بسم الله الرحمن الرحيم
حكم الاحتفال والتهاني
برأس العام الميلادي
فتوى الشيخ أ.د. حاكم المطيري
17/ 5/ 1442هـ
1/ 1/ 2021م
سؤال/ صدرت مؤخرا فتاوى تجيز التهنئة والاحتفال برأس السنة الميلادية
بدعوى أنه ليس عيدا وأنه من باب العادات والأعراف والتأريخ للسنة الشمسية، فهل يصح
هذا القول؟ وما الحكم الشرعي في ذلك؟
الجواب/ الحمد الله الذي أنزل يوم الحج الأكبر، قوله تعالى:
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ
لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} وصلى الله وسلم على نبينا الذي أكمل به الدين، الهادي الأمين،
خاتم النبيين القائل في خطبة الحج: (ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع)،
ثم أما بعد:
إن التهنئة والاحتفال برأس السنة أو ليلة عيد الميلاد ليس من باب
الأعراف والعادات، بل هي تهنئة في عيد ديني للأمم للنصرانية أخذته من الرومانية
الوثنية وتستحل فيه من المحرمات ما لا يستحل في غيرها من الليالي وقد نص الفقهاء
على تحريمه وإنما أجاز بعض متأخري الشافعية التهنئة بالسنة الهجرية، قال ابن تيمية
في اقتضاء الصراط المستقيم ١/ ٥٢٩: (وأما الاعتبار في مسألة العيد فمن وجوه:
أحدها: أن الأعياد من جملة الشرع والمناهج والمناسك، التي قال الله سبحانه {لكل أمة
جعلنا منسكا هم ناسكوه} كالقبلة والصلاة والصيام، فلا فرق بين مشاركتهم في العيد
وبين مشاركتهم في سائر المناهج، فإن الموافقة في جميع العيد، موافقة في الكفر.
والموافقة في بعض فروعه: موافقة في بعض شعب الكفر، بل الأعياد هي من أخص ما تتميز
به الشرائع، ومن أظهر ما لها من الشعائر، فالموافقة فيها موافقة في أخص شرائع
الكفر، وأظهر شعائره ولا ريب أن الموافقة في هذا قد تنتهي إلى الكفر في الجملة
بشروطه. وأما مبدؤها فأقل أحواله: أن تكون معصية، وإلى هذا الاختصاص أشار النبي ﷺ بقوله: "إن لكل قوم عيدا، وإن هذا عيدنا").
وقال في ٢/ ٩: (أعياد الكفار كثيرة مختلفة، وليس على المسلم أن يبحث
عنها، ولا يعرفها، بل يكفيه أن يعرف في أي فعل من الأفعال أو يوم أو مكان، أن سبب
هذا الفعل أو تعظيم هذا المكان والزمان من جهتهم، ولو لم يعرف أن سببه من جهتهم،
فيكفيه أن يعلم أنه لا أصل له في دين الإسلام، فإنه إذا لم يكن له أصل فإما أن
يكون قد أحدثه بعض الناس من تلقاء نفسه، أو يكون مأخوذا عنهم، فأقل أحواله: أن
يكون من البدع، ونحن ننبه على ما رأينا كثيرا من الناس قد وقعوا فيه... ومن ذلك:
ترك الوظائف الراتبة من الصنائع، والتجارات، أو حلق العلم، أو غير ذلك، واتخاذه
يوم راحة وفرح، واللعب فيه بالخيل أو غيرها على وجه يخالف ما قبله وما بعده من
الأيام.
والضابط: أنه لا يحدث فيه أمر أصلا، بل يجعل يوما كسائر الأيام، فإنا
قد قدمنا عن النبي ﷺ أنه نهاهم عن اليومين اللذين كانا لهم يلعبون فيهما في الجاهلية وأنه
ﷺ نهى عن الذبح بالمكان إذا كان المشركون يعيدون فيه. ومن ذلك: ما
يفعله كثير من الناس في أثناء الشتاء في أثناء كانون الأول لأربع وعشرين خلت منه،
ويزعمون أنه ميلاد عيسى عليه السلام، فجميع ما يحدث فيه هو من المنكرات، مثل:
إيقاد النيران، وإحداث طعام، واصطناع شمع وغير ذلك. فإن اتخاذ هذا الميلاد عيدا هو
دين النصارى، ليس لذلك أصل في دين الإسلام، ولم يكن لهذا الميلاد ذكر أصلا على عهد
السلف الماضين، بل أصله مأخوذ عن النصارى، وانضم إليه سبب طبيعي وهو كونه في
الشتاء المناسب لإيقاد النيران، ولأنواع مخصوصة من الأطعمة).
