حكم وضع اليدين على الصدر في الصلاة حال القيام
فتوى الشيخ
أ.د. حاكم المطيري
الحمد الله وكفى،
وصل اللهم على النبي المصطفى، وبعد:
السؤال: هل وضع اليدين على الصدر
في الصلاة من السنة؟ ومن قال به من الأئمة؟
الجواب: نعم، من السنة وضع اليدين في الصلاة على الصدر حال القيام، كما نص على
ذلك الإمام البيهقي الشافعي، واختاره المحققون من المذاهب الأربعة وغيرهم.
وقد رويت هذه السنة عن النبي ﷺ من ثلاثة وجوه لا يثبت في تحديد مكان وضع اليدين في القيام في الصلاة
غيرها:
الأول: أخرجه إمام الأئمة ابن خزيمة في صحيحه (رقم ٤٧٩) من حديث وائل
بن حجر عن النبي ﷺ وفيه: (ووضع يده اليمنى، على يده اليسرى، على صدره).
والثاني: أخرجه الإمام أحمد في مسنده (٥/ ٢٢٦) قال: حدثنا يحيى بن سعيد
القطان، عن سفيان الثوري، قال: حدثنا سماك بن حرب، عن قبيصة بن هلب، عن أبيه قال:
(رأيت رسول الله -ﷺ- ينصرف عن يمينه، وعن يساره، ورأيته يضع هذه على صدره. وصف يحيى: اليمنى
على اليسرى فوق المفصل).
وصححه الضياء المقدسي في "السنن والأحكام" رقم (١٢٧٩).
وأورد تحسين الدارقطني لإسناده.
والثالث: رواه أبو داود في السنن (رقم ٧٥٩) وفي المراسيل (رقم ٣٣) من
حديث طاوس ولفظه:(كان رسول الله -ﷺ- يضع يده اليمنى على يده اليسرى، ثم يشد بهما على صدره، وهو في الصلاة).
وأشار إلى ضعف ما خالفه عن علي -رضي الله عنه-.
ولهذا بوّب الإمام البيهقي الشافعي -المتوفى سنة ٤٥٨هـ- في كتابه السنن:
(باب وضع اليدين على الصدر في الصلاة من السنة).
واحتجّ بحديث وائل بن حجر هذا.
وكذا استدل به في كتابه "معرفة السنن" وبمرسل طاوس ثم قال
٢/ ٣٤٠: (وروينا عن علي -رضي الله عنه- أنه قال في هذه الآية: {فصل لربك وانحر} [الكوثر:
٢]، وضع يده اليمنى على يده اليسرى على صدره).
وضعّف ما روي عن علي أنه كان يضعهما تحت السرة.
وقد روى البيهقي في السنن ٢/ ٤٦ بإسناده هذا الحديث عن علي، وعن أنس مثله،
ثم روى بعده عن أبي الجوزاء عن ابن عباس في قول الله عز وجل {فصل لربك وانحر} [الكوثر:
٢] قال: (وضع اليمين على الشمال في الصلاة عند النحر).
وقال البيهقي في المعرفة: (ورواه حماد بن زيد، عن عمرو، عن أبي الجوزاء،
من قوله).
قلت: وهذا إسناد صحيح عن أبي الجوزاء قوله، وهو أحد أئمة التفسير أخذه
عن ابن عباس وعائشة، وقال عن نفسه: (أقمت مع ابن عباس وعائشة اثنتي عشرة سنة ليس في
القرآن آية إلا سألتهما عنها).
وكذا عد الإمام الطبري قول علي -رضي الله عنه- أحد وجوه تفسير آية: {فصل
لربك وانحر}، وأنه وضع اليدين في الصلاة على النحر وهو أعلى الصدر.
ورواه الطبري في تفسيره عن علي بأسانيد كثيرة حسنة وقدّمه في الذكر على
كل الوجوه الأخرى المأثورة، وإن رجّح هو أن المراد بالنحر الذبح لله وحده.
وقد اختار الضياء المقدسي في "السنن والأحكام" وابن عبد الهادي
في "المحرر في الأحكام" (رقم ٢١٦) والإمام النووي في "خلاصة الأحكام"
(رقم ١٠٩٦) حديث وائل بن حجر في صحيح ابن خزيمة ونصوا على اتفاق أهل العلم على تضعيف
حديث علي: (تحت السرة).
