لكن شمسك يا محمود لم تغـــب
قصيدة رثاء بالعلامة محمود شاكر
بقلم حاكم المطيري
صحيفة الوطن 18/8/1997
رحل عن عالمنا شيخ الأدباء ، وأديب العلماء ، فريد دهره، ووحيد عصره ، من ضنت بمثله الأعصار ، وطنت بذكره الأمصار: الأستاذ العلامة محمود بن محمد بن شاكر الهاشمي الحسيني ـ رحمه الله تعالى ـ وبرحيله فقد العالم العربي الإسلامي عبقريا من عباقرة الأدب ، وعالما موسوعيا قلما يوجد له نظير ، بل لم يكن له نظير فعلا .
ولعله لم يؤت أحد في ملكة النقد الأدبي ، وتذوق الشعر العربي ، واكتشاف أسراره وكنهه ـ بعد الجرجاني ـ مثلما أوتي محمود شاكر، ومن شاء الوقوف على هذه الحقيقة فليقرأ كتابه عن ( أبي الطيب المتنبي ) وكتابه ( أباطيل وأسمار ) و ( نمط صعب ونمط مخيف ) .
فلقد أتى فيها بما لم يأت به الأوائل ، وأطرب حتى أسكر ، وأبدع غاية الإبداع ، ورسم ملامح المنهج الصحيح في إثبات ودراسة الشعر العربي، ونقده ، وفهمه ، وشرحه.
وقد كان الأستاذ شاهد عدل على ما آل إليه حال الأدب في هذا العصر ، من انحطاط وعبث ، على أيدي أقوام باسم الأدب ، فهدموه بمعاول الجهل أو الحقد !
فما كان منه إلا أن تصدر لكشف هذا الزيف ، وفضح هذا العبث بآداب العربية شعرا ولغة وتاريخا .
وتحمل من أجل ذلك فتنا عظيمة آلت به إلى السجن مرتين في سنة 1959 وسنة 1965 إلى 1967 ، كل ذلك بسبب غضبه و دفاعه عن لغة القرآن العظيم !!
وقد عبر عن هذه المحنة وأوجزها حيث قال في ( أباطيل وأسمار ) : ( ثم غلقت الأبواب : في الثالث من جمادي الأخر سنة 1385هـ ( 30 أغسطس 1965م ) وأحاطت بي الأسوار ، وأظلمت الدنيا ، وسمعت ، ورأيت ، وفزعت ، وتقززت وكان ما كان:
وعلمت حتى ما أسائل واحدا عن علم واحدة لكي ازدادها
وتسليت عن كل ما ألقى بقول شيخ المعرة :
يسوسون الأمور بغير عقل فينفذ أمرهم ويقال ساسه
فأف من الحياة وأف مني ومن زمن رئاسته خساسه)
وبعد أن أدرك خطورة ما يجري ، وأنه كيد عظيم ، وأمر قد دبر بليل ، يجد مدده من قوى خارجية أجنبية ، تكيد العربية والإسلام ، أعتزل الناس ثلاثين سنة ، حاملا على عاتقه عبء كشف هذا الزيف ، إن لم يكن لأبناء جيله ، فلأبناء الأجيال القادمة، فرحمه الله كأنما كان ينظر بنور الله !
لقد رحل الأستاذ الكبير ، وليس في ذلك غرابة ، وإنما الغرابة هذا الصمت المريب الذي يخيم على وسائل الإعلام بتجاهلها خبر وفاته ، فإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على صدق وصحة رأي الأستاذ ـ رحمه الله ـ في حال الأدب المعاصر ؟!
هذا ولما بلغني خبر وفاة الأستاذ بواسطة رواية الثقة عن الثقة !!
جادت القريحة بهذه الأبيات سائلا المولى عز وجل أن يغفر لنا وله وأن يجبر كسرنا بتلاميذه الأبرار وآل بيته الأخيار إنه جواد كريم .
محمود من بعدكم للعلم والأدب
من للدواة وللأقلام والكتب؟
يا أيها الأدب المحمود كنت لنا
نورا من الحق في الظلماء والصخب
من (للأباطيل) يا محمود يكشفها
إذا تلاطمت الأمواج بالأدب
عليك تبكي حروف الضاد والهة
وليس في ذاك يا محمود من عجب
لما تعاورها الأعداء كنت لها
كالرمح في الحرب أو كالطود في اللجب
كم مرة كادها الأوباش في عبث
فكنت من دونها سورا من اللهب
يا أيها (النمط الصعب) العسير على
هذا الزمان الذي يرتاح للشغب
قضيت سبعين عاما في الجهاد وما
ألوت جهدا على ما كان من نصب
تحنو على الضاد في حب وفي وجل
كابن رحيـم وأمٍّ بــرة وأب
حتى ترجلت يا محمود فاضطربت
لموتك الضاد بعد الأمن من رهب
يا من لفسطاط مصر بعده عجبا!!
فهل يقوم على الأوتاد والطنب؟!
إن يفخر القوم في علم وفي نسب
محمود سيدهم في العلم والنسب
لما استغاثت به الآداب بادرها
نعم النصير ولم يسأل عن السبب
فالحرب تطربه والموت يعجبه
وهذه عادة في السادة النجب
تبوأ المجد في الآداب فانتظمت
طوعا له درر الآداب في الذهب
والله ما ولدت مصر وما طلعت
شمس على مثله فيها ولم تغب
أتى إلى العصر والأملاء حاشدة
للسبق والقوم في جد وفي طرب
والخيل ضامرة والأرض عامرة
والكل يهفو إلى سبق على القصب
ففات سابقهم دع عنك لا حقهم
من دونما جلب في الجري أو خبب
لم يلتفت بعدها للفـــوز محتقرا
شأن الذي همه في الكسب والسلب
يا ابن الحسين يموت الناس كلهم
لكن بعضهم كالأنجم الشــهب
إن كان جسمك واراه التراب فما
تزال شمسك يا محمـود لم تجب
جزاك ربك يا محمود مكرمة
عن العروبة والإسلام والعرب
صلى عليك الكريم الله ما برحت
تشدو بلابلها في روضها الخصب