وقال في ٢/ ١٢: (وكما لا نتشبه بهم في الأعياد فلا يعان المسلم
المتشبه بهم في ذلك، بل ينهى عن ذلك فمن صنع دعوة مخالفة للعادة في أعيادهم لم تجب
دعوته، ومن أهدى من المسلمين هدية في هذه الأعياد، مخالفة للعادة في سائر الأوقات
غير هذا العيد، لم تقبل هديته، خصوصا إن كانت الهدية مما يستعان بها على التشبه
بهم، مثل: إهداء الشمع ونحوه في الميلاد أو إهداء البيض واللبن والغنم في الخميس
الصغير الذي في آخر صومهم، وكذلك أيضا لا يهدى لأحد من المسلمين في هذه الأعياد
هدية لأجل العيد، لا سيما إذا كان مما يستعان بها على التشبه بهم كما ذكرناه.
ولا يبيع المسلم ما يستعين به المسلمون على مشابهتهم في العيد، من
الطعام واللباس ونحو ذلك؛ لأن في ذلك إعانة على المنكر).
وقال ابن الحاج الفاسي من فقهاء مذهب مالك في "المدخل" ٢/
٤٦: (في ذكر بعض مواسم أهل الكتاب فهذا بعض الكلام على المواسم التي ينسبونها إلى
الشرع وليست منه، وبقي الكلام على المواسم التي اعتادها أكثرهم وهم يعلمون أنها
مواسم مختصة بأهل الكتاب فتشبه بعض أهل الوقت بهم فيها، وشاركوهم في تعظيمها، يا
ليت ذلك لو كان في العامة خصوصا، ولكنك ترى بعض من ينتسب إلى العلم يفعل ذلك في
بيته ويعينهم عليه ويعجبه منهم ويدخل السرور على من عنده في البيت من كبير وصغير
بتوسعة النفقة والكسوة على زعمه بل زاد بعضهم أنهم يهادون بعض أهل الكتاب في
مواسمهم ويرسلون إليهم ما يحتاجونه لمواسمهم فيستعينون بذلك على زيادة كفرهم ويرسل
بعضهم الخرفان وبعضهم البطيخ الأخضر وبعضهم البلح وغير ذلك مما يكون في وقتهم وقد
يجمع ذلك أكثرهم، وهذا كله مخالف للشرع الشريف..
ومن مختصر الواضحة سئل ابن القاسم عن الركوب في السفن التي يركب فيها
النصارى لأعيادهم فكره ذلك مخافة نزول السخط عليهم لكفرهم الذي اجتمعوا له. قال
وكره ابن القاسم للمسلم أن يهدي إلى النصراني في عيده مكافأة له. ورآه من تعظيم
عيده وعونا له على مصلحة كفره. ألا ترى أنه لا يحل للمسلمين أن يبيعوا للنصارى
شيئا من مصلحة عيدهم لا لحما ولا إداما ولا ثوبا ولا يعارون دابة ولا يعانون على
شيء من دينهم؛ لأن ذلك من التعظيم لشركهم وعونهم على كفرهم وينبغي للسلاطين أن
ينهوا المسلمين عن ذلك، وهو قول مالك وغيره لم أعلم أحدا اختلف في ذلك انتهى.
ويمنع التشبه بهم كما تقدم لما ورد في الحديث «من تشبه بقوم فهو منهم» ومعنى ذلك
تنفير المسلمين عن موافقة الكفار في كل ما اختصوا به. وقد كان - عليه الصلاة
والسلام - يكره موافقة أهل الكتاب في كل أحوالهم حتى قالت اليهود إن محمدا يريد أن
لا يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه.
وقد جمع هؤلاء بين التشبه بهم فيما ذكر والإعانة لهم على كفرهم
فيزدادون به طغيانا إذ أنهم إذا رأوا المسلمين يوافقونهم أو يساعدونهم، أو هما معا
كان ذلك سببا لغبطتهم بدينهم ويظنون أنهم على حق وكثر هذا بينهم. أعني المهاداة
حتى إن بعض أهل الكتاب ليهادون ببعض ما يفعلونه في مواسمهم لبعض من له رياسة من
المسلمين فيقبلون ذلك منهم ويشكرونهم ويكافئونهم. وأكثر أهل الكتاب يغتبطون بدينهم
ويسرون عند قبول المسلم ذلك منهم؛ لأنهم أهل صور وزخارف فيظنون أن أرباب الرياسة
في الدنيا من المسلمين هم أهل العلم والفضل والمشار إليهم في الدين وتعدى هذا السم
لعامة المسلمين فسرى فيهم فعظموا مواسم أهل الكتاب وتكلفوا فيها النفقة.
