فتوى في حكم عودة أهل البلاد المحتلة إلى
أرضهم
السؤال/ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
فضيلة الشيخ حاكم المطيري
نحن مهجرون من منطقة
الجولان السوري المحتل منذ سنة ١٩٦٧م، ومعنا مهجرون من أرض فلسطين، وبقينا مهجرين في
مناطق سوريا طوال هذه السنوات، وتعرضنا لكل أنواع التهميش والإقصاء من النظام الإجرامي،
وجاءت الثورة السورية على بشار وهاجر أكثرنا بعدها إلى أوربا ودول أخرى، وتعرضنا لفتن
أشد، في كل بلد، وقد أراد كثير من أهل الجولان وغيرهم من المهجرين من فلسطين العودة
لمناطقهم، والعيش في قراهم، واستعادة أراضيهم وأموالهم ومزارعهم، ولو تحت الاحتلال
الصهيوني بدلا من الحال التي هم عليها الآن حيث لا وطن، ولا مال، ولا أمن، لا على دين،
ولا نفس، ولا أهل، فما الحكم الشرعي؟ وما حكم اكتساب الجنسية الإسرائيلية إذا كانت
العودة واستعادة الحقوق مشروطة بها؟
الجواب/ وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته..
الأصل أن للمسلمين البقاء في أرضهم، بل قد يجب عليهم إذا كان في ثباتهم
فيها حفظ لدار الإسلام، ولا يخرجون منها إلا إذا كانوا يخشون على أنفسهم ودينهم وأموالهم
وأهليهم، فلهم الهجرة منها على سبيل الجواز، كما هاجر المسلمون إلى الحبشة، ولا تجب
عليهم الهجرة إلا إذا خافوا أن يكرههم العدو على الردة عن دينهم، ويمنعهم من شعائره
وفرائضه، وقد أسلم النجاشي ملك الحبشة سرا ومعه جماعة من مؤمني الحبشة، فلم يوجب عليهم
النبي ﷺ الهجرة إليه، مع أنهم لم يظهروا إسلامهم، بل كانوا يسرونه ويخفونه، وقد
كانت الهجرة واجبة فقط على المؤمنين في مكة إلى النبي ﷺ في المدينة لنصرته، فلما فتح النبي ﷺ مكة نسخ هذا الحكم فقال ﷺ: (لا هجرة بعد الفتح).
وجاء في صحيح البخاري: (أن أعرابيا سأل رسول اللهﷺ عن الهجرة، فقال: ويحك، إن شأن الهجرة لشديد، فهل لك من إبل؟ قال: نعم،
قال: فهل تؤتي صدقتها؟ قال: نعم، قال: فاعمل من وراء البحار، فإن الله لن يترك من عملك
شيئا).
فلم يوجب النبيﷺ عليه الهجرة إليه في المدينة، فدل على أن المؤمن محفوظ له عمله عند الله
حيثما كان، ولو في أقصى الأرض وراء البحار.
وقد تعرض المسلمون في عصور كثيرة إلى غزو وعدوان من عدوهم واحتل أرضهم،
ولم يوجب عليهم العلماء الهجرة منها، بل أوجبوا الدفاع عنها، أو الثبات فيها، حتى يجعل
الله لهم فرجا ومخرجا، خاصة إذا كان العدو نفسه يستهدف تهجيرهم من أرضهم، كما يفعل
المحتل الصهيوني، لتنفيذ مشروعه الاستيطاني في فلسطين، وكما يجري من تغيير ديموغرافي
في المنطقة العربية منذ دخول الحملة الصليبية في الحرب العالمية الأولى حتى اليوم؛
لفرض واقع سياسي على شعوبها يخدم مصالحه، ويكرس وجوده، بتهجير الأكثرية السنية التي
تقاومه من بلدانها، كما حدث في فلسطين، ولبنان، والعراق، وسوريا، واليمن، وغيرها.
فالواجب على أهلها الثبات في أرضهم، والمرابطة فيها، وعدم الهجرة منها
ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.
