتاب وعلى أن للخلفاء الراشدين هديا وسننا في باب الإمامة تم طمسها وهجرها بالخطاب
المؤول وأنه يجب بعثها من جديد كما جاء في الحديث(عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين
من بعدي عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور) وأنه يجب معرفة محدثات الأمور
التي تخالف هدي الخلفاء الراشدين لتجنبها والحذر منها وهي التي تمثلت في الملك العضوض
والملك الجبري وسننهما القيصرية والكسروية كما في الحديث(تكون خلافة على منهاج النبوة
ثم يكون ملكا عضوضا ثم ملكا جبريا ثم تعود خلافة على نهج النبوة) وكما في حديث (لتتبعن
سنن من كان قبلكم .... فارس والروم) وقد اجتهدت في الكتاب في تتبع سنن الخلفاء الراشدين
وهديهم وما حدث من المحدثات بعدهم في باب الخلافة وإمامة الأمة حتى بدا الفرق واضحا
بين المرحلتين والخطابين بالأدلة التاريخية، فمن وافقني على ذلك من حيث العموم والإجمال
فلا غضاضة في أن يخالفني فيما سوى ذلك من الآراء الواردة في الكتاب، وليس رأي من خالفني
فيها بأحق بالصواب من رأيي فيها، وقد تعرض لدراسة الكتاب عدد كبير من الكتاب في الخليج
ومصر والشام، واتصل بي كثير من أهل العلم وأثنوا على الكتاب ووافقوني على الأصول العامة
فيه وإن خالفني بعضهم في بعض الجزئيات التي لا تنقض أصل فكرة الكتاب، ولم أرد على أحد
منهم، فمن حق الجميع دراسة الكتاب ونقده والاستدراك عليه، إلا إن الشيخ الفاضل سليمان
الخراشي طلب مني وألح علي مشكورا بالنظر في دراسته النقدية لكتابي ولولا ذلك لما تجشمت
عناء مناقشته، ولما سمحت لنفسي بالاستدراك على دراسته، إذ من حقي أن أكتب ومن حقه أن
ينقد، ومن ألف فقد استهدف، وتمنيت لو لم يتحدث في بداية دراسته عن الهزيمة النفسية
إذ مثل هذه الاتهامات والتحليلات لا تدفع حقا ولا تنفي صدقا، وأحق الناس بها من يخضعون
لظلم الطغاة فيداهنون في دين الله وينكصون عن القيام بما أوجب الله عليهم القيام به
من الصدع بالحق ويستسلمون للواقع، أما من يدعون إلى تغيير الواقع وإصلاحه فهم أبعد
ما يكونون عن الهزيمة النفسية ولا يصدق عليهم هذا الوصف مطلقا، وإنما المهزوم من يرضى
بالوقع ويستسلم له ويبرره ويدافع عنه ويحول بين الأمة وشق طريقها لتغييره.
وإن ما أدعو إليه اليوم لم يكن وليد الظروف الحادثة منذ الحملة الصليبية
الجديدة على العالم الإسلامي سنة 2001م، بل كنت أدعو إليه قبل ذلك بسنوات، وقبل أن
أدرس في الخارج، وكنت أرى الخلل والانحراف في مضامين الخطاب السياسي الإسلامي السني
المعاصر منذ أن كنت طالبا في كلية الشريعة بجامعة الكويت، ثم طالبا في جامعة الإمام
محمد بن سعود في السنة المنهجية للماجستير سنة 1991م حيث قدمت بحثا في نظام الحكم في
الإسلام للأستاذ الفاضل الأحمدي أبو النور لمادة الحديث الموضوعي، ثم في جامعة أم القرى
بمكة المكرمة بعد ذلك، وقد كانت خطة البحث التي أعددتها لرسالة الماجستير في أم القرى
حول هذا الموضوع بعنوان: (السنن الإلهية والاجتماعية في قيام وسقوط المجتمعات الإنسانية)،
ثم رأى بعضهم عدم إمكانية قبول هذه الخطة فتركتها بعد أن وضعت تفاصيلها، وإنما كان
الدافع لي في البحث في هذا الموضوع إيماني المطلق بأن للقرآن هدايات اجتماعية وسياسية
وتشريعية كافية في إخراج الأمة مما هي فيه، ولي كتابات ومقالات في الصحافة منذ سنة
1991م تحمل هذه الفكرة، فالقرآن وحده هو الداعي لي للتدبر والتفكر، وكذا حال الأمة
وما هي فيه من سقوط وضعف وتخلف لا يمكن أن يكون سببه الإسلام يدعو كل ذي بصيرة للبحث
في هذا الموضوع، فهذا الذي حملني للبحث عن الحقيقة في القرآن وهداياته، وليس ضغط الواقع
والهزيمة النفسية التي يتحدث عنها الناقد الفاضل، فالهزيمة النفسية تدعو إلى الانكفاء
على الذات، والاستسلام للواقع، والخوف من المستقبل، وهو ما لا أثر له في كتاب (الحرية
أو الطوفان) مهما حاول الناقد الفاضل إقناع قرائه بذلك، فلم يستطع الناقد في كل دراسته
النقدية إقامة دليل واحد على صحة دعواه هذه، ولم يبين كيف فسر حاكم التاريخ الإسلامي
تفسيرا غربيا غريبا تحت ضغط الواقع والهزيمة النفسية! مع أن كل الروايات التي أوردتها
هي من التاريخ الإسلامي لا من التاريخ الغربي، ولم يكن لي كبير اجتهاد في تفسيرها،
بل كان العرض فيها أكثر من الشرح والتحليل، كما ذكر ذلك عدد من نقاد الكتاب!
2- ومن أصول
الجدل والمناظرة تحري الحق ولا يكون ذلك إلا بالنظر والاجتهاد لا بالتقليد للغير فإن
المقلد لا يدري أصاب الحق أم أخطأه، فالأحكام لدى المقلد تكون مسبقة وإنما يجادل للدفاع
عن تلك الأحكام التي تلقنها من شيوخه ومدرسته وكما في الحديث(كل مولود يولد على الفطرة
فأبواه يهودانه أو ينصرانه) لبيان مدى أثر المجتمع والأسرة فهي التي تشكل عقل الفرد
وثقافته في أخطر موضوع وهو الدين والاعتقاد، فالإنسان ابن بيئته ومجتمعه أكثر من كونه
ابن عقله، ولهذا نجد أهل كل بلد يتوارثون المذهب والعقيدة بحكم الجغرافيا والديمغرافيا
وقلما نجد من يخالف ثقافة مجتمعه بسبب التقليد والشعور الكاذب بالرضى عن النفس الذي
يجده أهل كل دين، ولهذا عاب القرآن على من قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على
آثارهم مقتدون ودعا لتدبر القرآن والنظر وإعمال العقل والفكر.