وقد يكون بعضهم فقيرا لا يقدر على النفقة فيكلفه أهله وأولاده ذلك حتى
يتداين لفعله).
وكما هو معلوم أن التأريخ حساب للأيام وقد كان المسلمون يؤرّخون
بأيامهم كعام الفيل حتى أرّخ عمر بالهجرة فلا نهي عن التأريخ أصلا!
أما عيد الميلاد فمناسبة دينية ذكر ابن تيمية وابن الحاج –كما تقدم نقله-
الإجماع على تحريم الاحتفال والتهنئة بها كأعياد الجاهلية المنهي عنها بالنص؛ فلا
قياس!
والاحتفال برأس العام الميلادي والتهنئة به كالاحتفال والتهنئة بعيد
الميلاد، فالنصارى يؤرخون السنة الميلادية من ميلاد المسيح!
وقد حرم القرآن شهود الزور وحضور الباطل
﴿والذين لا يشهدون الزور﴾ ومنه حضور أعياد المشركين الدينية التي يشركون فيها بالله
وينسبون له الولد والشريك، وحرم القعود مع من يخوضون فيه ولو مجاملة -فضلا عن تهنئتهم-
وحذر منه أشد التحذير وعده مشابهة لهم وإقرارا على كفرهم، كما قال تعالى: ﴿وقد نزل
عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى
يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا﴾.
وقال عز وجل: ﴿وإذا رأيت الذين يخوضون
في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى
مع القوم الظالمين﴾.
وحرم القرآن مجاملة المشركين ومداهنتهم
في الدين ولو بالسكوت عنهم، كما قال تعالى: ﴿فلا تطع المكذبين. ودوا لو تدهن فيدهنون﴾
وهو من الرحمة بهم، وفيه نجاتهم من شركهم وكفرهم وسعادتهم في آخرتهم ﴿وما أرسلناك إلا
رحمة للعالمين﴾ وأعظم كفر بالله نسبة الولد له، فالتهنئة لمن يحتفل بولادته؛ أوضح صور
المداهنة!
قال جل وعلا: ﴿وقالوا اتخذ الرحمن ولدا.
لقد جئتم شيئا إدا. تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا. أن دعوا
للرحمن ولدا. وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا. إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي
الرحمن عبدا. لقد أحصاهم وعدهم عدا. وكلهم آتيه يوم القيامة فردا﴾.
ومن المغالطات ربط بين التأريخ والحساب وهو من العادات وجعله أصلا،
وجعل العيد والاحتفال به وهو مناسبة دينية منهي عنها فرعا!
ونفي صفة العيد عن عيد الميلاد مكابرة، فهو أشهر أعياد النصارى حتى
فرضته الحضارة الصليبية الغالبة على الأمم الأخرى! ومصادرة، بجعل الدعوى نفسها
دليلا للإباحة!
قال ابن الجوزي في "المنتظم" ٤/ ٢٢٧: (وكان التأريخ من
الفيل حتى أرّخ عمر بن الخطاب من الهجرة.
وإنما أرخ عمر بعد سبع عشرة من مهاجرة رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم، وذلك أن أبا موسى الأشعري كتب إلى عمر: إنه يأتينا منك كتب ليس لها تاريخ.
قال: فجمع عمر الناس للمشورة، فقال بعضهم: أرخ لمبعث/ رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم، وقال بعضهم: أرخ لمهاجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال عمر:
لا بل نؤرخ لمهاجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإن مهاجره فرق بين الحق
والباطل.
وقال ميمون بن مهران: رفع إلى عمر صك محله في شعبان، فقال عمر: أي
شعبان؟ الذي هو آت أو الذي نحن فيه؟ قال: ثم قال لأصحاب النبي صلى الله عليه وآله
وسلم: ضعوا للناس شيئا يعرفونه، فقال بعضهم: اكتبوا على تاريخ الروم، فقيل: إنهم
يكتبون من عهد ذي القرنين، فهذا يطول. وقال بعضهم: اكتبوا على تاريخ الفرس، فقيل:
إن الفرس كلما قام ملك طرح ما كان قبله، فاجتمع رأيهم على أن ينظروا كم أقام رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة، فوجدوا عشر سنين، فكتب التاريخ من هجرة
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وقال ابن سيرين: قام رجل إلى عمر فقال: أرخوا، فقال عمر: ما أرخوا؟
قال:
شيء تفعله الأعاجم، يكتبون في شهر كذا من سنة كذا، قال عمر: حسن
فأرخوا، فقال: من أي السنين نبدأ؟ فقالوا: من مبعثه، وقالوا: من وفاته، ثم أجمعوا
على الهجرة، ثم قال: فبأي الشهور نبدأ، فقالوا: من رمضان، ثم قالوا: المحرم فإنه
منصرف الناس من حجهم، وهو شهر حرام فأجمعوا على المحرم).