وكذا اختار ابن حجر الشافعي في "بلوغ المرام من أدلة الأحكام"
حديث وائل بن حجر ولم يخرج غيره في الباب، واحتجّ به في "فتح الباري" ورد
ما عارضه.
وهذا اتفاق منهم على أنه أصحّ حديث في الباب إذ كتبهم هذه مخصوصة في
"أدلة الأحكام".
وذكر هذه الهيئة السيوطي في كتابه "وظائف اليوم والليلة" في
"وظائف الصلاة" ص ٣٥ فقال: (وكان النبي ﷺ يضع يده اليمنى، على يده اليسرى، ويشدهما على صدره).
ولم يذكر هيئة أخرى لعدم ثبوت غيرها عنده.
وبوّب ابن العربي -المتوفى سنة ٥٤٣هـ- في شرحه "القبس على موطأ مالك"
باب: (وضع اليدين على الصدر في الصلاة) وذكر ثلاث روايات في مذهب الإمام مالك، ورجح
وضعهما على الصدر في الفريضة والنافلة وصححه فقال: (اختلف علماؤنا في ذلك على ثلاث
روايات:
١- تركها في كل صلاة؛ لأنها عمل واعتماد يستغنى عنه.
٢- فعلها في النافلة دون الفريضة؛ لأنها تحتمل العمل دون الفريضة.
٣- فعلها فيهما جميعا؛ لأنها استكانة وخضوع وهو الصحيح).
وكذا أقر بثبوت حديث وائل بن حجر دون غيره في تعيين محل وضعهما: ابنُ
أمير الحاج الحنفي -المتوفى سنة ٨٧٩هـ- فقال
في "حلبة المجلي شرح منية المصلي" في الفقه الحنفي ٢/ ١٠٧: (إن الثابت
من السنة وضع اليمين على الشمال، ولم يثبت حديث يوجب تعيين المحل الذي يكون الوضع فيه
من البدن إلا حديث وائل المذكور) وهو وضعهما على الصدر.
وكذا قال ابن نجيم الحنفي في البحر الرائق (١/ ٥٢٨)، فلم ينازعا في ثبوته.
وكذا رجحه واختاره ابن تيمية وابن القيم من الحنابلة.
والأمر في ذلك واسع بلا خلاف بين الفقهاء، فلا حرج على مَن وضعهما على
الصدر وهو المسنون، أو تحته، أو تحت السرة، أو أرسلهما.
ـ ـ ـ
تعقيب: عمل
أهل المدينة إرسال اليدين وهو بمرتبة الحديث المتواتر وأقوى حجة من غيره؟
الجواب: بلا شك عمل أهل المدينة الذي يجري مجرى الرواية أقوى حجة من أخبار
الآحاد، ولو جاء الإرسال لليدين بهذا الطريق لكان سنة أيضا، إلا أنه لم يقل أحد أن
هذا عمل أهل المدينة، بل روى الإمام مالك عن أن أهل المدينة وضع اليد اليمنى على اليسرى،
كما في الموطأ ١/ ١٥٨ رقم ٤٦ و٤٧:
(باب وضع اليدين إحداهما على الأخرى في الصلاة:
عن مالك، عن عبد الكريم بن أبي المخارق البصري، أنه قال: "من كلام
النبوة إذا لم تستحي فافعل ما شئت، ووضع اليدين إحداهما على الأخرى في الصلاة، يضع
اليمنى على اليسرى …"
وعن مالك، عن أبي حازم بن دينار، عن سهل بن سعد، أنه قال: "كان الناس
يؤمرون أن يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة" قال أبو حازم: لا
أعلم إلا أنه ينمي ذلك). يعني يرفعه إلى النبي ﷺ.
فهذا ما رواه مالك نفسه محتجا به في الموطأ، وأن وضع اليد اليمنى على
اليسرى في الصلاة من سنن النبوة، وأن الناس في المدينة كانوا يؤمرون بذلك في عهد النبي
ﷺ.
أما قوله في المدونة: (لا أعرفه) فهو الاتكاء والاعتماد باليمنى على اليسرى،
وهي خلاف هيئة الصلاة بوضع اليمنى على اليسرى من باب الخشوع والتذلل بلا اتكاء ولا
اعتماد.
