"مختصر الإفادة في أحكام الجهاد والشهادة"
الشيخ أ.د. حاكم المطيري
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا الأمين وآله وصحبه أجمعين
وبعد..
الجهاد لتحرير أرض فلسطين فرض عين -بالنص والإجماع- على كل مسلم مكلف،
كل بحسب استطاعته، وهو من باب جهاد الدفع، كما قال تعالى: ﴿وقاتلوا في سبيل الله الذين
يقاتلونكم﴾[البقرة: 190]، ﴿وما لكم لا تقاتلون
في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان﴾ [النساء:
75]، ويترتب عليه ما يلي:
1) - ثبوت الشهادة لمن قتل فيه لعموم النصوص كما قال ﷺ: (من قاتل دون ماله فقُتل فهو شهيد، ومن قاتل دون دينه فقتل فهو شهيد،
ومن قاتل دون دمه فقتل فهو شهيد، ومن قاتل دون أهله فقتل فهو شهيد).
فالمسلمون الذين يُقتلون في غزة اليوم ظلما وعدوانا اجتمع لهم وصفان يوجب
كل واحد منهما وصف الشهادة وأحكامها:
الأول: لمن قاتل منهم دون نفسه أو أهله أو دينه أو ماله فقُتل.
والثاني: لمن قُتل منهم مظلوما بالقصف، وإن لم يقاتل كالنساء والأطفال
والشيوخ، كما جاء في "دليل الطالب" في فقه الحنابلة: (وشهيد المعركة والمقتول
ظلما، لا يغسل، ولا يكفن، ولا يصلى عليه، ويجب بقاء دمه عليه).
وشهيد المعركة كما نص عليه الفقهاء: هو كل قتيل من المسلمين في حربهم
الكفار، صالحا كان المسلم أو فاسقا، سنيا كان أو بدعيا، كما في فتح الباري 3/ 309
(باب الصلاة على الشهيد): (قال الزين بن المنير: والمراد بالشهيد قتيل المعركة في حرب
الكفار)، قال ابن حجر: (ولا فرق في ذلك بين المرأة والرجل، صغيرا أو كبيرا، حرا أو
عبدا، صالحا أو غير صالح) انتهى.
فلا خلاف بين العلماء في أن كل مسلم يقتله الكفار في المعركة شهيد في
أحكام الدنيا له خصوصية ليست لغيره من موتى المسلمين، كما ثبت في الكتاب والسنة، ولا
يقتضي ذلك القطع له بالجنة والشهادة له بها، كما قال الحافظ في الفتح 6/ 9 في باب
(لا يقال فلان شهيد): (أي على سبيل القطع بذلك إلا إن كان بالوحي، وإن كان مع ذلك يعطى
أحكام الشهداء في الأحكام الظاهرة، ولذلك أطبق السلف على تسمية المقتولين ببدر وأحد
وغيرهما شهداء، والمراد بذلك الحكم الظاهر المبني على الظن الغالب) انتهى كلام ابن
حجر.
2)- كما يترتب على وجوب الجهاد عليهم: وجوب نصرهم على من وراءهم من الأمة
الأقرب فالأقرب، فإذا ثبت أن المسلمين في فلسطين في جهاد دفع للعدو، وأنه يجب عليهم
قتاله فرض عين، فالنصرة واجبة على الأمة من ورائهم، بالنفس والمال والكلمة؛ لعموم الأدلة
وللإجماع، كما في قوله ﷺ: (جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم)، وكما قال ابن تيمية في
الفتاوى الكبرى 5/ 593 : (وإذا دخل العدو بلاد الإسلام فلا ريب أنه يجب دفعه على الأقرب
فالأقرب، إذ بلاد الإسلام كلها بمنزلة البلدة الواحدة، وأنه يجب النفير إليه بلا إذن
والد ولا غريم) وقال ابن حزم في المحلى 7/ 292: (إلا أن ينزل العدو بقوم من المسلمين
ففرض على من يمكنه إعانتهم أن يقصدهم مغيثا لهم) وقال الجصاص: (ومعلوم في اعتقاد جميع
المسلمين أنه إذا خاف أهل الثغور من العدو على بلادهم وأنفسهم وذراريهم أن الفرض على
كافة الأمة أن ينفر إليهم من يكف عاديتهم عن المسلمين وهذا لا خلاف فيه بين الأمة)،
ولا يلتفت للخلاف المذهبي والطائفي، بل الحكم الشرعي منوط بثبوت وصف الإسلام العام،
ولهذا قرر الأئمة أن الجهاد ماض مع كل إمام برا كان أو فاجرا، سنيا كان أو بدعيا، لمراعاة
المصالح الكلية التي تتحقق للأمة بالجهاد، وكما قال صديق حسن في "الروضة الندية"
ص 333 عن الجهاد وأحكامه: (هذه فريضة من فرائض الدين أوجبها الله على عباده المسلمين
من غير تقيد بزمان، أو مكان، أو شخص، أو جور، أو عدل).