وقال ابن القيم في أحكام أهل الذمة ٣/ ١٢٤٥: (وكما أنهم لا يجوز لهم
إظهاره فلا يجوز للمسلمين ممالاتهم عليه ولا مساعدتهم ولا الحضور معهم باتفاق أهل
العلم الذين هم أهله.
وقد صرح به الفقهاء من أتباع الأئمة الأربعة في كتبهم، فقال أبو
القاسم هبة الله بن [الحسن] بن منصور الطبري الفقيه الشافعي: ولا يجوز للمسلمين أن
يحضروا أعيادهم؛ لأنهم على منكر وزور، وإذا خالط أهل المعروف أهل المنكر بغير
الإنكار عليهم كانوا كالراضين به المؤثرين له، فنخشى من نزول سخط الله على جماعتهم
فيعم الجميع، نعوذ بالله من سخطه.
ثم ساق من طريق ابن أبي حاتم: حدثنا الأشج، ثنا عبد الله بن أبي بكر،
عن العلاء بن المسيب، عن عمرو بن مرة: {والذين لا يشهدون الزور} قال: لا يمالئون
أهل الشرك على شركهم ولا يخالطونهم، ونحوه عن الضحاك ثم ذكر حديث عبد الله بن
دينار، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ : "لا تدخلوا على هؤلاء الملعونين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم
تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثل ما أصابهم". والحديث في الصحيح.
وذكر البيهقي بإسناد صحيح في (باب كراهية الدخول على أهل الذمة في
كنائسهم، والتشبه بهم يوم [نيروزهم] ومهرجانهم) عن سفيان الثوري، عن ثور بن يزيد،
عن عطاء بن دينار قال: قال عمر رضي الله عنه: "لا تعلموا رطانة الأعاجم، ولا
تدخلوا على المشركين في كنائسهم يوم عيدهم، فإن السخطة تنزل عليهم".
وبالإسناد عن الثوري، عن عوف، عن الوليد - أو أبي الوليد - عن عبد
الله بن عمرو فقال: "من مر ببلاد الأعاجم فصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم
حتى يموت وهو كذلك حشر معهم يوم القيامة".
وقال البخاري في غير "الصحيح": قال لي ابن أبي مريم: حدثنا
نافع بن يزيد سمع سليمان بن أبي زينب وعمرو بن الحارث سمع سعيد بن سلمة، سمع أباه،
سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "اجتنبوا أعداء الله في عيدهم"
ذكره البيهقي.
وقال أبو الحسن الآمدي: لا
يجوز شهود أعياد النصارى واليهود، نص عليه أحمد في رواية مهنا، واحتج بقوله تعالى:
{والذين لا يشهدون الزور} قال: الشعانين وأعيادهم.
وقال الخلال في "لجامع" (باب في كراهية خروج المسلمين في
أعياد المشركين)..).
ونفي العيد عن مثل هذا الاحتفال مكابرة للحس؛ فهذه أوضح مظاهر الفرح وفي
المسند والسنن بإسناد صحيح عن أنس، قال: (قدم رسول الله ﷺ المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: ما هذان اليومان؟
"قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية، فقال رسول الله ﷺ إن الله قد أبدلكم بهما خيرا منهما: يوم الأضحى، ويوم الفطر) فأبطل
أعياد الجاهلية!
وفعل هذه المنهيات تقليدا أو هوى أو جهلا أخفّ في ميزان الشرع من إباحتها
بالفتوى بدعوى التيسير، فإذا الدين الذي جاء بالاستقامة والاتباع على خلاف هوى
النفوس؛ يصبح تبع الظنون وما تهوى الأنفس ليقع التحريف للدين كما حرّف أهل الكتاب
(لتتبعن سنن من كان قبلكم حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه)!
والادّعاء بأن التهنئة بدخول السنة الميلادية من العادات والأصل فيها
الحل ومن ثم الحكم للتهنئة به بالإباحة ينتقض بإبطال الإسلام لعادات جاهلية كثيرة
حتى قال ﷺ: (كل أمر الجاهلية موضوع تحت قدمي) ومنها أعيادهم فليس في الحديث
الوارد فيه إلا أنهما يومان يُلعب فيهما أهل الجاهلية فأبطلهما.