فلا يتصور أن يروي مالك في الموطأ أحاديث يحتج بها على هيئة الصلاة بوضع
اليد اليمنى على اليسرى ثم يُسأل عنه فيقول: (لا أعرفه) إلا أنه أراد شيئا مخصوصا غير
هيئة الخشوع.
وهذا واضح لمن دقق النظر في كتبه فقد جاء في المدونة ١/ ١٦٩ تحت عنوان
[الاعتماد في الصلاة والاتكاء ووضع اليد على اليد]:
(قال: وسألت مالكا عن الرجل يصلي إلى جنب حائط فيتكئ على الحائط؟ فقال:
أما في المكتوبة فلا يعجبني وأما في النافلة فلا أرى به بأسا، قال ابن القاسم: والعصا
تكون في يده عندي بمنزلة الحائط، قال وقال مالك: إن شاء اعتمد وإن شاء لم يعتمد، وكان
لا يكره الاعتماد، قال: وذلك على قدر ما يرتفق به فلينظر أرفق ذلك به فيصنعه.
وقال مالك: في وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة؟ قال: لا أعرف ذلك في
الفريضة، وكان يكرهه، ولكن في النوافل إذا طال القيام فلا بأس بذلك يعين به نفسه.
قال سحنون عن ابن وهب عن سفيان الثوري عن غير واحد من أصحاب رسول الله
-ﷺ- أنهم رأوا رسول الله -ﷺ- واضعا يده اليمنى على اليسرى في الصلاة).
انتهى من المدونة بحروفه فالجواب بقوله: (لا أعرفه) هو في سياق الاتكاء
والاعتماد على الحائط والعصا واليدين فمنع منه في الفريضة وأجازه في النافلة!
وهذا ما أدركه أعلم الناس بمذهبه وشارحه القاضي عبدالوهاب بن نصر في كتابه
الإشراف ١/ ٢٤١ فقال: (مسألة: في وضع اليمنى على اليسرى روايتان: إحداهما: الاستحباب.
والأخرى: الإباحة.
وأما الكراهة ففي غير موضع الخلاف، وهي إذا قصد بها الاعتماد والاتكاء).
وقال في عيون المسائل ص ١١٧: (اختلفت الرواية عن مالك في وضع اليمنى على
اليسرى في الصلاة: فروى عنه ابن عبدالحكم أنه قال: لا بأس بذلك.
وروى عنه ابن القاسم: المنع منه).
وقد صوبه الإمام الباجي فقال في "المنتقى" شرح الموطأ ١/
٢٨١: (وقد اختلف الرواة عن مالك في وضع اليمنى على اليسرى، فروى أشهب عن مالك أنه قال
لا بأس بذلك في النافلة والفريضة، وروى مطرف وابن الماجشون عن مالك أنه استحسنه.
وروى العراقيون عن أصحابنا عن مالك في ذلك روايتين:
إحداهما: الاستحسان.
والثانية: المنع.
وروى ابن القاسم عن مالك لا بأس بذلك في النافلة وكرهه في الفريضة.
وقال القاضي أبو محمد عبد الوهاب: ليس هذا من باب وضع اليمنى على اليسرى،
وإنما هو من باب الاعتماد، والذي قاله هو الصواب؛ فإن وضع اليمنى على اليسرى إنما اختلف
فيه هل هو من هيئة الصلاة أم لا، وليس فيه اعتماد فيفرق فيه بين النافلة والفريضة.
ووجه استحسان وضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة الحديث المتقدم ومن
جهة المعنى أن فيه ضربا من الخشوع وهو مشروع في الصلاة.
ووجه الرواية الثانية أن هذا الوضع لم يمنعه مالك، وإنما منع الوضع على
سبيل الاعتماد، ومن حمل منع مالك على هذا الوضع اعتل بذلك لئلا يلحقه أهل الجهل بأفعال
الصلاة المعتبر في صحتها).
يعني حتى لا يظن أنه واجب تبطل الصلاة بتركه من باب سد الذريعة.
وهذا كله على فرض ثبوت أنه منع من هيئة وضع اليدين في الصلاة، وهو ما
لم يثبت عنه أصلا، وإنما منع من الاتكاء عليهما كما لاتكاء على العصا والجدار، كما
فسره القاضي عبد الوهاب وصوبه الباجي.