3) - ولا يشترط لمشروعية جهاد الدفع أي شرط، فما زال المسلمون في كل عصر
يقاتلون من دهم أرضهم دفاعا عن أنفسهم طلبا للشهادة ونكاية بالعدو وحماية للحرمة، كما
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى المصرية 4/ 508: (قتال الدفع عن الحرمة والدين
واجب إجماعا فلا يشترط له شرط بل يدفع بحسب الإمكان).
فيدفع ولو بالحجارة كما في حاشية البيجوري الشافعي 2/ 491 عن جهاد الدفع:
(أن يدخل الكفار بلدة من بلاد المسلمين أو ينزل قريبا منها فالجهاد حينئذ فرض عين عليهم،
فيلزم أهل ذلك البلد حتى الصبيان والنساء والعبيد والمدين، ولو بلا إذن من الأولياء،
والأزواج، والسادة ورب المال الدفع للكفار بما يمكن منهم ولو بضرب بأحجار ونحوها) انتهى.
ولا يشترط كذلك تأهيل لقتال، أو توفر إمكانات، أو ظن تحقق نصر، كما قال
الإمام الشافعي -المولود في غزة حرسها الله ونصر أهلها- في كتابه "الأم"
4/ 178: (لا أرى ضيقا على الرجل أن يحمل على الجماعة حاسرًا، أو يبادر الرجل وإن كان
الأغلب أنه مقتول).
وقال ابن حجر في "الفتح" 12/ 316، وابن النحاس في "مشارع
الأشواق" 1/ 588 عن المهلب قوله: (قد أجمعوا على جواز تقحم المهالك في الجهاد).
وقال الغزالي في "الإحياء" 2/ 319: (ولا خلاف في أن المسلم
الواحد له أن يهجم على صف الكفار ويقاتل وإن عُلم أنه يُقتل إذا علم أنه يكسر قلوب
الكفار بمشاهدتهم جراءته واعتقادهم في سائر المسلمين قلة المبالاة وحبهم للشهادة في
سبيل الله فتنكسر بذلك شوكتهم).
وقال الخطيب الشربيني الشافعي
في الإقناع 2/ 510: (الحال الثاني من حال الكفار أن يدخلوا بلدة لنا فيلزم أهلها الدفع
بالممكن منهم، ويكون الجهاد حينئذ فرض عين سواء أمكن تأهيلهم لقتال أم لم يمكن، ومن
هو دون مسافة القصر من البلدة التي دخلها الكفار حكمه كأهلها وإن كان في أهلها كفاية؛
لأنه كالحاضر معهم، فيجب على كل من ذكر حتى على فقير وولد ومدين ورقيق بلا إذن، ويلزم
الذين على مسافة القصر المضي إليهم عند الحاجة بقدر الكفاية دفعا لهم فيصير فرض عين
في حق من قرب وفرض كفاية في حق من بعد).
4)- وللمجاهد قتل نفسه لحماية من وراءه كما أفتى بذلك الشيخ محمد بن إبراهيم
للجزائريين في جهادهم المحتل الفرنسي، كما في مجموع فتاواه 6/ 208 إذا خشي المجاهد أن يؤسر فيعترف بأسرار المقاومة
الجزائرية، لأنه جهاد مشروع، وأن من يقتل نفسه لمصلحة الجهاد وحماية المجاهدين وراءه
مأجور قياسا على قصة النبي يونس، وقصة الغلام وأهل السفينة كما في الصحيح.
اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب؛ انصر أهل غزة وثبت
أقدامهم، واجعل الدائرة على عدوهم آمين.
ربيع الآخر 1445هـ/ أكتوبر 2023م