وقد تواترت النصوص بإبطال أمر الجاهلية كله عامة وأعيادهم خاصة إلا ما
أقره الإسلام من عاداتهم -وليس العكس وهو إباحتها إلا ما أبطله- سواء ما كان من
شأن دينهم أو دنياهم كأعيادهم، كما في صحيح البخاري عن ابن عباس أن النبي ﷺ، قال: (أبغض الناس إلى الله ثلاثة: ملحد في الحرم، ومبتغ في الإسلام
سنة الجاهلية، ومطلب دم امرئ بغير حق ليهريق دمه)
وفي صحيح مسلم عن جابر في حديث خطبة الحج: (ألا كل شيء من أمر
الجاهلية تحت قدمي موضوع).
قال ابن هبيرة في الإفصاح ٣/ ١١٣: (قوله: "ومبتغ في الإسلام سنة
جاهلية" والسنة الجاهلية: مهجورة متروكة بما جاء الله به من الإسلام ومحاسنه،
فإذا أراد الإنسان استبدال الحسن من سنن الإسلام بالقبيح من سنن الجاهلية أبغضه
الله عز وجل).
فالاحتفال برأس السنة الميلادية سواء قيل هو عيد ديني للنصرانية أو
عيد جاهلي للرومانية؛ فقد أبطل الإسلام الاحتفال به والتهنئة فيه مما أبطله من أمر
الجاهلية كله وأبدل الله أهل الإسلام خيرا منه: عيد الفطر وعيد الأضحى للعب واللهو
فيهما وهو طبيعة كل عيد، كما في الحديث عن عائشة قالت: " قال رسول الله ﷺ يومئذ –يعني يوم أن لعب الحبشة في المسجد بالعيد- : "ليعلم يهود
أن في ديننا فسحة، إني أرسلت بحنيفية سمحة".
ثم إن الاحتفال برأس السنة والتهنئة فيه بات شعارا للجاهلية الإباحية
المعاصرة يُستحل فيه من المحرمات ما لا يقع في غيره فلو لم يرد في نصوص الشرع ما
يحرمه لذاته لوجب شرعا تحريمه سدا لذرائعه حتى لا يشارك المسلمون أهل الجاهلية
المعاصرة احتفالهم بسخط الله وتهنئتهم به بدعوى أنه عادة حسنة!
واستحسان مثل هذه العادات الجاهلية وإباحتها يفضي أن يحتفل المسلمون
في كل بلد بأعياد أهلها بدعوى التسامح والتيسير، وهي تبلغ مئات الأعياد الدينية،
وتصور مثل هذا القول كاف في إبطاله، وتخصيص عيد الميلاد من بينها بالجواز تخصيص
بلا مخصص، وهذا هو الاستحسان الذي قيل فيه من (استحسن فقد شرع)!
وأوضح صور الاستحسان الباطل عند الجميع هو ما عارض النصوص والقياس
الجلي ولم ينهض بدليل المعارضة، فإن عموم نصوص النهي عن سنن الجاهلية والنهي عن
التشبه بالكفار وأعيادهم والإجماع المذكور على تحريم الاحتفال بها يقتضي منع
التهنئة لا العكس بإباحة التهنئة استحسانا لاحتفال الناس بها عادة، قال الماوردي
الشافعي في "نهاية المطلب" ١٨/ ٤٧٣: (ومعظم قواعد الاستحسان استصلاح جلي
أو خفي لا أصل له في الشريعة، ومعنى قول صاحب المقالة: الاستحسان مقدم على القياس:
أن القياس الجاري على وفق قواعد الشريعة مؤخر عن استصلاح لا أصل له في الشريعة،
وقد عبر الشافعي عن غور هذا الفصل بكلمات وجيزة، إذ قال: " من استحسن فقد
شرع".
ومما يتعلق بغرضنا أن المسألة إذا كان مستندها في النفي والإثبات
القياس من الجانبين، فإذا اتجه في أحدهما قياس جلي تقضي قواطع الأصول به، وفي
الجانب الآخر متعلق خفي، فالمسألة من مسائل النقض إذا صادف الحكم المدرك الخفي،
ويجمع هذا النوع أن الجانب الجلي يسترسل في أقيسة الشريعة، والجانب الخفي يستمسك
بشواذ ونوادر، يتكلف صاحبه ربط الكلام بها، وينتظم له فن من التعقيد سببه شذوذ
متعلقاته).