وقد جاء في فتوى الإمام شهاب الدين الرملي الشافعي (المتوفى ٩٥٧ للهجرة)
لمّا حدث ما حدث في الأندلس من ظهور النصارى عليهم، فكتب جوابا في الفتاوى ٢/ ٥٢ عن
سؤال ورد إليه من الأندلس، أيام محنتها وسقوط مدنها، تحت حكم الأسبان جاء فيه:
(باب الأمان : سئل عن المسلمين الساكنين في وطن من الأوطان الأندلسية يسمى
أرغون، وهم تحت ذمة السلطان النصراني، يأخذ منهم خراج الأرض بقدر ما يصيبونه فيها،
ولم يتعد عليهم بظلم غير ذلك، لا في الأموال، ولا في الأنفس، ولهم جوامع يصلون فيها،
ويصومون رمضان، ويتصدقون ويفكون الأسارى من أيدي النصارى إذا حلوا بأيديهم، ويقيمون
حدود الإسلام جهرا كما ينبغي، ويظهرون قواعد الشريعة عيانا كما يجب، ولا يتعرض لهم
النصراني في شيء من أفعالهم الدينية، ويدعون في خطبهم لسلاطين المسلمين من غير تعيين
شخص، ويطلبون من الله نصرهم وهلاك أعدائهم الكفار، وهم مع ذلك يخافون أن يكونوا عاصين
بإقامتهم ببلاد الكفر فهل تجب عليهم الهجرة.
وهم على هذه الحالة من إظهار الدين نظرا إلى أنهم ليسوا على أمان أن يكلفوهم
الارتداد والعياذ بالله تعالى، أو على إجراء أحكامهم عليهم أو لا تجب نظرا إلى ما هم
فيه من الحال المذكور؟
فأجاب: بأنه لا تجب الهجرة على هؤلاء المسلمين من وطنهم لقدرتهم على إظهار
دينهم به، ولأنه ﷺ بعث عثمان يوم الحديبية إلى مكة لقدرته على إظهار دينه بها، بل لا تجوز
لهم الهجرة منه؛ لأنه يرجى بإقامتهم به إسلام غيرهم؛ ولأنه دار إسلام، فلو هاجروا منه
صار دار حرب، وفيما ذكر في السؤال من إظهارهم أحكام الشريعة المطهرة، وعدم تعرض الكفار
لهم بسببها على تطاول السنين الكثيرة ما يفيد الظن الغالب بأنهم آمنون منهم من إكراههم
على الارتداد عن الإسلام، أو على إجراء أحكام الكفر عليهم {والله يعلم المفسد من المصلح})انتهى كلام الرملي.
وما ذكره الرملي هنا هو الذي عليه أكثر الفقهاء، ولو أنه كلما احتل العدو
الكافر بلدا من بلدان المسلمين فر منها أهلها، وتركوها، لما بقي للمسلمين دار ولا وطن،
وهذا ما حل بالأندلس حين فر أهلها، فزال عنها وصف دار الإسلام، بينما ظل المسلمون في
المشرق -كما في الصين وروسيا- في بلدانهم، وصبروا، ولم يهاجروا منها، فبقي الإسلام
فيها إلى اليوم.
فحكم أهل الجولان السوري المحتل كحكم أهل فلسطين المحتلة، من أراد منهم
العودة إليها، وأمن على نفسه، ودينه، فله العودة، بل قد تجب عليه، فإن نوى بذلك الرباط
فيها وتحريرها؛ فله أجر المرابط إلى أن يحررها المسلمون بإذن الله قريبا.
وفي "أسنى المطالب" لزكريا الأنصاري الشافعي ٤/ ٢٠٤ عن حكم هجرة
من هو في دار الحرب فقال: (فإن قدر على الاعتزال، والامتناع في دار الحرب، مع كونه
قادرا على إظهار دينه، ولم يخف فتنة فيه، حرمت الهجرة منها؛ لأنها دار إسلام، فلو هاجر
لصارت دار حرب).
والهجرة إنما شرعت لمصلحة وغاية وهي الأمن للمؤمنين، وإظهار شعائر الدين،
فإن لم يتحقق ذلك بالهجرة، واستوت البلدان في ذلك فلا تجب، كما قال الشربيني الشافعي
في مغني المنهاج ١٧/ ٣٨٨: (فإن استوت البلاد في عدم إظهار ذلك كما في زماننا فلا وجوب
بلا خلاف).
وأما اكتساب الجنسية الإسرائيلية فإنه محرم شرعا لغير حاجة تنزل منزلة
الضرورة، فإن كان يلزم من أخذها الدخول في الجيش الإسرائيلي والتجنيد الإجباري، فإنه
يكون حينئذ كفرا وردة، إذا فعله المسلم مختارا بلا إكراه، ولا إجبار، ولا اضطرار، فإن
ألزم بها وكان لا يستطيع الحصول على أرضه وداره وحقوقه إلا بالجنسية الإسرائيلية، وكان
لا يلزم من أخذها الخدمة في الجيش، أو يستطيع رفض الخدمة أو دفع بدل مالي مقابله، فلا
حرج عليه ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها.