رســـــالة وفــــــاء
بقلم عواد العنزي
صحفة مشكاة الرأي عدد 15 ـ صحيفة الوطن 5/5/1997
كثيرة هي المحطات التي يقف فيها المرء في هذه الحياة الدنيا فرحا أو محزونا لكن ما يلبث أن يغادر هذه المحطة ليحط رحاله في مكان أخر ... وهكذا تستمر الحياة ... ومن رياض الأخلاق التي لا تنسى في حياتي روضة فيحاء ، وحديقة غناء لا زالت أزاهيرها تعبق في أنفي رغم مرور السنوات الطوال عليها ... هذه المحطة ... هي بداية معرفتي لأخي وصاحبي وشقيق الروح الأديب اللبيب والشيخ الشاب / حاكم العبيسان المطيري .
درسنا المرحلة الجامعية سويا ، ثم الماجستير ثم فرقتنا الجامعات في مرحلة الدكتوراه فغرب وشرقت , ...
قد يجمع الله الشتيتين بعدما
يظنان كل الظن ألّا تلاقيا
فكانت هذه الخواطر اعترافا بنبل أخلاقه وأصالة معدنه وحنينا إلى ماض زاهر وأخوة عاطرة نسأل الله أن يجمعنا وإياه على الطاعة في الدارين .
زفرات القلم هذه رسالة وفاء لأخ أخلص لنا في الوداد فأخلصنا له . وإلى لقاء قريب إن شاء الله تعالى .
ذكراك بدر ينير الدرب للساري
فأسمع صداها على قيثار أشعاري
يا نفحة الطيب يا عطر الزهور ويا
ريح البخور إذا هبت بأسحار
لله هذا المحيـا في مهابتـه
كأنه صـارم في كف كـرار
هذي الفضائل قد طوفت معهدها
حتى غلبت الورى في كل مضمار
فللأخوة دار أنت درتها
ليست سرابا بناه كل ثرثار
يهذرمون إذا مر الحديث عشي
عن الأخوة أو حب وإيثار
فإن أردت دليلا عن أخوتهم
تكشفت عن ( أباطيل وأسمار )
كم في الأنام جميل الثوب منظره
ينبيك عن حسن أقوال وأخبار
(إذا دفعته نحو الرمح صار عصا)
وراح يضرب أعذارا بأعذار
لله درك ما خالطت باطلهم
بل كنت حرا ومن أنسال أحرار
وإن تخاذل يوم الروع قسورة
تبغي الحياة فأنت البائع الشاري
لك الشجاعة ما كنت الجبان إذا
تمازجت قعقعات الموت بالنار
وإن رددت على باغ قذفت لظى
كمدفع في حقول الموت هدار
فإن رضيت ( فنور العلم ) منتزه
وسلسل بين جنات وأنهار
سبحان من وافق الضدين في جسد
به تلاءم برد النور والنار
أما القريض فأنت اليوم سيده
يغضي أمامك فيه (ألف بشار)
أدامك الله للإسلام رمز علا
وللفضائل والأخوان والجار
سارت بيارق شعري كي تخبرهم
بجحفل من عتيق الشعر جـرار
أنا على العهد لا زلنا فإن فنيت
منا الجسوم سيبقى الشعر تذكاري
نظم الدراري لقدوم الكوكب الساري
بقلم : حاكم المطيري
مشكاة الرأي عدد 54 ـ صحيفة الوطن 2/2/1998
أتصل بي الشيخ الخطيب ، والشاعر الأديب ، الأخ عواد برد العنزي، وأنا في ( برمنغهام ) حيث المغربين ( الغرب ) و ( الغربة ) ، فأخذ يبث حنينه وأشواقه ، مرددا قول متمم بن نويرة في رثائه أخاه مالكا بن نويرة :
وكنا كندماني جذيمة حقبة
من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
فلما تفرقنا كأني ومالكـا
لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
وصدق لقد قضينا سنوات الدراسة الجامعية في كلية الشريعة في الكويت ، وسنوات الماجستير في جامعة أم القرى بمكة المشرفة معا في السراء والضراء ، وكما قالت العرب :
كم من أخ لك لم تلده أمك ؟! فأخذت أهون عليه الأمر ، وأبشر بقرب اللقاء والاجتماع ، وأخبرني عن مفاجأة سينشرها عما قريب ، يبث فيها حنينه ، فقلت له : رجائي أن تكف على الأقل هذه الأيام ، ولا تستثر سوانح شعري ، فيشغلني الشعر عما جئت من أجله ، فقال لي : يصير خير ، فما أن وضعت سماعة الهاتف حتى بادرتني السوانح ، فما زالت تتوارد علي ، وأدافعها ، حتى هاجت القريحة ، فإذا بي أردد :
عواد رفقا يا هداك الباري
أبكيت من أضناه بُعد الدارِ
يا صاحبي ما كنت أرضى بعدكم
لا حول لي في هذه الأقدار
يا ليت لي من كل شهر هاهنا
لو ساعة من تكلم الأسفار
حيث الطريق رفيقنا ، وأنيسنا
نجم السما وترنم الأشعار
نلهو كما الأطفال في خلواتنا
من دونما جدية ووقار
حتى إذا خضنا المحافل أثمرت
غيظ العدا وسعادة الأنصار
كم مرة بعنا النفوس رخيصة
من دون دين الله والأبرار
أين الدعي عن المبادئ يومها
كم من حقود يومها متواري؟!
إن سبحوا خوفا بحمد طغاتهم
تسبيحنا للواحد القهار
العبد يرضى أن يسام ظلامة
والحر ينزع منزع الأحرار
تفديك نفسي كم بلوتك مرة
فسطعت نورا أو سنى من نار
أنت الكريم إذا الرجال تسابقوا
للمكرمات سبقت بالمضمار
لو لم يكن من موقف لك خالد
ألا دفاعك عن حمى المختار
لكفاك يا أبن الوائلي كرامة
من ذا يباري مثلكم ويجاري؟!
لله در عشيرة تنمو لها
ريف الغريب وضيفهم والجار
يا أيها العنزي لن أنسى الذي
ما بيننا من صحبة وجوار
سأظل أشري ما حييت ودادكم
ما دام فيها بائع أو شار
وبعد ليال أتصل بي الأخ عواد مرة أخرى ، فقال لي : أسمع هذه الأبيات فقلت له : رجاء لا أريد سماع شيء من الشعر فقال : أسمع المطلع وسوف تنشر القصيدة في المشكاة كاملة فقد قضي الأمر . فرجوته عدم النشر فأبى!
وبعد مدة جاءني الأخوة الأفاضل أبو عبد المحسن أحمد اللوغاني يصاحبه خليفة الخليفة وطالب المري ، وكلاهما من قطر، بمقالة وقصيدة الأخ عواد بعنوان ( رسالة وفاء ) التي لم تكن سوى تعبير صادق عن شعوره وإحساسه نحوي أكثر من كونها وصفا حقيقيا واقعيا لشخصي ، وكما قال الأول :
وعين الرضى عن كل عيب كليلة
كما أن عين السخط تبدي المساويا
فلما قرأ الأخوة القصيدة ، واستحسنوها ، قرأت بعدها قصيدتي السابقة ، فقالوا : هذه جواب تلك فقلت : لا والله ما هذه بجواب لقصيدته ، ولا يهديني الذهب ، وأهديه الفضة، بل الذهب بالذهب يدا بيد مثلا بمثل أو ما ترون إلى مطلع قصيدته :
ذكراك بدر ينير الدرب للساري
فأسمع صداها على قيثار أشعاري
لله هذا المحيا في مهـابته
كأنه صارم في كف كرار ؟!
فأنه لم يكتف بأن يجعل من صاحبه بدرا حتى تجاوز إلى ذكراه ، فجعلها بدرا ينير الدرب للساري ـ وقصد بالساري نفسه ـ فإذا كانت الذكرى كذلك فما بالك بالصاحب نفسه ؟! ومع ذلك فإن ما نسمعه منه من شدو ليس سوى صداه الندي ، فكيف بصوته الغض الطري ؟! ثم بعد أن ذكر صفات صاحبه التي لا وجود لها إلا في ذهن ومخيلة شاعرنا العنزي ، وفي حال شوقه وحنينه إليه ، يتجاوز حد الإعجاب بهذه الصفات التي أضفاها على صاحبه إلى حد التعجب من اجتماعها في رجل واحد فيقول :
سبحان من وافق الضدين في جسد
به تلاءم برد النور والنار !
ثم ما زال به الحنين إلى صاحبه حتى لم يعد يرى الناس أحدا سواه ، حتى في باب الشعر ، ومضمار الشعراء ، وصار يخاطبه كأنه يراه ، ولم يعد يلتفت إلى من حوله أرضوا أم سخطوا قوله ؟!
فإذا هو يقول :
أما القريض فأنت اليوم سيده
يغضي أمامك فيه ألف بشار
وهذه هي المبالغة ، بل الغلو ، بل الإغراق ـ كما يقول البلاغيون ـ فلم يعد صاحبه في نظره كبشار بن برد فقط ، بل إن بشار ـ شاعر عصره ـ يغضي أمام ( شاعرية ) صاحبه ، بل ومع بشار ألف بشار مثله ؟!
لقد نسى الشاعر الأديب عواد العنزي نفسه وكونه معدودا في الشعراء ـ ومعلوم ما بين الشعراء من غيره وتحاسد ـ فكيف يمدح شاعرا ـ مجازا ـ ويصفه بهذا الوصف؟! وما ذلك كله إلا لأنه لم يعد يرى في صاحبه سوى ذاته ، وأنه جزء منه ، فمهما بالغ في مدحه فإنما يمدح نفسه ، وهل يغار الإنسان من نفسه؟!
ثم ختم قصيدته بقوله :
إنا على العهد لا زلنا فإن فنيت
منا الجسوم سيبقى الشعر تذكاري
وبين أول كلمة في القصيدة ( ذكراك ) وآخر كلمة ( تذكاري ) ارتباط جد وثيق ، ودليل واضح على شدة معاناة الشاعر بسبب الافتراق ، فما عاد أمامه سوى ( الذكرى ) و ( التذكار ) يعلل بهما النفس ، ويجد فيهما سلوته ، فقد صار الاغتراب والفرقة بمثابة الموت ـ في نظر الشاعر ـ فكلاهما فراق بين الصور والأشخاص وفي الذكرى والتذكر تخفيف من وطأة وألم الافتراق ، وكل هذه المعاني الجميلة من حب ووفاء وحفظ للصداقة، وغيرها من الأخلاق النبيلة ، إنما تحفظها المعادن الكريمة ، وتحملها النفوس العظيمة، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان ؟!
وقلت للأخوة : بل سيكون جوابها على نفس وزنها ، وعدد أبياتها ، فصاح بي الأستاذ الفاضل الأخ أحمد اللوغاني قائلا : (يا معود) ـ وهي كلمة كويتية شعبية ـ كم مرة قلت لك اترك الشعر وانتبه للدراسة ؟!
فقلت له : أبشر يا أبا عبد المحسن فقط هذه القصيدة ، فقال : والله ما أظن ستكون آخر قصيدة!
ثم لم تكد تمضي ساعات حتى انتظمت الأبيات غير أن مطلعها ظللت أياما لا أكاد أبنيه ، إلا وأعود انقضه فأرميه!
وكان يتردد لزيارتي الشيخ محمد الحبر يوسف عبد الدايم ابن الأستاذ والشاعر العلامة السوداني المشهور، ومحمد إمام وخطيب جامع المركز الإسلامي ( أمانة معاذ الخيرية ببرمنغهام ) وكانت شقتي بجانب المسجد ، فصار كلما رآني الشيخ محمد ضحك مرددا مطلع قصيدة الأخ عواد:
ذكراك بدر ينير الدرب للساري
فأسمع صداها على قيثار أشعاري
وسائلا عن الجواب ، فأقول له : أعياني مطلع القصيدة ، فقد جعل ذكراي بدرا ، وقصيدته صدى ، وجعلني خيرا من ألف بشار في مضمار الشعر ، وحملني ما لا أطيق فقتلني سامحه الله!
فقال : كأني بشيطان الشعر قد ألقاه على لسانك!
فما هي إلا لحظات فكان الأمر كما قال الحبر، فما إن دخل علي بعد صلاة المغرب منشدا بأعلى صوته:
ذكراك بدر ينير الدرب للساري
فأسمع صداها على قيثار أشعاري
حتى أجبته على الفور :
أهلا وسهلا بهذا الكوكب الساري
ومرحبا بالصدى من صوت قيثار
العين شاخصة والأذن صاغية
مني وقلبي وإحساسي وإسراري
يا شاعر الشرق قد أصبحت في طرب
من شدو صوتك لا من لحن أوتار
طربت من نشوة والشعر يطربني
حتى سكرت فلما طاب إسكاري
جاءت سوانح فكري وهي سافرت
نظرت فاخترت منها بنت أفكاري
يا أيها الكوكب الشرقي يحزنني
أن ليس عندي سوى دمعي وأشعاري
وكان حقك أن ألقاك مبتهجا
فدتك نفسي هل ترضيك أشعاري؟
أنوار شوقك جاءتنا كما مطر
ونار شوقي تصلى أيها الساري
ما إن بدا نورك الوضاء في وهج
حتى تمازجت الأنوار بالنار
فما سمعت ولا أبصرت نار لظى
قد استحالت إلى روض وأزهار
خذ ما تشاء ودع ما شئت من زهر
أنت المليك وأنت البائع الشاري
يا شاعر الشرق قد جاء لآلئكم
لها انحنينا بإجلال وإكبار
يا ليت لي نظم بشار فأهديكم
قلائدا أو لنا من شعر نزار!
وحق مثلك أن تهدى له درر
ما أجمل الدر في تيجان أحرار
أليس يكفيك أن تبقى أخوتنا؟
غطت مودتكم سمعي وإبصاري
فلست أسمع فيكم قول حاسدكم
بيني وبينهم سور بأحجار
خذ المواثيق لن أنسى أخوتكم
ومن لنا مثلكم في كل مضمار؟
إنا على العهد ما غنى الحمام ضحى
أو أطرب البيضَ صوتُ الطبل والطار
جاءت على عجل وكنت في وجل
أن لا أوفيها والحمد للباري