والمقصود أن الشيخ الفاضل نقد الكتاب وفق أحكام مسبقة عنده يظن أنها أصول
أهل السنة، وهذا من حقه إذا كان مقصوده مجرد الدفاع عن المذهب والمدرسة الفكرية التي
ينتمي لها، إلا أنه لا يسوغ له ذلك في باب المحاورة والجدل والمناظرة التي يشترط لها
التحري للحق بقطع النظر عما عليه المذهب والطائفة والشيوخ، وهو ما لا يتأتى من المقلد
لغيره مهما كان علمه وفضله، إذ أنه ينظر بعقل غيره لا بعقله! ولهذا أشار القرآن في
قوله تعالى: (وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين) وقال (قل هاتوا برهانكم إن كنتم
صادقين)، فالناقد الفاضل يحاكم الكتاب لا عن نظر واجتهاد بل عن تقليد منه للمدرسة العقائدية
التي ينتمي إليها والذي يتصور أن كل أصولها حق لا ريب فيها وما عليه إلا المنافحة عنها
وإن خالفت هدي الخلفاء الراشدين! حيث ينظر إلى مسائل الكتاب ومدى توافقها مع ما يظنها
أنها أصول أهل السنة والجماعة في نظره مع أن الخلاف هو في هذه الأصول نفسها التي لا
تمثل بالضرورة أصول أهل السنة كلهم فضلا عن سلف الأمة كلهم وقد لا تعدو أن تكون آراء
لبعض أهل السنة في مرحلة من مراحل تاريخ الأمة خالفهم فيها غيرهم كما سيأتي بيانه.
3- كما
إن من أصول الجدل والمناظرة تحديد الحكم والمرجع الذي يحتكم له المتناظران فلا يسوغ
مناظرة أحد ومجادلته فيما لا يسلم فيه لخصمه، فإذا كانا حنبليين وكانا يناقشان مسألة
فقهية وفق مذهب أحمد لزمهما الالتزام بأصول المذهب، فإن كان أحدهما حنبليا والآخر شافعيا
كان المرجع أصول الفقه العامة لدى الطرفين،
فإن كان كل منهما من طائفة إسلامية لزمهما التحاكم للكتاب والسنة التي يثبتانها
جميعا دون ما اختلافا في إثباته، وقد افتقدت دراسة الشيخ الناقد هذا الأساس حيث حاكم
كتاب (الحرية أو الطوفان) لغير الأصول التي قام عليها الكتاب والتي اتخذتها أنا مرجعا
وهي القرآن والسنة وسنن الخلفاء الراشدين التي أمر النبي صلى الله عليها وسلم بالتمسك
بها والعض عليها بالنواجذ وترك المحدثات التي أحدثها من جاء بعدهم، حيث تحول الأمر
من خلافة راشدة على هدي النبوة إلى ملك عضوض وملك جبري وسنن قيصرية وكسروية كان أول
من أنكرها وردها هم الصحابة أنفسهم رضي الله عنهم كما فصلت ذلك في (الحرية أو الطوفان)
وقد أخذ الشيخ الفاضل يحاكم الكتاب إلى آراء الرجال وأقوالهم التي تحتاج نفسها لحجة
وبرهان ودليل!
4- كما إن
من أصول الجدل والمحاورة أن لا تجعل الدعوى دليلا بل الدعاوى في حاجة للأدلة بينما
الصبغة العامة للدراسة النقدية التي كتبها الشيخ الفاضل تقوم على هذا الأساس الباطل،
ومن الأمثلة على ذلك أني أثبت بالأدلة حق الأمة في اختيار الإمام وحرمة اغتصابها هذا
الحق وذكرت من أقول عمر بن الخطاب في الصحيحين وغيرهما بالأسانيد الصحيحة والمقبولة
ما يؤكد هذا الحق حتى قال كما في صحيح البخاري(إني قائم العشية فمحذر الناس هؤلاء الذين
يريدون أن يغصبوهم أمرهم) وقال أيضا كما في صحيح البخاري(من بايع رجلا دون شورى المسلمين
فلا يتابع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا)، وقد جاءت روايات كثيرة صحيحة تفسر هذه
العبارة وفيها (فلا يحل لكم إلا أن تقتلوه) أي من يغتصب حق الأمة في اختيار الإمام،
وقد قال عمر هذه الخطبة بمحضر الصحابة فكان إجماعا من أقوى الإجماعات، فجاء الشيخ الناقد
وأخذ يحتج علي بما يسميه أصول أهل السنة في تحريم الخروج على أئمة الجور الذين يغتصبون
حق الأمة في الإمامة مع أن هذا الأصل هو محل الخلاف وموطن النـزاع بين السلف قديما
كما نقل ذلك ابن حجر وهو مذهب لجماعة من الصحابة ومن بعدهم كما نقل ذلك ابن حزم وكما
نقله عبدالله بن الشيخ محمد بن عبدالوهاب حيث قال في كتابه جواب أهل السنة(وقد اختلف
أهل السنة والجماعة في هذه المسألة وكذلك أهل البيت فذهبت طائفة من الصحابة ومن بعدهم
من التابعين والأئمة بعدهم إلى أن سل السيوف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب
..)وقد نقلت في كتاب (الحرية أو الطوفان) من أقوال مالك والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم
ما يشير إلى أنهم يرون جواز الخروج على أئمة الجور حتى قال مالك (إنما يقاتل مع الإمام
العدل سواء كان الأول أو الخارج عليه، هؤلاء ـ أي أئمة الجور الذين يغتصبون الإمامة
بلا شورى ـ لا بيعة لهم إذا كان بويع لهم على الخوف)، وما قاله مالك هو عين قول عمر
بن الخطاب حين قال(من تأمر عن غير مشورة من المسلمين ـ أي بلا رضاهم واختيارهم ـ فاضربوا
عنقه)قال الحافظ ابن حجر (رواه ابن سعد بإسناد صحيح) وهو على شرط الشيخين، وقد نقل
الشيخ عبدالرحمن المعلمي في كتابه التنكيل الخلاف في هذه القضية بين أهل السنة وحقق
القول الراجح وأن الأمر منوط بالمصلحة والمفسدة ومع ذلك جعل الشيخ الناقد هذه القضية
الخلافية أصلا يحاكم الكتاب إليها مع أنها هي الدعوى التي وقع الخلاف والنـزاع فيها
منذ عصر الصحابة رضي الله عنهم، فلا يحتج بها على المخالف بدعوى أنها أصل من أصول أهل
السنة والجماعة مع ثبوت الخلاف فيها بين سلف الأمة وأهل السنة أنفسهم كما نقلناه عنهم
فهذا مخالف لقواعد الجدل والمناظرة، ولا يجدي نفعا نقل دعاوى الإجماع عليها إذا ثبت
الخلاف فيها، وقول عمر ومالك أولى من قول من قال بأن من اغتصب الإمامة والخلافة بالقوة
وجبت طاعته وحرم الخروج عليه وقول من قال نحن مع من غلب، وهنا يتجلى الفرق بين الخطاب
الراشدي الذي أجمع عليه الصحابة في عهد عمر قبل الفتنة والاختلاف من وجوب قتل من اغتصب
الإمامة بالقوة وأنه لا يحل للأمة تركه دع عنك طاعته، والخطاب المؤول الذي طرأ بعد
ذلك والذي أوجب السمع والطاعة للغاصب الجائر والدعاء له والقتال معه!
