مساجد الضرار وحكم الصلاة فيها
فتوى الشيخ
أ.د. حاكم المطيري
سؤال/ ما حكم بناء المساجد من
أموال الشعب لمصلحة النظام الجائر الظالم؟ وهل هي مساجد ضرار؟ وهل يصلى بها؟
الجواب/ المساجد لها أحكام وغايات، فأول شروطها أن
تكون وقفا لله، ولعبادته وحده، مفتوحة لكل مسلم يريد أن يصلي له فيها، بغير حاجة
لإذن أحد، وأن يكون الجميع في الدخول إليها سواء، كما قال تعالى: ﴿وأنّ المساجد
لله فلا تدعوا مع الله أحدا﴾، وقال: ﴿في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه
يسبح له فيها بالغدو والآصال﴾.
وقال سبحانه: ﴿وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد
وادعوه مخلصين له الدين﴾ بتوحيده وعبادته.
ولهذا منع الله المشركين من دخول المسجد
الحرام كما قال تعالى: ﴿إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم
هذا﴾.
وقال
ﷺ كما في الصحيحين: (لعن الله اليهود والنصارى
اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذر ما صنعوا).
فالغاية من بناء المسجد عبادة الله وحده،
وإخلاص الدين، والدعاء والدعوة له وحده، وذكر اسمه وحده، وإقامة الصلوات له فيها
والجُمع والجماعات.
وكل ما كان على خلاف هذه الشروط فهو مسجد
ضرار، لا يجوز أن يصلى فيه، بل يجب إزالته كما أزال النبي ﷺ مسجد الضرار الذي بناه المنافقون لتفريق
كلمة المسلمين، ولحرب الله ورسوله، كما قال تعالى: ﴿والذين اتخذوا مسجدا ضرارا
وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله .. لا تقم فيه أبدا﴾.
فكل مسجد بني لغير عبادة الله وحده، أو بني
على غير هديه وشرعه، سواء ما بني للقبور والأضرحة تعظيما للأموات من الشيوخ
والعلماء، أو بني رياء وسمعة تعظيما للأحياء من الملوك والرؤساء، أو بني تفريقا
لجماعة المسلمين والمصلين في البلدة الواحدة، أو بني من مال مغصوب يجب رده لصاحبه
إن عرف صاحبه، أو بني من مال بيت المسلمين مع شدة حاجتهم لثمنه، وبلا إذنهم، فكل
هذه لها حكم مساجد الضرار، لا يصلى فيها، مع وجود غيرها، ويجب إزالتها مع إمكان
ذلك دون ضرر أكبر، أو تحويلها لما فيه مصلحة لعامة المسلمين، كالجامعات، والمدارس
والمستشفيات، ونحوها.
ويكاد هذا الحكم يكون محل اتفاق بين الفقهاء
من حيث العموم، وهو مذهب الإمام مالك بلا خلاف بين فقهاء مذهبه، كما نقله القرطبي
عنهم في تفسيره: (الثالثة: قال علماؤنا: لا يجوز أن يبنى مسجد إلى جنب مسجد، ويجب
هدمه، والمنع من بنائه لئلا ينصرف أهل المسجد الأول فيبقى شاغرا، إلا أن تكون
المحلة كبيرة فلا يكفي أهلها مسجد واحد فيبنى حينئذ.
وكذلك قالوا لا ينبغي أن يبنى في المصر
الواحد جامعان وثلاثة، ويجب منع الثاني، ومن صلى فيه الجمعة لم تجزه.
وقد أحرق النبي ﷺ مسجد الضرار وهدمه.
وأسند الطبري عن شقيق أنه جاء ليصلي في مسجد
بني غاضرة فوجد الصلاة قد فاتته، فقيل له: إن مسجد بني فلان لم يصل فيه بعد، فقال:
لا أحب أن أصلي فيه، لأنه بني على ضرار.
قال علماؤنا: وكل مسجد بني على ضرار، أو رياء
وسمعة، فهو في حكم مسجد الضرار لا تجوز الصلاة فيه.
