تصدير الاحتلال
مقال منشور في بوابة العرب بتاريخ 12/ 4/ 2003
بقلم: أ.د. حاكم المطيري
ها قد ذهبت السكرة
وجاءت الفكرة ليكتشف الشعب الكويتي أنه كان ضحية تضليل إعلامي وغسيل دماغ إسلامي، وأن
شعار (تحرير العراق) لم يكن سوى كذبة كبرى دفعه إلى تصديقها وتسويقها سورة الغضب على
النظام البعثي وشهوة الانتقام من الشعب العراقي، فها هو العراق يفقد استقلاله ويخسر
سيادته؛ ليصبح تحت حكم جنرال أمريكي ليعود الاستعمار من جديد، ولتتبخر أحلام المعارضة
العراقية بإقامة حكومة وطنية انتقالية كما يقضي الاتفاق بينها وبين الإدارة الأمريكية
بعد أن رفضت المعارضة شروط أمريكا التي تريد جعل العراق تحت نفوذها وسيطرتها؛ ليثبت
للمعارضة بعد فوات الأوان أنها لم تكن سوى ورقة ضغط سياسي تم حرقها بعد أن أدت دورها،
ولتكتشف أن أمريكا لم تأتي بجيوشها من أجل تحرير العراق؛ لأنه أصلا لم يكن تحت الاحتلال،
ولأن العالم كله لم يسمع من قبل بمصطلح تحرير الشعب من حكومته قبل هذه الحرب، ولأنه
لم يسبق لأمريكا أن حررت شعبا أوربيا من حكومته بل ظلت شعوب أوربا الشرقية نصف قرن
ترزح تحت حكم أنظمة شيوعية استبدادية، ولم تفكر أمريكا قط بإرسال جيوشها لتحرير تلك
الشعوب الأوربية المسيحية، فكيف تفعل ذلك للشعب العراقي العربي المسلم؟!
نعم لقد ساهمنا
نحن الخليجيين في الحملة العسكرية على العراق غير أنها لم تكن من أجل تحريره، بل من
أجل احتلاله من قبل الجيش الأمريكي وجيوش الحلفاء؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه، فالدول
التي تفتقد للحرية والاستقلال، لا يمكن أن تصدرهما، وكيف يمكن لدول الخليج التي باتت
تحت سيطرة الوجود العسكري الأمريكي منذ 1991م، والتي لم تستطع باعتراف حكوماتها منع
أمريكا من استخدام أراضيها أن تساهم في تحرير غيرها من الدول، وهي نفسها لم تتحرر بعد؟!
وكيف للدول التي
لم يؤخذ إذنها في هذه الحرب التي انطلقت من أراضيها، ولم تحترم أمريكا سيادتها أن تساهم
في إقامة نظام حكم مستقل له كامل السيادة على أرض العراق؟
وكيف يمكن للدول
الخليجية التي لم تعرف الديمقراطية بعد ولا حكم الشعب ولا التداول السلمي للسلطة ولا
الأحزاب السياسية أن تساهم في إقامة تعددية سياسية وديمقراطية عراقية؟!
وكيف يمكن للشعوب
الخليجية التي سقطت تحت سيطرة الاستعمار البريطاني مدة ستين سنة وأكثر منذ سنة
1900م إلى استقلالها الصوري في آخر القرن الماضي دون أي مقاومة تذكر بل ولم تعرف أي
حركة تحرر وطني ضد الوجود الاستعماري أن تساهم في تحرير الشعب العراقي الذي قام بأول
ثورة عربية ضد الاستعمار البريطاني سنة1920م ؟!
إن ما قامت به دول
الخليج لم يكن سوى تصدير الفائض لديها من الوجود العسكري الأمريكي وقواعده التي لم
تعد دول الخليج تستوعبها إلى الشعب العراقي، فليس من الأخوة العربية أن ننعم بكل هذه
القواعد العسكرية التي تحيط بالخليج من الكويت إلى عمان دون إخواننا في العراق؟! وليس
من المروءة أن نتمتع بكل مظاهر الحرية والاستقلال والسيادة بينما يحرم منها الشعب العراقي
الشقيق؟!
وليس من الإنصاف
في شيء أن نتحمل وحدنا فاتورة هذا الاستعمار الجديد دون الشعب العراقي الذي يجب أن
يشارك في تحمل قسط من هذا الوجود العسكري، وأن يدفع فاتورته؛ فالنفط العراقي قادر على
تحمل ذلك؛ فهو يعد أكبر احتياطي نفطي عالمي،
وليس من الحكمة أن يظل بلا حماية أمريكية، فهذا من السفه والعبث بمقدرات الشعب العراقي
وثرواته التي سيتمتع بها بعد أن يدفع فاتورة تكاليف الحرب و قيمة كل رصاصة وقذيفة أطلقتها
جيوش الحلفاء حتى القذائف التي ذهب ضحيتها الأبرياء، وبعد أن ترهن الشركات الأمريكية
النفط العراقي لمدة ثلاثين سنة؟!