5- ومن
الملحوظات على الدراسة النقدية تركيزها على ثنايا الموضوع وجزئياته دون أصوله وكلياته
فليس من أصول الجدل والمحاورة إشغال المحاور في كل كلمة وكل عبارة عابرة في الكتاب
وكأن المقصود هو النقد لذات النقد لا النقد للوصول للحق والصواب، كالوقوف عند العبارة
الواردة في كلام مالك بن نبي (وشاءت الأقدار) ومناقشتها ونقل كلام الشيخ ابن عثيمين
فيها مع أنها ليست من موضوع الكتاب ولا موضوع الدراسة النقدية بل وردت في ثنايا كلام
المفكر الإسلامي مالك بن نبي! ففي مناقشتها تضييع لوقت المحاور والقارئ فيما لا يخدم
الفكرة الرئيسة للمحاورة، مع العلم أن في مجاز اللغة ـ أو أساليبها عند من لا يرى المجاز
ـ ما يرفع الحرج عن مثل هذه الألفاظ ـ إذا صح الاعتقاد ـ كقولهم أغاثهم المطر أي أغاثهم
الله بالمطر، وكقولهم قتلهم الجوع أي ماتوا بسبب الجوع إذ الله هو الذي يميت ويحيي،
ونحو ذلك من مجاز اللغة واتساع أساليبها فقول مالك بن نبي (شاء القدر) يعني (شاء الله
فيما قدره وقضاه) كقولهم (جرى بذلك القدر) أي أجرى الله ذلك بقدره الذي قدره وقضاه
بعلمه وقدرته، لا أن القدر شيء مخلوق له قدرة وفعل، هذا إذا كان القدر بمعنى التقدير
من قدره يقدره تقديرا، وهو علم الله السابق بكل ما هو حادث وكائن، وكتابة الله جل جلاله
للأشياء في اللوح المحفوظ قبل حدوثها في عالم الوجود، ثم إيجادها على وفق تقديره لها،
أما إذا كان القدر بمعنى القدرة أي قدرة الله وقوته التي لا يخرج عنها شيء كما جاء
تفسير ذلك عن أحمد بن حنبل، وكما قال سبحانه(إنا كل شيء خلقناه بقدر)، فالأمر فيها
أيسر إذ المعنى: شاءت قدرة الله أن يكون كذا وكذا، وسائغ في اللغة نسبة الفعل للصفة
لا لكون الصفة هي الفاعل على الحقيقة بل لأن اتصاف الفاعل بها سبب لوقوع الفعل منه،
كما في حديث(سبقت رحمتي غضبي) أي جعل سبحانه رحمته وعفوه قبل غضبه وعقابه لاتصافه بالرحمة
الواسعة، وكما في قوله تعالى(ورحمتي وسعت كل شيء)، فليست الرحمة شيئا غير الله بل الرحمة
وصف قائم به سبحانه، فقولنا وسع علم الله ورحمته كل شيء ونسبتنا الفعل هنا وهو الاتساع
للعلم والرحمة لا يعني أنهما فاعلان من دون الله، بل المعنى مرادف تماما لقولنا وسع
الله جلل جلاله كل شيء رحمة وعلما، لكونه سبحانه متصف بصفة الكمال المطلق الذي ليس
كمثله شيء ومن ذلك اتصافه بالعلم الشامل المطلق الذي لا يعزب عنه شيء في الأرض ولا
في السماء، والرحمة الشاملة لكل مخلوقاته لا يخرج عنها شيء، فهو سبحانه الذي أحاط بكل
شيء علما ووسع كل شيء رحمة وبرا، فالله هو الفاعل وليس الرحمة والعلم التي هي صفاته،
وإنما نسب الفعل لهما من باب نسبة الشيء لما يقع به وبسببه، وهو أسلوب من أساليب العرب
ويسميه البيانيون المجاز المرسل، كقولهم سال الوادي أي سال الماء في الوادي، فنسبوا
الفعل للوادي لكونه الظرف الذي وقع فيه الفعل وهو الجريان والسيلان، ونحو ذلك حديث:
(أعوذ بعزتك) أي: أعوذ بك يا ذا العزة التي لا تقهر ولا تخفر أو أعوذ بك يا عزيز لا
يقهر ولا يجار عليه، فليست الاستعاذة بعزة الله استعاذة بغير الله، إذ لا وجود للصفات
دون الذوات في الخارج، ولا ذوات بلا صفات تمتاز بها عن غيرها من الموجودات في عالم
الوجود، وليست الصفة سوى الوصف القائم بالموصوف أو التي تقوم بالموصوف، فجازت الاستعاذة
بعزة الله وهي استعاذة بالله لا بغيره لكون اتصافه جل جلاله بالعزة التامة والقوة المطلقة
التي لا تخفر سببا في لجوء عباده إليه واستغاثتهم به وحده لا شريك الله، فقول القائل:
(شاءت قدرة الله) أو (شاء القدر) أي: شاء الله بقدرته وإنما جاز نسبة الفعل للقدر لوقوع
الحوادث به لا لكونه هو الفاعل بل الله جل جلاله هو الذي يقدر كل شيء بعلمه وقوته وقدرته
المطلقة.
والحاصل أن قول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى على جلالته ليس حجة شرعية
فالعلماء يحتج لهم ولا يحتج بهم، مع أن الصواب اجتناب الألفاظ الموهمة مثل هذا اللفظ
ولا يحمّل اللفظ أكثر مما يحتمل، وكان الأولى بالناقد أن يذكر من الحجج الشرعية ما
يؤيد ما ذهب إليه من الاستدراك على مالك بن نبي رحمه الله تعالى لا أن يحتج بأقوال
الشيوخ التي لا تخرج عن كونها آراء واجتهادات وليست حججا شرعية يلزم الناس اتباعها.
ومثل ذلك الوقوف عند موضوع جمال
الدين الأفغاني والإحالة على بعض الدراسات التي لا يسلم لها مع أن أعلم الناس بالأفغاني
هو الشيخ محمد رشيد رضا وقد وصفه بالمجدد وأفاض في ذكر مآثره وذب عنه ورد الشبه التي
أثارها بعض من لا يعرفه حق المعرفة، وممن أثنى عليه وزكاه الشيخ المحدث أحمد شاكر ـ
وكفى به إماما في الجرح والتعديل ـ حيث وصفه بما لم أصفه أنا به كما نقلته في (الحرية
أو الطوفان) وقد كان والده الشيخ محمد شاكر من تلاميذ الأفغاني، وعلى كل حال لو وقفنا عند كل شخصية ورد ذكرها في
الكتاب وما دار حولها من الجدل والخلاف لما سلم لنا أحد، وإنما أوردت كلام الأفغاني
وغيره في ثنايا الحديث عن ظهور خطاب سياسي جديد بعد عقود من الركود الفكري والسياسي
كان للأفغاني اليد الطولى في بعثه وهذه حقيقة تاريخية لا ينكرها إلا مكابر بقطع النظر
عن آرائه الأخرى ومواقفه، فالمقصود من الكتاب دراسة المراحل التاريخية للخطاب السياسي
الإسلامي منذ ظهوره إلى يومنا الحاضر فلا يمكن تجاوز دور جمال الدين الأفغاني سواء
رضيناه أو سخطناه، بل يكاد المؤرخون المعاصرون على اختلاف توجهاتهم يجمعون على أنه
باعث الحركة الإصلاحية الفكرية المعاصرة في العالم الإسلامي كما شهد له بذلك العلامة
المحدث أحمد شاكر فليس جمال من الأسافل كما جاء في الدراسة النقدية، ولا يشك من عرف
تاريخه وجهاده في سبيل جمع كلمة الأمة ورص صفوفها لمواجهة الاستعمار الصليبي الغربي
أن وصفه بالأسافل من الظلم والعدوان الذي شان هذه الدراسة النقدية، بل هو من الأكابر
وإن أخطأ أو وقع منه تقصير وكما قال الذهبي: (الإنصاف عزيز)، وقد قال في شأنه محدث
العصر وفقيه مصر العلامة القاضي الأثري أحمد شاكر في مقدمة كتابه (الكتاب والسنة يجب
أن يكونا مصدر القوانين في مصر):(ثم جاءت النهضة العلمية الإسلامية الحاضرة وقد نفخ
في روحها رجال كانوا نبراس عصرهم وفي مقدمتهم جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومحمد
رشيد رضا وأرسى قواعدها والدي محمد شاكر رضي الله عنهم جميعا فاستيقظت القلوب ....الخ)،
فانظر إلى كلامه في جمال الدين وترضيه عنه والاعتراف بجميل فضله على النهضة العلمية
في العالم الإسلامي وأنه نبراس عصره!
