الفوضى العقائدية واللوحة
السريالية
مقال منشور في بوابة العرب
بتاريخ 29-5-2003
بقلم: أ.د. حاكم المطيري
يواجه الوسط الثقافي الكويتي بشقيه الإسلامي والعلماني وقواه السياسية
إشكالية كبرى تتمثل في تناقض مواقفها من الحرب على العراق مع مسلماتها وأصولها الأيدلوجية
سواء كانت وطنية أو قومية أو إسلامية، فإذا ساغ لبعض الفصائل العراقية الوقوف مع القوى
الدولية في حربها على وطنها بدعوى تغيير نظامه الدكتاتوري؛ فما الذي يمنع المعارضة
السورية والليبية والجزائرية والمصرية والسعودية والتونسية والسودانية والبحرينية والإيرانية...إلخ
في الخارج من استعداء القوى الدولية على بلدانها بدعوى تحريرها من حكوماتها غير الديمقراطية،
وهذا ما قام به فعلا بعض المعارضين المصريين والسودانيين والسعوديين في أمريكا وبريطانيا،
وقد عقد عدد من أعضاء مجلس العموم البريطاني مؤتمرا في لندن مع مجموعة من المعارضة
السعودية حول الوضع في المملكة العربية السعودية؟!
بالطبع لا يمكن القول بأن هذا الحكم خاص بالمعارضة العراقية دون غيرها
أو خاص بالنظام العراقي دون غيره، فإن جاز لبعض المعارضة العراقية اتخاذ مثل هذا الموقف
لكون النظام هناك نظاما دكتاتوريا ينتهك حقوق الإنسان؛ فأكثر الأنظمة في العالم العربي
على هذه الشاكلة، فقد بلغ سجناء الرأي في بعض الدول العربية خمسين ألف سجين، وقد تعرض
كثير منهم إلى أبشع أنواع التعذيب بما في ذلك التصفية الجسدية، وانتهاك الأعراض واغتصاب
الزوجات والبنات، كما تؤكد ذلك تقارير لجان حقوق الإنسان الدولية، ومن يستمع إلى وجهة
نظر أي من قوى المعارضة العربية في الخارج يخيل إليه أن وضعها هو الأسوأ على الإطلاق؟!
وإذا كان السبب هو كون النظام
العراقي نظاما علمانيا فأكثر الأنظمة العربية أنظمة علمانية قومية أو اشتراكية أو رأسمالية
وأوضاعها القانونية والتشريعية لا تختلف كثيرا عن الوضع في العراق، ولا يمكن ادعاء
سبب يسوغ للمعارضة العراقية اتخاذ مثل هذا الموقف إلا ويوجد مثله لدى قوى المعارضة
العربية الأخرى في الخارج، فما هي العلة التي يدور معها الحكم وجودا وعدما والتي هي
مناط الحكم كما يقول الأصوليون؟!
ثم تزداد الإشكالية تعقيدا إذا أدركنا أن مشكلة الاستبداد السياسي قد يتعرض
لها أي شعب في أي بلد بما في ذلك البلدان ذات الأنظمة الديمقراطية، كما حصل في أوربا
بعد الحرب العالمية الأولى ، حيث تحولت كثير من دولها إلى أنظمة ذات حزب واحد بعد أن
كانت دولا ديمقراطية؛ مما يعني أنه لا يوجد ضمانة لديمومة أي نظام سياسي؛ فهل يعني
ذلك تسويغ الاستعانة بالقوى الدولية ولو عن طريق الحرب لتغيير الأنظمة الاستبدادية
كلما وصلت إلى الحكم في هذه الدولة أو تلك؟! ثم تزداد الخطورة إذا كانت تلك القوى الدولية
لها أطماع أكبر وأهداف أبعد من وراء تدخلها العسكري، قد تكون على حساب استقلال الوطن
وسيادته، وعلى حساب حقوق الشعب ومصالحه!!