إن ما قمنا به اليوم
هو تكرار لما قمنا به سنة 1916م عندما فتحنا الطريق للاستعمار البريطاني ليدخل العراق
من جهة البصرة ليصبح العراق تحت الاحتلال العسكري؟!
نعم لقد ساهمنا
نحن الخليجيين جميعا في هذه الحرب سرا وعلانية، ولم نكتف بذلك بل استطاع بعض أنصاف
المثقفين ورجال الدين المترفين أن يقيموا الأدلة على مشروعية وقانونية وأخلاقية المساهمة
في تصدير الاحتلال، ومساعدة المحتل بدعوى تحرير الشعب العراقي من حكومته التي لم تكن
الحكومة الدكتاتورية الوحيدة في العالم العربي الذي يعج من الخليج الخادر إلى المحيط
الخاثر بهذا النوع من الحكومات الاستبدادية الإجرامية؛ وهو ما يعني ضرورة أن يدعو هؤلاء
الليبراليون (المسقفون) ورجال الدين (المترفون) أمريكا وبريطانيا بإكمال حملة تحرير
العالم العربي من حكوماته غير الشرعية وغير الديمقراطية، ولماذا تقف هذه الحملة عند
حدود العراق فقط؟!
لقد ظلمتنا الشعوب
العربية والإسلامية، ولم تعرف نبل أهدافنا، ولا مدى حرصنا على الشعب العراقي وحريته،
فما دفعنا إلى المساهمة في هذه الحملة العسكرية التي ذهب ضحيتها آلاف الأبرياء من الأطفال
والشيوخ والنساء بآلاف الصواريخ والقنابل العنقودية واليورانيوم المنضب حتى ضاقت بهم
المستشفيات باعتراف لجان الصليب الأحمر إنما هو حرصنا على أن ينعم بالحرية مثلنا؟!
لقد أصبح من حق
كل قوى المعارضة العربية في الخارج كالمعارضة السورية والمصرية والليبية والجزائرية
والسعودية...إلخ أن تستعين بالقوى الاستعمارية وتحثها على غزو بلدانها واحتلال أوطانها
من أجل إسقاط حكوماتها غير الديمقراطية، وإقامة حكومات عميلة تحت حماية الجيوش الغازية،
فهذا حق مشروع في ثقافتنا الخليجية الجديدة، وفتاوى الفقه الوليدة على فراش الزواج
الإسلامي البروتستانتي، وفي ظل رعاية عهد الاستعمار الأمريكي الجديد لدول الخليج؟!
لقد كان الفقهاء
الحكوميون وشبه الحكوميين وميليشياتهم الدعائية يحرمون على الشعوب العربية الثورة على
حكوماتها الاستبدادية، بل يحرمون حتى القيام بمظاهرة سلمية بدعوى أن ذلك من الخروج
على السلطة، وهو كما يزعمون محظور في الشريعة الإسلامية، وأن الصبر على الظلم خير من
إثارة الفتن وإراقة الدماء، فإذا بهم فجأة وبلا سابق إنذار يجيزون لبعض فصائل المعارضة
العراقية ليس فقط الثورة على النظام بل والاستعانة بالجيوش الصليبية لتدمير بلد إسلامي
وقتل الآلاف من أبنائه واحتلال أرضه بدعوى رفع الظلم عنهم؛ كما فعل الطوسي وابن العلقمي
عندما وقفا مع التتار بدعوى رفع الظلم عن أهل بغداد؟!
لقد أسهم أولئك
المثقفون ورجال الدين المتفيهقون في تشكيل ثقافة جديدة تجعل من خيانة الوطن عملا شريفا،
ومن العمالة للعدو الأجنبي فعلا مشروعا وتجعل من (أبي رغال) قدوة، ومن ابن العلقمي
إماما، ومن الطوسي حجة، ولم يعد لاستقلال الأوطان في ثقافتنا الجديدة حرمة، ولا لسيادة
البلدان ذمة؟!
لقد أثبتت الحوادث
والأيام أننا أكثر الشعوب قابلية للخضوع للاستعمار، وأكثر ميلا للخنوع للاستبداد وأقدرها
على التأقلم معهما باسم الدين تارة وباسم العقل والمصلحة تارة أخرى بل وأصبحنا أمهر
السماسرة والتجار في فن تصدير الاستعمار، وأقدر رجال الأعمال على تسويق الاحتلال تحت
شعار الحرية والاستقلال.