وقال النقاش: يلزم من هذا ألا يصلى في كنيسة
ونحوها، لأنها بنيت على شر.
قلت: هذا لا يلزم، لأن الكنيسة لم يقصد
ببنائها الضرر بالغير، وإن كان أصل بنائها على شر، وإنما اتخذ النصارى الكنيسة
واليهود البيعة موضعا يتعبدون فيه بزعمهم كالمسجد لنا فافترقا.
وقد أجمع العلماء على أن من صلى في كنيسة أو
بيعة على موضع طاهر أن صلاته ماضية جائزة.
وقد ذكر البخاري أن ابن عباس كان يصلي في
البيعة إذا لم يكن فيها تماثيل.
وذكر أبو داود عن عثمان بن أبي العاص أن
النبي ﷺ أمره أن يجعل مسجد الطائف حيث كانت طواغيتهم.
الرابعة: قال العلماء: إن من كان إماما لظالم
لا يصلى وراءه إلا أن يظهر عذره أو يتوب، فإن بني عمرو بن عوف الذين بنوا مسجد
قباء سألوا عمر بن الخطاب في خلافته ليأذن لمجمع بن جارية أن يصلي بهم في مسجدهم،
فقال: لا، ولا نعمة عين! أليس بإمام مسجد الضرار! فقال له مجمع: يا أمير المؤمنين،
لا تعجل علي فوالله لقد صليت فيه وأنا لا أعلم ما قد أضمروا عليه ولو علمت ما صليت
بهم فيه كنت غلاما قارئا للقرآن وكانوا شيوخا قد عاشوا على جاهليتهم وكانوا لا
يقرءون من القرآن شيئا فصليت ولا أحسب ما صنعت إثما ولا أعلم بما في أنفسهم فعذره
عمر رضي الله عنه وصدقه وأمره بالصلاة في مسجد قباء.
الخامسة: قال علماؤنا رحمة الله عليهم: وإذا
كان المسجد الذي يتخذ للعبادة وحض الشرع على بنائه فقال: (من بنى لله مسجدا ولو
كمفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة) يهدم وينزع إذا كان فيه ضرر بغيره، فما ظنك
بسواه! بل هو أحرى أن يزال ويهدم حتى لا يدخل ضرر على الأقدم، وذلك كمن بنى فرنا
أو رحى أو حفر بئرا أو غير ذلك مما يدخل به الضرر على الغير.
وضابط هذا الباب: أن من أدخل على أخيه ضررا
منع. فإن أدخل على أخيه ضررا بفعل ما كان له فعله في ماله فأضر ذلك بجاره أو غير
جاره نظر إلى ذلك الفعل، فإن كان تركه أكبر ضررا من الضرر الداخل على الفاعل قطع
أكبر الضررين).
وأشد صور الإضرار بالمسلمين إنفاق بيت مالهم
على بناء الجوامع وزخرفتها، والتباهي بها مع عدم الحاجة إلى هذه الجوامع، لوجود
غيرها، ووجود الفقراء والمساكين الذين هم أحق بثمنها، فهو إضرار بهم، وقد عزم
النبي ﷺ حين أراد بناء مسجده في المدينة أن يدفع ثمنه من ماله،
كما في الصحيحين : (فأرسل إلى ملإ من بني النجار فقال: يا بني النجار ثامنوني
بحائطكم هذا، قالوا: لا والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله..).
وذلك أن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، وما تعلق
به حق الغير، كالمغصوب، فليس بطيب، ولا يصح التصدق به، بل يجب رده لأصحابه، وتزداد
الحرمة إذا كانوا فقراء ومساكين.
وإنما تبنى المساجد من بيت المال إذا كان
المسلمون في حاجة لبنائها لعدم وجود غيرها، أو بسبب زيادة عددهم وضيق مساجدهم
عنهم، فيبنى المسجد الجديد لتحقيق مصالحهم الدينية.
