حكم هدم التماثيل
والأوثان إن كانت آثارا
فتوى الشيخ أ.د. حاكم المطيري عن حكم هدم
تمثال بوذا في أفغانستان
منشورة بتاريخ: ٢٠/ ١٢/ ١٤٢١هـ
الموافق ١٥/ ٣/ ٢٠٠١م
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسولنا الهادي الأمين،
هادم الأوثان، صاحب الحجة والبرهان، إمام الموحدين، سيد الأنبياء والمرسلين، ثم
أما بعد:
إن الأصل في حكم الأصنام والتماثيل والأوثان في شريعة الإسلام، هو
كسرها وإزالتها؛ لكونها رمزا للشرك والوثنية؛ كما فعل ذلك أبو الأنبياء وقدوتهم
إبراهيم عليه السلام كما قال تعالى عنه ﴿وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ
أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِين فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلاَّ كَبِيرًا
لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُون﴾ [الأنبياء: ٥٧-٥٨] وفي (صحيح مسلم ١/ ٥٦٩ ) عن
عمر بن عبسة السلمي أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم- عما أرسله الله عز وجل به
فقال صلى الله عليه وسلم: «أرسلني بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يوحد الله لا
يشرك به شيء». وفي رواية أحمد في المسند (٤/ ١١١) قلت: بماذا أرسلك؟ فقال: «بأن
توصل الأرحام، وتحقن الدماء، وتؤمّن السبل، وتكسر الأوثان، ويعبد الله وحده لا
يشرك به شيء» وكان ذلك بمكة قبل الهجرة. كما روى مسلم في صحيحه أيضا (٢/ ٦٦٦) عن الخليفة الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال لأبي الهياج
الأسدي: «ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألا تدع
تمثالا إلا طمسته ولا قبرا مشرفا إلا سويته» وكان ذلك بالمدينة بعد الهجرة، كما
جاء في مسند احمد (١/ ٨٧) من طرق عن علي رضي الله عنه.
والحكمة من كسر الأوثان وتسوية القبور واحدة وهي قطع ذرائع الشرك
والوثنية في أرض الإسلام والتوحيد، إذ بداية الشرك كانت بتصوير تماثيل الصالحين أو
البناء على قبورهم؛ تعظيما لهم، ثم مازالوا يغلون فيهم حتى عبدوهم من دون الله عز
وجل، واعتقدوا فيهم القدرة على النفع والدفع؛ كما في الحديث الصحيح: «لعن الله
اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد».
وقد ظل المسلمون في العصور الأولى يزيلون ما يُبنى على القبور قطعا
لذرائع الشرك؛ كما قال الإمام الشافعي في كتابه الأم (١/ ٣١٦): «لم أرَ قبور
المهاجرين والأنصار مجصصة وقد رأيت من الولاة بمكة من يهدم ما يُبنى فيها، فلم أرَ
الفقهاء يعيبون ذلك»، وكان ذلك في القرن الهجري الثاني في دولة بني العباس، وقد
علل الشافعي ذلك بقوله: «لأنه لا تؤمن بذلك الفتنة والضلال على من يأتي بعده» ولو
كان الشافعي حيا في هذا العصر لرأى حصول ما كان يخشى منه من الضلال بتعظيم
القبور!!
والمقصود أن المسلمين استمروا في هدم كل ما قد يفضي إلى الشرك وإن لم
يكن وثنا ولا صنما؛ كالبناء على القبور حتى بعد أن استقر الإسلام وانتشر من الصين
شرقا إلى الأندلس غربا، وقد شاهد الإمام الشافعي الولاة يهدمون ما يبنى من ذلك كما
رأى رضا العلماء وموافقتهم على ذلك التصرف.
وإنما يستثنى من هذا الحكم ما يلي:
أ- التماثيل والأوثان التي في معابد أهل الأديان من أهل الذمة ومن في
حكمهم؛ كالتماثيل التي في كنائس النصارى، ومعابد المجوس، والصابئة، ومثلهم
البوذية؛ لأن الإسلام أقر أهل الذمة على ما هم عليه من شرك ووثنية؛ فلا يتعرض
المسلمون إلى ما في معابدهم أو مقابرهم أو منازلهم من تماثيل وأوثان، وقد صنع
نصارى الشام لعمر بن الخطاب طعاما في كنيستهم ودعوه للأكل فيها، فامر علي بن أبي
طالب والمسلمين بأن يذهبوا إليهم ويجيبوا دعوتهم، فدخلوا الكنيسة وجعل علي رضي
الله عنه ينظر إلى التماثيل فيها، ويقول: «ما على أمير المؤمنين لو دخل فأكل» قال
ابن قدامة في المغني (٧/ ٢١٧): «وهذا اتفاق منهم على إباحة دخولها وفيها الصورة» أي: التماثيل.
