الإمداد والإعداد
وما على الأغنياء من الجهاد
فتوى الشيخ أ.د. حاكم المطيري
٢٥/ ٤/ ١٤٤٥هـ
٩/ ١١/ ٢٠٢٣م
الحمد الله وكفى، وصلى الله وسلم على نبيه المصطفى، وآله وصحبه الشرفا،
وبعد..
فهذا جواب عن سؤال ورد من بلدان المغرب جاء فيه:
السلام عليكم ورحمة الله
وبركاته..
شيخنا الكريم..
نحن هيئة علمائية دعونا
إلى نصرة أهل غزة بالمال، وخصصنا بالدعوة التجار ورجال الأعمال، وتفاجأنا بأن ما يبذلونه
من مال لا يعادل ما يبذلونه عادة في أمور خيرية أخرى، فربما بذل الواحد منهم ١٠٠ ألف
دولار لبناء مسجد، بينما لا يبذل عشرة آلاف دولار لإغاثة أهل غزة، وهؤلاء التجار من
أهل الصلاح والفضل والصلاة والزكاة، إلا أنهم لا يعرفون ما يجب عليهم في مثل هذا الأمر!
والسؤال ما الواجب على
مثل هؤلاء شرعا في مثل هذه النوازل؟ وهل يجزئ عن الواحد منهم دفع الزكاة أو اليسير
من الصدقات وإن لم تف بحاجة أهل النازلة؟ أفتونا مأجورين
الجواب: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته..
وفتح الله عليكم، وكتب أجركم، وعجل نصر أهل غزة وبعد..
فالجواب من وجوه:
الأول: أن في المال حقوقا سوى الزكاة بلا خلاف، كما قال تعالى: ﴿والذين
في أموالهم حق معلوم. للسائل والمحروم﴾ [المعارج ٢٤ -٢٥].
وفي الحديث الصحيح في السنن: (إن في المال لحقا سوى الزكاة)، وذلك كحقوق
النفقة الواجبة على الزوجة، والأولاد، والوالدين الفقراء، ونحوهم من الأقارب الذين
تجب النفقة على فقيرهم على من يرثهم لو ماتوا، وكحق الضيف على من نزل بهم ثلاثة أيام،
وحق الملهوف على من يسعفه، وحق الجاني خطأ على عاقلته في الديات، ونحوها من الحقوق
المالية.
الثاني: أن الواجب في زكاة المال صرفها على الثمانية أصناف المذكورة في
قوله تعالى: ﴿إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي
الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم﴾ [التوبة:
٦٠]
وقد ذهب الإمام الشافعي وداود الظاهري والإمام الزهري وغيرهم إلى وجوب
استيعاب هذه الأصناف بتقسيم الزكاة على جميعهم، ولا تبرأ ذمة صاحب المال إلا بتعميمهم
إذا أخرج هو زكاته بنفسه، كما يجب على الإمام إن أخذ الزكاة استيعاب جميع من كان موجودا
من أهل هذه الأسهم بالسوية.
وذهب الجمهور إلى عدم وجوب الاستيعاب والتعميم، إلا إنهم لا يختلفون على
أنه يبدأ بالأهم منهم والأشد حاجة فالمهم.
وعليه فإن أهل هذه النوازل -خاصة إذا دهم العدو بلدا مسلما- أحق بالتقديم،
وذلك أن فيها كل أصناف أهل الزكاة وتتحقق في دفعها لهم كل المصالح التي من أجلها وجبت
النفقة في الأموال، ففيها إنقاذ النفوس المعصومة من الرجال والنساء والأطفال من القتل
والأسر، وفيها تجهيز المجاهدين بالعدة للقتال وهم أحق الناس في سهم في سبيل الله؛ إذ
الجهاد في حقهم قد صار فرض عين عليهم جميعا، وفيها سد حاجتهم وخلتهم من الطعام والدواء،
فهم أحق الفقراء والمساكين بالزكاة، وفيها إيواء المهجرين اللاجئين وهم الأحق من غيرهم
في سهم ابن السبيل.
الثالث: فإن كفت الزكاة في سد حاجة أهل النازلة حتى ترتفع ويدفع الله عنهم
عدوهم، وإلا فقد وجبت الصدقة في أموال الأغنياء والتجار بلا خلاف بين الفقهاء، فإن
الأغنياء مخاطبون بالجهاد في سبيل الله بأنفسهم وأموالهم، وفي مثل هذه النوازل نزلت
آيات الوعيد في سورة براءة في وجوب الإنفاق في الجهاد في سبيل الله، ووعيد الله من
تخلف عنه، ووصمه بالنفاق، وتوعده بالدرك الأسفل من النار، كما قال تعالى فيها: ﴿انفروا
خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون﴾
[التوبة: ٤١].
فلم يعذر الله أحدا في الخروج إلى غزوة تبوك -وهي آخر غزوة للنبي ﷺ- كبيرا أو صغيرا، غنيا أو فقيرا، حتى لم يتخلف عنها -ممن لا عذر له- إلا
المنافقون، والثلاثة الذين تاب الله عليهم لصدقهم، فقال عن المنافقين: ﴿وما منعهم أن
تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا
ينفقون إلا وهم كارهون﴾ [التوبة: ٥٤]
ثم قال عمن بخلوا بأموالهم حين دعاهم الله إلى الجهاد في سبيله ﴿ومنهم
من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا
به وتولوا وهم معرضون فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما
وعدوه وبما كانوا يكذبون﴾ [التوبة: ٧٥-٧٧]
ثم توعد الله هؤلاء المنافقين فقال: ﴿إن المنافقين في الدرك الأسفل من
النار ولن تجد لهم نصيرا﴾[النساء: ١٤٥]
والبخل هنا ليس في الزكاة الواجبة، فإنها تؤخذ من كل من وجبت عليه بلا
اختيار منه، وأمر الله بقتال من منع الزكاة، كما قال تعالى في براءة: ﴿فإن تابوا
وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم﴾[التوبة:٥]، وقال ﷺ كما في الصحيحين: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا
إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإن فعلوا ذلك؛
عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحقها) فدل على أن دفع الزكاة فرض يحل قتال من امتنع منه، وأن في أموالهم حقوقا
غيرها تلزمهم بعموم قوله (إلا بحقها).
ولا يوصف من دفع الزكاة بأنه كريم، ولا من امتنع منها بأنه بخيل، كما جاء
وصفهم في هذه الآيات، لأنه إنما يدفع بالزكاة حق الفقراء والمساكين الذي أوجبه الله
لهم في ماله، فلا فضل له ولا منة، فدل وصفهم بالبخل على أنهم شحوا بما وراء الزكاة
المفروضة، وكما قال تعالى: ﴿ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل
ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم
ثم لا يكونوا أمثالكم﴾ [محمد: ٣٨]
وهذا وعيد شديد بالاستبدال، وبالوصف بالنفاق، وبالخلود في النار.
الرابع: أن الله ندب الجميع للجهاد في سبيله، وحث المؤمنين جميعا على القيام
به، حتى قال النبي ﷺ: (من لم يغزُ ولم يحدث نفسه بالغزو؛ مات على شعبة من نفاق)، وهذا كله في
الجهاد عموما إذا كان فرض كفاية، فإن صار فرض عين على أهل بلد، كأهل فلسطين حين احتلها
العدو، وعلى كل من وراءهم من المسلمين حين عجز أهلها عن دفع العدو عنها، فهنا لا تبرأ
ذمة أحد حتى يجاهد بنفسه وماله، فإن تعذر عليه فبماله، فيجهز مكانه من يجاهد في سبيل
الله، كمن وجب عليه الحج وعجز عنه أناب غيره، ولا تبرأ ذمته إلا بذلك، كما في الحديث
الصحيح: (من جهز غازيا في سبيل الله فقد غزا، ومن خلفه بأهله بخير فقد غزا).
فإذا كان الأمر كذلك، فإن الحد الواجب في النفقة في سبيل الله -إذا دعا
داع الجهاد، أو صار فرض عين، واحتاج المسلمون إلى المال- هو بذل الوسع والطاقة فيه
كما في بذل النفس، وهو معنى الجهاد وحقيقته، فإنه من الجهد وبذل الوسع، واستفراغ الطاقة،
فلا يسمى المؤمن مجاهدا بماله ولم يبلغ في الإنفاق جهده وطاقته ووسعه الذي يقدر عليه
لنصرة دين الله وعباده المؤمنين، فيعطي الله من ماله أطيبه وما يرضيه عنه، ويعتق رقبته
به من النار، كما اشترطه الله تعالى على المؤمنين لدخول الجنة والفوز بثوابها بقوله:
﴿لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم﴾ [آل عمران:
٩٢].
وفي الصحيح أن أبا طلحة الأنصاري حين نزلت هذه الآية تصدق في سبيل الله ببيرحاء حديقة له، هي أحب ماله عنده، فقال النبي ﷺ: (بخ، ذاك مال رابح، ذاك مال رابح).
وقال عمر كما في الصحيحين: يا رسول الله لم أصب مالا هو أنفس عندي من سهمي
في خيبر وهي أرض له، فما تأمرني؟ فقال النبي ﷺ: (حبّس الأصل وسبّل الثمرة).
وكما اشترط الله لصحة دعوى الإيمان به الجهاد في سبيله بالنفس والمال،
فقال: ﴿إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله
فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله
فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم﴾ [التوبة: ١١١]
وقال: ﴿إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا
بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون﴾ [الحجرات: ١٥]
فمن ترك الجهاد بالكلية فلم يجاهد لا بنفسه ولا بماله فقد كذب في دعوى
الإيمان بالله بنص هذه الآية، فإن الله عرّف حقيقة المؤمنين الصادقين هنا ليميزهم عن
المنافقين الكاذبين، الذين ارتابوا في إيمانهم، ولم يجاهدوا بأنفسهم ولا أموالهم في
سبيل الله، أو أنفقوا رياء أو مع كراهة نفوسهم.
وقد كان الصحابة يتنافسون في بذل أموالهم في سبيل الله طاقتهم، حتى دعاهم
النبي ﷺ مرة للإنفاق فجاء أبو بكر بماله كله، فقال له النبي ﷺ: ما أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله، وجاء عمر بنصف ماله، وجهز
عثمان جيش العسرة كله في غزوة تبوك وكانوا أكثر من أربعين ألفا، وجاء بثلاثمائة بعير
بما عليها من أحمالها صدقة في سبيل الله، وبألف دينار ذهب، ووضعها بين يدي النبي ﷺ فقال: (ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم) يكررها ثلاثا، وقد اشترى عثمان
الجنة بماله مرتين، حين دعا النبي ﷺ الناس من يشتري منهم بئر رومة فيجعلها سبيلا للمسلمين وله الجنة، فاشتراها
عثمان وجعلها كذلك، وحين دعاهم إلى من يجهز جيش العسرة وله الجنة فجهزه عثمان.
فإذا كان هؤلاء الذي شهد اللهم أنه يحبهم ويحبونه، ورضي عنهم ورضوا عنه،
ووعدهم الله الجنة، يبذلون كل طاقتهم ووسعهم، ولم يقتصروا على هجرتهم في سبيل الله،
ولا على قتالهم في سبيل الله، حتى بذلوا أموالهم، خشية من عذاب الله، وطلبا لرضاه؛
فمن باب أولى من هم دونهم ممن لم يجاهدوا جهادهم، ولا هاجروا هجرتهم.
فلا حد أعلى للإنفاق في سبيل الله، ولا إسراف فيه في حال الصحة والقوة،
كما في الصحيحين: (جاء رجل إلى النبي ﷺ، فقال: يا رسول الله، أي الصدقة أعظم أجرا؟ فقال: أما وأبيك لتنبأنه أن
تصدّق وأنت صحيح، شحيح، تخشى الفقر، وتأمل البقاء، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم،
قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان).
وإنما المستحب في مرض الموت ألا
يتصدق بأكثر من الثلث، ولا يجوز أكثر من الثلث إلا بإذن الورثة، لما في حديث سعد حين
استأذن النبي ﷺ بالوصية فقال: (الثلث والثلث كثير).
وأما أقل النفقة في سبيل الله التي يوصف صاحبها بالبخل والنفاق، ويخشى
عليه منه، ومن الوعيد عليه كما في قوله تعالى عن المنافقين بعد أن توعد المؤمنين بتمحيصهم،
وتمييز الخبيث منهم من الطيب: ﴿ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا
لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ولله ميراث السماوات والأرض والله
بما تعملون خبير﴾ [آل عمران: ١٨٠]
وكما توعد من كنز أمواله بقوله: ﴿والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها
في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم
وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون﴾ [التوبة: ٣٤-٣٥]
فذهب أبو ذر إلى أن كل ما زاد عن حاجة الإنسان والنفقات الواجبة عليه،
وكان فاضلا عن حاجاته وأهله فهو كنز، لا يحل له ادخاره، ويجب عليه إنفاقه، كما جاء
في حديث أبي سعيد الخدري في صحيح مسلم أن النبي ﷺ قال لهم في سفر: (من كان معه فضل ظهر، فليعد به على من لا ظهر له، ومن
كان له فضل من زاد، فليعد به على من لا زاد له. قال: فذكر من أصناف المال ما ذكر، حتى
رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل).
ولا خلاف بين الصحابة في هذا الأصل عند الحاجة، وأنه لا يحل لهم ادخار
أموالهم مع وجود محتاج بينهم حتى يسدوا حاجته، فرض كفاية عليهم جميعا، وقد يكون فرض
عين على أحدهم إذا لم يكن في بلد غني إلا هو، وإنما اختلفوا عند عدم الحاجة، فكان أبو
ذر يحلف على أنه لا يحل لهم الادخار مطلقا، وذهب جمهور الصحابة إلى أنه جائز إذا أدوا
الزكاة والحقوق الواجبة غيرها في المال، ولم يبخلوا بها أو يكنزوها وهناك من يحتاج
لفضول أموالهم.
وقد كان عمر يميل إلى هذا الرأي الذي ذهب إليه أبو ذر، كما صح عنه قوله:
(لو استقبلت من أمري ما استدبرت، لأخذت فضول أموال الأغنياء؛ فقسمتها على فقراء المهاجرين).
فإذا كان الأمر كذلك في أنه لا خلاف بينهم عند الحاجة في وجوب المواساة
بالأموال، وحرمة الاستئثار بها دون المحتاجين من المسلمين، وأنه يجب بالإجماع دفع الأموال
لإنقاذ المسلمين من القتل والأسر، فإن حد القليل الذي يوصف صاحبه بالبخل راجع إلى العرف
بحسب حال الإنسان وكثرة ماله، وشدة الحاجة العامة، وكفاية الأموال المدفوعة فيها، وعدم
كفايتها، كما في حديث هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان حين جاءت النبي ﷺ تشتكي زوجها، فقالت: إنه رجل مسيك أو بخيل لا يعطيني وولدي ما يكفيني؟
فقال النبي ﷺ: "خذي من ماله ما يكفيك بالمعروف"، فمع أنه كان ينفق عليها
وعلى ولده، إلا أن نفقته لا تسد حاجتها فوصفته بالبخل مع إنفاقه، لكثرة ماله، وعدم
كفايته حاجتها، وجعل النبي ﷺ لها حقا في ماله بالمعروف.
فإذا نزلت بالمسلمين نازلة فلم يسدوها بأموالهم فقد بخلوا وشحوا بها وكنزوها،
ولحق الإثم الجميع كل بحسب ماله وقدرته، حتى يسدوها، وعليهم إثم كل من قتل في النازلة
أو أسر، إن كان سبب قتلهم وأسرهم تخلف المدد عنهم مع إمكان مدهم بالمال بما يدفع عنهم.
الخامس: فإن كان الإمام قائما
بأمر الزكاة والجهاد، ولم تف الأموال بسد الحاجات وجب عليه أخذها من الأغنياء بالعدل،
وقسمها بينهم بالحصص، وإن لم يكن إمام عام، قام أهل الحل والعقد منهم بتحديد الحصص
على كل غني، ولا خلاف بين الفقهاء في هذا الأصل، بل نقل عليه الإجماع ابن حزم في المحلى
٤/ ٢٨٢ فقال: (وفرض على الأغنياء من أهل كل بلد أن يقوموا بفقرائهم، ويجبرهم السلطان
على ذلك، إن لم تقم الزكوات بهم، ولا في سائر أموال المسلمين، فيقام لهم بما يأكلون
من القوت الذي لا بد منه، ومن اللباس للشتاء والصيف بمثل ذلك، وبمسكن يكنهم من المطر،
والصيف والشمس، وعيون المارة..
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت
لأخذت فضول أموال الأغنياء فقسمتها على فقراء المهاجرين"، هذا إسناد في غاية الصحة
والجلالة..
وعن محمد بن علي بن أبي طالب أنه سمع علي بن أبي طالب يقول: "إن الله
تعالى فرض على الأغنياء في أموالهم بقدر ما يكفي فقراءهم، فإن جاعوا، أو عروا وجهدوا
فمنع الأغنياء؛ وحق على الله تعالى أن يحاسبهم يوم القيامة، ويعذبهم عليه".
وعن ابن عمر أنه قال: "في
مالك حق سوى الزكاة". وعن عائشة أم المؤمنين، والحسن بن علي، وابن عمر أنهم قالوا
كلهم لمن سألهم: "إن كنت تسأل في دم موجع، أو غرم مفظع، أو فقر مدقع؛ فقد وجب
حقك".
وصح عن أبي عبيدة بن الجراح وثلاثمائة من الصحابة رضي الله عنهم
"أن زادهم فني، فأمرهم أبو عبيدة فجمعوا أزوادهم في مزودين، وجعل يقوتهم إياها
على السواء".
فهذا إجماع مقطوع به من الصحابة رضي الله عنهم، لا مخالف لهم منهم.
وصح عن الشعبي، ومجاهد، وطاوس، وغيرهم، كلهم يقول: "في المال حق سوى
الزكاة".
قال ابن حزم: وما نعلم عن أحد منهم خلاف هذا، إلا عن الضحاك بن مزاحم،
فإنه قال: نسخت الزكاة كل حق في المال! وما رواية الضحاك حجة فكيف رأيه!) انتهى.
وقال السرخسي الحنفي في المبسوط
١٠/ ٢٠ عن أنواع الجهاد وتفاوت أحوال الناس فيما يجب عليهم: (وجهاد بالمال والنفس جميعا
قال الله تعالى: ﴿وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم﴾[الصف: ١١] وقال جل وعلا:
﴿إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم﴾[التوبة: ١١١] وأحوال الناس متفاوتة فمنهم من يقدر
على إقامة الفرض بهما، ومنهم من يقدر على إقامة الجهاد بالنفس لصحة بدنه، ويعجز عن
الخروج لفقره، والآخر يعجز عن الخروج والجهاد بالنفس لمرض أو آفة ويقدر على الجهاد
بالمال، فيجهز بماله من يخرج فيجاهد بنفسه، حتى يكون الخارج مجاهدا بالنفس والقاعد
المعطي المال مجاهدا بالمال، والمؤمنون كالبنيان يشد بعضهم بعضا، ولهذا كره ابن عباس
-رضي الله عنهما- لقابض المال أن يجعل ذلك في متاع بيته، لأن المعطي أمره بالجهاد به،
وذلك في استعداده له والإنفاق في الطريق على نفسه وهو على وجهين عندنا إن قال: هذا
المال لك فاغز به، فله أن يصرفه إلى ما يشاء، لأنه ملكه المال، ثم أشار عليه بأن يصرفه
إلى الجهاد فإن شاء قبل مشورته، وإن شاء لم يقبل، وإن قال: اغز بهذا المال؛ فليس له
أن يصرفه إلى متاع بيته، ولكن يشتري به الكراع والسلاح وينفق على نفسه في طريق الجهاد)
انتهى كلامه.
وقال ابن العربي في "أحكام القرآن": (وإذا وقع أداء الزكاة ونزلت
بعد ذلك حاجة، فإنه يجب صرف المال إليها باتفاق من العلماء، وقد قال مالك: يجب على
كافة المسلمين فداء أسراهم، وإن استغرق ذلك أموالهم، وكذا إذا منع الوالي الزكاة، فهل
يجب على الأغنياء إغناء الفقراء؟ مسألة فيها نظر، أصحها عندي وجوب ذلك عليهم).
وقال الغزالي الشافعي في "المستصفى" ص ١٧٧ عن فرض الإمام حصصا
على الأغنياء في أموالهم، إذا خلى بيت المال، وخشي من العدو: (إذا خلت الأيدي من الأموال،
ولم يكن من مال المصالح ما يفي بخراجات العسكر، ولو تفرق العسكر واشتغلوا بالكسب لخيف
دخول الكفار بلاد الإسلام، أو خيف ثوران الفتنة من أهل العرامة في بلاد الإسلام، فيجوز
للإمام أن يوظف على الأغنياء مقدار كفاية الجند) انتهى.
وقال ابن تيمية الحنبلي في "مجموع الفتاوى": (وأما الزكاة فإنها
تجب حقا لله في ماله. ولهذا يقال: ليس في المال حق سوى الزكاة، أي ليس فيه حق يجب بسبب
المال سوى الزكاة، وإلا ففيه واجبات بغير سبب المال، كما تجب النفقات للأقارب، والزوجة،
والرقيق، والبهائم، ويجب حمل العاقلة، ويجب قضاء الديون، ويجب الإعطاء في النائبة،
ويجب إطعام الجائع، وكسوة العاري، فرضا على الكفاية؛ إلى غير ذلك من الواجبات المالية.
لكن بسبب عارض). انتهى.
وقال أيضا في الفتاوى المصرية: (والمضطر إلى طعام الغير إن كان فقيرا فلا
يلزمه عوض إذ إطعام الجائع، وكسوة العاري، فرض كفاية، ويصيران فرض عين على المعين،
إذا لم يقم به غيره). اهــ.
وقال أيضا: (في المال حقوق سوى الزكاة، مثل: صلة الرحم من النفقة الواجبة،
وحمل العقل [الدية] عن المعقول عنه [الجاني]؛ واجب بالإجماع. ومثل: إطعام الجائع، وكسوة
العاري، ونحو ذلك؛ فهو فرض كفاية، فمن غلب ظنه أن غيره لا يقوم بذلك؛ تعين عليه. ومثل
الإعطاء في النوائب، مثل: النفقة في الجهاد، وقرى الضيف؛ فهو واجب بالسنة الصحيحة)
انتهى.
وفي أجوبة الفقيه التسولي ص ٢٨٧ عن أسئلة لأمير عبد القادر الجزائري، حين
حاصره الفرنسيون واحتاج الأموال لجهادهم واستفتى علماء الجزائر والمغرب فذكر قول الونشريسي
في المعيار المعرب ١١/ ١٢٧: (قال الإمام ابن منظور: الأصل: أن لا يطالب المسلمون بمغارم
غير واجبة بالشرع، وإنما يطالبون بالزكاة، وما أوجبه القرآن والسنة، كالفيء والركاز،
لكن إذا عجز بيت المال عن أرزاق الجند، وما يحتاج إليه من آلة حرب وعدة: فيوزع على
الناس ما يحتاج إليه من ذلك، ويستنبط هذا الحكم، من قوله تعالى: ﴿قالوا يا ذا القرنين
إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا..﴾[الكهف:٩٤].
لكن لا يجوز ذلك إلا بشروط:
أحدها: أن يعجز بيت المال، وتتعين الحاجة.
وثانيها: أن يصرفه الإمام بالعدل، فلا يجوز: أن يستأثر به دون المسلمين،
ولا ينفقه في سرف، ولا يعطي من لا يستحق، ولا أكثر مما يستحق.
وثالثها: أن يكون المغرم على من كان قادرا من غير ضرر ولا إجحاف، ومن لا
شيء له أوله شيء قليل لا يغرم شيئا.