نعم لو كان في كلام الأفغاني الذي أوردناه في الكتاب ما يستحق النقد والاستدراك
لكان لذلك وجه أما نقد الكتاب لمجرد النقل عن الأفغاني فهو الذي لا معنى له أبدا، كيف! وهو أشهر من دعا إلى العودة إلى ما كان عليه سلف
الأمة في فهم الدين ومعرفة أحكامه وأن سبب تخلفها بشيوع البدع والخرافات والانقسامات
كما في (خطراته) وهو ما تجلى في كتابات تلاميذه ومنهم الكواكبي كما نقلناه عنه!
6- ومن الملحوظات
أيضا عدم تحري الدقة في النقل والنقد حيث أوهم الناقد القراء بأني أدعو إلى حرية لا
ضابط لها مع العلم بأنني ذكرت في أصول الخطاب الراشدي أن الحاكمية للكتاب والسنة وأنهما
مصدر التشريع ودستور الدولة وأكدت ضرورة عودة الأمة إلى تحكيم الشريعة التي عطلها الاستعمار...الخ
فكيف تجاوز الناقد الفاضل هذه الحقائق الواضحة في الكتاب وضوح الشمس في رائعة النهار
ليثير الشك في معنى الحرية التي أدعو إليها مع أنني لم أدع إلا إلى الحرية التي كان
عليها المسلمون في عهد الخلفاء الراشدين قبل أن يصبحوا عبيدا للطغاة كما هو حالهم اليوم
فهم في عبودية للرؤساء والطغاة أشد من عبودية بني إسرائيل لفرعون وملئه.
7- ومن
الملحوظات أيضا غياب الموضوعية في النقد، كنقد العبارة قبل معرفة مراد المؤلف منها
ووجه إيراده لها، ومن ذلك الاستدراك على المؤلف في إيراده عبارة النووي في تفسير معنى
(كفرا بواحا)، فقد جعلها الشيخ الناقد دليلا على عدم الأمانة في النقل بدعوى أن آخر
العبارة فيه نص صريح من النووي على حرمة الخروج على أئمة الجور! وفات الشيخ الناقد حفظه الله أن المقصود من إيراد
العبارة هنا بيان معنى المراد من قوله صلى الله عليه وسلم (إلا أن تروا كفرا بواحا)،
وإثبات أن المراد بالكفر هنا المعاصي الظاهرة بدليل ورودها في روايات صحيحة أخرى بلفظ
(إلا أن تروا معصية)، فنقلت عبارة النووي التي فسر فيها كفرا بواحا بالمعاصي الظاهرة
لموافقة هذا التفسير للروايات الأخرى، ولكون لفظ (كفرا بواحا) جاءت نكرة لا معرفة فتعم
المعاصي، كقوله صلى الله عليه وسلم(سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)، وقوله(لا ترجعوا
بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض)، فهذه المعاصي يصدق عليها أنها كفر، وليس بالضرورة
هي الكفر الذي يخرج من الملة، فهذا هو المقصود من إيراد عبارة النووي في هذا الموضع
لبيان خطأ من اشترطوا للخروج وقوع الكفر المخرج من الملة مع أن السلف من الصحابة والتابعين
كالحسين وابن الزبير خرجوا على من لم يصل أمره إلى الكفر بهذا المعنى، أما آخر العبارة
الذي فيه نص النووي على تحريم الخروج مطلقا فقد نقلته كاملا في (الحرية أو الطوفان)
في مبحث خاص في هذا الموضوع ص 164وذكرت دعواه التي نقل فيها الإجماع على حرمة الخروج
على أئمة الجور، وأوردت رد ابن حزم على أصحاب هذه الدعوى التي شاعت بشيوع المذهب الأشعري
حيث كان ابن مجاهد تلميذ الباقلاني هو أول من ادعاها، وقد كان للمذهب الأشعري أثره
الخطير على الفقه السياسي حيث تصدى الأشاعرة لكل من ناوئ السلطة التي عززت من مكانتهم
ونشرت مذهبهم لما تضمنه من أصول عقائدية تفتح الباب على مصراعيه أمام الظلم والاستبداد
ومن ذلك القول بالإرجاء وأن الإيمان هو التصديق ولا كفر إلا بالجحود ليمنعوا من الخروج
على الأئمة مهما انحرفوا وخرجوا عن حدود الشريعة ما داموا يدعون الإيمان القلبي! ولهذا كان المأمون يقول: (الإرجاء دين الملوك)!
ومن ذلك قولهم بالجبر وأن لا فعل للإنسان على الحقيقة! ومنه أيضا نفيهم مبدأ السببية! وكلها آراء تحمل
على تعطيل ملكة العقل وتدعو لترك العمل وتبرر الواقع وترفض تغييره وتنتظر ما يأتي به
القدر!
ومن أصول الأشعرية أيضا التي أثرت في الواقع السياسي ما قرروه في باب الإمامة
في أصول الدين وفي كتب الأحكام السلطانية من أن البيعة للخليفة تنعقد بصفقة رجل واحد،
وجواز العهد للأبناء، وجواز العهد لاثنين وثلاثة، وجعل اغتصاب الإمامة بالقوة سببا
لانعقادها لمن اغتصبها، والقول بحرمة الخروج على الإمام الجائر مطلقا دون مراعاة لمصلحة
أو مفسدة.... إلخ!
ولما اشتهر الأشعرية بأنهم هم
متكلمو أهل السنة في تصديهم للمعتزلة والشيعة والخوارج وكان منهم أئمة في الحديث والفقه
كالنووي وابن حجر والقاضي عياض وجدت أقوالهم هذه طريقها للفقه السني الذي تقبل الخطاب
السياسي المؤول بالأمس والخطاب السياسي المبدل اليوم! وهذا الذي يفسر سبب عناية الخلفاء والسلاطين بالمذهب
الأشعري قرونا طويلة وقد شاعت كل آرائهم في هذا الباب بين أهل الحديث والأثر كما شاعت
بين فقهاء المذاهب الأربعة واستقرت ورسخت على مر القرون مع أنه لم يخل المذهب الأشعري
ممن يخالف في بعض هذه الأصول إلا أن هذا ما استقر وتقرر!
8- ومن الملحوظات على الدراسة النقدية أنها اختزالية انتقائية فكل الآراء
التي اخترتها ورجحتها في كتابي (الحرية أو الطوفان) لموافقتها للأصول القرآنية والنبوية
والراشدية للخطاب السياسي قال بها جماعة من الصحابة وأئمة التابعين ومن بعدهم فلم يقف
الشيخ الناقد لمناقشتهم أو لمناقشة أقوالهم! بل اختزل القضية بحاكم المطيري الذي يعيش
هزيمة نفسية تحت ضغط الواقع جعلته يفسر التاريخ تفسيرا غريبا غربيا كما يقول الشيخ
الناقد! ومن ذلك زعمه بأنني أثنيت على الخوارج الذين خرجوا على عثمان رضي الله عنه! مع أنني نقلت بالروايات الصحيحة عن عثمان نفسه أنه
أثنى على القوم الذين اعترضوا على سياسته بعد أن عقد معهم اتفاقية سياسية التزم بموجبها
بتحقيق ما طلبوه منه كتغيير أمراء الأقاليم وقسم الفيء بالسوية ورد من تم نفيهم إلى
بلدانهم فقام عثمان رضي الله عنه وخطب في المسجد وقال: (والله ما رأيت وافدا خيرا منهم
إن قالوا إلا حقا وإن سألوا إلا حقا) وقد كان فيهم زيد بن صوحان والأشعث النخعي وكميل
بن زياد وجماعة من كبار التابعين من العلماء وأبطال الفتوح وهذه حقائق تاريخية لا يمكن
نفيها بقول الحسن البصري وغيره على فرض صحة أنه قال ذلك، ومما يشكل على ما ذكره الشيخ
الناقد موقف علي رضي الله عنه من الذين خرجوا على عثمان فقد جعل علي حين صار خليفة
قادة المعارضة بعد ذلك أمراء على أقاليم الدولة وقادة لجيوشه ومنهم الأشتر النخعي ومحمد
بن أبي بكر ومحمد بن حذيفة وكميل بن زياد وغيرهم وكانوا أكثر جيشه، ولا تفسير لهذا
الموقف إلا القول بأن رأي علي فيهم يختلف عما شاع في الثقافة الأموية بعد ذلك، فقد
فرق علي رضي الله عنه بين قادة المعارضة الذين لم يشتركوا في قتل عثمان ولم يرضوا قتله
وهم أكثر المعارضة، ومن اشتركوا في قتله وهم الذين توعد علي رضي الله عنه بالقصاص منهم
ولعنهم وذمهم وكانوا شرذمة قليلة لم تعرف أعيانهم ولهذا لم يستطع علي أخذ القصاص منهم
لعدم معرفته بمن تسور على عثمان وقتله يقينا، فمن الخطأ الخلط بين الفريقين وإلا كان
علي نفسه متهما حيث جعل من المجرمين القتلة قادة للدولة والجيش وهي التهمة التي اتهمه
بها بعض من ثاروا لأخذ القصاص بدم عثمان مع براءته رضي الله عنه من تلك التهمة.
والمقصود أن عثمان نفسه أثنى على قادة المعارضة الذين أنكروا المنكر وتصدوا
للظلم الذي لا علم لعثمان به لكبر سنه واتساع دولته، وكذا زكاهم علي حين اختارهم أمراء
لدولته وجيشه مع شدته بالحق وعدم خشيته في الله لومة لائم فلا يقبل الاعتذار عن علي
رضي الله عنه بأنه اختارهم مكرها أو أنه كان عاجزا أو أنه كان يراعي مصلحة في الوقت
الذي لم يتردد في خوض حرب الجمل وصفين فدل ذلك على أن القضية لا تفهم على النحو الاختزالي
الذي عرضه الشيخ الخراشي ولا بد من عرضها عرضا موضوعيا وتفسيرها تفسيرا علميا معقولا
يرفع الشبهة والتهمة عن علي وعثمان رضي الله عنهما.
9- ومن الملحوظات
على الدراسة النقدية أيضا عدم وضوح الأصول التي تقوم عليها فقد ذكر الناقد بأن صحيفة
المدينة ضعيفة وأحال على دراسة اليامي كما ضعف رواية أمر عمر صهيبا بقتل من خالف من
أهل الشورى ما اتفق عليه الأكثر وأحال على دراسة أخرى! وكأن تضعيف هذا أو ذاك كاف في
إثبات الحكم على الرواية بالضعف وكاف في إلزام المخالف في الرأي! ومع أنه لا يضر كتاب (الحرية أو الطوفان) تضعيف
خبر الصحيفة وخبر صهيب لأنهما ليسا من الأصول في الكتاب بل وردا على سبيل الاستشهاد
والمتابعات، ووجه الاستشهاد بخبر صهيب هو في إثبات أن عمر أمر بأخذ رأي الأكثر إذا
اختلف أهل الشورى وهذا القدر ثابت بالروايات الصحيحة الأخرى التي أوردتها قبل خبر صهيب،
أما الأمر بقتل من خالف منهم رأي الأكثر فليس مقصودا حتى يقف عنده الناقد الفاضل وليس
فيه غرابة بل الأمر بقتل من شق عصى الجماعة ووحدة الأمة وارد بأحاديث نبوية صحيحة كما
أشار إليه شيخ الإسلام ابن تيمية، بل ووارد بالروايات الأخرى عن عمر نفسه، ولعل عمر
أراد التغليظ كالأمر بقتل من مر بين يدي المصلي الذي ليس على ظاهره بل للدلالة على
خطورة الأمر، وقد روى خبر صهيب هذا المؤرخ الكبير موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر
وهذا إسناد على شرط البخاري.
ثم على فرض ضعف خبر الصحيفة وخبر صهيب فليس هناك ما يمنع من إيرادهما على
سبيل الاستشهاد لا الاحتجاج، خاصة وأني ذكرت شرطي في أول كتابي وأنني أقتصر على الروايات
الصحيحة والمقبولة عند المؤرخين دون الموضوعة، وللمؤرخين بل وللمحدثين مدارس مختلفة
في النقد وقبول الأخبار ليس هذا محل تفصيل القول فيها وبالإمكان الرجوع لبحثي المحكم
والمنشور بعنوان (منهج ابن جرير الطبري في نقد الأخبار) هذا المنهج النقدي الذي تجلى
في أوضح صوره في كتابه (تهذيب الآثار) الذي صحح فيه كثيرا من الأحاديث التي ضعفها غيره
من الأئمة بناء على قواعده في النقد.
والحاصل أن خبر صحيفة المدينة مقبول عند علماء السير والمؤرخين وقد وردت
بعض نصوصها بأسانيد صحيحة أو حسنة في مسند أحمد وغيره وأوردها ابن إسحاق وغيره كاملة
مرسلة لشهرتها كعادته في حذف أسانيد ما تواتر أو اشتهر من أخبار السيرة النبوية ومما
يدل على الفرق بين طريقة المحدثين والمؤرخين قول الشافعي في حديث: (لا وصية لوارث)
بأنه لا يكاد أهل الحديث يثبتونه وإن كان أهل السير والأخبار لا يختلفون في أن النبي
صلى الله عليه وسلم قاله في خطبته في مكة!
وقد روى خبر الصحيفة ابن إسحاق في السيرة ـ وكما عند البيهقي في السنن
الكبرى 8/106 من طريق محمد بن إسحاق ـ عن محمد بن عثمان بن خنيس أخذه من الصحيفة التي
عند آل عمر بن الخطاب مطولا، وهذا إسناد كالمتصل وشهرة الكتاب تغنيه عن الإسناد كما
قال شيخ الإسلام في صحيفة عمرو بن شعيب، وقد كانت سيرة ابن إسحاق من أشهر كتب مطلع
القرن الثاني وقد جمعها ابن إسحاق ـ الذي ولد في آخر عهد الصحابة ـ في أول القرن الثاني
110هـ وأخرجها في حدود سنة 135ـ 140هـ وتداولها أئمة الإسلام ومنهم الشافعي وأثنوا
عليها واعتنوا بها وابن إسحاق إمام أهل السير بعد شيخه الزهري بلا خلاف وقوله في السيرة
مقدم على قول من خالفه فيها إلا ما دل الدليل على خلافه، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية
عن صحيفة المدينة في الصارم المسلول ص 64 (هذه الصحيفة معروفة عند أهل العلم) واحتج
بها، وقد رواها عبدالرزاق في المصنف ح رقم 18879 في كتاب العقول عن معمر عن الزهري
قال وبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الكتاب الذي كتبه بين قريش والأنصار
(لا يتركون مفرحا أن يعينوه في فكاك أو عقل) وهذا إسناد مسلسل بالأئمة الحفاظ إلى إمام
أهل المغازي والسير ابن شهاب الزهري وهو شيخ ابن إسحاق وهذا اللفظ جزء من سياق خبر
الصحيفة المطول وفي قول الزهري: (في الكتاب الذي كتبه بين قريش والأنصار)دليل على شهرة
الكتاب، كما روى خبر الصحيفة أيضا أحمد في المسند من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن
جده (أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب كتابا بين المهاجرين والأنصار أن يعقلوا معاقلهم
وأن يفدوا عانيهم بالمعروف) وهو جزء من خبر الصحيفة الطويل، وقد عقد ابن كثير في تاريخه
فصلا بعنوان: (عقده عليه السلام بين المهاجرين والأنصار في الكتاب الذي أمر به فكتب
بينهم وموادعته اليهود الذين كانوا بالمدينة) وساق خبر الصحيفة مطولا.
وعلى كل حال فخبر الصحيفة لا يشك في ثبوته من له أدنى معرفة بالسيرة النبوية
ومن له معرفة بألفاظ وأسلوب الخطاب النبوي الذي أوتي جوامع الكلم وقد شرح ألفاظ الصحيفة
الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام في غريب الحديث، ولا أعرف أحدا من أهل العلم حكم بوضعها
أو ببطلانها غاية ما هنالك أنها جاءت مرسلة ـ وبعض طرقها موصولة ـ والمرسل مختلف في
الاحتجاج به حتى قال ابن جرير بأنه لم يختلف أهل العلم قبل الشافعي بالاحتجاج بالمرسل
وكذا الشافعي لم يرد المرسل بل قبله بشروط اشترطها له ولا يختلف أهل العلم في السير
والأخبار في أن النبي صلى الله عليه وسلم كتبها حين دخل المدينة بين المهاجرين والأنصار
وعاهد فيها اليهود وشرط لهم وعليهم وقرر فيها الحقوق والواجبات السياسية العامة والخاصة
بأبلغ عبارة وأفصحها مما يعد من جوامع الكلم النبوي الذي لا يمكن النسج على منواله
وليس فيها ما هو منكر أو شاذ، ولعل الله ييسر لي دراسة مستقلة في بيان الفرق بين طريقة
علماء المغازي والسير وعلماء الحديث والسبب الذي حمل علماء السير على حذف الأسانيد
في كثير من الحوادث المشهورة التي أوردوها في كتبهم التي كانت أسبق ظهورا من كتب الحديث
حيث ألف عروة بن الزبير المغازي وكذا الزهري ومحمد بن إسحاق وهو ما حمل المستشرقين
على القول بأن الإسناد تم اختلاقه في القرن الثاني لكون كتب السيرة ورواياتها جاءت
مرسلة ولم يقفوا على أسباب ذلك فجاء من المحدثين المعاصرين من أرد الحكم على مرويات
السيرة النبوية وفق منهج أهل الحديث فأسقط في يده واضطرب عليه الأمر وفاتهم أن للسيرة
علماؤها وأصولها العلمية التي تغاير أصول علم الحديث، وأن المرجع في معرفة أحداث السيرة
وأيام النبي صلى الله عليه وسلم ومغازيه هم أهل المغازي والسير لا أهل الحديث والأثر
ولهذا كان البخاري رحمه الله ربما بوب أو استشهد في كتاب المغازي من صحيحه بقول ابن
إسحاق أو قول الزهري أو موسى بن عقبة فهم الحجة والمرجع في هذا الفن.
10- ومن الملحوظات
على دراسة الشيخ الفاضل الاضطراب في تقرير الأصول ففي الوقت الذي يثني فيه على الخطاب
الراشدي ويقرره كأصل يجب الرجوع إليه يعود فيناقضه ويعارضه بالخطاب المؤول! ومن ذلك
ما ثبت بالتواتر عن علي رضي الله عنه فيما سنه من سنن عظيمة في شأن الخوارج وما قرره
لهم من حقوق حتى قال شيخ الإسلام ما معناه أن الصحابة أجمعوا على ما سنه علي في الخوارج
من الحكم بإسلامهم وتحريم دمائهم ما لم يصولوا على المسلمين وأنه إنما قاتلهم دفعا
لشرهم لا لكفرهم، وقد نقلت من كلام أهل العلم ما يوافق هذا الرأي كما نقله ابن قدامة
في المغني أما ما خالف هذه السنة الراشدية من كلام الفقهاء بعد العهد الراشدي فهو من
الخطاب المؤول كقول من قال بكفرهم واستحل دماءهم احتجاجا بحديث (يمرقون من الدين) وقد
رد شيخ الإسلام ابن تيمية هذا القول واحتج بسنة علي فيهم وإجماع الصحابة على رأي علي
فيهم، وجمع بين الأحاديث الواردة في شأنهم، وإنما وقع الخطأ في فهم كلام الأئمة من
بعض متأخري أتباعهم الذين حملوا ألفاظهم على غير وجهها حتى كفروا أهل البدع من أهل
القبلة مع أن نصوص الأئمة لا تفيد ذلك، بل نص شيخ الإسلام على صحة الصلاة خلف الجهمي
والرافضي، والمقصود أنني حين كنت أستطرد في بيان أصول الخطاب الراشدي وسننه أوردت من
كلام الفقهاء ما يوافق هذه الأصول للدلالة على وضوحها ورسوخها عند كثير من الفقهاء
حتى بعد العهد الراشدي وأنني لست مبتدعا فيما نسبته إلى الخطاب الراشدي من أصول وسنن
فلا يصح الاستدراك علي بأني لم أذكر آراء الفقهاء الآخرين التي خالفت هذه الأصول والسنن
وهو ما ذكرته بعد ذلك في الخطاب المؤول وما طرأ عليه من تراجعات كبيرة فلكل مقام مقال
يناسبه.
11- ومن الملحوظات
على نقد الشيخ الفاضل المبالغة حد الإغراق في مناقشة موضوع الخروج على أئمة الجور حتى
بدا لي وكأن المقصود من النقد كله هو هذه القضية بالذات ووصل الأمر بالناقد حد التعريض
بالحسين سيد شباب أهل الجنة وأنه خالف وأخطأ ولم يشفع له كونه من صغار الصحابة وحفيد
رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد نال السيادة بالشهادة كما في الحديث: (سيد الشهداء
حمزة ورجل قام إلى إمام جائر فأمره فنهاه فقتله) وقد ثبتت هذه السيادة للحسين بحديث:
(الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة) وليس للحسين لمن طالع سيرة حياته عمل أجل وأشهر
من خروجه على يزيد وتصديه لجوره وظلمه فعرفنا أن سيادته شباب الجنة إنما كانت بالشهادة
التي كتبها الله له حين تصدى للإمام الجائر فقتله، كما كانت سيادة الحسن بإصلاحه بين
المسلمين وتنازله عن الإمامة والخلافة مع شرفها للم شمل الأمة وجمع كلمتها ـ وليس للحسن
لمن طالع سيرته أشهر وأجل من هذا العمل ـ فنال السيادة والشرف الأخروي بهذا العمل كما
ثبت ذلك بحديث: (إن ابني هذا سيد وإن الله سيصلح على يديه بين طائفتين من المسلمين)،
فالسيادة الأخروية للحسن والحسين لم تكن بنسبهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم بل
بعملهما رضي الله عنهما، فالحسن جمع كلمة الأمة والحسين تصدى لجور الأئمة، وكلاهما
عمل سياسي شرعي عظيم كما في الحديث: (الدين النصيحة ولأئمة المسلمين وعامتهم) فالعناية
بأمر الأمة والأئمة بالقيام بما أوجب الله تجاههم هو حقيقة الدين، ومن ذلك الأخذ على
يد الظالم وأطره على الحق أطرا ونصرة المظلوم والصدع بالحق كما في الحديث: (أفضل الجهاد
كلمة حق عند سلطان جائر) كل ذلك من النصيحة ومن الدين، ولا يغني عن ذلك الجلوس في المساجد
وتربية الناس وتعليمهم بدعوى أن هذه هي طريقة السلف ـ افتراء عليهم ـ بل هي سنة نصرانية
(دع ما لله لله وما لقيصر لقيصر)، فمن عاب
على المجاهدين والمصلحين تصديهم للظلم ونصرهم للمظلومين بدعوى أن هذا من السياسة وأنها
تخالف الأسلوب الصحيح في الدعوة إلى الله فقد قال قولا عظيما وأمر بترك ما أوجب النبي
صلى الله عليه وسلم على أمته القيام به تقليدا لما قاله هذا الشيخ أو ذاك الشيخ الذين
حصروا الدعوة بالتربية والتعليم والتصفية وهو خلاف ما جاء به القرآن وما أمر به النبي
صلى الله عليه وسلم وما أجمع عليه الأئمة من أن الإسلام كمل وعلى الأمة القيام بكل
ما أوجب الله عليها القيام به من فروض الأعيان وفروض الكفايات لا يسقط شيء منها عنها
ومن ذلك دفع العدو الصائل الكافر والتصدي لجور الجائر وأطره على الحق أطر والأمر بالمعروف
ونحو ذلك من أحكام الإسلام، أما الجلوس في المساجد والتعليم وتحقيق الكتب فهو أمر مشروع
ومن فروض الكفايات ولا تحصر الدعوة والدين به ولا يبتدع للناس طريقة في الدعوة إلى
الله غير ما جاء به الكتاب والسنة وما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه،
وفي الوقت الذي عرض الشيخ الناقد بالحسين نجده في المقابل أطال في الثناء على يزيد
والاعتذار عنه وجعل من التعرض ليزيد تعرضا لمعاوية رضي الله عنه، بينما لم يجعل الناقد
التعرض للحسين وتبرير ما جرى له من باب التعرض لمقام النبوة التي شهدت للحسين بالسيادة
والشهادة! فصار أمر يزيد التابعي الذي فعل
ما فعل جيشه يوم الحرة ويوم كربلاء أكثر أهمية من الحسين الصحابي الحفيد الشهيد كل
ذلك بسبب شيوع الخطاب السلطاني وطغيان ثقافته على الخطاب القرآني!
وكذلك أطال الناقد البحث في قضية الخروج وتحريمه حد الإغراق! مع أن مشكلة
الأمة اليوم هي أكبر من ذلك وتتمثل في سقوط الخلافة والإمامة نفسها التي يحرم الخروج
عليها، وسقوط الدولة الإسلامية كلها، وتشرذم الأمة الواحدة، وتعطيل الشريعة، وسيطرة
العدو الكافر على الأمة، واحتلاله أرضها والتصرف في شئونها، وفرضه البديل التشريعي
والفكري والثقافي عليها وتهميش وإقصاء دينها، وإقامته دويلات الطوائف الصليبية التي
أقامها منذ الحرب العالمية إلى اليوم فهو الذي حدد حدودها وأقام حكوماتها ووضع قوانينها
وتشريعاتها واتخذها قواعد عسكرية له تنطلق منه جيوشه الصليبية متى ما أراد، حتى صار
المسلمون يبحثون منذ سبعين سنة عن مخرج لما هم فيه بالاشتراكية تارة وبالقومية تارة
أخرى وبالليبرالية والديمقراطية الغربية تارة ثالثة، ولا حل لهذه المشكلة بل الكارثة
السياسية التي تعيشها الأمة إلا بالخطاب الراشدي الذي حاولت في (الحرية أو الطوفان)
بعثه والتبشير به والدعوة إلى إحيائه من جديد كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم وقد
تم تعطيل أصول هذا الخطاب جلها في الخطاب المؤول بالأمس، وكلها في الخطاب المبدل اليوم،
حتى صارت الشوكة في أرض الإسلام اليوم للكفار والأمر أمرهم والشوكة لهم يحتلون من دار
المسلمين ما شاءوا ولم يعد هناك إمام شرعي تجب له الطاعة الشرعية التي هي من طاعة الله
ورسوله وإنما حكومات فرضها العدو منذ أن أسقط الخلافة العثمانية وهو الذي يدير شئونها
ويحميها فالطاعة لها في واقع الأمر طاعة قهرية وهي طاعة للعدو الكافر الذي وراءها،
فلا معنى للاحتجاج بأحاديث السمع والطاعة وتحريم الخروج على الإمام الجائر أو تنزيل
كلام الأئمة في الخلفاء من بني أمية وبني العباس على الواقع اليوم حيث لا خلافة ولا
أمة ولا جماعة ولا دار للإسلام تقام فيها أحكام الإسلام والشوكة فيها للأمة، ولسنا
في حاجة للتثوير أو التخدير بل في حاجة لمعرفة الدين الحق الذي يخرجنا من هذه الظلمات
إلى النور ويحررنا من هذا الظلم والجور ثم العمل على بعثه والتبشير به ودعوة الناس
إليه ومجاهدة الطغاة عليه جهادا كبيرا بكل وسيلة مشروعة!
12- ومن الملحوظات على الدراسة النقدية أيضا عدم وضوح المنهج النقدي فقد احتج
الناقد بروايات ضعيفة منكرة يعارضها ما هو أصح وأثبت منها ومن ذلك ما أورده عن سعد
بن عبادة أنه قال يوم السقيفة: (صدقت أنتم الأمراء ونحن الوزراء) وهذه رواية منكرة
تعارض ما ثبت في الصحيح أنه رفض الأمر وهدد وتوعد حتى نزا عليه الناس وهو مزمل يوعك
فقيل للناس: (قتلتم سعد بن عبادة) فقال عمر: (قتله الله) وبايع الناس أبا بكر ولم يبايعه
هو بل ذهب للشام مغاضبا كما هو مشهور من خبره، وقد احتج شيخ الإسلام ابن تيمية على
أنه لا يشترط لصحة البيعة الإجماع بحادثة سعد هذه، وقرر أنه يكفي بيعة جمهور الناس
الذين تتحقق بهم الشوكة، ولو فرض أن أبا بكر احتج على الأنصار بحديث الأئمة من قريش
لكان في مخالفة سعد ما يدل على أنه لم يفهم من الحديث أن الخلافة محصورة فيهم بل حمله
على معنى آخر ـ إذ يبعد أن يرد سعد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ فقد كان النبي
صلى الله عليه وسلم في بداية الهجرة يأمر الأنصار أن يأخذوا عن المهاجرين الذين كانوا
أعلم منهم بالقرآن وأحكام الإسلام ويأمر المهاجرين أن يكونوا أئمة لغيرهم من المسلمين
يصلون بهم ويقرئونهم القرآن، ويقول قدموا قريش ولا تقدموها فربما فهموا أنهم أئمة بهذه
الحيثية، وعلى كل حال فالروايات الصحيحة لم تذكر احتجاج أبي بكر بحديث الأئمة من قريش
يوم السقيفة بل قال إن العرب لا تعرف أو لا ترضى إلا بهذا الحي من قريش فلا تشقوا عصى
الإسلام، ولهذا ورد عن عمر أنه أراد أن يستخلف سالما مولى حذيفة ومعاذ بن جبل وليسا
من قريش.