٢- ما كان من آثار الأمم الخالية؛ إذ لم يثبت أن الصحابة رضي الله
عنهم تعرضوا لما فيها من صور وتماثيل، إذ لم يكن منها شيء معبودا مع أن النبي صلى
الله عليه وسلم قد أمرهم بتحطيم وكسر أوثان مشركي العرب حيث أرسل جرير بن عبدالله
لصنم قبيلة خثعم فكسره، وأرسل الطفيل بن عمرو لهدم صنم قبيلة دوس، كما أرسل علي بن
أبي طالب لكسر صنم طيء؛ ولهذا قال ابن حجر في الفتح (٨/ ٧٣): «وفي الحديث مشروعية إزالة ما يفتتن به الناس من بناء وغيره سواء أكان
إنسانا او حيوانا او جمادا». .
ومما يؤكد مشروعية ترك الآثار المهجورة على ما هي عليه ما جاء في
القرآن من الاحتجاج والاستدلال بها على قدرة الله عز وجل، وما جاء فيه من الحث على
السير في الأرض والنظر في آثار تلك الأمم للاعتبار والادكار؛ كما قال تعالى في شان
سدوم: ﴿وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ
يَعْقِلُون﴾[العنكبوت:٣٥] قال ابن عباس: «هي آثار منازلهم» وقال تعالى في أهل الحجر والأحقاف:
﴿وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن
مَّسَاكِنِهِمْ﴾[العنكبوت:٣٨] وقال سبحانه في آثار مدينة سدوم ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ
لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِين﴾[الحجر:٧٥] أي: المتفكرين المعتبرين ﴿وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ
عَلَيْهِم مُّصْبِحِين وَبِاللَّيْلِ أَفَلاَ
تَعْقِلُون﴾[الصافات:
١٣٧-١٣٨]، وقال أيضا: ﴿وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ
مُّقيم إِنَّ فِي ذَلِكَ
لآيَةً لِّلْمُؤمِنِين﴾[الحجر: ٧٦-٧٧] وقال تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا
كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ
قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ﴾[غافر: ٨٢] وقد فتح الصحابة رضي الله عنهم العراق والشام ومصر وغيرها من الدول
والبلدان التي كانت فيها حضارات وآثار؛ فلم يتعرضوا لشيء منها، ولم يشتغلوا بطمس
ما على جدرانها وما بداخلها من صور وتماثيل؛ إذ لم يكن شيء من ذلك معبودا أو يخشى
أن يكون كذلك؛ وتركوها لتبقى عبرة وآية على سنن الله
في الأمم التي خلت، وقد أخطأ من توهم أنها كان مطمورة!
وقد ذكر المؤرخون
المسلمون خبر أهرامات مصر وأبو الهول أو بلهيب أو بلهوية.
وذكر المسعودي
(ت ٣٤٦) في "أخبار الزمان" ١/ ١٦٢ الأهرامات والتماثيل التي تملأ أرض مصر
وأشكالها.
والبكري (ت
٤٨٧) في "الممالك والمسالك" ١/ ٥١٨ وذكر برابي مصر وبلهوية (أبو الهول)،
وأول من بدأ فيها بالحفريات لاكتشاف كنوزها، ومنهم أمير مصر التابعي عبدالعزيز بن مروان،
وكان عبد الملك بن مروان ممن حاول كشف أسرارها، ثم المأمون (ولما فرغ المأمون وأقام
بمصر أراد هدم الأهرام، فعرفه بعض شيوخ المصريين أن ذلك غير ممكن ولا يجمل بمثله أن
يطلب شيئا لا يبلغه. فقال: لا بد لي أن أعلم علم ما فيها. ثم أمر أن يفتح من الجانب
الشمالي لقلة دوام الشمس على من يتولى ذلك. فكانوا يوقدون النار عند الحجر، فإذا حمى
رش عليه خل ورمي بالمنجنيق حتى فتحت الثلمة التي يدخل منها إلى الهرم اليوم، فوجد بنيانه
على ما ذكرنا من الحديد والرصاص، ووجد عرض الحائط عشرين ذراعا.. ووجد المأمون طول كل
هرم من الهرمين الكبيرين أربعمائة ذراع بالمالكي وكذلك عرض كل حائط من حيطانها. ويقال
إنه ليس على وجه الأرض أرفع بناء من هذين الهرمين وهما غربي وسيم ولا في العالم حجر
موضوع على حجر أعلى منهما).
وقال القزويني (ت٦٨٣)
في كتابه "آثار البلاد" ص ٢٦٩: (ومن عجائب مصر أبو الهول، وهو صورة آدمي
عظيمة مصنعة، وقد غطى الرمل أكثره.