لقد ظلت قوى المعارضة في العالم العربي والإسلامي ترفض استعداء القوى الأجنبية
على دولها مهما كانت الأنظمة فيها دكتاتورية، وظلت تسعى إلى تغييرها من الداخل عن طريق
الانقلابات العسكرية أو الثورات الشعبية أو المقاومة المسلحة أو الضغط السياسي السلمي
أو الصبر حتى يحدث انفراج سياسي دون اللجوء إلى الوقوف في صف القوى الدولية في حال
شنها حربا ضد بلدانها، فقد ظل ذلك السلوك من المحظورات والمحرمات في ثقافة قوى المعارضة،
ليس فقط في العالم العربي والإسلامي بل في العالم كله؛ إذ يعد مثل هذا السلوك خيانة
عظمى للوطن والشعب، ولعل أول من أقدم على مثل هذه الخطوة في العالم الإسلامي المعارضة
الأفغانية الشمالية في وقوفها مع أمريكا في حربها ضد أفغانستان بدعوى مكافحة الإرهاب،
وأول من وقف هذا الموقف في العالم العربي بعض فصائل المعارضة العراقية في حرب أمريكا
على العراق بدعوى تحرير الشعب العراقي من حكومته، لتتشكل ولأول مرة ثقافة عربية وإسلامية
جديدة تجعل من الخيانة للوطن جهادا ومن الاحتلال الأجنبي تحريرا؟!
ولعل أوضح تناقض يواجه الوسط السياسي
والثقافي الكويتي بشقيه الإسلامي والعلماني الموقف من جبهة الإنقاذ في الجزائر والتي
اختارها الشعب الجزائري لتكون ممثلا له بالأغلبية الكاسحة، والتي واجهت انقلابا عسكريا
دمويا زج بالآلاف من قياداتها وشبابها بالسجون بعد نجاحها مباشرة، وتعرض كثير منهم
للتصفية الجسدية والتعذيب، وقد بلغ عدد السجناء منهم أكثر من أربعين ألفا، وما زال
قادتها في السجون إلى اليوم، ولم يشفع كل ذلك لدى الوسط الثقافي الكويتي لجبهة الإنقاذ
في تصديها ومقاومتها للاستبداد السياسي العسكري الذي صادر حق الشعب الجزائري؟!
لقد تم تجريم جبهة الإنقاذ من
قبل كثير من الإسلاميين في الكويت، ووصموا مقاومتها بالإرهاب والخروج عن تعاليم الدين
الإسلامي مع العلم أنها الممثل الشرعي للشعب الجزائري عن طريق انتخابات حرة؛ وهو ما
تفتقده فصائل المعارضة العراقية التي وقفت مع الحرب على العراق، فكيف ساغ للمعارضة
العراقية العمل من أجل إسقاط النظام، ولو عن طريق الحرب والاحتلال الأجنبي والتدمير
الكامل للعراق بدعوى الحرية، ولا يسوغ مثل ذلك للمعارضة الجزائرية التي لم تلجأ إلى
طرف خارجي، ولم يترتب على مقاومتها في الجزائر ما ترتب على الحرب في العراق من تدمير
وقتل؟!
كما يظهر التناقض في موقف الإسلاميين في الكويت من الحرب التي تقودها بعض
فصائل المعارضة السودانية ضد النظام هناك بدعم أمريكي بدعوى تحرير السودان وإقامة نظام
ديمقراطي، وقد كان حزب الأمة والاتحاد الوطني ممن شاركوا في تلك الحرب قبل سنوات، وهما
أكبر الأحزاب السودانية آنذاك، فهل يسوغ تأييد المعارضة السودانية؛ كما ساغ تأييد المعارضة
العراقية، وما هو الفرق بين الحالتين؟ فإن كان السبب هو كون النظام السوداني نظاما
إسلاميا؛ فقد كانت حكومة طالبان إسلامية أيضا ولم يشفع لها ذلك؟!