13- ومن الملحوظات
أيضا وقوع الدور في الدراسة النقدية فقد ذكرت أنا موضوع اشتراط القرشية عرضا في الحاشية
ونقلت كلام ابن حجر في الفتح في نقل الخلاف في المسألة والرد على من ادعى الإجماع عليها
ومن ذلك ما ورد عن عمر أنه أراد استخلاف معاذ بن جبل وسالم مولى أبي حذيفة وما استشكله
الحافظ ابن كثير عن مبايعة أئمة التابعين الذين خرجوا مع عبدالرحمن بن الأشعث له مع
أنه لم يكن قرشيا بل من كندة من قحطان وأقل ما في ذلك ثبوت الخلاف في هذه الدعوى، فجاء
الناقد الفاضل وقال بأنه يشترط للإمامة القرشية وأحال على كتاب الشيخ الفاضل عبدالله
الدميجي (الإمامة العظمى)! ولا أدري ما مقصوده
من هذا الاستدراك هل يريد نفي وقوع الخلاف في المسألة مع ثبوته فيها كما نقلناه عن
ابن حجر؟ أم يريد ترجيح القول باشتراط القرشية؟ وليس هذا ترجيحا حيث لم يناقش الأدلة
التي أشرنا إليها ولم يعقب عليها وليست الإحالة في حد ذاتها ترجيحا بل تقليد محض لا
يصلح في باب النقد والمناظرة بل هذا هو الدور بعينه!
14- ومن الملحوظات
أيضا كثرة الدعاوى في الدراسة النقدية ومن ذلك الادعاء بأن قصة التحكيم مكذوبة! ولا أدري ما المكذوب في قصة التحكيم؟ أهو حدوث التحكيم نفسه بين أبي موسى الأشعري وعمرو
بن العاص كممثلين لعلي وأهل العراق من طرف ومعاوية وأهل الشام من طرف آخر؟ أم رضا علي بالحكم ولو على حز عنقه فضلا عن ترك
الخلافة؟ أم اتفاق الحكمين على عقد اجتماع آخر يحضره الصحابة من قابل ليختاروا من شاءوا
خليفة لهم؟ وهو ما أدى إلى خروج الخوارج على علي لكونه رضي بالتحكيم الذي يعني ضمنا
قبوله بالنتيجة حتى لو أدى ذلك لخلعه وبيعة غيره، أم المكذوب هو اجتماع الصحابة بعد
ذلك في المكان الذي تم تحديده وحضور ابن عمر وغيره ممن اعتزل الفتنة حيث تم تداول بعض
الأسماء للخلافة كاسم عبدالله بن عمرو بن العاص وغيره وعدم الاتفاق على أحد بعينه مما
أدى إلى التأجيل بعد ذلك ثم حدوث اغتيال علي وتنازل الحسن عن الخلافة واجتماع الأمة
على معاوية؟
فهذا القدر من حادثة التحكيم معلوم من تاريخ المسلمين محفوظ بالروايات
المتواترة والمشهورة الصحيحة من حيث الإجمال وهذا القدر هو الذي أحتج به على أن الحق
في اختيار الإمام للأمة وأنه عند الاختلاف والتنازع يجب الرد إليها كما فعل الخليفة
الراشد علي بن أبي طالب وإنما كان الخوارج هم أول من أنكر هذا الأصل وهذه السنة الراشدية
التي أجمع عليها الصحابة حتى من اعتزلوا الفتنة حضروا التحكيم لكونه هو الذي أمر الله
به في قوله تعالى: (وأمرهم شورى بينهم).
أما ما عدا ذلك من أخبار حادثة التحكيم وما جرى في ثناياه من تفاصيل فليس
ذا أهمية ولم أحتج به ولم أبن عليه أصلا من أصول الخطاب الراشدي سواء كان مقبولا أو
مردودا فما هو إذا المكذوب من قصة التحكيم؟
وعلى كل فهذه بعض الملحوظات التي خطرت لي حين قرأت الدراسة النقدية وتمنيت
لو اقتصرت الدراسة على نقد أصول الخطاب الراشدي أو الاستدراك عليها إذ هي الأصول التي
يدعو إليها الكتاب وهي لب الكتاب ومقصوده فهي التي تستحق من أهل العلم وأرباب القلم
النقد والعناية والدراسة إذ هي التي أمر الشارع بالتمسك بها والعض بالنواجذ عليها وهي
التي بشر بها وبعودتها، فالواجب معرفة هدي الخلفاء الراشدين وسننهم، واستنباط أصول
الحكم التي ساسوا الأمة بها، والقواعد التي التزموها، وكذا معرفة المحدثات التي أحدثها
أصحاب الملك العضوض والملك الجبري، وسننهم الذي اتبعوا بها سنن القياصرة والأكاسرة،
فهذا هو المهم في هذا الموضوع فمن استطاع أن يدلي بدلوه في تجلية هذه القضية أو الاستدراك
عليها فلا يتردد فالأمة اليوم في حاجة لدينها وهداياته للخروج من محنتها ولا يتصور
أن لا يكون في القرآن الذي قال الله فيه: (كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات
إلى النور بإذن ربهم) بيان لما تحتاجه الأمة لإقامة أمر دنياها على العدل والقسط الذي
جاء به الكتاب والذي أقامه لها النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون من بعده،
وهو ما اجتهدت في بيانه في (الحرية أو الطوفان) والذي كان دراسة للمراحل التاريخية
للخطاب السياسي الشرعي، ولما استشكل بعض أهل العلم بعض ما ورد فيه، رأيت ضرورة بيان
الأصول العقائدية للخطاب الشرعي السياسي التي يقوم عليها الخطاب العملي التشريعي وسيصدر
قريبا بإذن الله تعالى بعنوان: (تحرير الإنسان) دراسة في أصول الخطاب السياسي الشرعي
القرآني والنبوي والراشدي، وسيكشف بإذن الله أصول الخطاب السياسي الشرعي وغاياته ومقاصده
وعلله بحيث تنتظم الأحكام وفق الأصول العقائدية والتشريعية التي تقوم عليها، وسيكون
كتابا شاملا لهذا العلم أصولا وفروعا وقواعد، فأسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن يحيي
سنن نبيه وهديه وهدي خلفائه، وأن لا يجعلنا نصيرا للظالمين، ولا ظهيرا للمجرمين، ولا
فتنة للمؤمنين، آمين آمين.