وقال ابن رشد في البيان والتحصيل ١/ ٤١١: (وهذا
كما قال مالك رحمه الله أن من بنى مسجدا بقرب مسجد آخر ليضار به أهل المسجد الأول
ويفرق به جماعتهم فهو من أعظم الضرر؛ لأن الإضرار فيما يتعلق بالدين أشد منه فيما
يتعلق بالنفس والمال، لا سيما في المسجد المتخذ للصلاة التي هي عماد الدين، وقد
أنزل الله تعالى في ذلك ما أنزل من قوله: ﴿والذين اتخذوا مسجدا ضرارا﴾ ، إلى قوله:
﴿لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم﴾، وقوله: إنما
القول أبدا في الآخر من المسجدين صحيح؛ لأنه هو الذي يجب أن ينظر فيه، فإن ثبت على
بانيه أنه قصد الإضرار وتفريق الجماعة لا وجها من وجوه البر وجب أن يحرق ويهدم
ويترك مطرحا للزبول، كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمسجد الضرار، وإن
ثبت أن إقراره مضر بأهل المسجد الأول ولم يثبت على بانيه أنه قصد إلى ذلك وادعى
أنه أراد به القربة، لم يهدم وترك معطلا لا يصلى فيه إلا أن يحتاج إلى الصلاة فيه
بأن يكثر أهل الموضع أو ينهدم المسجد الأول).
وهذا ما لم يكن المسجد قد بني بمال مغصوب
كأرض مغصوبة، فيجب ردها لصاحبها، ولو بهدم المسجد، إلا أن يرضى صاحبها بالعوض
عنها، كما في المدونة للإمام مالك ٤/ ٢٥٨: (فيمن اشترى شقصا [حصة من الأرض] فبناه
مسجدا، ثم أتى الشفيع قلت: أرأيت إن اشتريت شقصا من دار فقاسمت شريكي وبنيته
مسجدا، ثم جاء الشفيع فأراد رد قسمتي وأن يأخذ بالشفعة ويهدم المسجد، أله ذلك أم
لا في قول مالك؟
قال: لم أسمع من مالك في هذا شيئا إلا أن ذلك
له؛ لأنه حين بيع هذا الشقص كانت له الشفعة، فلا تبطل شفعته بما أحدث المشتري في
ذلك).
وكذلك هو مذهب الحنفية، كما قال محمد بن
الحسن الشيباني في الأصل ٩/ ٢٣١: (وإذا اشترى الرجل دارا فبنى فيها مسجدا كان
للشفيع أن يأخذها بالشفعة، ويكون له أن ينقض المسجد، ويكون نقض المسجد للمشتري.
ألا ترى أن الشفيع لو استحق عشر الدار كان له أن يأخذ ما بقي منها بالشفعة ويهدم
المسجد. ألا ترى أنه حق له واجب).
وقال ابن مفلح الحنبلي في الفروع ٣/ ٥٦: (ولا
يبنى مسجدٌ ضرارا. وقال محمد بن موسى: أيبني مسجدا إلى جنب مسجد؟ قال: لا يبني
المساجد ليعدي بعضها بعضا، وقال صالح: قلت لأبي: كم يستحب أن يكون بين المسجدين
إذا أرادوا أن يبنوا إلى جانبه مسجدا؟ قال: لا يبنى مسجد يراد به الضرار لمسجد إلى
جنبه، فإن كثر الناس حتى يضيق عليهم فلا بأس أن يبنى وإن قرب من ذلك. فاتفقت
الرواية أنه لا يبنى لقصد الضرار، وإن لم يقصد ولا حاجة فروايتان، رواية محمد بن
موسى: لا يبنى، واختاره شيخنا وأنه يجب هدمها، وقاله فيما بنى جوار جامع بني أمية.
وظاهر رواية صالح: يبنى).
قال المرداوي الحنبلي في تصحيح الفروع: (الصحيح
ما اختاره الشيخ تقي الدين) ابن تيمية.