كل ذلك يكشف مدى الفوضى الفكرية والاضطراب الأيدولوجي الذي تعيشه الحركات
الفكرية والسياسية في الكويت، فهي تقف الموقف ونقيضه، وتبني أصلا وتهدمه، وتدعو إلى
مبدأ وتخالفه، وتبشر بفكرة وتكفر بها! كل مواقفها وليدة انفعال نفسي، وضغط عصبي، وهي
ظاهرة يتميز بها الوسط الثقافي والسياسي الكويتي الذي لا يكاد يقر له قرار؛ بل هو يموج
موج البحر؛ فبينما تراه يتباكى على حقوق الإنسان في العراق يغض طرفه عن انتهاكها بين
ظهرانيه؟! ويأسى على حقوق الأقليات والطوائف في العراق وعلى أوضاعها البائسة هناك،
ويتجاهل حقوق فئة البدون عندنا التي تحرم من أدنى الحقوق الإنسانية بما فيها حق الزواج
والعمل والتعليم والميلادية والجواز ورخصة القيادة، والتي تعيش في أكواخ الصفيح كما
لو كانت في العراق لا في الكويت، كل ذلك يحدث بتواطؤ من الليبراليين والإسلاميين على
حد سواء؟!
ويصفق الوسط السياسي والثقافي عندنا فرحا للتعددية السياسية في العراق
ويرفضها في الكويت؟! ويبشر بقيام الديمقراطية وحكم الشعب والتداول السلمي للسلطة هناك،
بينما لا يقبلها عندنا؟! ويعيب على تكريس الفئوية والطائفية والمناطقية في العراق،
ويدافع عن تكريسها في الكويت حتى أصبح حكر بعض الإدارات ومؤسسات الدولة على بعض الفئات
ظاهرة خطيرة يتم ترسيخها على مشهد ومسمع من الجميع؟!
إن مشهد الوسط السياسي والثقافي الكويتي أشبه بلوحة سريالية تتداخل فيها
الألوان بشكل عبثي فما كان في نظر الإسلاميين بالأمس إلحادا وفسادا أصبح اليوم جهادا؟!
وما كان في نظر الوطنيين والقوميين بالأمس احتلالا أصبح اليوم تحريرا؟! لقد ساهم هذا
الوسط العابث في هز القيم الثقافية والدينية والمبادئ الوطنية الراسخة في وجدان كل
إنسان حر؛ كرفض الوقوف في صف الأجنبي في عدوانه على أرض الوطن، مهما كانت الأسباب والذرائع،
ففي تأييده لبعض فصائل المعارضة العراقية المؤيدة
للحرب على وطنها وشعبها بدعوى تحريره؛ هز لهذه القيم، ونسف لتلك المبادئ، وتسويغ لكل
معارض لنظام بلده أن يقف مع العدو الأجنبي، وأن يستعديه على وطنه بدعوى تحريره من نظامه
الاستبدادي من أجل أن يصل هو إلى السلطة على ظهر دبابة أجنبية على حساب استقلال وطنه
وثروات بلده ودماء شعبه بدعوى الحرية والديمقراطية؛ لتصبح الخيانة عملا شريفا، والعمالة
فعلا مشروعا في ثقافتنا الجديدة، وليحق للمعارضة السورية والمصرية والتونسية والجزائرية
والليبية والسعودية في الخارج بل وحتى المعارضة الكويتية أن تقوم بنفس الدور، وأن تبرر
لنفسها الاستعانة بالقوى الدولية للتخلص من هذا النظام أو ذاك مما يفتح الباب على مصراعيه
أمام عودة الاستعمار من جديد بدعوى تحرير الشعوب من حكوماتها الاستبدادية، وهو نفس
الشعار الذي رفعته فرنسا عندما دخلت الجزائر ليترحم بعدها الشعب الجزائري على (الداي
حسين) بعدما ذاق مرارة الاستعمار الأجنبي الذي لم يخرج إلا بعد مليون شهيد.