ورابعها: أن يتفقدها في كل وقت، فربما جاء وقت لا يفتقر فيه لزيادة على
ما في بيت المال).
وفي فتوى التسولي أيضا ص ٢٩٣: (وقد سئل الإمام السرقسطي رحمه الله هل يجوز
لأحد أن يغيب على شيء من المغارم الموظفة؟ فقال: إن مصالح المسلمين التي لا تسكن ثغورهم،
ولا ينفك عنهم عدوهم -دمره الله- ولا تأمن طرقهم إلا بها، إن كانت لا تقوم إلا بمغارم
الأسواق، وكان أصل وضعها عن اتفاق من أهل الحل والعقد، لكون بيت المال عاجزا قاصرا
عنها، فإن تلك المغارم يجب حفظها، وأن يولى لقبضها وصرفها في مواضعها الثقات الأمناء).
وهي في المعيار للونشريسي ٥/ ٣٢.
السادس: هذا ولا
عذر لمن ترك الجهاد بماله بدعوى أنه لا يعرف لمن يدفع المال للجهاد في سبيل الله، أو
لا يثق في أحد، أو يخشى على نفسه أو ماله أو أهله، فلا عذر في ذلك كله، بل عليه أن
يتحرى، ويجتهد في إيصال المال وسهم في سبيل الله للمجاهدين وللمستحقين واللاجئين في
غزة وفلسطين، سواء بنفسه، أو بواسطة من يثق بهم، كما لا عذر لمن يخاف السلطان الجائر
أو الكافر في بلده؛ لأنه يمنع من دفع سهم في سبيل الله للمجاهدين، إذ لم يعذر الله
المجاهدين أنفسهم بالخوف من عدوهم في ترك الجهاد، فقال فيهم: ﴿ألم تر إلى الذين قيل
لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم
يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا
إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا﴾[النساء:
٧٧] فمن باب أولى القاعدين الذي يجب عليهم الجهاد بأموالهم لا يعذرون بالخوف على أموالهم
أو أنفسهم، كما توعد الله هؤلاء بقوله: ﴿قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم
وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله
ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين﴾
[التوبة: ٢٤].
وإنما يحتاط أصحاب
الأموال في دفعها لمستحقيها ولو على سبيل الاستسرار والخفاء فلا يعلم بهم الظالمون
والمجرمون حتى لا يتعرضوا للأذى، وقد كان الإمام مالك بن أنس يفتي أصحابه بإخراج الزكاة
سرا وعدم دفع الزكاة لأئمة الجور، كما جاء في المدونة ١/٣٩٢: " قال ابن القاسم:
قال مالك وسألناه عنها سرا فقال لنا: أرى أن يفرق كل قوم زكاة الفطر في مواضعهم أهل
القرى حيث هم في قراهم، وأهل العمود حيث هم، وأهل المدائن في مدائنهم، قال: ويفرقونها
هم ولا يدفعونها إلى السلطان إذا كان لا يعدل فيها".
فإن وقع لهم
جراء إخراجها لمستحقيها أذى فليصبروا، فأجرهم على الله، كما قال تعالى: ﴿أحسب الناس
أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين
صدقوا وليعلمن الكاذبين﴾ [العنكبوت: ٢-٣]
وقال بعدها: ﴿ومن
الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر
من ربك ليقولن إنا كنا معكم أوليس الله بأعلم بما في صدور العالمين وليعلمن الله
الذين آمنوا وليعلمن المنافقين﴾ [العنكبوت: ١٠-١١]
وليعلم كل مسلم
بأن ما قد يقع له من أذى في الدنيا بسبب جهاده هو سبيل نجاته يوم القيامة من عذاب عظيم،
والفوز بجنات النعيم، كما قال تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم
من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير
لكم إن كنتم تعلمون يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة
في جنات عدن ذلك الفوز العظيم وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين﴾
[الصف: ١٠-١٣]
هذا ما وجب بيانه ونسأل الله للمستضعفين في غزة وفلسطين والشام فرجا ومخرجا،
وأن يثبت أقدامهم، وينصرهم على عدوهم، وأن ييسر للمسلمين نصرهم وإغاثتهم.