وقال بن بلبان الحنبلي في أخصر المختصرات:
(ولا يصح بمغصوب عقد ولا عبادة)، قال الشيخ ابن جبرين في شرحه عليه: (قوله:
"ولا عبادة" ذكر في الحاشية بعض الأمثلة على العبادة وأنها لا تصح، فإذا
بنى في الأرض المغصوبة مسجدا فإنه لا يصح، ولصاحبها أن يهدم المسجد).
قال الشيخ القاسمي في تفسيره: (دلت الآية على
أن كل مسجد بني على ما بني عليه مسجد الضرار، أنه لا حكم له ولا حرمة، ولا يصح
الوقف عليه.
وقد حرق الراضي بالله كثيرا من مساجد
الباطنية والمشبهة والمجبرة وسبل بعضها، نقله بعض المفسرين.
قال الزمخشري: قيل: كل مسجد بني مباهاة أو
رياء وسمعة أو لغرض سوى ابتغاء وجه الله، أو بمال غير طيب، فهو لاحق بمسجد الضرار.
وعن عطاء: لما فتح الله تعالى الأمصار على يد
عمر رضي الله عنه، أمر المسلمين أن يبنوا المساجد، وألا يتخذوا في مدينة مسجدين،
يضار أحدهما صاحبه. انتهى.
وقال الإمام ابن القيم في زاد المعاد [٣/
٥٠٠] في فوائد غزوة تبوك:
ومنها تحريق أمكنة المعصية التي يعصى الله
ورسوله فيها وهدمها، كما حرق رسول الله ﷺ مسجد الضرار وأمر بهدمه، وهو مسجد يصلى فيه،
ويذكر اسم الله فيه.
لما كان بناؤه ضرارا وتفريقا بين المؤمنين،
ومأوى للمنافقين، وكل مكان هذا شأنه، فواجب على الإمام تعطيله، إما بهدم أو تحريق،
وإما بتغيير صورته، وإخراجه عما وضع له.
وإذا كان هذا شأن مسجد الضرار، فمشاهد الشرك
التي تدعو سدنتها إلى اتخاذ من فيها أندادا من دون الله، أحق بذلك وأوجب، وكذلك
محال المعاصي والفسوق، كالحانات وبيوت الخمارين، وأرباب المنكرات.
وقد حرق عمر رضي الله عنه قرية بكاملها يباع
فيها الخمر، وحرق حانوت رويشد الثقفي وسماه (فويسقا)، وأحرق قصر سعد عليه لما
احتجب عن الرعية.
وهم رسول الله ﷺ بتحريق بيوت تاركي حضور الجماعة والجمعة،
وإنما منعه من فيها من النساء والذرية الذين لا تجب عليهم، كما أخبر هو عن ذلك.
انتهى.
ثم قال ابن القيم: ومنها أن الوقف لا يصح على
غير بر ولا قربة، كما لم يصح وقف هذا المسجد.
وعلى هذا فيهدم المسجد إذا بني على قبر، كما
ينبش الميت إذا دفن في المسجد - نص على ذلك الإمام أحمد وغيره - فلا يجتمع في دين
الإسلام مسجد وقبر، بل أيهما طرأ على الآخر منع منه، وكان الحكم للسابق، فلو وضعا
معا لم يجز.
ولا يصح هذا الوقف، ولا يجوز، ولا تصح الصلاة
في هذا المسجد، لنهي رسول الله ﷺ عن ذلك، ولعنه من اتخذ القبر مسجدا، أو أوقد
عليه سراجا.
قال ابن القيم: فهذا دين الإسلام الذي بعث به
رسوله ونبيه، وغربته بين الناس كما ترى). انتهى.
وعليه فهذه الجوامع التي تبنى من أموال
المسلمين وليسوا في حاجة إليها لوجود غيرها من الجوامع، فهم أصحاب الحق في إجازتها
بعد زوال النظام الجائر، فإن رأى أهل الحل والعقد منهم إبقاءها على حالها فلهم
ذلك، وإن رأوا تحويلها للمصالح العامة كالمدارس ونحوها فلهم ذلك.