يقال: إنه طلسم
للرمل لئلا يغلب على كورة الجيزة، فإن الرمال هناك كثيرة شمالية متكاثفة، فإذا انتهت
إليها لا تتعداه، والمرتفع من الرمل رأسه وكتفاه.
وهو عظيم جدا، وصورته
مليحة كأن الصانع الآن فرغ منه.
وقد ذكر من رأى
أن نسرا عشش في أذنه وهو مصبوغ بالحمرة؛ قال ظافر الإسكندري:
تأمل بنية الهرمين
وانظر
وبينهما أبو الهول
العجيب
كمثل عمارتين على
رحيل
لمحبوبين بينهما
رقيب
وماء النيل تحتهما
دموع
وصوت الريح عندهما
نحيب
ولما وصل المأمون
إلى مصر، نقب أحد الهرمين المحاذيين للفسطاط بعد جهد شديد وعناء طويل، فوجد في داخله
مراقي ومهادي هائلة يعسر السلوك فيها، ووجد في أعلاه بيتا مكعبا طول كل ضلع منه ثمانية
أذرع، وفي وسطه حوضا رخاما مطبقا، فلما كشف غطاؤه لم يوجد فيه غير رمة بالية، فأمر
المأمون بالكف عن نقب ما سواه.
وقال بعضهم: ما
سمعت بشيء عظيم فجئته إلا رأيته دون صفته إلا الهرمين، فإني لما رأيتهما كانت رؤيتهما
أعظم من صفتهما).
وقال المقريزي
(ت ٨٤٥ هج) في "المواعظ والاعتبار ١/ ٢٢٩: (ذكر الصنم الذي يقال له أبو الهول:
هذا الصنم بين الهرمين عرف أولا ببلهيب، وتقول أهل مصر اليوم أبو الهول.
قال القضاعي: صنم
الهرمين وهو بلهويه، صنم كبير من حجارة فيما بين الهرمين لا يظهر منه سوى رأسه فقط
تسميه العامة بأبي الهول ويقال: بلهيب، ويقال: إنه طلسم للرمل، لئلا يغلب على إبليز
الجيزة.
وقال في كتاب عجائب
البنيان: وعند الأهرام رأس وعنق بارزة من الأرض في غاية العظم تسميه الناس: أبا الهول،
ويزعمون أن جثته مدفونة تحت الأرض، ويقتضي القياس بالنسبة إلى رأسه أن يكون طوله سبعين
ذراعا فصاعدا، وفي وجهه حمرة ودهان يلمع عليه رونق الطراوة، وهو حسن الصورة مقبولها
عليه مسحة بهاء وجمال كأنه يضحك)!
فدل تركهم لها أن العموم الوارد في الأحاديث بطمس الأوثان وكسرها هو
من العام المراد به الخاص أي الأوثان المعبودة كالتي حطمها الصحابة رضي الله عنهم
في جزيرة العرب، لا ما كان أثرا مهجورا.
وتمثال «بوذا»
في أفغانستان لا تنطبق عليه إحدى هاتين الصورتين المستثنتين فلا هو من الآثار
المهجورة؛ إذا ما زال «بوذا»
معبودا في أماكن كثيرة من العالم، وما زالت الفتنة قائمة بأن يعبد في أفغانستان
مرة أخرى، ولا هو في معابد البوذية -بل لا يوجد في أرض أفغانستان بوذية أصلا- حتى
يقال بأن في إزالته اعتداء على أهل هذه الديانة، إذ أن الشعب الأفغاني الذي كان
بوذيا قد دخل الإسلام منذ عصر الصحابة رضي الله عنهم، فله الحق في أن يحطم الأصنام
التي كان يعبدها في جاهليته، ولو ان شعبا بوذيا دخل الإسلام في هذا العصر؛ لوجب
عليه تحطيم الأوثان التي كان يعبدها؛ كما فعل العرب بأوثانهم ولا يكابر على ذلك
إلا جاهل بحقيقة الإسلام الذي جاء بالتوحيد وأبطل الوثنية.
لم يبق إذن لهذا الأثر إلا القيمة العلمية التاريخية؛ إذ قد يستفيد
الباحثون والدارسون من وجوده في دراساتهم وبحوثهم وهذه المصلحة -على فرض صحتها-
فإن اكتفاء بطمس رأس هذا الأثر كافٍ في مثل هذه الحال؛ كما في بعض الأحاديث (انظر
فتح الباري١٠/ ٢٩٢) وقد يقال بأن
السياسة الشرعية تقتضي ترك التعرض له؛ دفعا لأكبر الضررين، وأشد المفسدتين؛ كما
قال تعالى: ﴿وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ
اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾[الأنعام: ١٠٨] فإن أبت الحكومة الأفغانية إلا تحطيم هذا الوثن؛ فليس أمام كل مسلم
إلا نصرتها والدفاع عنها؛ فهذا مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول
الله.